بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما
حول معنى قوله تعالى : نزله على قلبك بإذن الله
يقول الله تعالى : قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ.
ولعلنا نسأل الآية الكريمة أن :
لماذا قال تعالى على ولم يقل إلى ولا قال في قلبك ؟
ولماذا قال تعالى قلبك ولم يقل قلبي ؟
ولماذا قال تعالى قلبك ولم يقل فؤادك ؟
معنى على من "على قلبك"
يقول الأستاذ عبد السلام المجيدي في رسالته " تلقي النبي صلى الله عليه وسلم ألفاظ القرآن الكريم " :
وأتى بلفظ عَلَى، لأن القرآن مُسْتَعْلٍ على القلب،، والقلب سامعٌ له مطيعٌ يتمثل ما أمر به ويجتنب ما نهى عنه، وكانت أبلغ من إلى، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط، وعَلَى تدل على الاستعلاء، وما استعلى على الشيء يتضمن الانتهاء إليه.
ويلوح للباحث ثلاثة أمور في حرف الجر عَلَى :
أولها: أن الاستعلاء مستغرق للملكية، مهيمن على المحل، فارض لسلطانه، واضح ثقله وسيطرته في مكانه، وكأنه أُريد بذلك أن القرآن عندما ينـزله جبريل عليه السلام على قلبك قد تتام قبضهُ على القلب، وسيطرته عليه، فهو مهيمن على القلب في لفظه، لا يستطيع القلب أن يفلت منه مثقال ذرة، وفيه: الإشعار بأن ألفاظه مفروضة على القلب فرضاً، فلا مجال لزيغ حروفها عنه، ولا لتحريف هيئتها، مع حب قلب الرسول صلى الله عليه وسلم لها كما سيأتي، ولم تبق فيه ذرة تتأثر إلا به، ولا تحتفل إلا له، فهو خلي عن غيره، وفي هذا تمام الحفظ والفهم والاهتمام، ولذا قال الصاوي –رحمه الله تعالى-: "عبر بـعَلَى لتمكنه، وانصبابه، ورسوخه؛ فإن الشيء إذا صب من أعلى لأسفل رسخ وثبت".
وثانيها: أن على مؤكدة للإنزال من أعلى إلى أدنى: كما قال تعالى : قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم مُوَجَه، والمُنْـزَل إنما هو مُنْـزَلٌ عليه من السماء إلى حيث هو، بخلاف قوله تعالى : قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فإن الخطاب لصحابته، ثم لأمته –من بعد- والإنزال إنما يكون إليهم؛ إذ يتضمن حرف إلى معنى المجاورة، ويجعل فعله يتضمن معنى الإيصال، فليس ثم أعلى ولا أدنى، كأنهم قالوا: آمنا بالله وما أنزل على رسوله مما وصل إلينا…لأنه إنما وصل إليهم من محمد صلى الله عليه وسلم وهو بجوارهم لا فوقهم، ولكن لارتباطه بأنزل أفاد أمراً آخر، لاقتضاء الإنزال أعلى وأدنى، هو أن الوحي أُنزل على غير المخاطبين ثم وصل إليهم… فقد تضمن الفعل: أنزل، والحرف إلى ذلك ببلاغة بديعة، وإعجاز عظيمٍ ...ومن أسراره أنهم جعلوا، بهذا التعبير، ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم هو ذاته ما وصل إليهم دون ريب…ومعلوم أن التضمين عند العلماء مُقَدَّمُ على تبادل الحروف.
وثالثها: أنه قال على ولم يقل (في) لئلا يتوهم أن جبريل عليه السلام ألقى القرآن في قلب النبي صلى الله عليه وسلم دون سماع...
وقد اشتمل النـزول على قلبه صلى الله عليه وسلم، أمورا نذكرها :
أولها التحفيظ والتفهيم والتثبت : كما قال الزمخشري رحمه الله تعالى : أي حَفَّظَكه، وفَهَّمَك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى كقوله سبحانه وتعالى : سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى، وخص القلب، والمعنى عليك لأنه محل الوعي والتثبت، وليعلم أن المنـزل على قلبه عليه السلام محفوظ لا يجوز عليه التبديل، ولا التغيير، وحرف على مستعار للدلالة على التمكن مما سمي بقلب النبي صلى الله عليه وسلم مثل استعارته في قوله : أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وقد تقدم التوضيح بأن إرادة القلب حقيقية وليست مجازية…وأن المراد الوصول إلى محل الوعي المباشر بعد تهيئته سابقاً لذلك .
