لعلنا نرجع إلى أصل المسألة وهي اللقطة التي تصور لنا الطالب مع الأستاذ أثناء محاضرة التفسير ، وما جرى بينهما .
النص الأول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }البقرة178
النص الثاني : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التغابن14
المفردة المتنازع فيها هي : العفو . بين كونها : (مجاوزة الإساءة مع بقاء أثرها) من طرف الأستاذ المحاضر . وكونها : (محو الخطأ وكأنه لم يكن) من طرف الطالب .
فقبل التطرق للمفردة القرآنية نبحث عن نوعها أولا : فمفردة (عفا) هي من المشترك القرآني أو الوجوه والنظائر . بمعنى أن معناها في القرآن الكريم يختلف حسب السياق . فهي كما في الوجوه والنظائر للبلخي (ت:150هـ) : " على ثلاثة أوجه " وذكرها بتفصيل نختصرها كالتالي : الوجه الأول : الفضل من المال ، والوجه الثاني : الترك ، والوجه الثالث : العفو بعينه . وذلك حسب السياقات المختلفة .
نعود إلى النص الأول : يقول البيضاوي (ت:685 هـ) في تفسيره : " { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء } أي شيء من العفو، لأن عفا لازم. وفائدته الإِشعار بأن بعض العفو كالعفو التام في إِسقاط القصاص. وقيل عفا بمعنى ترك، وشيء مفعول به وهو ضعيف، إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه. وعفا يعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب، قال تعالى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ }[التوبة: 43] ، وقال { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف }[المائدة: 95] فإذا عدي به إلى الذنب عدي إلى الجاني باللام ، وعليه ما في الآية كأنه قيل: فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه."
فما معنى عفا ؟
في لسان العرب : " العَفْوُ، وهو التَّجاوُزُ عن الذنب وتَرْكُ العِقابِ عليه، وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس . " وهو ما تدل عليه الآية الأولى في المثال . فالعفو فيها هو : التجاوز عن القصاص وترك العقاب عليه { النفس بالنفس } وطلب الدية . والأقرب من هذا كما جاء به الأستاذ فهو : مجاوزة الإساءة مع بقاء أثرها .
وإذا انتقلنا للمثال الثاني ، الآية 14 من سورة التغابن ، جاءت ثلاث مفردات متتابعة ، مما يدل على اختلافها في المعنى . ففي هذه الآية طريقة فعالة في التعامل مع الأزواج والأولاد حتى تمر الأمور معهم بسلام . وهذه الطريقة تتجلى في العفو والصفح والمغفرة .
فالعفو يعني : التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه
والصفح يعني : ترك التثريب . والتثريب هو : " التقريع والتقرير بالذنب. قال تعالى : {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] " (المفردات) للراغب الأصفهاني .
" وأَصل الغَفْرِ التغطية والستر. غَفَرَ الله ذنوبه أَي سترها "(لسان العرب)
وبالتالي تتلخص المعاملة مع الأزواج والأولاد في : التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه ، وترك التثريب ، وستر الأخطاء عن الآخرين ، أي عدم فضح ما يقع داخل الأسرة أمام أفراد الأسرة نفسها أو أمام الناس خارج الأسرة . وبهذا نضمن أن نتجاوز الصعاب ونحل المشاكل داخل الأسرة بسلام .
خلاصة القول : إن العفو في هذا السياق هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه ، حيث عُوض العقاب بطلب الدية تخفيفا ورحمة من الله .
والله أعلم وأحكم