محمد محمود إبراهيم عطية
Member
ما النجاة ؟
اعلم أن خطر اللسان عظيم ، ولا نجاة من خطره إلا بالسكوت عن آفاته ؛ روى أحمد والترمذي عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : " أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].وفي صحيح البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وروى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يَلِجُ النَّاسُ بِهِ النَّارَ ، فَقَالَ : " الْأَجْوَفَانِ : الْفَمُ ، وَالْفَرْجُ " ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يَلِجُ بِهِ الْجَنَّةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " حُسْنُ الْخُلُقِ "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم : وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ : " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ : عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ "[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا ، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ "[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وفي مسند أحمد عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ؛ وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ "[SUP] ( [6] ) [/SUP].
وفي موطأ مالك عَنْ أَسْلَمَ مولى عمر أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ – رضي الله عنهما - وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَهْ ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَََََ[SUP] ( [7] ) [/SUP]. و( مَهْ ) ، أي : اكفف عما تفعله .
ورواه أبو يعلى والبيهقي في ( شعب الإيمان ) ، والضياء في ( المختارة ) من طريق أخرى عن عَنْ أَسْلَمَ أن عمر بن الخطاب اطلع على أبي بكر و هو يمد لسانه قال : ما تصنع يا خليفة رسول الله ؟ قال : إن هذا الذي أوردني الموارد ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليسَ شيءٌ منَ الجسدِ إلا وهُوَ يَشكُو ذَِرَبَ اللسانِ ، عَلَى حِدَّتِهِ "[SUP] ( [8] ) [/SUP]؛ وِذَرَب اللسان ( بفتح الذال المعجمة والراء جميعًا ) : هو حدته وشره وفحشه .
وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عَنْ عَلْقَمَةَ اللَّيْثِيُّ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ تعالى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ ، يَكْتُبُ اللهُ تعالى لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تعالى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ ، يَكْتُبُ اللهُ تعالى بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ : كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ[SUP] ( [9] )[/SUP] .
والأحاديث في بيان خطورة اللسان كثيرة ، والكلمة إذا خرجت لا ترجع ، وهي لك أو عليك ؛ وقد أحسن من قال :
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس يموتُ المرء من عثرة الرِّجل
فعثرتُهُ من فِيهِ ترمي برأسه ... وعثرتُهُ بالرِّجل تبرا على مهل
وقال رجل لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أوصني ؛ قال : عليك بالصمت إلا في حق ؛ فإنك به تغلب الشيطان[SUP] ( [10] ) [/SUP].فعثرتُهُ من فِيهِ ترمي برأسه ... وعثرتُهُ بالرِّجل تبرا على مهل
قال ابن القيم – رحمه الله : وأما اللفظات فحفظها بأن لا يخرج لفظه ضائعة ، بل لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه ، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر : هل فيها ربح أو فائدة ، أم لا ؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها ، وإن كان فيها ربح نظر هل تفوته بها كلمة هي أربح منها ، فلا يضيعها بهذه ؛ وإذا أردت أن تستدل على ما في القلوب فاستدل عليه بحركة اللسان ؛ فإنه يطلعك على ما في القلب ، شاء صاحبه أم أبى ؛ قال يحيى بن معاذ : القلوب كالقدور تغلي بما فيها ، وألسنتها مغارفها ، فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه : حلو وحامض ، وعذب وأجاج .. وغير ذلك ، ويُبِينُ لك طعم قلبه اغتراف لسانه [SUP] ( [11] ) [/SUP]؛ أي : كما تطعم بلسانك فتذوق ما في قلبه من لسانه ، كما تذوق ما في القدر بلسانك ؛ وفى حديث أنس المرفوع : " لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ " ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل النار ، فقال : " الْفَمُ ، وَالْفَرْجُ " ؛ وقد سأل معاذ النبي عن العمل يدخله الجنة ويباعده من النار فأخبره برأسه وعموده وذروة سنامه ، ثم قال : " أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ " قُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ، وَقَالَ : " كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ : " ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ : عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ " .
