أخي الفاضل الدكتور عبد الرحمن الشهري.. أسعدني ردك.. وحلمك في مقابل ما بدى أنه حدّة في ردي .. فاعتذر لذلك.. وجزيت خيرا.
ما دفعني أخي الكريم للكتابة في هذا الموضوع، هو ليس ما كتب الأخ خالد السيف أو يكتب غيره على وجه التعيين، ولكن التنبيه الى المنهج القراني في اياته والتطبيق النبوي في سيرته في التعامل مع المخالف وحتى المستهزيء بايات الله، وحتى لا نقع فيما وقعت فيه الكنيسة في عصور الظلام في التسلط على رقاب الناس وقتلهم وإتهامهم بالمروق بالدين والهرطقة والإبتداع والمساس بهيبة الكنيسة، وأنا في هذا لا زلت تحت تاثير كتاب (حرية الفكر(كتاب أنصح بقراءته )) الصادر عن المركز القومي للترجمة في مصر (إبتسامة)، وكيف أنا المفكرين والأدباء والديانات المخالفة عاشوا في وبال وبلاء من جراء وطئة الكنيسة ومحاكم تفتيشها، حتى أن الشعوب وصلت الى ما وصلت إليه الان من النفور ورفض سلطة الكنيسة.
الان..
إذا تاملنا في ايات القران .. نجد بأن " حرية التعبير" لا يكاد يكون لها حد، وهذا المنهج الذي علينا أن نحتذيه..
ولننظر الى عظمة هذه الايات وجمال هذا التوجيه
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (النساء 140)
فما هو المطلوب من المسلم إذا سمع الإستهزاء بايات الله وحتى الكفر بها... "فلا تقعدوا" ... حتى أنه سبحانه لم يطالبنا بأن نرد عليهم، ربما حتى لا ننشغل بمشاكل وامور جانبية، وحتى يبقى التركيز على جانب الإصلاح والبناء... أما عقوبة هؤلاء فهي عند الله سبحانه .. وليس للبشر، فهم يقولوا ما يشاؤون.
ما يدهش أخي الكريم في عظمة هذه الايات .. أنها جاءت في سياق الحديث عن أناس ليس لهم مبدأ من المنافقين ، فهم مذبذبين، يفسدون ولا يصلحون، فيقول -سبحانه وتعالى- في اياتين قبلها:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (النساء 137)
وأما عقوبة هؤلاء المنافقين فهي:
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (النساء 138)
سبحان الله... هؤلاء المنافقين الذين عاثوا نخرا وإفسادا في المجتمع المسلم !! لا نقعد معهم... فقط!!.. وإذا تتبعنا الايات بعدها نجد كيف أن عقوبتهم من الله وليس من الرسول ولا أولي الأمر...
وللنظر الى ايات المائدة..
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (المائدة57 )
الأمر فقط بعدم المولاة لمن يتخذ ديننا هزوا ولعبا... والأمر الذي جاء للرسول –صلى الله عليه وسلم- بعد بضعة ايات هو:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (المائدة 67)
المهمة المنوطة بالرسول –صلى الله عليه وسلم هي: التبليغ ...
والعصمة من الله.. فعلى ماذا الخوف!
وهذا الخطاب جاء عن من كفر وإستهزأ، والذين قالوا بأن يد الله مغلوله (سبحانه)
وبالرغم من ان طريق الإستهزاء هو ما قوبل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - والرسل من قبله... إلا ان العقوبة والجزاء من الله
لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (الرعد 32)
فعذابهم اتيهم من الله... فلا داعي أن نقلق
لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ (الرعد 34)
وما طُولب به الرسول –صلى الله عليه وسلم- هو الصدع بالأوامر، والإعراض عن المشركين، حتى أنه لم يطالب بأن يجادلهم
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الحجر 94)
حتى لو إستهزأوا فالله كافينا
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (الحجر 95)
حتى لو ضاق الصدر، وغضبنا، وحنقنا عليهم، فليس المطلوب الرد مع هذه النوعية من الناس المستهزئة، وإنما الإنشغال ب : التسبيح والسجود والعبادة
َسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (الحجر 98)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (الحجر 99)
ولنا في سورة الفرقان مثال اخر رائع عن المنهج في التعامل مع المستهزئين، وهو توجيه -للرسول صلى الله عليه وسلم- في التعامل معهم ولنا من بعده
وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا (الفرقان 41)
ثم يسرد الله سبحانة اياته على الرسول (ايات الظل والليل والنهار والرياح...)
