الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه يقول الراغب الأصفهاني (ت:502 هـ) : " المِلَّة كالدّين ، وهو اسم لما شرع اللّه تعالى لعباده على لسان الأنبياء ليتوصّلوا به إلى جوار اللّه ، والفرق بينها وبين الدّين أنّ الملّة لا تضاف إلّا إلى النّبيّ عليه الصلاة والسلام الذي تسند إليه. نحو : {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ }[آل عمران:95] ، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي}[يوسف :38] ولا تكاد توجد مضافة إلى اللّه ، ولا إلى آحاد أمّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم ، ولا تستعمل إلّا في جملة الشّرائع دون آحادها ، لا يقال : ملّة اللّه ، ولا يقال : ملّتي وملّة زيد كما يقال : دين اللّه ودين زيد ، ولا يقال : الصلاة ملّة اللّه." وكما نرى فالراغب لم يوفق في بيان الفرق الدلالي بينهما ، بل زاد مفردة أخرى وهي (الشريعة) ، فصار الأمر أكثر غموضا . واكتفى بذكر الفرق في الإسناد لكلٍِّ من المفردتين . ويبقى السؤال مطروحاً : ما الفرق بين الملة والدين .
الملة في اللغة : هي العمل أو الهيئة التي لا يُزال عنها .
فمادة (ملل) الميم فيها تدل على التحرك ، واللام تدل على اللزوم .
فمن امتلّ شيئاً فهو متحرك فيه ، لازم له .
للشيخ العروبة المحقق المدقق الشيخ أبو فهر محمود محمد شاكر رحمه الله كلام دقيق في معني الدين و التفريق بين مصطلحي الدين و الملة في كتابه العظيم أباطيل و أسمار, و أعذرني أذا لم أنقل شئ من كلامه هنا لان كلامه نفيس جدا و طويل جدا و نقل البعض قد يفسد المعني فأنظره هناك غير مأمور.
الفرق بين الملة والدين كما في الفروق : أن الملة إسم لجملة الشريعة، والدين إسم لما عليه كل واحد من أهلها ألا ترى أنه يقال فلان حسن الدين ولا يقال حسن الملة وإنما يقال هو من أهل الملة ويقال لخلاف الذمي الملي نسب إلى جملة الشريعة فلا يقال له ديني وتقول ديني دين الملائكة ولا تقول ملتي ملة الملائكة لان الملة إسم للشرائع مع الاقرار بالله.
والدين ما يذهب إليه الانسان ويعتقد أنه يقربه إلى الله وإن لم يكن فيه شرائع مثل دين أهل الشرك وكل ملة دين وليس كل دين ملة واليهودية ملة لان فيها شرائع وليس الشرك ملة وإذا أطلق الدين فهو الطاعة العامة التي يجازى عليها بالثواب مثل قوله تعالى " إن الدين عند الله الاسلام " (1) وإذا قيد إختلف دلالته وقد يسمى كل واحد من الدين والملة بإسم الآخر في بعض المواضع لتقارب معنييهما ...