الثاني أنه كما اشتمل النـزول على قلبه صلى الله عليه وسلم على اللفظ اشتمل على المعنى تصريحاً لا تلويحاً، كما قال الزمخشري: ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك، دون قلبك لأنك تسمع أجراس حروفٍ لا تفهم معانيها ولا تعيها.
واستدل أبو حيان رحمه الله تعالى، على أنه كان صلى الله عليه وسلم يسمع من جبريل عليه السلام الأحرف بقوله عز وجل : بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، فقال: الظاهر تعلق كلمة بلسان بكلمة نـزل، فكان يسمع من جبريل عليه السلام حروفاً عربية، قال ابن عطية رحمه الله تعالى : وهو القول الصحيح، وتكون صلصلة الجرس التي وردت في الأحاديث التي وصفت كيفية نزول الوحي، صفة لشدة الصوت، وتداخل حروفه، وعجلة مورده، وإغلاظه. وبذا تم حفظ الألفاظ من زواياه الكلية.
الثالث، التمكن من حفظ الألفاظ وجمعها، دون أن ينخرم منها شيء أصلاً أو أداء .
ولابن القيم في هذا الباب كلام عذب جميل لا تمل الأذن سماعه ولا القلب المعرفة به، أورده في كتابه التفسير القيم، يقول ابن القيم :
فكان في الإتيان بأداة 'على' ما يدل على علوه وثبوته واستقامته. وهذا بخلاف الضلال والريب، فإنه يؤتى فيه بأداة 'في' الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه، كقوله تعالى : إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. وقوله تعالى : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وقوله تعالى : فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ. وقوله تعالى : وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. وتأمل قوله تعالى : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. فإن طريق الحق تأخذ علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلا، هاوية بسالكها في أسفل سافلين.
وفي قوله تعالى : قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، قول ثالث، وهو قول الكسائي : إنه على التهديد والوعيد نظير قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ، كما يقال : طريقك علي، وممرك علي، لمن تريد إعلامه بأنه غير فائت لك، ولا معجز. والسياق يأبى هذا، ولا يناسبه لمن تأمله. فإنه قاله مجيبا لإبليس الذي قال : ... فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ .:. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، فإنه لا سبيل إلى إغوائهم، ولا طريق لي عليهم. فقرر الله عز وجل ذلك أتم التقرير. وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم. فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط، لأنه صراط علي. ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط ولا الحوم حول ساحته، فإنه محروس محفوظ بالله. فلا يصل عدو الله إلى أهله.
الكاف في : على قلبك
وأما سبب التعبير عن ذلك بالكاف في قوله : عَلَى قَلْبِكَ، دون الياء الدال على المتكلم فهو التأكيد المطرد على المصدرية الإلهية للقرآن الكريم، ففيه إيماء إلى الحفظ للفظ والمعنى، وصرح به في آية الحجر.
ومن الإشارة إلى هذه المصدرية قوله تعالى : فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ، فلم يقل فإنه نزله على قلبي مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بإخبار اليهود عن نفسه، لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلاً أن يحكي ما له عن نفسه أن تخرج فعل المأمور مرة مضافاً إلى كناية نفس المخبر عن نفسه إذا كان المخبر عن نفسه، ومرة مضافاً إلى اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب، لأنه وإن كان مأموراً بقيل ذلك فهو مخاطبٌ مأمورٌ بحكاية ما قيل له، كما قال الزمخشري موضحاً لذلك: "جاءت على حكاية كلام الله عز وجل كما تكلم به كأنه قيل: قل ما تكلمت به من قولي: من كان عدواً لجبريل عليه السلام ". ولهذا حكمة عظيمة من حيث التأكيد على المصدرية الإلهية للقرآن، والدقة المتناهية في نقله من السماء إلى الأرض، فحكاية كلام الله سبحان وتعالى اقتضت، عَلَى قَلْبِكَ، بالخطاب…ولو قال (على قلبي) لقيل هذه دعوى، لم يبينها لنا ربك، ولم يقلها… ثم فيه تثبيتٌ لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وطمأنةٌ له من أن تزعزعه كثرة تشكيكات أهل الكتاب ومن والاهم، فكأن الخطاب من الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم قصداً له، لا لخصومه من أهل الكتاب…وهم مقصودون تبعاً لا استقلالاً، وذا يوائم قوله سبحانه وتعالى : …كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ…. وقوله تعالى : وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ.
