معنى اللمس هو الجماع...وقد رُوِيَ عن حبر الأمة ابن عبّاس- رضى الله عنه - كما ذكر الأخ الكريم " أبو أحمد "...
والراجح - والله أعلم - أنّ معنى اللمس في هذه الآية الكريمة هو (الجماع)...وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- في فتاواه .
أولاً / تحرير موضع النزاع
صور اللمس:
1- لمس بشهوة مع خروج المني أو المذي. وهو محل اتفاق بين الفقهاء على نقضه للوضوء.
2- لمس بشهوة بدون خروج ما ينقض. وفيه خلاف.
3- لمس بغير شهوة وبدون خروج ما ينقض. وفيه أيضاً خلاف.
ثانياً/ عرض الأقوال بالأدلة
القول الأول: أن اللمس لا ينقض الوضوء مطلقاً.
وهو قول الحنفية [ بدائع الصنائع 1/46 ] ورواية عن أحمد وروي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن ومسروق [ المغني 1/257 ] ، واستدلوا بالتالي:
1- حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ. رواه الأربعة وصححه الألباني [ المشكاة 1/105]
2- حديث عائشة رضي الله عنها : " فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فجعلت أطلبه بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو...." الحديث رواه النسائي وصححه الألباني [ صحيح سنن النسائي 1/37 ح163].
3- أن الوجوب من الشرع ولم يرد بالنقض شرعٌ ولا هو في معنى ما ورد به الشرع. [ المغني 1/257 ]
القول الثاني:أن اللمس ينقض الوضوء مطلقاً.
وهو قول الشافعية [ الأم 1/63، روضة الطالبين 1/185، المجموع 1/29 ] ورواية عن أحمد [ المغني 1/257 ] ، واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: ( أو لامستم النساء ... )، قالوا: الآية مطلقة، وحقيقة اللمس: ملاقاة البشرتين [ انظر المجموع 1/35 – 36 ]، وهو يقع على ما دون الجماع. وعضدوا ذلك بقوله تعالى: ( وأنا لمسنا السماء )، وبقول الشاعر: لمست بكفي كفه أطلب الغنى.. ، وبحديث ماعز الأسلمي وقول الرسول صلى الله عليه وسلم له: ( لعلك قبلت أو لامست ).. ففرقٌ بين الملامسة والجماع. [ انظر المغني 1/257 ]
2- حديث معاذ رضي الله عنه عن ذلك الرجل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إني أتيت امرأة لا أعرفها وإني قبلتها وفعلت ما يفعل الرجل مع زوجته إلا أني لم أجامع ) فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء والصلاة. رواه الترمذي وأحمد والدارقطني وضعفه الألباني [ السلسلة الضعيفة 2/428 ح1000 ].
3- ما رواه مالك بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، فمن قبل امرأة أو جسها بيده فعليه الوضوء ). [ الموطأ 1/43 ح64] قالوا وهذا الأثر له حكم الرفع.
القول الثالث: التفصيل، فإن كان اللمس بشهوة فهو ينقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة لا ينقض الوضوء.
وهو قول المالكية [ مواهب الجليل 1/429] والحنابلة [ الإنصاف 1/211 ] وهو قول علقمة وأبي عبيدة والنخعي والحكم وحماد والثوري وإسحاق والشعبي [ المغني 1/256 ]. واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى ( أو لامستم النساء ) قالوا: اللمس باليد مطلقاً، ثم قُيّد هذا اللمس بالشهوة، بالسنة، ومنها:
• حديثا عائشة رضي الله عنها السابقان.
• حديث عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت: ( كنت أكون نائمة ورجلاي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل فإذا أراد أن يسجد ضرب رجليّ فقبضتهما فسجد ). متفق عليه.
2- استدلوا بالمعقول، فقالوا: إن اللمس ليس بحدثٍ بذاته، وإنما هو ناقض لأنه يفضي للحدث، فاعتبرت الحالة التي تفضي للحدث وهي حالة الشهوة. [ المغني 1/260 ]
3- استدلوا أيضاً بنفي الحرج، وذلك أن اللمس مطلقاً لو كان ناقضاً للوضوء لشق ذلك، فهو يقع للرجل وزوجته، وكذلك في شدة الزحام كما في الطواف، وفي هذا حرج ومشقة، والله سبحانه نفى الحرج ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ).