أشكر الإخوة على المشاركة ، جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم . ربما كان علينا أن نأخذ الأمور من أصلها ، بعد ذلك نرجع إلى كلام الراغب لعلنا نستوعب ما ذكره في الفرق بين المفردتين . مفردة (الملة) في اللغة : جاء في لسان العرب : " وتملَّل وامتلَّ : دخل في المِلَّة . وفي التنزيل العزيز : {حتى تَتَّبِع مِلَّتهم } ؛ قال أَبو إِسحق : المِلة في اللغة سُنَّتُهم وطريقهم ومن هذا أُخذ المَلَّة أَي الموضع الذي يختبزُ فيه لأَنه يؤثَّر في مكانها كما يؤثَّر في الطريق ، قال: وكلام العرب إِذا اتفَق لفظُه فأَكثره مُشتق بعضُه من بعض . قال أَبو منصور : ومما يؤيد قولَه قولُهم مُمَلٌّ أَي مسلوك معلوم ؛ وقال الليث في قول الراجز: كأَنه في ملَّة مَمْلول قال : المملول من المِلَّة ، أَراد كأَنه مثال مُمَثَّل مما يعبد في مِلَل المشركين." وقال : " وأَمَلَّ الشيءَ : قاله فكُتِب . وأَمْلاه : كأَمَلَّه ، على تحويل التضعيف . وفي التنزيل: {فليُمْلِلْ وَلِيُّه بالعدْل} ؛ وهذا من أَمَلَّ ، وفي التنزيل أَيضاً : {فهي تُمْلى عليه بُكْرةً وأَصِيلاً } ؛ وهذا من أَمْلى . وحكى أَبو زيد : أَنا أُمْلِلُ عليه الكتاب ، بإِظهار التضعيف . وقال الفراء : أَمْلَلْت لغة أَهل الحجاز وبني أَسد ، وأَمْلَيْت لغة بني تميم وقيس . يقال : أَمَلَّ عليه شيئاً يكتبه وأَمْلى عليه ، ونزل القرآن العزيز باللغتين مَعاً ."
وفي استقراء المعجم القرآني لمفردة (الملة) يتبين ما يلي : وردت مفردة (ملة) مع تصاريفها في القرآن الكريم 15 مرة : (ملة) 10 مرات معرفة ومنكرة . منها 8 مرات أسندت كلها لإبراهيم عليه السلام . وواحدة مسندة لقوم لا يؤمنون ، وواحدة مسندة إلى الآخرة (الملة الآخرة) . ثم (ملتكم) مرة واحدة ، و (ملتنا) مرتين ، و (ملتهم) مرتين . من خلال هذا الإحصاء يتبين أن الملة التي ارتضاها الله ، هي ملة إبراهيم عليه السلام : {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[النحل:123] . يقول ابن كثير : " {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا } أي: ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه ، أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء : { أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } كقوله في الأنعام : {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[الأنعام: 161]" ويقول البقاعي : " وذلك كونه صار مقتدي لأفضل ولد آدم ، مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي الدال على علو رتبته بعلو رتبة من أمر باتباعه فيما مهده مما أمر به من التوحيد والطريق الواضح السهل فقال سبحانه: { ثم أوحينا } أي ثم زدناه تعظيماً وجلالة بأن أوحينا { إليك } وأنت أشرف الخلق، وفسر الإيحاء بقوله عز وجل ترغيباً في تلقي هذا الوحي أحسن التلقي باقتفاء الأب الأعظم : { أن اتبع } أي بغاية جهدك ونهاية همتك . ولما كان المراد أصل الدين وحسن الاقتضاء فيه بسهولة الانقياد والانسلاخ من كل باطل، والدعوة بالرفق مع الصبر، وتكرير الإيراد للدلائل وكل ما يدعو إليه العقل الصرف والفطرة السليمة ، عبر بالملة فقال تعالى: { ملة إبراهيم } ولا بعد في أن يفهم ذلك الهجرة أيضاً . ولما كانت الحنيفية أشرف أخلاق إبراهيم عليه السلام ، فكانت مقصودة بالذات ، صرح بها فقال تعالى: { حنيفاً } أي الحال كونك أو كونه شديد الانجذاب مع الدليل الحق ؛ ورغب العرب في التوحيد ونفرهم من الشرك بقوله تعالى : { وما كان } أي بوجه من الوجوه { من المشركين } ولما دعا سبحانه فيها إلى معالي الشيم وعدم الاعتراض ، وختم بالأمر بالملة الحنيفية التي هي سهولة الانقياد للدليل ، وعدم الكون مع الجامدين ، اقتداء بالأب الأعظم ، وكان الخلاف والعسر مخالفاً لملته ، فكان لا يجر إلى خير ، وكان من المعلوم أن كل حكم حدث بعده ليس من ملته ." ويقول الألوسي : " فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد للأدلة القطعية فلا يعد ذلك متابعة فيجب حمل الملة على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها ، قلنا : يجوز أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن " ويقول الشعراوي : " وملة إبراهيم : أي شريعة التوحيد." ويقول طنطاوي : " والمراد بملة إبراهيم : شريعته التي أمره الله - تعالى - باتباعها في عقيدته وعبادته ومعاملاته، وهى شريعة الإِسلام ، التى عبر عنها آنفاً بالصراط المستقيم في قوله - تعالى -: { ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }."
