ما له أهجر؟ شفقة الصحابة ورأفتهم بالنبي

العرابلي

New member
إنضم
10/04/2007
المشاركات
156
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
شفقة الصحابة ورأفتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم
بقولهم: ما له أهجر؟
جاء هذا القول في رواية للبخاري رقم (2997):
"حدثنا محمد حدثنا بن عيينة عن سليمان الأحول سمع سعيد بن جبير سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى قلت يا أبا عباس ما يوم الخميس قال اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع - فقالوا ما له أهجر استفهموه فقال ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه فأمرهم بثلاث- قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، والثالثة خير إما أن سكت عنها وإما أن قالها فنسيتها قال سفيان هذا من قول سليمان" صحيح البخاري ج3/ص1155
وفي رواية أخرى؛ رقم (4168)؛ "فقالوا: ما شأنه أهجر استفهموه فذهبوا يردون عليه فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه وأوصاهم بثلاث" صحيح البخاري ج4/ص1612
وفي رواية أخرى؛ رقم (4169)؛ "فقال: بعضهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلون بعده ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا" صحيح البخاري ج4/ص1612
وفي رواية في صحيح مسلم رقم (1637)
"وحدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد قال عبد أخبرنا وقال بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده فقال عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم". صحيح مسلم ج3/ص1259
ذكر عمر رضي الله عنه في هذه الرواية ولم يذكر قولهم: (ما له أهجر؟)
وفي رواية أخرى عند مسلم : (1637) "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر " صحيح مسلم ج3/ص1259
لبيان مراد الصحابة بقولهم : "ما له أهجر" و "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر" بعد الرجوع إلى أهم المعاجم والقواميس كلسان العرب، والقاموس المحيط، وتاج العروس، ومحيط المحيط، والوسيط وغيرها نقول:
إن استعمال مادة (هجر) في القرآن واللغة؛ كان في طلب الأفضل مع تحمل المشقة؛
(الهجرة): الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، و(المُهاجَرَةُ) من أَرض إِلى أَرض: تَرْكُ الأُولى للثانية . وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون من مكة إلى المدينة كانت في طلب الأفضل للدين ولحياة المؤمنين، وكانت هناك مشقة البقاء في مكة ومشقة الانتقال منها. وبعد فتح مكة صارت الجزيرة كلها دار إسلام وليس هناك مشقة في بقاء كل مسلم في بلده. وفي الحديث: "لا هِجْرَةَ بعدَ الفَتْح ولكنْ جِهادٌ ونِيَّة".
و (هَجَر) اسم لجميع بلاد البحرين (منطقة القطيف والإحساء اليوم)؛ المشهورة بعذوبة ماء ينابيعها، وجودة تمرها، لكن الوصول إلى ذلك لا يكون إلا بعد مشقة قطع صحراء الدهناء؛ وفي المثل: كجالب التمرِ إلى هَجَر، أو كمبضع التمرِ إلى هَجَر.
و (هاجَر): الجارية الحسناء الفارعة الطويلة؛ وفي المثل: من طلب الحسناء لم يغله المهر؛ فمن طلب جارية بهذا الحسن وجب عليه تحمل مشقة الزيادة في المهر والنفقة.
و (المُهْجِرُ): الفائقُ الفاضلُ من كل شيء. يقال: بعيرٌ مُهْجِرٌ، ونخلةٌ مُهْجِرٌ. وعددٌ مُهْجِرٌ: كثيرٌ.
و (المُهْجِرَةُ) كذلك- يقال: فتاةٌ مُهْجِرَةٌ: تَفُوق غيرَها حُسنًا واكتمالاً. وناقةٌ مُهْجِرَةٌ: فائقةٌ في الشحم والسِّمَن وفي السَّير. يقال نخلة مُهْجِرٌ ومُهْجِرَةٌ طويلة عظيمة، وذَهَبَتِ الشَّجرَةُ (هَجْراً) أي طُولاً وعِظَماً. وعلى هذا فمن طلب ناقة مهجرة أو بعير مهجر تحمل زيادة الثمن فيه، ومن أراد ثمر النخلة المهجر، تحمل مشقة الصعود والوصول إلى ثمرها وقطفه وإنزاله.
وهذا (أهْجَرُ) منه أطْوَلُ أو أضْخَمُ، أو أكرم، أو أحسن.
و (هَجَر) في الشَّيء وبه: أُولع بذكره؛ مفضلا له وتاركًا ذكر ما دونه.
و (الهجيرُ) الحَوْضُ العظيمُ الواسِعُ، فهو أفضل لسقي الإبل، لكنه لا يمتلئ إلا بعد مشقة على الساقي.
و (الهاجِرِيُّ) البَنَّاءُ لأن يطول البناء، وكلما طال البناء زاد حسنًا، وزادت مشقة رفع حجارته، ومواد بنائه، والعمل في بنائه.
