هذا مقال آخر في المسألة ( أحسن من الأول ) :
بسم الله الرحمن الرحيم
الدليل على أن جبريل سمع القرآن العربي من الرب جل وعلا
البحث هنا في القرآن العربي الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي يقرأه المسلمون بألسنتهم ، ويكتبونه في مصاحفهم ويحفظونه في صدورهم ، وهو سور وآيات وحروف وكلمات هل سمعه جبريل من الله تعالى ؟.
فهذا القرآن العربي لا بُدَّ له من متكلم تكلم به ابتداءً .
فإما أن يكون الذي تكلم به هو الله تبارك وتعالى أو غيره .
وقد دل الدليل على الأول .
وإذا أبطلنا القول بأن المتكلم به غير الله تعالى ، ثبت القول بأنه هو المتكلم به .
وإذا ثبت أن الله تعالى تكلم به فلا يخلو من أمرين أو أحدهما :
أن يكون كلاماً مسموعاً : تكلم به تعالى بصوت مسموع .
أن يكون كلاماً مكتوباً : كتبه بيمينه كما كتب التوراة بيمينه . وهذا أيضاً يسمى كلام الله تعالى ، لأن الله تعالى سمى التوراة كلامه فقال : ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ .
وجبريل عليه السلام إما أن يكون أخذ القرآن سماعاً عن الله تعالى ، أو أخذه عن المكتوب .
وإذا انتفى الثاني ثبت الأول ، وهو المطلوب .
ولنرجع لبيان هذا :
قولي :
" البحث هنا في القرآن العربي الذي أنزله الله تعالى على نبيه
، وهو الذي يقرأه المسلمون بألسنتهم ، ويكتبونه في مصاحفهم ويحفظونه في صدورهم ، وهو سور وآيات وحروفٌ وكلمات ، هل سمعه جبريل من الله تعالى ؟ " .
احترزتُ به عن قرآن الأشعرية الأول ، إذ القرآن عند الأشعرية قرآنان :
الأول : المعنى القديم القائم بالله تعالى .
والثاني : هو القرآن العربي ، أي : ذو الألفاظ العربية .
وهم يثبتون أن القرآن الأول يجوز سماعه من الله تعالى ، ويفسرون السماع بأنه الفهم والإدراك ، كما نص عليه إمام الحرمين في الإرشاد (1 ) ، أما سماع صوته تعالى - الذي ثبت بالأحاديث - فينفونه .
وكذلك يثبتون نزول القرآن ، ويفسرون النزول بالإعلام والإفهام ، أما النزول المعروف في لغة العرب فينفونه ، بناء على نفي العلو ، قال الباقلاني في الإنصاف : " كلام الله تعالى - القديم الأزلي القائم بذاته - منزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال " .
فلا فرق عندهم إذن بين نزول القرآن وسماع القرآن !
وعليه ، فما نقله السيوطي في الإتقان (2 ) عن البيهقي في معنى قوله تعالى ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ قال : " يريد - والله أعلم - إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه ، وأنزلناه بما سمع فيكون الملك منتقلا به من علو إلى أسفل " (3 ) ، خارج عن محل البحث ، لأن كلام البيهقي في الكلام القديم أو القرآن الأول ، وليس في القرآن الثاني .
وقولي :
" فهذا القرآن العربي لا بُدَّ له من متكلم تكلم به ابتداءً " .
هذه مقدمة ضرورية ، لأن كُلَّ فعلٍ لا بد له من فاعل .
قولي :
" فإما أن يكون الذي تكلم به هو الله تبارك وتعالى أو غيره ، وقد دل الدليل على الأول " .
قال تعالى : ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) ﴾ .
في قوله تعالى : ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ دليل على أن القرآن العربي منزل من الله تعالى ، والذي يدل على أن الذي نزله روح القدس هو القرآن العربي سياق الآيات ، إذ التبديل والنسخ يحصل في القرآن العربي ، وكذلك القراءة التي تسبقها الاستعاذة .
