ربما تجد فائدة في هذه النقول
قال الرازي في تفسيره
(فان قيل: لم قال في الشفاعة الحسنة: { يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا } وقال في الشفاعة السيئة: { يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا } وهل لاختلاف هذين اللفظين فائدة؟
قلنا: الكفل اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس، وإنما يقال كفل البعير لأنك حميت ظهر البعير بذلك الكساء عن الآفة، وحمي الراكب بدنه بذلك الكساء عن ارتماس ظهر البعير فيتأذى به، ويقال للضامن: كفيل.
(وقال عليه الصلاة والسلام: " أنا وكافل اليتيم كهاتين " فثبت أن الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الانسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، إذا ثبت هذا فنقول: { وَمَن يَشْفَعْ شَفَـٰعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا } أي يحصل له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له في معاشه ومعاده، والمقصود حصول ضد ذلك
{ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
[آل عمران: 21] والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى.
قال الخليل في العين
(والكِفْلُ من الأجر، ومن الإثم: الضعف، قال الله عز وجل: "يؤتكم كِفلَينِ من رحمته". و"يكن له كفل منها"، ولا يقال: هذا كِفْلُ فلان حتى تكون قد هيأت مثله لغيره كالنصيب، فإذا أفردت فلا تقل: كِفْل ولا نصيب.)
--ذكر ابن الجوزي في المنتظم(أخبرنا هبة الله بن محمد، أخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا أحمد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد اللّه بن مرة، عن مسروق، عن عبد اللّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها"، لأنه كان أول من سن القتل.
أخرجاه في الصحيحين.)
قال تعالى في سورة النساء:" مَن يَشفَعْ شفاعَةً حَسَنةً يكن له نصيبٌ منها ومَن يَشفَعْ شفاعَة سيئة يكن له كِفْلٌ منها وكان الله على كلِّ شيء مقيتًا "
لم قال عن الشفاعة الحسنة ( يكن له نصيب منها ) وعن الشفاعة السيئة ( يكن له كفل منها )؟
أولاً- جواب الدكتور فاضل السامرائي:
من معاني( الكِفل ) في اللغة : النصيب المساوي، المثل . والكفيل يضمن بقدر ما كفل ليس أكثر00 أما (النصيب) فمطلق غير محدد بشيء معين0
لذلك قال الله عز وجل عن السيئة ( يكن له كفل منها ) ؛ لأن السيئة تجازى بقدرها " من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها " غافر:40
أما الحَسَنة فتضاعف كما قال تعالى:" مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا " الأنعام: 160. وقال عز وجل:" مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا " القصص: 84
فقال عن حامل السيئة أن له الكفل. أي: المثل، أما صاحب الشفاعة الحسنة فله نصيب منها0 والنصيب لا تشترط فيه المماثلة0 وهذا من عظيم فضل الله عز وجل.
وورد في الحديث الشريف أنه عليه الصلاة والسلام قال فيما يرويه عن ربه: إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك: فمن هَمّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة".
ثانيًا- جواب الأستاذ محمد إسماعيل عتوك:
النصيب في اللغة هو الحظ الجيد المعيَّن من الشيء. تقول: هذا نصيبي. أي: حظي. واشتقاقه من النصْب، بإسكان الصاد. والنصْب: هو إقامة الشيء في استواء، وإهداف، ووضعه موضعًا ناتئًا؛ كنصب الرمح، والحجر في الأرض. والنصْب، والنصيب حجر كان ينصَب، فيعبَد، فهو منصوب. قال الراغب في مفرداته: " النصيب: الحظ المنصوب. أي: المعيَّن ". وهو المراد من قوله تعالى:{ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين }[ النساء:11]، لقوله تعالى قبله:{ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا }[ النساء:7 ]0
أما الكفل فيستعمل في اللغة لمعان كثيرة؛ أشهرها: النصيب والحظ0 وهذا قول الجمهور. ونقل عن المؤَرِّج قوله:" الكفل: النصيب بلغة هذيل ". وقال غيره:" بل بلغة الحبشة ". وذكر أبو حيَّان صاحب تفسير( البحر المحيط ) أن أكثر استعماله في الشر.. ولهذا استعمل في الشفاعة السيئة. وقد يستعمل في الخير؛ كقوله تعالى: { يؤتكم كفلين من رحمته }[الحديد:28].. وكان أبو حيَّان قد نقل عن إبَّان بن تغلب أن الكفل بمعنى: المِثل، ونقل عن الحسن وقتادة أنه بمعنى: الوزر والإثم.. وذكر الفيروز آبادي من معاني الكفل: الضِّعف. واشتقاق ذلك كله من كفل البعير. قال الكسائيُّ:" أصل الكفل مركَب يهيَّأ على ظهر البعير ". وقال ابن فارس:" الكاف والفاء واللام أصل صحيح يدل على تضمن الشيء للشيء. من ذلك الكفل: وهو كساء يدار حول سنام البعير"
وأضاف ابن فارس قائلاً:" والكفل في بعض اللغات: الضعف من الأجر، وأصله ما ذكرنا أولاً؛ كأنه شيء يحمله حامله على الكفل الذي يحمله البعير، ويقال ذلك في الإثم " 0
وعلى هذا المعنى يحمل قول الله تعالى:{ يكن له كفل منها }0 بمعنى: أنه يناله من شفاعته السيئة ضعف من الأجر الرديء؛ لأنه آثم بهذه الشفاعة0
والخلاصة: أن الشفاعة إما أن تكون حسنة، أو تكون سيئة. والشفاعة الحسنة هي التي يراعى بها حق المسلم، فيدفع بها عنه شر، أو يجلب بها إليه خير، ولا يبتغى بها إلا وجه الله تعالى.. والشفاعة السيئة ما كانت بخلاف ذلك. فإذا كانت الشفاعة في حق، كان لصاحبها من أجرها الذي يستحقه المُشفَّع أجرٌ حسن. وهذا ما عبَّر عنه بالنصيب. وإذا كانت الشفاعة في باطل، كان لصاحبها من أجرها الذي يستحقه المُشفَّع ضعفٌ من الأجر الرديء. وهذا ما عبِّر عنه بالكفل، تنبيهًا على أن الشفاعة المؤدية إلى إحقاق الحق تكون عظيمة الثواب عند الله تعالى، وأن الشفاعة المؤدية إلى إسقاط الحق تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى.
