ما هي التي توارت بالحجاب ؟
ما هي التي توارت بالحجاب ؟
[هذا بحث مبعثر حول هذه المسألة كنت كتبت رؤوس مسائله منذ سنوات ، ولم أفرغ لإكماله بعدُ ولعلي أعود إليه يوماً بالتنقيح والتحرير]
يذهب أكثر المفسرين إلى أن الضمير في قوله تعالى :﴿حتى توارت بالحجاب﴾ يعود على الشمس مع أنها لم يسبق لها ذكر. ولكنه أضمرها وإن لم يجر لها ذكر ، كما أضمر في قوله تعالى :﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ القرآن مع أنه لم يجر له ذكر قبلُ. ومثل عود الضمير في قوله :﴿ما ترك على ظهرها من دابة﴾[فاطر:45] على الأرض مع عدم تقدم ذكر لها ، ومثل عود الضمير في قوله :﴿فلولا إذا بلغت الحلقوم﴾[الواقعة:83] على الروح أو النفس مع عدم تقدم ذكر لها ، ومثل عود الضمير في قوله:﴿إنها ترمي بشرر كالقصر﴾[المرسلات:32] على النار مع عدم تقدم ذكر لها.
وخالفهم آخرون فذهبوا إلى أن الضمير يعود على الخيل لا على الشمس. لأنها هي التي سبق لها الذكر ، والحديث يدور حولها.
وقد نصر هذا الرأي ابن حزم وفخر الدين الرازي ومحي الدين بن عربي في كتابه الفتوحات المكية.
إذ قال الشيخان فخر الدين الرازي في تفسيره ، ومحي الدين بن عربي في الفتوحات المكية : إنه منافٍ لمقام الأنبياء ، وإن المراد بقوله :﴿إني أحببت حب الخير﴾ أي الخيل ، وهذا الحب ناشيء عن حب الله وذكره ، لا عن الغفلة عنه ، لأنه أحبها للجهاد والغزو عليها تقوية للدين. ثم إنه أمر الرائضين بإعدائها وتسييرها ، ليتعرف ركضها ، ففعلوا ، حتى توارات (أي الخيل) لا (الشمس) عن بصره ، أمر بردها إليه. فلما عادت ، جعل يمسح سوقها وأعناقها بيده ، فرحاً وإعجاباً بخير ربه ، لا فرحاً بالدنيا ، وليتعرف هل فيها خلل أو عيب. وليس للمفسرين الذين جعلوا التواري للشمس دليل ، فإن الشمس ليس لها ذكر ، ولا الصلاة التي يزعمون ، ويلزم منه تفكيك الضمائر من غير موجب.
وسبق ابن حزم الشيخين إلى هذا التأويل السليم ، إذ قال :(تأويل الآية على أنه قتل الخيل ، إذ اشتغل بها عن الصلاة ، خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة). وجرى في تفسير الآية مع ظاهرها ، ثم قال :(هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره ، وليس فيها إشارة أصلاً إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة. وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين ، فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والخلاف في الآية في مسألتين :
الأول : الضمير في قوله :﴿توارت﴾ علام يعود ؟
الثانية : معنى قوله :﴿فطفق مسحاً بالسوق والأعناق﴾ ما معناه ؟
فالتفسير على أن الضمير يعود على الشمس قول أغلب المفسرين ، فهو قول ابن مسعود ، وقول قتادة حيث قال :(حتى دلكت براح) وبراح هي الشمس ، وهو قول السدي ، حيث قال : غابت. دون أن يذكر المقصود هل هي الشمس أم الخيل ، غير أن الطبري نقله في سياق تأييده للقول بأنها الشمس ، وهو قول كعب الأحبار ، ولم يذكر الطبري غير هذا التفسير مما يعني إقراره له([1]). وهو قول الفراء في معانيه ، وقول أبي عبيدة في مجازه 2/182 قال :(المعنى للشمس وهي مضمرة). وهو قول ابن عطية 14/31
وخالف في ذلك الرازي وابن عربي وابن حزم كما تقدم ويحتاج إلى توثيق كلامهما بنصه إن شاء الله ، كما يبحث عن كلام ابن حزم في أي مصدر قال ذلك.