فـ (الملة) في القرآن الكريم تنقسم إلى قسمين : ملة الكفر وملة إبراهيم التي هي شريعة التوحيد يقول تعالى في سورة يوسف : " [قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ{37} وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ {38}] ، ويقول : {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ }[ص :7] . يقول الطبري في تأويل هذه الآية : " وقوله: { ما سَمِعْنا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ } اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من البراءة من جميع الآلهة إلا من الله تعالى ذكره ، وبهذا الكتاب الذي جاء به في الملَّة النصرانية ، قالوا : وهي الملة الآخرة ." ويقول ابن عاشور : " و { الملة } : الدين ، قال تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }في سورة [البقرة:120]، وقال : { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون باللَّه وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب }في سورة [يوسف: 37 - 38] . و { الآخِرة }: تأنيث الآخِر وهو الذي يكون بعد مضي مدة تقررت فيها أمثاله كقوله تعالى : { ثم اللَّه ينشىء النشأة الآخرة }[العنكبوت: 20]. والمجرور من قوله: { في الملة الآخرةِ } يجوز أن يكون ظرفاً مستقراً في موضع الحال من اسم الإِشارة بياناً للمقصود من الإِشارة متعلقاً بفعل { سَمِعْنَا }. والمعنى : ما سمعنا بهذا قبل اليوم فلا نعتدّ به. ويجوز على هذا التقدير أن يكون المراد بـ { الملَّةِ الآخرة } دين النصارى، وهو عن ابن عباس وأصحابه وعليه فالمشركون استشهدوا على بطلان توحيد الإِلٰه بأن دين النصارى الذي ظهر قبل الإِسلام أثبتَ تعدد الآلهة، ويكون نفي السماع كناية عن سماع ضده وهو تعدد الآلهة . ويجوز أن يريدوا بـ { الملَّةِ الآخِرة } الملّة التي هُم عليها "
فما معنى : القيِّم . يقول الخازن (ت:725 هـ) : " وقيل : قيماً ثابتاً مقوماً لأمور معاشي ومعادي ، وقيل : هو من قام وهو أبلغ من القائم " جاء في لسان العرب : "وقد يجيء القيام بمعنى المحافظة والإصلاح ؛ ومنه قوله تعالى : {الرجال قوّامون على النساء} ، وقوله تعالى : {إلا ما دمت عليه قائماً} ؛ أي ملازماً محافظاً . ويجيء القيام بمعنى الوقوف والثبات . يقال للماشي : قف لي أي تحبَّس مكانَك حتى آتيك ، وكذلك قُم لي بمعنى قف لي، وعليه فسروا قوله سبحانه: {وإذا أَظلم عليهم قاموا} ؛ قال أهل اللغة والتفسير : قاموا هنا بمعنى وقَفُوا وثبتوا في مكانهم غير متقدّمين ولا متأَخرين ، ومنه التَّوَقُّف في الأَمر وهو الوقُوف عنده من غير مُجاوَزة له ... وقام عندهم الحق أي ثبت ولم يبرح ؛ ومنه قولهم : أقام بالمكان هو بمعنى الثبات . "
ويقول تعالى : " {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }[الشورى:13] ويقول تعالى : {...لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً...}[المائدة:48] ، يقول طنطاوي : " ولأنه قد جاء في الآية السابقة ما قد يوهم بأن لكل قوم شريعة خاصة بهم { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } وأن حكم القرآن ليس له صفة العموم فأراد - سبحانه - أن ينفى هذا الوهم نفيا واضحا وأن يؤكد أن شريعته القرآن هي الشريعة العامة الخالدة التي يجب أن يتحاكم إليها الناس في كل زمان ومكان، لأنها نسخت ما سبقها من شرائع." مما تقدم يتبين أن : (ملة إبراهيم) هي الدين القيم ، هي الصراط المستقيم . هي الإسلام . الدين القيم : هو الدين الثابت الذي