الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه
وبعد ، ظهرت في العصور المتأخرة دراسات هي عبارة عن حواشي حول كتب التفسير وخصوصا : "الكشاف" للزمخشري (ت538) ، و "أنوار التنزيل وأسرار التأويل " للبيضاوي (ت685) ، فما السر في ذلك .
لا يوجد سر، أو خلافه.
الأمر ببساطة أنه مع تقادم الزمان، واتساع العلوم، وتعدد المعارف، ضعفت الملكات العلمية، هذا أمر
وأمر ثانٍ وهو أن هذه الكتب صارت كتبا مدرسية مقررة، فاشتدت الحاجة إلى شرحها وتفسيرها، لما فيها من تركيز وضغط يحتاج إلى فك
وأمر ثالث مهم هو شيوع الورع ( البارع) في غير محله، والعزوف عن التأليف والتجديد، بدعوى لم يترك الأول للآخر ( شيئاً)، والله أعلم.
الحواشي موضوع هام أخي وقد أحسنت بإثارته ولدينا في جامعة اليرموك رسالة أو أطروحة نوقشت أو ستناقش حول منهج الحواشي حسبما سمعت وهو موضوع شجع أساتذتنا على خوضه لأهميته.
أولاً : أحي أخي الأستاذ عبدالكريم عزيز وأرجو أن يكون بأحسن حال .
ثانياً : إجابة سؤالك تناولها كثيرٌ من الباحثين الذين كتبوا في تطور حركة التأليف عبر العصور الإسلامية، من أمثال الأستاذ عبدالله الحبشي في كتابه عن الحواشي ، والدكتور كمال عرفات نبهان في كتابه القيم (عبقرية التأليف العربي) عندما تعرض لذكر الحواشي والتعليقات والتقارير وغيرها من الخدمات التي دارت حول النص .
ثالثاً : تعتبر طريقة الحواشي من الطرق الإبداعية المبتكرة التي ظهرت في التاريخ العلمي للمسلمين وهي خدمة تالية لخدمة الشروح ، فهي تكمل ما أغفلته الشروح ، والتقارير تكمل ما أغفلته الحواشي ، ولذلك قيل : الحواشي مِخَخَةُ المُتُون ، كما أنَّ الزَّيتَ مُخُّ الزيتون، وقد أشار الدكتور شوقي ضيف رحمه الله في كتابه (معي) إلى أنه كان في بداية دراسته الأزهرية في بدايات القرن العشرين يستفيد من هذا التدرج في التأليف ، فيبدأ بدراسة المتون المختصرة ، ثم يقرأ الشروح عليها ، ثم يقرأ الحواشي التي كتبت على تلك الشروح ، ثم يقرأ التقارير التي كتبت على تلك الحواشي فيتدرج في التعلم تدرجاً مدروساً محكماً . مراحل التأليف :
1- المتن (يقرر الأصول في العلم)
2- الشرح (يشرح ويناقش عبارات المتن ويوضحها بالأمثلة) . 3- الحاشية (لشرح ومناقشة ما غمض أو فات أو استُدرك على الشرح) .
4- التقرير (لبيان وشرح ما فات أو غمض من معلومات الحاشية) .
وبالرغم من تعريض بعضهم بهذه الطرق إلا أن الدكتور شوقي ضيف وغيره أشادوا بهذه الطريقة المنهجية المتسلسلة في التعليم ، وتجد في كلام بعض المتندرين بالحواشي أمثال قولهم (من تتبع الحواشي ما حوى شيئاً) للتزهيد فيها والتقليل من قيمتها، ولكن الصحيح أن الحواشي من حيث المنهجية فكرة إبداعية ومفيدة ، ولكن تختلف قيمة الحاشية بحسب علم من كتبها وعلقها ، فإن كان عالماً دقيقاً كانت حاشيته ذات قيمة علمية عالية وهكذا .
وأما كثرة الحواشي على تفسير الكشاف للزمخشري وتفسير البيضاوي فيرجع لأسباب ذكرها الزملاء أعلاه يمكن جمعها في :
- قيمتهما العلمية .
- اختصار عبارتهما .
- تدريس هذين التفسيرين في عدد من دور العلم في أنحاء العالم الإسلامي ، مما دعى العلماء إلى كتابة مثل هذه الحواشي والتقارير عليهما .
- اشتراط كتابة حاشية على تفسير البيضاوي أو جزء منه لنيل بعض الإجازات في عهد الدولة العثمانية .
وتجد في هذه الحواشي معلومات دقيقة وعميقة كتبها العلماء ، وضوابط ونظم لبعض الشروط والقواعد ونحو ذلك من الفوائد الدقيقة التي ينتفع بها الباحث كثيراً . وهناك مصطلحات مرادفة للحواشي مثل (التعليقات) و (القول على ...) أو (الكلام على ..) أو (النكتب على كتاب ..) وغير ذلك .