والآيات الدالة عن أن القرآن العربي منزل من الله تعالى كثيرة .
والعبارة الشهيرة عن السلف : " القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود " تدل على أن الله تعالى تكلم به حقيقية ، وهو معنى : " منه بدأ " .
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله تعالى : سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : قال سفيان ابن عيينة : قال عمرو بن دينار : أدركت أصحاب النبي فمن دونهم منذ سبعين سنة يقولون : الله الخالق وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله منه خرج وإليه يعود "(4 ) .
وروى المروذي أحمد بن محمد قال : قال أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله : " لقيت الرجال والعلماء والفقهاء بمكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام والثغور وخراسان ، فرأيتهم على السنة والجماعة وسألت عنها الفقهاء ؛ فكل يقول : " القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود " .
قال الحافظ ضياء الدين المقدسي في اختصاص القرآن ( 5) : " وقد وردت هذه اللفظة عن جماعة ؛ منهم عبد الله بن مسعود ، وسفيان الثوري ، ووكيع بن الجراح ، وأبو نعيم الفضل بن دكين ، وعبد الله بن المبارك " .
قال ابن تيمية : " قَوْلُهُمْ : مِنْهُ بَدَأَ : رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ ابْتَدَأَ ، فَبَيَّنُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ ؛ مِنْهُ بَدَأَ ، لَا مِن بَعضِ المَخلُوقَاتِ .
وَإِلَيْهِ يَعُودُ : أَي : فَلَا يَبقَى فِي الصُّدُورِ مِنهُ آيَةٌ ، وَلَا فِي المَصَاحِفِ حَرفٌ " (6 ) .
قولي :
" وإذا أبطلنا القول بأن المتكلم به غير الله تعالى ، ثبت القول بأنه هو المتكلم به " .
القائلون بأن المتكلم به غير الله تعالى على ثلاثة أقوال ، كلها للأشعرية ، وقد ذكرها السمرقندي ونقلها عنه السيوطي في الإتقان ( 7) قال : " في المنزل على النبي ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه اللفظ والمعنى ، وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به .
والثاني : أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة ، وأنه صلى الله عليه وسلم عَلِمَ تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب ، وتمسك قائل هذا بظاهر قوله تعالى : " نزل به الروح الأمين على قلبك " .
والثالث : أنَّ جبريل أُلقِى إليه المعنى ، وأنَّهُ عبَّر بهذه الألفاظ بلغة العرب ، وأن أهل السماء يقرؤونه بالعربية ، ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك " .
وهذه الأقوال الثلاثة عقدها ابن القيم في النونية بقوله :
والخلف بينهم فقيل محمد =أنشاه تعبيراً عن القرآن
والآخرون أبوا وقالوا إنما =جبريل أنشاه عن المنان
وتكايست أخرى وقالت إنه = نقل من اللوح الرفيع الشأن
فاللوح مبدؤه ورب اللوح قد = أنشاه خلقا فيه ذا حدثان
هذي مقالات لهم فانظر ترى = في كتبهم يا من له عينان
ولنبطل هذه الأقوال واحداً واحداً :
أما الأول - وقد جعله البيجوري (8 ) هو التحقيق - : فقول باطل ، لأنه من المعلوم أن اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى بِيَدِهِ ، وبَنُو إسْرَائِيلَ أَخَذُوا كَلَامَ اللَّهِ مِنْ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ ، وَجِبْرِيلُ عَنْ الْكِتَابِ ؛ كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَعْلَى مِنْ مُحَمَّدٍ بِدَرَجَةِ ، قاله شيخ الإسلام ( 9) .
وقال في موضع آخر : " لَوْ كَانَ جِبْرِيلُ أَخَذَ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، لَكَانَ الْيَهُودُ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لِمُوسَى التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَأَنْزَلَهَا مَكْتُوبَةً ، فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ قَدْ قَرَءُوا الْأَلْوَاحَ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمُحَمَّدٌ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ ، وَجِبْرِيلُ عَنْ اللَّوْحِ ، فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ بِمَنْزِلَةِ جِبْرِيلَ ، وَتَكُونُ مَنْزِلَةُ بَنِي إسْرَائِيلَ ، أَرْفَعَ مِنْ مَنْزِلَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (10 ) .