التنزيل على القلب لا على غيره
أما التنزيل فكان تنزيلا على القلب، حتى لا يذهب في خلد أحد أن إلقاء جبريل عليه السلام ألفاظ القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كان خطاب فمٍ لفم، بل تنزيل على قلب، فلا يكون ثم أي ضعفٍ للبشر، ولا نقصٍ يتسم به البشر، ولا لجلجةٍ تصحب إدراك البشر، إذ القراءة موجهة إلى مركز إدراك البشر مباشرة، حتى يزول أي خاطر من أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد يفقد حرفاً من هول الموقف، أو من تأثير الطبيعة، ولذا كان هذا التصوير الدقيق لنـزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.
فأما لماذا لم يقل على فؤادك مثلا، فلأن الفؤاد مركز الشعور، لذلك لما تحدث عن التثبيت قال تعالى : وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. وقال تعالى : ...لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا. فقال هنا فؤادك ولم يقل قلبك، وتبين هذه المعاني في الآية التي جمعت القلب والفؤاد في والله أعلم.
وأما لماذا لم يقل على عقلك ؟ فلأن الأمر ليس متعلقا بما يجري العقل فيه بل هو متعلق بما يرجع للقلب من الحفظ، وليس العقل مركز للحفظ إنما هو للتفكر والنظر، والله تعالى أعلم.
وقد قال بعض المفسرين أن القول على قلبك معناه على روحك، لأن الروح إحدى إطلاقات القلب كما قال الراغب، رحمه الله تعالى. وقال الآلوسي، رحمه الله تعالى: "وكون الإنزال عليه، لأنه المدرك، والمكلف دون الجسد، وقد يقال: لما كانت له صلى الله عليه وسلم جهتان: جهةٌ ملكيةٌ يستفيض بها، وجهة بشرية يفيض بها، جعل الإنزال على روحه صلى الله عليه وسلم لأنها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الأمين، وللإشارة إلى ذلك قيل : عَلَى قَلْبِكَ، دون عليك، وقيل: إن هذا لأن القرآن لم ينـزل في المصحف كغيره من الكتب". وهذا الكلام فيه نظر، لأن الروح من عالم الأمر والقلب من عالم الخلق، والوحي اتصال بين عالم الأمر وعالم الخلق، فكيف يفهم الأمر بالصورة التي أوردها الآلوسي ؟ وكيف نقول إن الروح من اطلاقات القلب ولا نجد في القرآن ما ينص على ذلك ؟
يقول الأستاذ عبد السلام المجيدي في رسالته " تلقي النبي صلى الله عليه وسلم ألفاظ القرآن الكريم " : وقد فتح الله، تعالى ذكره، أذهان البشرية في عصرها الحاضر على حقائق علمية ضخمة تقرب لنا سر نزول جبريل عليه السلام بألفاظ القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن جبريل عليه السلام تعدى أداة التوصيل السمعي لدى البشر وهي الأذن الخارجية إلى مركز السمع مباشرة، وأداة التوصيل البصري لدى البشر وهي العين الخارجية إلى مركز البصر مباشرة…ويزيد هذا تقريباً أن يقال: لما كان القلب يتلقى الصوت كما يرى الصورة في المنام…والجارحة المباشرة من عين وأذن نائمة مغطاة…ثم إذا استيقظ تذكر كله في اليقظة…وقد جاء التشريح الطبي مؤكداً حقيقة مراكز السمع والبصر، وأنها مراكز في المخ تعي ما يصل إليه عن طريق الجوارح كما تعي ما يصل إليها عن طريق الرؤى المنامية، وما قد كُشف يقرب لنا ما لم يكشف مما قد غاب عنا، وقد كانت أُولى مراحل الوحي التي هيأ بها النبي صلى الله عليه وسلم لتلقي الوحي المباشر هي الرؤى المنامية الصادقة، ثم رؤيته للملَك في منامه... وحالة الوحي في النوم مقربةٌ لحالة الوحي في اليقظة…مما قد يقرب لنا فهم كيفية الوحي وحدوثه، واستيعاب كيفية تلقي النبي صلى الله عليه وسلم للوحي بواسطة الاتصال بعالم الملائكة …بطريقة يرى الصحابة آثارها في النبي صلى الله عليه وسلم من تصبب العرق في اليوم الشديد البرد، وترجيع اللسان، وثقل جسم النبي صلى الله عليه وسلم دون أن تشاهد أبصارهم صورة الملك، أو تسمع آذانهم صوته…لأن الاتصال كان في مستوى لا يدركونه، ولكنهم يسمعون قرآناً معجزاً لا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد .
ويقول أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط : "خص القلب ولم يأت بعليك الأخصر، لأن القلب هو محل العقل، وتلقي الواردات، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها، أو لأنه سلطان الجسد، أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنه بيت الله، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقاً للمحل على الحال به، أو عن الجملة الإنسانية؛ إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن، طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى. وقوله تعالى : وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، أو يكون إطلاقاً لبعض الشيء على كله".
ويقول الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب : "أكثر الأمة على انه أنزل عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي به ثبت في قلبه حفظا حتى أداه إلى أمته فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظا جاز أن يقال نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه". وكلام الفخر الرازي في هذا الباب فيه نظر لأن الكلام بجواز ذلك لا يقبل في هذا الموضع و ليس هذا مكانه، إذ لا يصح أن نجري موضوع الجواز والإمتناع على كلام الله تعالى الذي هو من الدقة ما تعجز عنه الافهام أن تأتي بمثله. ولعلي أرجع بكم مع الرازي في موضع آخر من تفسيره حيث يقول : " و أما قوله : على قلبك، ففيه قولان :
الأول، أنه إنما قال " على قلبك" وإن كان إنما أنزل عليه ليؤكد به أن ذلك المنزل محفوظ للرسول صلى الله عليه وسلم متمكن في قلبه لا يجوز عليه التغيير فيوثق بالإنذار الواقع منه الذي بين الله تعالى أنه هو المقصود، ولذلك قال تعالى : لتكون من المنذرين.
والثاني،أن القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار، وأما سائر الأعضاء فمسخرة له والدليل عليه القرآن والحديث والمعقول :
أما القرآن فآيات :
إحداها قوله تعالى : فإنه نزله على قلبك،
وقال ههنا : نزل به الروح الأمين على قلبك، وقال : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب.
وثانيها أنه ذكر أن استحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب من المساعي فقال تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو...، وقال تعالى : لن ينال الله لحومها .... والتقوى في القلب لأجل أن الله تعالى قال : أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى.
وثالثها قوله حكاية عن أهل النار : لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا... ومعلوم أن العقل في القلب والسمع منفذ إليه، وقال : إن السمع والبصر والفؤاد... ومعلوم أن السمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب، فكان السؤال عنهما في الحقيقة سؤالا عن القلب، وقال تعالى : يعلم خائنة الأعين ، ولم تخن الأعين إلا بما تضمر القلوب عند التحديق بها.
ورابعها قوله تعالى : وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون، فخص هذه الثلاثة بإلزام الحجة واستدعاء الشكر عليها. وقد قلنا لا طائل في السمع والإبصار إلا بما يؤديان إلى القلب ليكون القلب هو القاضي فيه والمتحكم عليه، وقال تعالى : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا.... فجعل هذه الثلاثة تمام ما ألزمهم من حجة، والمقصود من ذلك هو الفؤاد القاضي فيما يؤدي إليه السمع والبصر.
وخامسها، قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، فجعل العذاب لازما على هذه الثلاثة، وقال تعالى : لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ...، وجه الدلالة أنه قصد إلى نفي العلم عنهم رأسا، فلو ثبت العلم في غير القلب كثباته في القلب لم يتم الغرض، فهذه الآيات ومشاكلها ناطقة بأجمعها أن القلب هو المقصود بإلزام الحجة، وقد بينا أن ما قرن بذكره من ذكر السمع والبصر فذلك لأنهما آلتان للقلب في تأدية صور المحسوسات والمسموعات.
وأما الحديث فما روي عن النعمان بن بشير، قال سمعته عليه السلام يقول : ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
أما المعقول فوجوه :
أحدها، أن القلب إذا غشي عليه فلو قطع سائر الأعضاء لم يحصل الشعور به وإذا أفاق القلب فإنه يشعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات فدل ذلك على أن سائر الأعضاء تبع للقلب ولذلك فإن القلب إذا فرح أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك، وكذا في سائر الأعراض النفسية.
وثانيها، أن القلب منبع المشاق الباعثة على الأفعال الصادرة من سائر الأعضاء وإذا كانت المشاق مبادئ للافعال ومنبعها هو القلب كان الآمر المطلق هو القلب.
وثالثها أن معدن العقل هو القلب وإذا كان كذلك كان الآمر المطلق هو القلب.