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه ، حتى يُرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة ، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله ، لا يلقى لها بالا ، يزل بالكلمة الواحدة بين المشرق والمغرب ، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ، ولا يبالى ما يقول ؛ وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ " أَنَّ رَجُلاً قَالَ : وَاللَّهِ ، لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَىَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ "[SUP] ( [12] ) [/SUP]؛ فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله ؛ وفى حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحو ذلك ، ثم قال أبو هريرة : تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته [SUP]( [13] ) [/SUP]؛ وفى صحيح البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ؛ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ "[SUP] ( [14] ) [/SUP]. وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا ، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ "[SUP] ( [15] ) [/SUP]- ثم ذكر أحاديث مما تقدم وغيرها - ثم قال : وقد كان بعض السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله : يوم حار ، ويوم بارد ؛ ولقد رُؤي بعض الأكابر من أهل العلم في النوم بعد موته ، فسئل عن حاله ، فقال : أنا موقوف على كلمة قلتها ، قلت : ما أحوج الناس إلى غيث ! فقيل لي : وما يدريك ؟ أنا أعلم بمصلحة عبادي ؛ وقال بعض الصحابة لخادمه يومًا : هات لي السفرة نعبث بها ؛ ثم قال : استغفر الله ، ما أتكلم بكلمة إلا وأنا أخطمها وأزمها ، إلا هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام [SUP]([/SUP] [16] [SUP])[/SUP] ، أو كما قال .
وأيسر حركات الجوارح حركة اللسان ، وهى أضرها على العبد ، واختلف السلف والخلف هل يكتب جميع ما يلفظ به ، أو الخير والشر فقط ؟ على قولين ؛ أظهرهما الأول وقال بعض السلف : كل كلام بن آدم عليه لا له ، إلا ما كان من ذكر الله وما والاه ؛ وكان الصديق t يمسك بلسانه ويقول : هذا أوردني الموارد ؛ والكلام أسيرك ، فإذا خرج من فيك صرت أسيره ؛ والله عند لسان كل قائل ؛ و] مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ [ ق : 18 ][SUP] ( [17] ) [/SUP].
فحفظ اللسان من أعظم أسباب النجاة ، فلينتبه العاقل لكلماته قبل أن تخرج من فيه ، والله المستعان .
[1] - أحمد : 5 / 259 ، والترمذي ( 2406 ) وحسنه .
[2] - البخاري ( 6109 ، 6422 ) .
[3] - أحمد : 2 / 392 ، 442 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 289 ) ، والتِّرمِذي ( 2004 ) وصححه ، وابن ماجة ( 4246 ) ، وابن حبان ( 476 ) ، والحاكم ( 7919 ) وصححه ، ووافقه الذهبي .
[4] - رواه أحمد : 5 / 231 ، والترمذي ( 2616 ) وصححه ، وتقدم تخريجه .
[5] - البخاري ( 6112 ) ، ومسلم ( 2988 ) .
[6] - رواه أحمد : 3 / 198 ، ورواه ابن أبي الدنيا في ( الصمت ) رقم 9 ، وحسنه الألباني في الصحيحة ( 2841 ) .
[7] - الموطأ : 2 / 988 ( 1788 ) .
[8] - أبو يعلى ( 5 ) ، والبيهقي في الشعب ( 4947 ) ، والضياء في المختارة ( 3 ) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب ( 2873 ) .
[9] - أحمد : 3 / 469 ، والترمذي ( 2319 ) وصححه ، والنسائي في الكبرى كما في التحفة : 2 / 103 ( 2028 ) ، وابن ماجة ( 3969 ) ؛ ورواه ابن حبان ( 287 ) ، والحاكم : 1 / 45 ، 46 ، وصححه ووافقه الذهبي .
[10] - رواه ابن أبي الدنيا في الصمت ( 91 ) .
[11] - رواه أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 10 / 62 .
[12] - مسلم ( 2621 ) .
[13] - أخرجه أحمد : 2 / 323 ، 362 ، وأبو داود ( 4901 ) ، وصححه الألباني .
[14] - البخاري ( 6113 ) ، تنبيه : قال ابن القيم ها هنا : وفي الصحيحين ، وأورد الحديث بلفظ البخاري ، ثم قال وعند مسلم : "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها ، يهوي بها في النار أبعد مما بين المغرب والمشرق " وهو في الصحيحين .
[15] - البخاري ( 6112 ) ، ومسلم ( 2988 ) .
[16] - القائل هو شداد بن أوس رضي الله عنه ، رواه أحمد : 4 / 123 ، والحاكم ( 1872 ) ، وصححه على شرط مسلم ، بنحو ما ذكره .
[17] - انظر الجواب الكافي ، ص : 110 – 112 ، باختصار وتصرف .