لا يتغير ، فيه شريعة ثابتة ، أوصى الله تعالى بها أنبياءه منذ نوح عليه السلام كما أوصى بها إبراهيم عليه السلام ، الذي بدوره أملاها على أبنائه من بعده . يقول تعالى في سورة البقرة : [وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ{130} إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ{131} وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ{132}] . وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم ما يعنيه الراغب عندما قال : " المِلَّة كالدّين ، وهو اسم لما شرع اللّه تعالى لعباده على لسان الأنبياء ليتوصّلوا به إلى جوار اللّه ." فالدين القيم هو الدين الثابت الذي لا يتبدل ولا يتغير وهو شريعة التوحيد ، وهو دين الله ، وهو الإسلام. وملة إبراهيم : هي منهجه وعقيدته ومعاملاته في إرساء شريعة التوحيد . وبعد ذلك تتغير الأحكام حسب الزمان والمكان . والأحكام التشريعية التي جاء بها القرآن ناسخة لكل التشريعات السابقة ، يقول تعالى : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }[المائدة:48] .
يقول تعالى:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}[الشورى:13].
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} شرع الله لكم جزءا من الدين. وهذا الجزء من الدين هو الدين الثابت الذي لا يتغير؛ فقد أوصى الله به الأنبياء والرسل فكان ضمن الوحي الإلهي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وأمرهم جميعا بتطبيقه والثبات عليه. فالدين القيم هو الدين الثابت هو عقيدة التوحيد وهو جزء من الدين. والدين بصفة عامة يتكون من العقيدة والشريعة. والمشركون لا يروقهم هذا الدين الثابت؛ فقد عظم عليهم ما تدعوهم إليه من التوحيد ورفض الأوثان.
فالعقيدة هي الدين القيم، والشريعة هي الدين المتجدد؛ لأن الله جعل لكل أمة من الأمم شرعة ومنهاجا. والإسلام ناسخ لكل الشرائع السابقة، يقول تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[المائدة:48].
وملة إبراهيم: هي منهجه في اتباع الدين القيم مائلا عن الشرك، ومعاملته للناس في إرساء عقيدة التوحيد. مصداقا لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:161].
يقول تعالى:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}[الشورى:13].
أخبرنا الله تعالى بأنه شرع لنا من الدين أي العقيدة الصحيحة، وهي العقيدة التي أوصى بها الله تعالى نوحا والنبيين من بعده وأوحاها إلى محمد صلوات الله عليهم جميعا. وهذه العقيدة الصحيحة هي الدين الثابت الذي لا يتغير، مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25].
أما الشريعة فهي الدين المتغير، وشريعة الإسلام ناسخة لكل الشرائع التي كانت قبله. فالدين دين الله والملة ملة إبراهيم؛ لأنه هو صاحبها. فهو الذي سلك ذلك المسلك في بحثه عن الحقيقة وفي إيمانه بها وفي دعوته إليها ضد الشرك والمشركين. وهذه الملة هي التي أُمرنا باتباعها في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[الحج:78].
فالاجتباء من الله والدين دين الله، والملة ملة إبراهيم. ونبينا عليه الصلاة والسلام أمره الله باتباع هذه الملة كما أمرنا باتباعها، فهي ملة إبراهيم.
العقيدة تابعة للدين؛ لأنها جاءت معه: {شرع لكم من الدين}.فنقول: دين الله. أما الملة فهي الطريقة المتبعة في تطبيق العقيدة الصحيحة، فهي ملة صاحبها. وهي كما أرادها الله تعالى ملة إبراهيم. والملة أعظم من الطريقة؛ لأن الملة لا يُزال عنها.