وكل الحواشي بالطبع تابعة لكتب أخرى ، فهي قامت على أصل سابق لها رأى صاحب الحاشية أن إتمام عمل السابق خير من ابتداء عمل جديد ، وهذا فيه حفظ لحقوق العلماء السابقين ، وإكمال لجهدهم لأنهم كانوا ينظرون إلى العلم على أنه بناء يكمل اللاحق فيه بناء السابق له مع توقيره .
وبعض الحواشي تكون جمعاً لحواشٍ أخرى متفرقة على شرح واحد ، وبعضها تكون انتخاباً من بعض الحواشي مثل منتخب القوجوي ت 951هـ على تفسير البيضاوي . وهناك ما يمكن تسميته بتدريج الحواشي على بعض الكتب المشهورة ، فقد أخرج بعض المؤلفين مستويين من الحواشي على نص واحد كما فعل الشيخ صبغة الله عندما جمع من ثماني عشرة حاشية وصنف حاشية كبرى وحاشية صغرى على تفسير البيضاوي أيضاً وفعل مثله السروري على تفسير البيضاوي ، والسروري متوفى سنة 969هـ .
وبعضهم جعلها ثلاثة مستويات للحواشي : صغرى ووسطى وكبرى ، والمتأمل فيها يجد فوائد ونفائس ، ولكنها لا تبيح أسرارها لكل أحد ، وإنما تستلزم حسن التتلمذ عليها ، والتأمل فيها ، وللأسف أننا في زماننا هذا نزهد فيها ، وربما نتندر عليها ، مع ضعفنا العلمي المريع والله المستعان ، فلا نحن أفلحنا في ما ندعي فيه التجديد والإبداع ، ولا نحن أتقنا طريقة أسلافنا في تعلم العلم وإتقانه ، والحديث في ذلك حديث طويل ، وكم نحن بحاجة إلى وقفة صادقة مع أنفسنا في مناهج تعليمنا للعلوم الشرعية في كلياتنا ودراساتنا العليا خصوصاً ، فالمخرجات تدعو للبحث عن حلول حقيقية تناسب هذه العلوم وتنبع من تراثنا الإسلامي الغني بالمنهجيات المجربة الناجحة .
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم
ومن الأخطاء الشائعة عند كثير من الباحثين أن (فكرة الحواشي) إنما ظهرت في العصور المتأخرة ولم تكن معروفة عند المتقدمين، وهذا خطأ؛ فمنذ القدم وللعلماء حواش على أمهات الكتب؛ كالحواشي على كتاب سيبويه، والحواشي على كتاب الكامل للمبرد، والحواشي على درة الغواص للحريري، وغيرها كثير.
بل إن كثيرا من الكتب التي وصلت إلينا عن المتقدمين تصلنا مخلوطة بهذه الحواشي ومن ثم يخطئ بعض القراء في فهم المعنى المقصود؛ فمثلا في نوادر أبي زيد تجد كثيرا من الزيادات المضافة من قبل العلماء الذين رووا هذا الكتاب كالأخفش الأصغر وأبي حاتم السجستاني.
وكتاب الألفاظ الكتابية للهمذاني لم يصلنا أصله، وإنما وصلتنا روايتان له: إحداهما رواية ابن خالويه وفيها زيادات أو حواش، والأخرى رواية ابن الأنباري وفيها زيادات أخرى.
وكثيرا ما يخطئ الناسخ أو يستسهل فيدخل الحاشية في أصل الكتاب ولا يتنبه المحقق لذلك؛ كما حصل في مقدمة ابن خلدون عندما ذكر بعض الأخبار المستحيلة التي نقلها بعض المؤرخين وقدح فيها، فعقب بعضهم في الحاشية برأيه في نقض هذا الكلام، فأدخله الناسخ في متن الكتاب، ولم ينتبه المحقق أن هذه الزيادة تناقض تماما الفكرة التي يريدها ابن خلدون وليست من أسلوبه.
ومن الزوائد العجيبة ما كتبه بعضهم زيادة على تاريخ ابن كثير في وفيات سنة 110:
(( فصل: كان اللائق بالمؤلف أن يذكر تراجم هؤلاء العلماء الأخيار قبل تراجم الشعراء المتقدم ذكرهم فيبدأ بهم ثم يأتي بتراجم الشعراء، وأيضا فإنه أطال القول في تراجم الشعراء واختصر تراجم العلماء، ولو كان فيها حسن وحكم جمة ينتفع بها من وقف عليها، ولعلها أفيد من مدحهم والثناء عليهم، ولا سيما كلام الحسن وابن سيرين ووهب بن منبه .... وقد ذكرت في غالب التراجم زيادات على ما ذكره المؤلف مما وصلت إليه معرفتي واطلعنا عليه ... )).
وقد انتبهوا لهذا الخطأ في طبعة التركي، ولكنهم لم يدققوا كثيرا في الزيادات التي أشار الناسخ إلى زيادتها في (غالب!) التراجم، ولذلك ترى في بعضها ما هو بعيد عن أسلوب ابن كثير.