قال ابن القيم رحمه الله في المدارج (362) الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره . الخشية أخص من الخوف فإن الخشية للعلماء بالله قال الله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) .فهي خوف مقرون بمعرفة وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية ) فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون ، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان إحداهما : حركة للهرب منه وهي حالة الخوف . والثانية : سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه وهي الخشية ومنه : انخشى الشيء، والمضاعف والمعتل أخوان كتقضي البازي وتقضض . وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه ، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه وبين الرهب والهرب تناسب في اللفظ والمعنى يجمعهما الاشتقاق الأوسط الذي هو عقد تقاليب الكلمة على معنى جامع. وأما الوجل : فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته ، أو لرؤيته . وأما الهيبة : فخوف مقارن للتعظيم والإجلال وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة . والإجلال : تعظيم مقرون بالحب. فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء العارفين والهيبة للمحبين والإجلال للمقربين وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية) وفى رواية (خوفا) وقال( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى). فصاحب الخوف : يلتجىء إلى الهرب والإمساك وصاحب الخشية : يلتجىء إلى الاعتصام بالعلم ومثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق فالأول يلتجىء إلى الحمية والهرب والطبيب يلتجىء إلى معرفته بالأدوية والأدواء.
وجاء في المعجم الاشتقاقي المؤصل :
الخشية فيها استشعار شيء مع الخوف ، أساسه خشونة وجفاف، ولذا قال الراغب : الخشية خوف يشوبه التعظيم ، وأكثر مايكون ذلك عن علم بما يخشى منه . ولذا خص العلماء بها في قوله تعالى:(إنما يخشى الله من عباده العلماء).
يقول الشيخ محمد حسن حسن جبل:وأفضل أن يكون المصاحب للخوف في تفسير الخشية هو التنبه ، ومنه يتأتى معنى العلم والرجاء - كما في مثل قول الشاعر:
ولقد خشيت بأن من تبع الهدى
دخل الجنان مع النبي محمد
أي : بمعنى علمت .
روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ( فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ) على أن ضمير العظمة لرب العزة ، و (فخشينا) بمعنى علمنا ، بل وعلى أن الضمير للخضر فهذا التفسير أيضا أنسب بلا شك ، فما كان الخضر ليقتل نفسا من باب الاحتياط .
هذا وماقدمناه يعطي أساسا آخر طيبا لتفسير قوله تعالى:(إنما يخشى الله من عباده العلماء) حيث فسروها بالخوف ، ولنا أن نقول : أليس للعلم بحكمة الله وقدرته ، وبه عز وجل ثمرة إلا الخوف ؟ بلى، إن العلم به عزوجل يثمر الالتفات إلى حكمته الباهرة في كل شيء ، وهذا يثمر التعظيم الذي قال به الراغب ، كما يتأتى منه العلم بقدر ما يوثق به في البيت وتفسير آية الكهف السابقة.
قال الألوسي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى ( وهم من خشيته مشفقون ) : { وَهُمْ } مع ذلك { مّنْ خَشْيَتِهِ } أي بسبب خوف عذابه عز وجل { مُشْفِقُونَ } متوقعون من أمارة ضعيفة كائنون على حذر ورقبة لا يأمنون مكر الله تعالى؛ فمن تعليلية والكلام على حذف مضاف، وقد يراد من خشيته تعالى ذلك فلا حاجة إليه. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى أنهم يخشون الله تعالى ومع ذلك يحذرون من وقوع تقصير في خشيتهم وعلى هذا تكون { مِنْ } صلة لمشفقون، وفرق بين الخشية والإشفاق بأن الأول خوف مشوب بتعظيم ومهابة ولذلك خص به العلماء في قوله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء }
[فاطر: 28] والثاني خوف مع اعتناء ويعدى بمن كما يعدى الخوف وقد يعدى بعلى بملاحظة الحنو والعطف، وزعم بعضهم أن الخشية هٰهنا مجاز عن سببها وأن المراد من الإشفاق شدة الخوف أي وهم من مهابته تعالى شديدو الخوف، والحق أنه لا ضرورة لارتكاب المجاز، وجوز أن يكون المعنى وهم خائفون من خوف عذابه تعالى على أن (من) صلة لما بعدها وإضافة خشية إلى المضاف المحذوف من إضافة الصفة إلى الموصوف أي خائفون من العذاب المخوف، ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغنى عنه، ثم إن هذا الإشفاق صفة لهم دنيا وأخرى كما يشعر به الجملة الاسمية، وقد كثرت الأخبار الدالة على شدة خوفهم، ومن ذلك ما أخرج ابن أبـي حاتم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليلة أسري بـي مررت بجبريل عليه السلام وهو بالملأ الأعلى ملقى كالحلس البالي من خشية الله تعالى ".