و (التَّهْجيرُ) في قوله صلى الله عليه وسلم: "المُهَجِّرُ إلى الجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنَةً"، وقَوله: "ولو يَعْلَمونَ ما في (التَّهْجِير) لاسْتَبَقُوا إليه" بمعنى التَّبْكِير إلى الصَّلوات، وهو المُضِيُّ في أوائِلِ أوقاتِها، وليسَ من الهاجِرَةِ، فمن طلب فضل أجر التبكير عليه تحمل مشقة حبس نفسه في المسجد مدة أطول في انتظار خطبة وصلاة الجمعة.
و (الهاجرَةُ) إنّما تكون في القَيْظ وهي قَبْلَ الظُّهرِ بقليل وبَعدَه بقليل، وقيل نصف النهار عند اشتداد الحر; عند زوال الشمس إِلى العصر، وذلك أن الناس يطلبون الظل في هذا الوقت ويتركون أعمالهم، طلبًا لسلامتهم وسلامة ماشيتهم، والسائر فيها مُهَجِّر لأنه يطلب منفعة له ويتحمل مشقة السير في الحر؛ وفي القول: وهل مُهَجِّر كمن قالَ؛ أَي هل من سار في الهاجرة كمن أَقام في القائلة.
و تكلم (بالمَهَاجِر) أي القبيح والفحش. ورماهُ (بمُهجِرات). أي بما يفسد عليه الإقامة في بلده وموطنه، أو مجلسه، فيكون غيره أفضل له منه، فيهجره طلبًا لفضل غيره.
و (هجر) الدابَّةَ: أوثقها (بالهِجار)؛ وهو حبل يشد رجل الدابة ويدها بشقها حتى تقصر خطوتها فلا تهجر بعيدًا عن صاحبها، وفي هذا مشقة على الدابة ولا ينشغل هو ببعدها عنه.
و(هَجَرَ) في النوم: حَلَمَ وهَذَى . إذا أكثر الكلام والقول السيّئ في المنام، فهو (هاجِرٌ) وفي فعله هذا يفسد نوم من ينام عنده، فيطلب منامًا بعيدًا عنه وخيرًا منه. وعليه القول؛ (هَجَرَ) المريضُ: هذى؛ إذا ارتفعت حرارته.
و (الهُجْرُ) الإِفحاش في المنطق والقول، والكلام فيما لا ينبغي . فيصرف السامعين عن القائل، مفارقين له إلى مجالسة غيره.
و (الهجر) في قوله تعالى: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ)؛ فمعناه أن تتركون القرآن مفضلين عليه غيره في سمركم في مجالسكم، وجعل حديثكم في اللهو والضلال.
و في قوله تعالى: (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)؛ فهجر القرآن تفضيل غيره عليه بترك العمل بأحكامه، والانشغال عن تلاوته، فهذا هو الهجر للقرآن كما هو حاصل في زمننا هذا.
و في قوله تعالى في اعتزال النساء في المضاجع: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ)؛ فمعالجة نشوز المرأة بعقابها بالهجر، وتحمل المشقة في ذلك، خير وأفضل له ولها من طلاقها.
و في قوله تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)؛ النبي عليه الصلاة والسلام رسول مكلف بتبليغ رسالة ربه، فيجب عليه أن يصبر على أذاهم، وعلى قولهم من الفحش المسبب للهجر، وألا يطيل هجرهم فينقطع عنهم. فطلب منه أن يكون هجره لهم هجرًا جميلا ليس بقبيح. لأن في الهجر ترك للشيء وشدة بعد وطول مفارقة.
و في قوله صلى الله عليه وسلم : " ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" : فإن في الهجر قطع لمواصلة الخصام وتهيئة للنفس للعودة بعد ذلك للوئام، وهذا الفعل خير وأفضل من مواصلة التخاصم.
هذا هو الاستعمال الجذري لمادة (هجر) في اللغة والقرآن، وهو مبني على طلب الأفضل والتحول إلى الأفضل مع حصول المشقة وبسبب وجود المشقة.
لكن قواميس اللغة جمعت فيها مشتقات ومبنيات كل جذر، مقطوعة في معظمها بعضها عن بعض، دون بيان استعمال الجذر، والرابط الذي يربط بين المشتقات، فمن أراد أن يفسر كلمة أخذ معناها بمعزل على بقية الشجرة التي تنتمي إليها، فأوقع ذلك بعض المفسرين، وأهل اللغة في أخطاء لا يصح لهم الوقوع فيها، واستغل ذلك أهل الأهواء والضلالات بالاستشهاد بأقوالهم للطعن في الدين، والتشنيع على الصحابة رضي الله عنهم في مسائل عدة.
و من ذلك تفسير استفسار الصحابة رضي الله عنهم "ما له أهجر؟" التي ذكرناها <بالهذيان>.
كان استفسار الصحابة رضي الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما له أهجر؟" وفي الرواية الأخرى: قولهم: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر" بلغتهم التي يعرفونها ويستعملونها؛ فمادة هجر هي في [طلب الأفضل مع تحمل المشقة] والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يرفع خلافًا سيحدث بينهم بأحقية من يخلفه من بعده - لم يعلموه إلا بعدما حدث- يكون سببًا في ضلال طائفة منهم من بعده، فيكتب لهم كتابًا في ذلك ومسائل أخرى، وهو بفعله هذا إنما يحمل نفسه مشقة فوق ثقل وشدة وطأة الحمى عليه صلى الله عليه وسلم، فأشفق عليه من حضر الموقف من الصحابة رضي الله عنهم فقالوا قولهم هذا طالبين له الراحة وعدم إشغال نفسه بذلك.