أما القول الثاني : فهو أشنعها ، وهو قول الوحيد : الوليد بن المغيرة ، ولا أبلغ في رده من أن الله تعالى توعد قائله بسقر : ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) ﴾ .
ومن المعلوم أن الوليد لم يقل عن الكلام النفسي (قرآن الأشعرية الأول) إنه قول البشر، لأن التحدي والإعجاز كان بالقرآن العربي المنزل .
ومن قال بأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبر عن القرآن بلغة العرب ، فقد قدح في أداءه واجب الرسالة والتبليغ .
أما القول الثالث : قال شيخ الإسلام: " إنه يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ أُلْهِمَ القرآن إلْهَامًا، وَهَذَا الْإِلْهَامُ يَكُونُ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ﴾ ، وَقَالَ : ﴿ وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ ، وَقَدْ أَوْحَى إلَى سَائِر النَّبِيِّينَ ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَحْيُ الَّذِي يَكُونُ لِآحَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى مِنْ أَخْذِ مُحَمَّدٍ الْقُرْآنَ عَنْ جِبْرِيلَ ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي عَلَّمَهُ لِمُحَمَّدِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ " ( 11) .
وقال : " ثم إنْ كَانَ جِبْرِيلُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا وَجَدَهُ مَكْتُوبًا كَانَتْ الْعِبَارَةُ عِبَارَةَ جِبْرِيلَ ، وَكَانَ الْقُرْآنُ كَلَامَ جِبْرِيلَ تَرْجَمَ بِهِ عَنْ اللَّهِ ، كَمَا يُتَرْجَمُ عَنْ الْأَخْرَسِ الَّذِي كَتَبَ كَلَامًا وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ " (12 ) .
وهذا القول اختاره الباقلاني في الإنصاف ، واستدل عليه بقوله تعالى : ﴿ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ﴾ ، وقوله تعالى : ﴿ فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء اللّه رب العالمين ﴾
قال: " وهذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى ، قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن " .
قلت : هذا الاستدلال باطل ، وقد رده شيخ الإسلام في مواضع ، والرد عليه من وجهين :
أولها : أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعَيْنِ ؛ وَالرَّسُولِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مُحَمَّدٌ وَالرَّسُولُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى جِبْرِيلُ ، فَلَوْ كَانَ أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ لِكَوْنِهِ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ أَوْ أَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا لَكَانَ الْخَبَرَانِ مُتَنَاقِضَيْنِ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا .
ثانيها : أن هذا القول لا تقل شناعته عن القول السابق ، قال شيخ الإسلام : " وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ : هُوَ قَوْلُ بَشَرٍ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ مَلَكٍ ، فَمَنْ جَعَلَهُ قَوْلًا لِأَحَدِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَقَدْ كَفَرَ" (13 ) .
فالصواب : أن الكلام إنما يضاف حقيقية لمن قاله مبتدئاً ، لا من قاله مبلغاً مؤدياً .
وإذا بطلت هذه الأقوال الثلاثة ثبت أن الله تعالى هو الذي تكلم بالقرآن العربي .
قولي : "
وإذا ثبت أن الله تعالى تكلم به فلا يخلو من أمرين أو أحدهما :
أن يكون كلاماً مسموعاً : تكلم به تعالى بصوت مسموع .
أن يكون كلاماً مكتوباً : كتبه بيمينه كما كتب التوراة بيمينه . وهذا أيضاً يسمى كلام الله تعالى ، لأن الله تعالى سمى التوراة كلامه فقال : " أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " .
أقول : ثبتت الآثار بأن الله تعالى يتكلم بالوحي بصوت مسموع :
قال الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله في كتاب السنة (14 ) : " حدثني أبي رحمه الله نا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم ( بن صبيح وهو أبو الضحى ) عن مسروق عن عبدالله : إذا تكلم الله عز و جل بالوحي سمع صوتَه أهل السماء فيخرون سجداً ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ، - قال : سكن عن قلوبهم - نادى أهل السماء ماذا قال ربكم ؟ قال صلى الله عليه و سلم : الحق قال كذا وكذا " .
قال أبو نصر السجزي رحمه الله في رسالته لأهل زبيد بعد ذكره : " ما في رواته إلا إمام مقبول " (15 ) .
قال الإمام أحمد : " وقد سمت الملائكة كلام الله كلاماً ولم تُسمِّه خلقاً ، قوله : حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم .
وذلك أن الملائكة لم يسمعوا صوت الوحي ما بين عيسى ومحمد
وبينهما كذا وكذا سنة .
فلما أوحى الله إلى محمد
سمع الملائكة صوت الوحي كوقع الحديد على الصفا ، فظنوا أنه أمر من الساعة ففزعوا وخروا لوجوههم سُجَّداً ، فذلك قوله حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم ، يقول : حتى إذا انجلى الفزعُ عن قلوبهم رفع الملائكة رؤوسهم فسأل بعضهم بعضاً فقالوا : ماذا قال ربُّكم ، ولم يقولُوا ماذا خلق ربكم .
فهذا بيان لمن أراد الله هداه " ( 16) .
قال شيخ الإسلام : " وما ذكره أحمد من الفترة وتكلمه بالوحي بعدها قاله طوائف من السلف ، كما ذكره عبد الرزاق في تفسيره : أنبأنا معمر عن قتادة والكلبي في قوله : ﴿حتى إذا فزع عن قلوبهم ﴾ ؛ قالا : لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد ، فنزل الوحي .
قال قتادة : نزل مثل صوت الحديد على الصخر ، فأفزع الملائكة ذلك ، فقال : " حتى إذا فزع عن قلوبهم " يقول : إذا جلي عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : ﴿الحق وهو العلي الكبير ﴾ " ( 17) .
أما أن الله تعالى كتب القرآن ، فقد أخبر الله تعالى أنه في لوح محفوظ : ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) ﴾ وروى ابن جرير عن أنس بن مالك أن اللوح المحفوظ في جَبْهَة إسرافيل (18) .
قال شيخ الإسلام : " وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ وَكَتَبَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَرِيحِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ ، ثُمَّ إنَّهُ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِكِتَابَتِهَا بَعْدَ مَا يَعْمَلُونَهَا ؛ فَيُقَابِلُ بِهِ الْكِتَابَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْوُجُودِ وَالْكِتَابَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ ، وَهُوَ حَقٌّ .
فَإِذَا كَانَ مَا يَخْلُقُهُ بَائِنًا مِنْهُ قَدْ كَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ ، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكْتُبَ كَلَامَهُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُمْ بِهِ ؟ " ( 19) .
قلت : ولم يخبرنا الله تعالى عن كيفية كتابة القرآن في اللوح المحفوظ ، والبحث في ذلك لا طائل تحته ، لأنه قد تقدم أن جبريل لا يأخذ القرآن من اللوح المحفوظ .
قولي : "
وجبريل عليه السلام إما أن يكون أخذ القرآن سماعاً عن الله تعالى ، أو أخذه عن المكتوب .
وإذا انتفى الثاني ثبت الأول ، وهو المطلوب " .
قلت : تقدم بيان بطلان القول بأن جبريل تلقى القرآن من اللوح المحفوظ .
فثبت أنه تلقاه مسموعاً من الله تعالى ، وقد نص الإمام أحمد على ذلك ، فقال : افترقت الجهمية على فرق : فرقةٌ قالوا : القرآن مخلوق ، وفرقة قالوا : كلام الله وسكتت، وفرقة قالوا : لفظنا بالقرآن مخلوق .