وجاء في التحرير لابن عاشور رحمه الله : والإشفاق: توقع المكروه كما في قوله تعالى: { وهم من خشيته مشفقون }
في سورة الأنبياء (28). وقد حذف المتوقع منه لظهور أنه هو الذي كان الإشفاق بسبب خشيته، أي يتوقعون غضبه وعقابه.
قال البيضاوي رحمه الله : {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ } عظمته ومهابته. { مُشْفِقُونَ } مرتعدون، وأصل الخشية خوف مع تعظيم ولذلك خص بها العلماء. والإِشفاق خوف مع اعتناء فإن عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر وإن عدي بعلى فبالعكس.
قال الصاوي في حاشيته رحمه الله : قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم } { ٱلَّذِينَ } اسم { إِنَّ } ، و { هُم } مبتدأ، و { مُّشْفِقُونَ } خبره و { مِّنْ خَشْيةِ } متعلق بمشفقون، وكذا يقال فيما بعده. قوله: { مُّشْفِقُونَ } الإشفاق الخوف مع زيادة التعظيم، فهو أعلى من الخشية، وهذه الأوصاف متلازمة من اتصف بواحد منها لزم منه الاتصاف بالباقي.
وجاء في التحرير لابن عاشور رحمه الله : والمعنى: أنهم لخشية ربهم يخافون عقابه، فحذف متعلق { مشفقون } لدلالة السياق عليه.
قال أبوزهرة رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى ( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) : الخشية الخوف الشديد مع مهابة الضعيف لمن يخافه، وهذا الفريق الذي خاف القتال مع الهيبة من الأعداء هو من الضعفاء الذين لَا يعلون بإيمانهم. والتعبير بقوله تعالى في أوصاف هذه الخشية: ( يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً)، فيه بعض إشارات بيانية. أولاها - أنه عبر عن الأعْدَاء بقوله ( النَّاسَ)، وهو توبيخ أبلغ توبيخ، ذلك لأنهم أناس مثلهم، وليسوا في الفضل مثلهم، وفوق ذلك مع أنهم أناس مثلهم، يجعلون خشيتهم في مقابل خشية الله تعالى ذي الجلال والإكرام القاهر فوق عباده. الثانية - التعبير بلفظ الجلالة فيه إشارة إلى بيان خورهم وفساد تفكيرهم؛ إذ يجعلون خشية الله - جل جلاله -، في مقابل الخشية من الناس، والله تعالى إذا كان معهم وقاموا بحق الجهاد، فلن يخذلوا أبدا. الثالثة - في الترديد بين أن تكون خشيتهم من الله بمقدار خشيتهم من الناس، أو أكثر، فيه بيان لحال ضعفهم، واستمكان الضعف، وهو ترق في التوضيح، إذ إنه من المقرر أن المؤمن لَا يليق به أن يخاف الناس، كما يخاف الله، فكيف إذا كان يخاف الناس أكثر من الله؟! ولا شك أن فريقا من أولئك الضعفاء أو المنافقين كان على هذه الحال.