لأن كتابة الكتاب يعني أنه سيتكلم ويملي كلامًا مطولا فيه مشقة على النبي عليه الصلاة والسلام.
وعللوا ترددهم في تنفيذ أمره بقولهم : "وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله" مطمئنين الرسول صلى الله عليه وسلم على تمسكهم بالكتاب من بعده، وحفظهم له بالعمل به، والرجوع إليه. وهو كفيل بحفظهم من الضلالة، كان هذا في ردهم على النبي وبيان عذرهم في عدم إحضار اللوح والدواة، يبين ذلك قولهم: "استفهموه فذهبوا يردون عليه".
وقولهم هذا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم "يهجر" و "ما له أهجر" لم يغضب أحدًا من الصحابة ولم ير فيه أدنى إساءة للنبي عليه الصلاة والسلام ، ولم يحتج عليه أحد منهم، مما يدل على خلاف الفهم السيئ الذي فهمه بعض أهل اللغة، وأهل الضلال والهوى؛ لقد هم الصحابة بالفتك بمن قال للنبي عليه الصلاة والسلام اعدل؟ فكيف لو أساء إليه أحد ووصفه بالهذيان؟! ... ثم يسكت جميع الصحابة على ذلك ؟! بل إن القول كان من أكثرهم ..
وهل هذا حال من يطلب أن يكتب لهم كتابًا، ثم يرد على قولهم، ثم يوصيهم بثلاث أمور .. ثم يأمرهم أن يقوموا من عنده ..دالا على الهذيان؟!! .. بل هذا الفهم من هذيان أهل الهوى والضلال.. وفاقدي الفقه في روح اللغة.
ثم كان رد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وعلى شفقتهم عليه، وطلبهم الراحة له، وطمأنته أنه عندهم كتاب الله: "فقال ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه"، "فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه"؛ أي في دعوتي بأن أكتب لكم كتابًا خير مما تدعونني للراحة وترك الكتابة، فلا شك فيه أن الذي فيه النبي عليه الصلاة والسلام من الخوف على أمته مما سيحدث بينهم من بعده، وطلب السلامة لهم من الفتنة، خير وأعظم من خوفهم على النبي صلى الله عليه وسلم. وأن حرصه على راحة أمته وسلامتها أعظم عنده من خوفه وحرصه على نفسه عليه الصلاة والسلام.
ولو كتب عليه الصلاة والسلام وصية لوصى بالأمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكل الإشارات كانت تدل عليه، وكان لا يساوي به أحدًا من الصحابة حتى عمر رضي الله عنهما، ولذلك أحجم علي رضي الله عنه عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لمن الأمر من بعده ... خشية أن لا تكون لأحد من آل هاشم أبد الدهر إن منعها النبي عليًا في حياته، وسيكون رفض تولي علي للخلافة بعد وفاته أعظم إذا احتج عليه بالمنع له في حياة النبي عليه الصلاة والسلام. ... وهذه من حكمة علي ولم يطع عمه العباس رضي الله عنهما الذي كان يدفعه لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لمن الأمر من بعده؟.
وبين ابن عباس رضي الله عنهما في عدم كتابة الوصية رزية كبرى، "فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم"، فقد طلب كتب الكتاب من خوف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته فيما وقعت فيه بعده فتفرقت إلى شيعة بجانب السنة؛ رزية كبرى بعد الرزية بموت النبي عليه الصلاة والسلام.
لقد كان ذلك القول من جمع من الصحابة، وليس محبوسًا على صحابي واحد، ولكن بغض أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من قبل الشيعة الذين حملوا عمر هذا القول بفهمهم، وتحاملوا عليه بجهلهم بلغة العرب، وليس فيه إلا طلب الرسول صلى الله عليه وسلم الأفضل لأمته وهو يحمل نفسه المشقة مع هذا الطلب، ودل قولهم هذا على إشفاق الصحابة رضي الله عنهم بنبيهم وقائدهم وقدوتهم ومعلمهم عليه الصلاة والسلام، ولو كتب الكتاب فلن يصرف من يريد الضلالة عن ضلاته، وقد رضي الطاعنون بوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهذيان ليجعلوا من ذلك الوصول إلى حقيقة دعوتهم بإسقاط من أوصلوا الإسلام للناس، ونشروه في الأرض، وضحوا من أجله بأنفسهم وأموالهم، فيسقط الإسلام بإسقاط هؤلاء الذين حملوه وبلغوه.
وهذا الأحاديث التي رواها البخاري ومسلم وغيرهما شهادة لعلمائنا بأنهم يتبعون منهجًا في قبول الحديث بعيدًا عن الهوى في غياب الفقه اللغوي القاطع الذي يبين حقيقة مثل هذا القول؛ فلم يسقطوا هذا الأحاديث من كتبهم خشية استغلال أهل الأهواء والضلال لها.
أبو مسلم العرابلي
 