قال الله تعالى في كتابه : ﴿ فأجره حتى يسمع كلام الله ﴾ .
فجبرئيل عليه السلام تسمَّع من الله تعالى ليسمعَهُ النبي من جبرئيل ، ويسمعه أصحاب النبي من النبي ، فالقرآن كلام الله " (20 ) .
وقال الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي سماه ((الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول)) : " سمعت الإمام أبا بكر عبيد الله بن أحمد يقول : سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرائيني يقول : مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، ومن قال مخلوق فهو كافر ، والقرآن حمله جبريل مسموعاً من الله تعالى، والنبي
سمعه من جبريل ، والصحابة سمعوه من النبي
، وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا ، فما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعاً ومكتوباً ومحفوظاً ومنقوشاً كل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق ، ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين " (21 ) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية بعد أن ذكر أقوال الأشعرية السابقة :
لكن أهل الحق قالوا إنما = جبريل بلغه عن الرحمن
ألقاه مسموعا له من ربه = للصادق المصدوق بالبرهان
لكن يشكل هنا ما ورد عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما قال : " أنزلَ القرآنَ جُملةً واحدةً إلىٰ السَّماءِ الدّنيا في ليلةِ القدرِ ، ثم أُنزلَ بعد ذٰلكَ بعشرينَ سنةٍ " ثُمَّ قَرَأ : ﴿ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾ (الفرقان : 33) ﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾ (الإسراء : 106) ( 22) .
ووجه الإشكال : أن جبريل عليه السلام إن كان ينزل بالقرآن العربي إلى النبي الأمي من السماء الدنيا ، لم يكن نازلاً به من عند الله ، ولا سمعه منه تعالى .
وللجواب عليه وجهان :
الأول : أن يقال : من الذي نزل به من الله إلى السماء الدنيا ؟ ، لا ريب أنه جبريل عليه السلام .
الثاني : أن يقال : إنه سمعه من الله تعالى ونزل به جملة إلى السماء الدنيا ، ثم نزل به مرة أخرى مفرقاً من عند الله تعالى وليس من السماء الدنيا . والله تعالى أعلم .
وكتب : محمد براء ياسين
رجب /1430 هـ
راجعتها في صفر / 1432 هـ
------------------------------------
(1 ) ص134.
(2 ) ص293 ، ط مجمع الملك فهد .
(3 ) الأسماء والصفات (1/561) ، ط مكتبة السوادي .
(4 ) الرد على الجهمية ص189 ، ط بدر البدر .
(5 ) ص21 ، ط الجديع .
( 6) مجموع الفتاوى (12/561).
(7 ) ص292-293 .
( 8) شرح الجوهرة ص95 .
( 9) مجموع الفتاوى (12/127-128) .
(10 ) مجموع الفتاوى (12/520) .
(11 ) مجموع الفتاوى (12/128) .
( 12) مجموع الفتاوى (12/521) .
( 13) مجموع الفتاوى (12/136) .
(14 ) الأثر رقم ( 536) .
(15 ) الرد على من أنكر الحرف والصوت .
( 16) الرد على الزنادقة والجهمية .
(17 ) التسعينية ص522-523 .
(18 ) جامع البيان (24/342) .
( 19) مجموع الفتاوى (12/127) .
(20 ) رواه صالح بن الإمام أحمد في المحنة ص72 ، وعنه رواه الإمام إبراهيم الحربي في رسالته في أن القرآن غير مخلوق ص34-36
( 21) نقله في شرح الأصبهانية ، وعنه ابن عيسى في شرح النونية .
(22 ) رواه النسائي في «السنن الكبرىٰ» (113) والحاكم (2/242) والبيهقي في «شعب الإيمانِ» (2249،2250) . قال الحاكم : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ الإسناد ولم يخرجاه . وصححه ابن حجر في «الفتح» (9/4) والسُّيوطيُّ في «الإتقان» (1/118) .
حمل المقال من
هنا