وأما المسألة الثانية : فللمفسرين في معنى المسح في الآية قولان منقولان:
الأول : أنه القتل ، من قولهم مسح علاوته إذا ضرب عنقه. وهو قول قتادة ، والحسن البصري ، والسدي. وأبي عبيدة 2/183قال :(مجازها يمسح مسحاً والمعنى يضرب ، يقال مسح علاوته أي ضربها).
والثاني : أنه المسح بيده على أعراف الخيل وعراقيبها حباً لها ، وإعجاباً بها. وهذا القول قول ابن عباس والزهري ([2])، واختاره الطبري فقال :(وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية ؛ لأن نبي الله لم يكن إن شاء الله ليعذب حيواناً بالعرقبة ، ويهلك مالاً من ماله بغير سبب ، سوى أنه اشتغل به عن صلاته بالنظر إليها ، ولا ذنب لها في اشتغاله بالنظر إليها.([3])
ويراجع تفسير الرازي رحمه الله في تفسيره 26/203-206 فقد فصل القول فيها.
ويراجع تفسير القرطبي 15/126- 129
وفيه قوله : الأكثر في التفسير أن التي تورات بالحجاب هي الشمس ، وأنه تركها لدلالة السامع عليها بما ذكر مما يرتبط بها ويتعلق بذكرها. ص 15/128
وفي تفسير مقاتل 3/644 بتحقيق عبدالله شحاتة قال :( حتى توارت بالحجاب) والحجاب جبل دون ق بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه ، ثم قال :(ردوها عليَّ) يعني كروها عليَّ (فطفق مسحاً بالسوق والأعناق) يقول فجعل يمسح بالسيف سوقها وأعناقها فقطعها ، وبقي منها مائة فرس فما كان في أيدي الناس اليوم فهي من نسل تلك المائة).
وانظر تحقيق فريد لتفسير مقاتل في 3/118 وهو مليئ بالتصحيفات والأخطاء الطباعية.
وانظر تفسير الدر المصون للحلبي 9/376 في على ماذا يعود الضمير في قوله :(توارت) فقد ذكر الأقوال.
وانظر كلام الفراء على الآيات في معاني القرآن 2/404-405
وانظر كلام القاسمي على الآية في تفسيره 6/97-98 حيث ذكر أن الضمير في تورات يعود على الشمس .
ومعنى المسح القطع بالسيف. ثم أرود تنبيها على ما ذكره ابن كثير من الخلاف في الآية ، ورد ابن كثير لترجيح ابن جرير ، ثم أورد كلاماً للقاشاني الصوفي فيه تفسير إشاري للآيات ، ثم اورد كلام الرازي السابق ، ثم أورد كلام ابن حزم الذي سبق كذلك ، ثم ذيل بكلام جيد فقال :
وأقول : الذي يتجه أن هذه القصة أشير بها إلى نبأ لديهم ، لأن التنزيل الكريم مصدق الذي بين يديه ، إلا أن له الهيمنة عليه. فما وقف فيه على حد من أنباء ما بين يديه ، يوقف عنده ولا يتجاوز. وحينذٍ فالقصة المعروفة عندهم هي التي أشير إليها. لكن مع الهيمنة عليها إذ لا تقبل على علاتها.
وينظر في تفسير ابن عطية 14/30-32 وقد رجح أن التي غابت هي الشمس ، وأن المسح مختلف فيه بين أن يكون المسح باليد وبين أن يكون الغسل بالماء. وقال إن هذين التفسيرين إنما يكونان على وجه من التفسير فيحقق معنى كلامه هذا ، ثم ذكر أن المسح قد يكون القتل في آخر كلامه فكأنه لم يرجحه.
--------------------------------------------------------------
([1] ) تفسير الطبري بتحقيق التركي 20/85
([2] ) المحرر الوجيز 14/31
([3] ) تفسير الطبري 20/87
وانظر مشاركة سبق الحديث فيها عن الآية
هنا .