أولاً: أحيي فيك اهتمامك بالجانب اللغوي لدرجة اكتشاف أصل هذه المادة في اللغة واستعمالاتها عند العرب وفي نصوص الكتاب والسنة وهو مركب صعب قل من يساوره من العلماء المحققين لأنه يستدعي إلماماً واسعاً بالمفردات اللغوية وأساليب العرب في تخاطبها وقراءة ناقدة للمعاجم اللغوية وما استدرك عليها

واسمح لي ببعض المناقشات تحقيقاً لمبدأ التعاون للوصول إلى الكمال المنشود


بعد الرجوع إلى أهم المعاجم والقواميس كلسان العرب، والقاموس المحيط، وتاج العروس، ومحيط المحيط، والوسيط وغيرها نقول:
إن استعمال مادة (هجر) في القرآن واللغة؛ كان في طلب الأفضل مع تحمل المشقة؛
كنت أتمنى لو رجعت للمعاجم الأصول التي اعتمدت عليها هذه المعاجم المتأخرة ومن أهمها كتاب العين للخليل بن أحمد أو أحد تلاميذه على الخلاف في نسبته وهو أول المعاجم اللغوية وكذلك تهذيب اللغة والصحاح وجمهرة اللغة وإصلاح المنطق والمحكم والمخصص
وكذلك معجم مقاييس اللغة لابن فارس الذي يعد أهم معجم تعرض لأصول الاستعمالات اللغوية.
وكذلك كتب المتقدمين في غريب القرآن والحديث فإنها من الأصول التي اعتمدت عليها المعاجم المتأخرة
وأهم منها في علم اللغة كتب علماء اللغة المتقدمين كالأصمعي ومؤرج السدوسي والكسائي وأبي عمرو الشيباني وابن سلام الجمحي والفراء وثعلب والمبرد وأبي علي القالي وأضرابهم فكتب هؤلاء من الأصول التي تعتمد عليها المعاجم اللغوية