ثم يطالبه سبحانه وتعالي ب:
فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (الفرقان 52)
عدم الطاعة والجهاد الكبير بالقران
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (الفرقان 56)
وذكّره بدوره –صلى الله عليه وسلم – بأنه مبشر ونذير
هذه هي.. لا جدال، ولا مخاصمة، ولا حتى إلتفات لتفاهاتهم وإستهزاءهم.. بل بقاء التركيز على الهدف وسمو المهمة.
ونموذج اخر رائع على التعامل مع المستهزئين في سورة الروم
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون (الروم 10)
هذا في الاية 10من السورة ثم يعدد الله سبحانه بعض اياته في خلقه..
ثم في الاية 30 يبين التوجيه الى الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم 30)
إقامة الوجه، والتركيز مرة أخرى على الهدف والمهمة..
وكرر –سبحانه- المعنى في الاية 43 بقوله:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (الروم 43)
ثم الاية (44) بعدها تظهر لنا الطريق ومصير كل فريق
مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (الروم 44)
هذه بعض نماذج من القران في التعامل مع المستهزيء ، وغيرها كثير جدا، فلا ننشغل بمشاكل جانبيه، فتضيع الجهود، وتألب الصدور، ونزيد العداء..
ولنا في سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم- نماذج أخرى في التعامل مع المنافقين والمستهزئين، كتطبيق عملي من واقع الدعوة.
فأتمنى أن يكون هدي القران ومنهجه في التعامل مع المستهزيء حاضرا..
وأنا مما قرأته من كتابات الأخ " خالد السيف" لم احس الإستهزاء بايات الله ولا بالرسول وحديثه –صلى الله عليه وسلم- فأنا أجله عن هذا وأحسن فيه كل الظن ، وإنما هو إستخدم بعض الايات والتعبيرات من القران كعادة بعض الكتاب في الرد على بعض الأشخاص. فالإستهزاء ليس بالايات –والعياذ بالله- ولكن إستخدم الايات أو مقاطع منها في ردوده، ولقد استخدم بعض الأدباء المسلمين هذا الأسلوب، ومما أذكر منهم مصطفى صادق الرافعي –رحمه الله-، وردوده على العقاد وطه حسين وغيرهم.
وإن كان الأخ خالد السيف قد تعرض لبعض الدعاة مثل محمد حسان ، وطارق سويدان، والإخوان المسلمين، إلا أن هذه مواقف واراء سياسية قد نختلف معها أو نتفق مع بعضها، ولا تدخل في إطار الإستهزاء بأيات الله –سبحانه-، والأولى فيها النصح والإرشاد.
وياريت لو يدعى الأخ "خالد السيف " الى الملتقى حتى يتم نصحه وتوجيه ومحاورته، فإني ارى في الرجل صلاح،
وأنا لا أعرفه، وإنما الإنتصار لمبدأ القران ومنهجه في التعامل مع المخالف.
فإتهام شخص بالإستهزاء بايات الله مصيبة عظيمة تجر عليه في مجتمعاتنا وبال عظيم، وخصوصا بأن ظاهر قوله لا يتماشى مع هذه التهمة.
أتمنى أني أبنت عن وجهة نظري...
+++
أخي الدكتور محسن المطيري أشكرك على الرد، وعلى غيرتك على دين الله... وجزيت خيرا
وجزى الله خيرا من نصح
وتقبلوا التحية