ثالثاً/ مناقشة الأقوال
* مناقشة الحنفية للجمهور:
1- قولهم في الآية ( أو لامستم النساء ) أن اللمس باليد ، فهو مردود. لأن معناه: الجماع كما قاله حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما، وتفسير ابن عباس أرجح من غيره لمزية دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بعلم التأويل [ انظر نيل الأوطار 1/246 ]، ويعضد تفسيره قوله تعالى ( من قبل أن تمسوهن ) أي قبل الجماع.
2-أما الاستدلال بحديث معاذ رضي الله عنه فلا يصح لضعف الحديث، ثم إنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر السائل بالوضوء لأجل المعصية، وقد ورد أن الوضوء من مكفرات الذنوب، و يحتمل أن الحال التي وصفها : مظنة خروج المذي، أو يحتمل أنه طلبٌ لشرط الصلاة المذكورة في الآية من غير نظر لانتقاض الوضوء وعدمه [ انظر نيل الأوطار 1/246 ].
3- أما قولهم بأن القبلة فيها الوضوء فلا حجة في قول الصحابي إذا وقع معارضاً لما ورد عن الشارع [ انظر نيل الأوطار 1/247 ]..
4- أما استدلالهم بأحاديث عائشة رضي الله عنها فيجاب عنها بأنها أدلة لنا لأنها تدل على أن اللمس لا ينقض، وكذا القبلة.. كما أن حديث عائشة في القبلة ذكر أن فيه ضعفاً وأنه مرسل. لكن يرد بأن الضعف منجبر بكثرة رواته وشواهده [ انظر نيل الأوطار 1/246 ].
* مناقشة الشافعية للجمهور:
1- استدلالهم بحديث عائشة في القبلة معلول... وقد سبق. ولو صح لحمل على القبلة فوق حائل جمعاً بين الأدلة [ المجموع 1/37 ]..
2- أما استدلالهم بتفسير ابن عباس رضي الله عنهما ( أو لامستم النساء ) أنه الجماع فيجاب عنه بأن ابن مسعود رضي الله عنه قرأها ( أو لمستم ). وهي قراءة حمزة والكسائي [ تفسير القرطبي 5/145 ]. واللمس يكون باليد، ثم إن الآية مطلقة لم تفرق بين الشهوة وغير الشهوة.
3- وقولهم: أن الوجوب من الشرع ولم يرد بالنقض شرع ولا ما هو في معناه فمردود بالآية على تفسيرنا. ويرد بترجيح تفسير ابن عباس كما سبق.
4- أحاديث عائشة رضي الله عنها في وقوع يدها على قدم النبي صلى الله عليه وسلم ولمسه إياها وهو يصلي، يحتمل كونه فوق حائل. وهذا هو الظاهر في من هو نائم في فراشه [ المجموع 1/37 ]. وردّ بأن في هذه التأويلات تكلف لا يحتاج إليه [ انظر نيل الأوطار 1/246 ].
5- ثم إن أكثر الحنفية سلّم أن الرجل والمرأة إذا تجردا وتعانقا وانتشر له وجب الوضوء [ شرح فتح القدير 1/56 ]؛ فيقال لهم: بم نقضتم الوضوء في الملامسة الفاحشة؟ فإن قالوا : بالقياس، لم يقبل. وإن قالوا: لقربه من الحدث، قلنا: القرب من الحدث ليس حدثاً بالاتفاق. . ولا يرد علينا بالنائم، فإنه إنما انتقض بالسنّة، لكونه لا يشعر بالخارج، فلم يبق لهم ما يوجب الوضوء في الملامسة الفاحشة إلا ظاهر الآية ( أو لامستم ) وليس فيه فرق بين الملامسة الفاحشة وغيرها [ المجموع 1/36 ].
رابعاً / الترجيح
من عرض الأقوال والأدلة السابقة ومناقشتها يترجح قول الحنفية، لقوة أدلتهم وسلامتها، كما أن عمدة قول الشافعية هو تفسير ( أو لامستم النساء ) بحقيقة اللمس مردود بتفسير ابن عباس رضي الله عنهما بأنه الجماع.
وممن رجحه من المحققين شيخ الإسلام ابن تيمية [ الفتاوى 21/242 ]. ومن المعاصرين سماحة الشيخ ابن باز [ مجموع الفتاوى 10/135 ] والشيخ ابن عثيمين [ الشرح الممتع 1/240 ] رحم الله الجميع.
وأستغفر الله عن أي خطأٍ يتعلق بالمضمون أو الأسلوب.