وقد ذكر ابن فارس لهذه الكلمة أصلين:
فقال: (الهاء والجيم والراء أصلانِ يدلُّ أحدهما على قطيعةٍ وقَطْع، والآخر على شَدِّ شيءٍ ورَبْطِه).
فلعلك تراجعه في موضعه

وقد قال ابن الأثير في النهاية عن هذا الحديث: (ومنه حديث مَرضِ النبي صلى اللَّه عليه وسلم قالوا : ما شأنُه ؟ أهَجَرَ ؟) أي اخْتَلَف كلامُه بسبب المرضِ على سبيل الاستفهام . أي هل تَغَيَّر كلامُه واخْتَلَط لأجل ما به من المرض ؟ وهذا أحْسَنُ ما يقال فيه ولا يُجْعل إخباراً فيكون إمَّا من الفُحْش أو الهَذَيان . والقائل كانَ عُمَر ولا يُظَنُّ به ذلك).
وهو يصدق على الأصل الذي ذكرته من ترك الكلام حال الصحة والاعتدال إلى الكلام الذي يقوله المريض ولا يشعر به من شدة المرض والإعياء
ولا يلزم منه أن يتكلم بكلام فاحش منكر حاش لله
ولكن كما حصل في قصة اللَّدّ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أغشي عليه ولُدَّ وهو لا يشعر
وليس في ذلك ما يقدح في مقام النبوة بل هو من مقتضيات كونه بشراً يأكل كما يأكل الناس ويشرب كما يشربون ويمرض كما يمرضون
وأصرح منه في الدلالة حادثة سَحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى خيّل إليه أنه يأتي الشيء وهو لا يأتيه، ليس فيه ما يقدح في مقام النبوة ولا في تبليغ الرسالة

و (الهاجرَةُ) إنّما تكون في القَيْظ وهي قَبْلَ الظُّهرِ بقليل وبَعدَه بقليل، وقيل نصف النهار عند اشتداد الحر; عند زوال الشمس إِلى العصر، وذلك أن الناس يطلبون الظل في هذا الوقت ويتركون أعمالهم، طلبًا لسلامتهم وسلامة ماشيتهم....
تأمل معي قول امرئ القيس:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
فدع ذا وسل الهم عنك بجسرة = ذمول إذا صام النهار وهجَّرا[/poem]

يريد إذا استوت الشمس في كبد السماء (وصام) في هذا الموضع بمعنى سكن وأمسك عن الحركة
كما قال جزء بن ضرار الغطفاني يصف حصانه:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
تقول إذا استقبلته وهو صائم = خباء على نشز أو السِّيد ماثل[/poem]

وقريب من الدلالة على هذا المعنى للهاجرة قول عنترة العبسي:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ولقد شربت من المدامة بعدما = ركد الهواجر بالمشوف المعلم[/poem]
والركود فيه معنى السكون.

والهواجر مشترك لفظي يطلق على وقت الظهيرة ويطلق أيضاً على القول الذي يستنكر
كما قال سلمة بن الخرشب الأنماري يهجو عامر بن الطفيل:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وإنك يا عامِ بن فارس قرزل = معيد على قيل الخنا والهواجر[/poem]
فيمكن أن يقال: إن الإطلاق الثاني بينه وبين المعنى المذكور تناسب لكون الكلام المنكر غير مألوف وترك المتكلم للكلام المألوف وإتيانه بالكلام المنكر فيه معنى الهجر.
ولكن زيادة شرطي تحمل المشقة وطلب المنفعة أظنها زيادة لا تقتضيها عدة إطلاقات للألفاظ التي ترجع إلى هذا الجذر.

