أضع أمامك التفسير الذي في القرطبي للآية 24 من سورة الأنفال
قال((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا
قَوْله تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ " هَذَا الْخِطَاب لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِلَا خِلَاف . وَالِاسْتِجَابَة : الْإِجَابَة . وَ " يُحْيِيكُمْ " أَصْله يُحْيِيُكُمْ , حُذِفَتْ الضَّمَّة مِنْ الْيَاء لِثِقَلِهَا . وَلَا يَجُوز الْإِدْغَام . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : مَعْنَى " اِسْتَجِيبُوا " أَجِيبُوا ; وَلَكِنْ عُرْف الْكَلَام أَنْ يَتَعَدَّى اِسْتَجَابَ بِلَامٍ , وَيَتَعَدَّى أَجَابَ دُون لَام . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " يَا قَوْمنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّه " [ الْأَحْقَاف : 31 ] . وَقَدْ يَتَعَدَّى اِسْتَجَابَ بِغَيْرِ لَام ; وَالشَّاهِد لَهُ قَوْل الشَّاعِر : وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ تَقُول : أَجَابَهُ وَأَجَابَ عَنْ سُؤَاله . وَالْمَصْدَر الْإِجَابَة . وَالِاسْم الْجَابَة ; بِمَنْزِلَةِ الطَّاقَة وَالطَّاعَة . تَقُول : أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ جَابَة . هَكَذَا يَتَكَلَّم بِهَذَا الْحَرْف . وَالْمُجَاوَبَة وَالتَّجَاوُب : التَّحَاوُر . وَتَقُول : إِنَّهُ لَحَسَن الْجِيبَةِ ( بِالْكَسْرِ ) أَيْ الْجَوَاب . " لِمَا يُحْيِيكُمْ " مُتَعَلِّق بِقَوْلِهِ : " اِسْتَجِيبُوا " . الْمَعْنَى : اِسْتَجِيبُوا لِمَا يُحْيِيكُمْ إِذَا دَعَاكُمْ . وَقِيلَ : اللَّام بِمَعْنَى إِلَى , أَيْ إِلَى مَا يُحْيِيكُمْ , أَيْ يُحْيِي دِينَكُمْ وَيُعَلِّمكُمْ . وَقِيلَ : أَيْ إِلَى مَا يُحْيِي بِهِ قُلُوبَكُمْ فَتُوَحِّدُوهُ , وَهَذَا إِحْيَاء مُسْتَعَار ; لِأَنَّهُ مِنْ مَوْت الْكُفْر وَالْجَهْل . وَقَالَ مُجَاهِد وَالْجُمْهُور : الْمَعْنَى اِسْتَجِيبُوا لِلطَّاعَةِ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآن مِنْ أَوَامِر وَنَوَاهِي ; فَفِيهِ الْحَيَاة الْأَبَدِيَّة , وَالنِّعْمَة السَّرْمَدِيَّة , وَقِيلَ : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " لِمَا يُحْيِيكُمْ " الْجِهَاد , فَإِنَّهُ سَبَب الْحَيَاة فِي الظَّاهِر , لِأَنَّ الْعَدُوَّ إِذَا لَمْ يُغْزَ غَزَا ; وَفِي غَزْوه الْمَوْت , وَالْمَوْت فِي الْجِهَاد الْحَيَاة الْأَبَدِيَّة ; قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء " [ آل عِمْرَان : 169 ] وَالصَّحِيح الْعُمُوم كَمَا قَالَ الْجُمْهُور .
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد بْن الْمُعَلَّى قَالَ : كُنْت أُصَلِّي فِي الْمَسْجِد فَدَعَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ , ثُمَّ أَتَيْته فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّه , إِنِّي كُنْت أُصَلِّي . فَقَالَ : " أَلَمْ يَقُلْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه : هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْفَرْض أَوْ الْقَوْل الْفَرْض إِذَا أُتِيَ بِهِ فِي الصَّلَاة لَا تَبْطُل ; لِأَمْرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِجَابَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاة .
قُلْت : وَفِيهِ حُجَّة لِقَوْلِ الْأَوْزَاعِيّ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُصَلِّي فَأَبْصَرَ غُلَامًا يُرِيد أَنْ يَسْقُط فِي , بِئْر فَصَاحَ بِهِ وَانْصَرَفَ إِلَيْهِ وَانْتَهَرَهُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْس . وَاَللَّه أَعْلَم .
يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
قِيلَ : إِنَّهُ يَقْتَضِي النَّصّ مِنْهُ عَلَى خَلْقه تَعَالَى الْكُفْر وَالْإِيمَان فَيَحُول بَيْن الْمَرْء الْكَافِر وَبَيْن الْإِيمَان الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ , فَلَا يَكْتَسِبهُ إِذَا لَمْ يُقَدِّرهُ عَلَيْهِ بَلْ أَقْدَره عَلَى ضِدّه وَهُوَ الْكُفْر . وَهَكَذَا الْمُؤْمِن يَحُول بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُفْر . فَبَانَ بِهَذَا النَّصّ أَنَّهُ تَعَالَى خَالِق لِجَمِيعِ اِكْتِسَاب الْعِبَاد خَيْرهَا وَشَرّهَا . وَهَذَا مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : " لَا , وَمُقَلِّب الْقُلُوب " . وَكَانَ فِعْل اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ عَدْلًا فِيمَنْ أَضَلَّهُ وَخَذَلَهُ ; إِذْ لَمْ يَمْنَعهُمْ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِ فَتَزُول صِفَة الْعَدْل , وَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ لَا مَا وَجَبَ لَهُمْ . قَالَ السُّدِّيّ : يَحُول بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبه فَلَا يَسْتَطِيع أَنْ يُؤْمِن إِلَّا بِإِذْنِهِ , وَلَا يَكْفُر أَيْضًا إِلَّا بِإِذْنِهِ ; أَيْ بِمَشِيئَتِهِ . وَالْقَلْب مَوْضِع الْفِكْر . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " بَيَانه . وَهُوَ بِيَدِ اللَّه , مَتَى شَاءَ حَالَ بَيْنَ الْعَبْد وَبَيْنَهُ بِمَرَضٍ أَوْ آفَة كَيْلَا يَعْقِلَ . أَيْ بَادِرُوا إِلَى الِاسْتِجَابَة قَبْل أَلَّا تَتَمَكَّنُوا مِنْهَا بِزَوَالِ الْعَقْل . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى يَحُول بَيْنَ الْمَرْء وَعَقْله حَتَّى لَا يَدْرِي مَا يَصْنَع . وَفِي التَّنْزِيل : " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْب " [ ق : 37 ] أَيْ عَقْل . وَقِيلَ : يَحُول بَيْنه وَبَيْنَهُ بِالْمَوْتِ , فَلَا يُمْكِنهُ اِسْتِدْرَاك مَا فَاتَ . وَقِيلَ : خَافَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْر كَثْرَة الْعَدُوّ فَأَعْلَمَهُمْ اللَّه أَنَّهُ يَحُول بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبه بِأَنْ يُبَدِّلهُمْ بَعْدَ الْخَوْف أَمْنًا , وَيُبَدِّل عَدُوَّهُمْ مِنْ الْأَمْن خَوْفًا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى يُقَلِّب الْأُمُور مِنْ حَال إِلَى حَال ; وَهَذَا جَامِع . وَاخْتِيَار الطَّبَرِيّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِخْبَارًا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّهُ أَمْلَك لِقُلُوبِ الْعِبَاد مِنْهُمْ , وَأَنَّهُ يَحُول بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا إِذَا شَاءَ ; حَتَّى لَا يُدْرِك الْإِنْسَان شَيْئًا إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ
عَطْف . قَالَ الْفَرَّاء : وَلَوْ اِسْتَأْنَفْت فَكَسَرْت , " وَإِنَّهُ " كَانَ صَوَابًا .