ثالثًا- جواب الدكتور عماد:
أولاً- ذهب الألوسي إلى أن النصيب بمعنى الحظ الوافر، وأن الكفل بمعنى النصيب من الوزر، فقال:" من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها- أي: حظ وافر من ثوابها00 ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها- أي: نصيب من وزرها0 وبذلك فسره السدي، والربيع، وابن الزبير، وكثير من أهل اللغة "0
ثم علل الألوسي للمغايرة بين اللفظين، فقال:" فالتعبير بالنصيب في الشفاعة الحسنة، وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنُّن "0
وأضاف الألوسي قائلاً:" وفرَّق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة، والكفل هو المثل المساوي، فاختار النصيب أولاً؛ لأن جزاء الحسنة يضاعف، والكفل ثانيًا؛ لأن من جاء بالسيئة، لا يجزى إلا مثلها0 ففي الآية إشارة إلى لطف الله تعالى بعباده "0 ( روح المعاني للألوسي:5/97 )
هذا ما حكاه الألو سي عن بعض المحققين0 و هذا القول لا يصح إلا على اعتبار(من) للسبب0 فيكون المعنى: من يشفع شفاعة حسنة، يكن له نصيب من الأجر بسببها، ومن يشفع شفاعة سيئة، يكن له كفل من العقاب بسببها0
وهذا خلاف ما نصَّت عليه الآية الكريمة من المعنى؛ لأن المراد بـ( منها ) الأولى: من ثوابها، وبـ( منها ) الثانية: من عقابها، كما قال الألوسي0 ويؤكد ذلك أن( من ) في الموضعين للتبعيض00 وهذا مذهب الجمهور0
ثانيًا- مذهب الجمهور أن النصيب، والكفل بمعنى واحد، إلا أن الثاني أكثر ما يستعمل في الشر0 وبهذا قال أبو حيان، ثم علل للمغايرة بينهما بقوله:" وغاير في النصيب، فذكره بلفظ الكفل في الشفاعة السيئة؛ لأنه أكثر ما يستعمل في الشر "0 ( البحر المحيط:3/733 )
وذكر الرازي- أيضًا- أن النصيب والكفل بمعنى واحد، وحكى عن أهل اللغة قولهم: إن الكفل هو الحظ، ثم قال:" والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق، وقوة الباطل، تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى"0( تفسير الرازي:10/158 )0
ثالثًا- قول الألوسي الذي ابتدأنا به، وهو قوله: النصيب بمعنى الحظ الوافر. والكفل هو النصيب من الوزر، يعني أن كلا من النصيب، والكفل بمعنى: الحظ الوافر0 وهذا الحظ الوافر هو حظ معين، ومعلوم0 وقد فسر الراغب في مفرداته النصيب بأنه:" الحظ المنصوب. أي: المعيَّن ".
والدليل على كونه وافرًا قوله تعالى:( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم )0 والدليل على كونه معينًا قوله تعالى:( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا )0 وقوله تعالى على لسان إبليس:( لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا)0
ثالثًا- ذكر الفيروز آبادي من معاني الكفل: الضعف، والنصيب، والحظ00 وذكر ابن منظور من معاني الكفل: الحظ، والضعف من الأجر والإثم، ثم قال: والكفل أيضًا: المثل0 ونقل عن الفرَّاء قوله: إن الكفل هو الحظ0
وقال ابن فارس:" والكفل في بعض اللغات: الضعف من الأجر"0
وذكر الخليل من معاني الكفل: النصيب، ثم قال: والكفل من الأجر والإثم: الضعف0
وأقرب الأقوال إلى الصواب في تفسير الكفل هو: الضعف من الوزر، أو الإثم0
رابعًا- اختلف المفسرون في المراد من الشفاعة الحسنة، والشفاعة السيئة على أقوال، ولكنهم اتفقوا على أن الحسنة منها ما كانت في البر والطاعة ابتغاء مرضاة الله0 وأن السيئة منها ما كانت في معصية الله ابتغاء لجاه أو غيره0 ومنها الشفاعة في حد من حدود الله تعالى0 قال الألوسي:" وفي الخبر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضادَّ الله تعالى في ملكه، ومن أعان على خصومة بغير علم، كان في سخط الله تعالى حتى ينزع، واستثني من الحدود القصاص0 فالشفاعة في إسقاطه إلى الديَّة غير محرمة "0 ( روح المعاني للألوسي:5/97 (
وقال الثعالبي:" روى أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من يشفع لأحد شفاعة، فأهدى له هدية عليها فقبلها، فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا " ( تفسير الثعالبي:1/371 (
ولهذا كانت عقوبة الشفاعة السيئة عظيمة عند الله تعالى تتناسب مع المعنى الذي يؤديه لفظ الكفل، وليس كذلك السيئة، التي تجزى بمثلها0