وفقك الله وسدد خطاك
 
التعديل الأخير:
أشكر لأخي الكريم على ما تفضل به
وذكري للقواميس هي الرجوع إلى المفردات المستعملة في اللغة وهي مجموعة ممن سبقهم ولو تأخر زمن بعضها
ولعلي لم أذكر كل مفردات هذا الجذر ومنها الهاجرة وهي شدة الحر في الظهر التي تدفع الناس والبهائم للبحث على أفضل منها وهو الظل والا أفضل
ما خير منها وهو الظل وانقطاع الناس عن العمل ولو كانوا مضطرين لإكماله وإنجازه
وإطلاقه على القول المستنكر دافع لسامعه على ترك صاحبه والذهاب عنه بعيدًا إلى غيره
وللعلماء جهود في نفي أن يوصف الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة فيها ذم ونقيصة وأن يكون ذلك من الصحابة رضي الله عنهم
رضي الله عنهم .
وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم واضح وبين وكان يقصده النبي عليه الصلاة والسلام وهجر المريض كلامه إما غير واضح وبين وإما كلام لا
غير واضح وبين وإما يدري عنه ولا يقصده وشتان بين الوصفين
وهجر المريض لغيره بفعله
والله تعالى أعلم
 
آسف على تكرار بعض الكلمات وها أنا أعيده مرة أخرى
أشكر لأخي الكريم على ما تفضل به
وذكري للقواميس هي الرجوع إلى المفردات المستعملة في اللغة وهي مجموعة ممن سبقهم ولو تأخر زمن بعضهم
ولعلي لم أذكر كل مفردات هذا الجذر، ومنها الهاجرة ؛ وهي شدة الحر في الظهيرة التي تدفع الناس والبهائم للبحث على مكان أفضل لهم وهو الظل وسينقطع الناس عن عملهمولو كانوا مضطرين لإكماله وإنجازه بسبب الحر
وإطلاقه على القول المستنكر دافع لسامعه على ترك صاحبه والذهاب عنه بعيدًا إلى غيره
وللعلماء جهود في نفي أن يوصف الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة فيها ذم ونقيصة وأن يكون ذلك من الصحابة رضي الله عنهم
رضي الله عنهم .
وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم واضح وبين وكان يقصده النبي عليه الصلاة والسلام وهجر المريض كلامه إما غير واضح وبين وإما لا يدري عنه ولا يقصده وشتان بين الوصفين
وهجر المريض يكون لغيره بفعله
والله تعالى أعلم
 