معنى " بإذن الله"
أما ما يتعلق بنزول جبريل عليه السلام فبين أنه كان بأمر الله قبل نزوله ملازما لإذنه سبحانه وتعالى أثناء نزوله محكوم له بالحفظ والكمال والحق لما نزل به.
فأما الأول، فدليله ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا جبريل ! ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، فنـزلت : " وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا".
وأما الثاني فدليله قوله تعالى : قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ.
وأما الثالث فدليله من ثلاثة جوانب :
الجانب الأول : الحفظ، ودليله قوله تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.
الجانب الثاني : الكمال، ودليله قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا....
الجانب الثالث : الحق، ودليله قوله تعالى :" وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَل. إذ تجذرت صفة الحق في كل جوانب الوحي ومراحل إنزاله.
وفي حرف الباء في قوله تعالى : بإذْنِ الله، وقوله تعالى : بِأَمْرِ رَبِّكَ، يظهر معنى المصاحبة والملابسة لأمر الله في نزوله، لا معنى التجاوز والاجتهاد، ثم أخذ الإذن، فهو أمر الله سبحانه وتعالى وإذنه الذي اختاره. فقد كان الإذن الإلهي أمراً وإذناً واقعَيَن قبل النـزول، ملاصقَين للنـزول، مُسْتصحبَين حتى تمام أداء الوظيفة التعليمية والتبليغية.
والحق أنه لو أفردنا هذه الآية بالتدبر ما أجزأنا قلب واحد لتدبرها.
ولتفهم ذلك أكثر أنظر في قوله تعالى : أنزله على قلبك وقوله تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل...
جزاك الله خيرا أخي عمار ونفع بعلمك قد جئت بما يشفي العقل.
جزاك الله خيرا أخي عمار ونفع بعلمك قد جئت بما يشفي العقل.
التنزيل على القلب لا على غيره
أما التنزيل فكان تنزيلا على القلب، حتى لا يذهب في خلد أحد أن إلقاء جبريل عليه السلام ألفاظ القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كان خطاب فمٍ لفم، بل تنزيل على قلب، فلا يكون ثم أي ضعفٍ للبشر، ولا نقصٍ يتسم به البشر، ولا لجلجةٍ تصحب إدراك البشر، إذ القراءة موجهة إلى مركز إدراك البشر مباشرة، حتى يزول أي خاطر من أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد يفقد حرفاً من هول الموقف، أو من تأثير الطبيعة، ولذا كان هذا التصوير الدقيق لنـزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.
فأما لماذا لم يقل على فؤادك مثلا، فلأن الفؤاد مركز الشعور، لذلك لما تحدث عن التثبيت قال تعالى : وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. وقال تعالى : ...لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا. فقال هنا فؤادك ولم يقل قلبك، وتبين هذه المعاني في الآية التي جمعت القلب والفؤاد في والله أعلم.
وثانيها، أن القلب منبع المشاق الباعثة على الأفعال الصادرة من سائر الأعضاء وإذا كانت المشاق مبادئ للافعال ومنبعها هو القلب كان الآمر المطلق هو القلب.
الآية هي قوله تعالى :
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون.
ولك أن تنظر أخي في ذكر الفؤاد وذكر القلب في القرآن فإنه أمر لطيف جدا.
يقول الشنقيطي في أضواء البيان:
" قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . ظاهر هذه الآية أن جبريل ألقى القرآن في قلب النبي صلى الله عليه وسلم من غير سماع قراءة ونظيرها في ذلك قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} الآية [26/194،193]. ولكنه بين في مواضع أخر أن معنى ذلك أن الملك يقرؤه عليه حتى يسمعه منه، فتصل معانيه إلى قلبه بعد سماعه وذلك هو معنى تنزيله على قلبه. وذلك كما في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [75/19،16]، وقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} "ج:1-ص:42
--- رأي ابن عاشور
"{ نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 194 ، 195 ] فإن المَلك ملابس للكلام المأمور بتبليغه ، وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تُلقى إلى النبيء بشيء وصل من مكان عاللٍ ، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاماً سَمعه الرسول كالقرآن وكما أُنزل إلى موسى وكما وصفَ النبيء صلى الله عليه وسلم بعضَ أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله : " وأحياناً يأتيني مثلَ صَلْصَلَة الجَرَس فيفصم عني وقد وَعيت ما قال " وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم فلا تسمَّى إنزالاً " التحرير والتنوير ج1-ص156