وجاء في مفاتيح الغيب للرازي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: {ذلك لمن خشى ربه} ففيه مسائل: المسألة الأولى: الخوف في الطاعة حال حسنة قال تعالى: {والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة} ولعل الخشية أشد من الخوف، لأنه تعالى ذكره في صفات الملائكة مقرونا بالإشفاق الذي هو أشد الخوف فقال: {هم من خشية ربهم مشفقون} والكلام في الخوف والخشية مشهور.
وفي معنى قوله تعالى :(وإياي فاتقون)
روى ابن أبي حاتم الرازي رحمه الله في تفسيره قال: حَدَّثَنَـا أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، ثنـا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدِّبُ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: "التَّقْوَى أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، وَالتَّقْوَى أَنْ يَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ مَخَافَةَ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ". قال البيضاوي رحمه الله : فاتقون " بالإيمان واتباع الحق والأعراض عن الدنيا . ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادي لما في الآية الثانية ، فصلت بالرهبة التي هي مقدمة التقوى ، ولأن الخطاب بها عم العالم المقلد . أمرهم بالرهبة التي هي مبدأ السلوك ، والخطاب بالثانية لما خص أهل العلم ، أمرهم بالتقوى التي هي منتهاه .
وقال ابن حيان رحمه الله في البحر المحيط : { وَإِيَّـٰى فَٱتَّقُونِ }: الكلام عليه إعراباً كالكلام على قوله: { وَإِيَّـٰى فَٱرْهَبُونِ }، ويقرب معنى التقوى من معنى الرهبة . قال صاحب المنتخب: والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف، وأمّا الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقي منه، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم، انتهى كلامه. ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا: أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب،إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك، وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى وشراء الثمن اليسير بآيات الله من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه، إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك، فقيل في ذلك: { فَٱرْهَبُونِ }، وقيل في هذا:{ فَٱتَّقُونِ }، أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به. والأحسن أن لا يقيد ارهبون واتقون بشيء ، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولاً واضحاً، فكان المعنى : ارهبون، إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي، واتقون، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشترتيتم بآياتي ثمناً قليلاً.
قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره : { وإياى فاتقون} بالإيمان واتباعِ الحقِ والإعراض عن حطام الدنيا ولما كانت الآية السابقةُ مشتملةً على ما هو كالمبادى لما في الآية الثانيةِ فُصِّلت بالرهبة التي هي من مقدِّمات التقوى أو لأن الخطابَ بها لما عمَّ العالِمَ والمقلِّدَ أُمر فيها بالرهبة المتناولةِ للفريقين. وأما الخطابُ بالثانية فحيث خُصَّ بالعلماء أُمر فيها بالتقوى الذي هو المنتهى
أما الوجل فهو : خشية تنشأ عند استحضار العبد جلال الله عز وجل .
قال محمد حسن حسن جبل رحمه الله:
والوجل الوارد في الآيتين :
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)
(الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)
وجل خشية واستحضار جلال الله.
أما في قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) فالوجل هنا من خشية أن يكون إيتاؤهم مشوبا بما يبطله.
وفي قوله تعالى :(وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ).
قال أبو السعود رحمه الله: { هُدًى } أي بـيانٌ للحق { وَرَحْمَةً } للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخيرُ والصلاح { لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ } اللامُ الأولى متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لرحمة أي كائنةٌ لهم أو هي لامُ الأجَل أي هدى ورحمةٌ لأجلِهم، والثانيةُ لتقوية عمل الفعلِ المؤخّر كما في قوله تعالى: { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }
أو هي أيضاً لامُ العلة والمفعولُ محذوفٌ أي يرهبون المعاصيَ لأجل ربهم لا للرياء والسمعة.
وقال البيضاوي رحمه الله : { هُدًى } بيان للحق. { وَرَحْمَةً } إرشاد إلى الصلاح والخير. { لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ } دخلت اللام على المفعول لضعف الفعل بالتأخير، أو حذف المفعول واللام للتعليل والتقدير يرهبون معاصي الله لربهم.