عذراً .. هل هناك من العلماء من فسر الهجر بما ذكرتَه ؟

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في الشفا : " فإن قلت : قد قررت عصمته صلى الله عليه و سلم في أقواله في جميع أحواله و أنه لا يصح منه فيها خلف و لا اضطراب في عمد و لا سهو و لا صحة و لا مرض و لا جد و لا هزل و لا رضا و لا غضب و لكن ما معنى الحديث في وصيته صلى الله عليه و سلم الذي [ حدثنا به القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله قال : حدثنا القاضي أبو الوليد حدثنا أبو ذر حدثنا أبو محمد و أبو الهيثم و أبو إسحاق قالوا : حدثنا محمد ابن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا علي بن عبد الله حدثنا عبد الرزاق ابن همام أنبأنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : لما حضر رسول الله صلى الله عليه و سلم و في البيت رجال فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هلموا أكتب كتابا لن تضلوا بعده ]
فقال بعضهم : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد غلبه الوجع الحديث
و في رواية : [ ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا فتنازعوا ] فقالوا : ماله أهجر ! استفهموه فقال [ دعوني فإن الذي أنا فيه خير ]
و في بعض طرقه : أن النبي صلى الله عليه و سلم يهجر
و في رواية : هجر و يروى : أهجر و يروى : أهجرا
و فيه فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه و سلم قد اشتد به الوجع و عندنا كتاب الله حسبنا
و كثر اللغط فقال : [ قوموا عني ]
و في رواية : و اختلف أهل البيت و اختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا
و منهم من يقول ما قال عمر
قال أئمتنا في هذا الحديث : النبي صلى الله عليه و سلم غير معصوم من الأمراض و ما يكون من عوارضها من شدة وجع و غشي و نحوه مما يطرأ على جسمه معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته و يؤدي إلى فساد في شريعته من هذيان و اختلال كلام
و على هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث : هجر إذ معناه هذى يقال : هجر هجرا إذا هذى و أهجر هجرا إذا أفحش و أهجر تعديه هجر و إنما الأصح و الأولى أهجر على طريق الإنكار على من قال : لا نكتب
و هكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرواة في حديث الزهري المتقدم و في حديث محمد بن سلام عن عيينة و كذا ضبطه الأصيلي بخطه في كتابه و غيره من هذه الطرق و كذا رويناه عن مسلم في حديث سفيان و عن غيره
و قد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام و التقدير :
أهجر أو أن يحمل قول القائل هجر أو أهجر دهشة من قائل ذلك و حيرة لعظيم ما شاهد من حال الرسول صلى الله عليه و سلم و شدة وجعه و هو المقام الذي اختلف فيه عليه و الأمر الذي هم بالكتاب فيه حتى لم يضبط هذا القائل لفظه و أجرى الهجر مجرى شدة الوجع لا أنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر كما حملهم الإشفاق على حراسته و الله تعالى يقول : { و الله يعصمك من الناس } و نحو هذا
و أما على [ 261 ] رواية : أهجرا ـ و هي رواية أبي إسحاق المستملي في الصحيح في حديث ابن جبير عن ابن عباس من رواية قتيبة ـ فقد يكون هذا راجعا إلى المختلفين عنده صلى الله عليه و سلم و مخاطبة لهم من بعضهم أي جئتم باختلافكم على رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين يديه ـ هجرا و منكرا من القول
و الهجر ـ بضم الهاء : الفحش في المنطق
و قد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث و كيف اختلفوا بعد أمره لهم ـ عليه السلام ـ أن يأتوه بالكتاب فقال بعضهم أوامر النبي صلى الله عليه و سلم يفهم إجابها من ندبها من إباحتها بقرائن فلعله قد ظهر من قرائن قوله صلى الله عليه و سلم لبعضهم ما فهموا أنه لم تكن منه عزمة بل أمر رده إلى اختيارهم و بعضهم لم يفهم ذلك فقال : استفهموه فلما اختلفوا كف عنه إذا لم يكن عزمة و لما رأوه من صواب رأي عمر ثم هؤلاء قالوا و يكون امتناع عمر إما إشفاقا على النبي صلى الله عليه و سلم من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب أو تدخل عليه مشقة من ذلك كما قال : أن النبي صلى الله عليه و سلم اشتد به الوجع
و قيل : خشي عمر أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة و رأى أن الأفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد و حكم النظر و طلب الصواب فيكون المصيب و المخطيء مأجورا
و قد علم عمر تقرر الشرع و تأسيس الملة و أن الله تعالى قال : [ اليوم أكملت لكم دينكم ] و قوله صلى الله عليه و سلم [ أوصيكم بكتاب الله و عترتي ]
و قول عمر : حسبنا كتاب الله ـ رد على من نازعه لا على أمر النبي صلى الله عليه و سلم
و قد قيل : إن عمر تطرق المنافقين و من في قلبه مرض لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة و أن يتقولوا في ذلك الأقاويل كادعاء الرافضة الوصية و غير ذلك
[ و قيل : إنه كان من النبي صلى الله عليه و سلم لهم على طريق المشورة و الاختيار هل يتفقون على ذلك أم يختلفون ؟ فلما اختلفوا تركه ]
و قالت طائفة أخرى : إن معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان مجيبا في هذا الكتاب لما طلب منه لا أنه ابتدأ بالأمر به بل اقتضاه منه بعض أصحابه فأجاب رغبتهم و كره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها
و استدل في مثل هذه القصة بقول العباس لعلي : انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن كان الأمر فينا علمناه و كراهة علي هذا و قوله : و الله لا أفعل الحديث
و استدل بقوله : دعوني فإن الذي أنا فيه خير أي الذي أنا فيه خير من إرسال الأمر و ترككم و كتاب الله و أن تدعوني مما طلبتم
و ذكر أن الذي طلب كتابه أمر الخلافة بعده و تعيين ذلك " .
 
بارك الله فيك أخي الكريم على هذا الاستعراض
وفي نقلك [ إما إشفاقا على النبي صلى الله عليه و سلم من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب أو تدخل عليه مشقة من ذلك كما قال : أن النبي صلى الله عليه و سلم اشتد به الوجع] ما فيه الإجابة على تساؤلك
والمعنى اللغوي المبني على فقه مادة "هجر" ليس فيه أي إدانة للصحابة رضي الله تعالى عنهم.
 
بحث قيم جزاكم الله خيراً ...
لقد كانت هناك تساؤلات حول هذه الكلمة قد بينت وشفيت بارك الله فيكم ..
 
بارك الله فيك ونفع بك ونحن في انتظار المزيد
 
عودة
أعلى