**(التكرار في القرآن الكريم )**
اعلم أخي العزيز أن التكرار فن من فنون البلاغة ومنه ما يمل منه ومنه ما يجذب بأثواب سماع المرء فيقرعه ،أو يردعه ،أو يأمره ،أو ينبهه إلى شيء من الأشياء.
وهو من عادة العرب وسنورد كلامهم عن قريب وكذاك أشعارهم في ذلك .
والتكرار : مصدر كَرًرَ إذا رَدًدَ وأعاد، وهو (تَفْعَال) بفتح التاء، وليس بقياس. بخلاف (التًفْعيل) وهذا مذهب سيبويه البصري. أما الكوفيون، فقالوا: هز مصدر (فَعًل) والألف عوضٌ عن الياء في التًفْعيل.(1)
وعرف تقي الدين الحموي التكرار فقال :" إن التكرار هو أن يكرر المتكلم اللفظة الواحدة باللفظ والمعنى والمراد بذلك تأكيد الوصف أو المدح أو الذم أو التهويل أو الوعيد أو الإنكار أو التوبيخ أو الاستبعاد أو الغرض من الأغراض " (2)، وقد اعترض على التكرار في القرآن الكريم كثر ويُعرف من هذا الاعتراض مدى جهلهم ورسفهم في قيود الجهل فلقد انصهروا في بوتقة الجهل والإنكار وألئك لعمري من الفجار وقد اعترضوا على : " تكرار قوله تعالى في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، واعترضوا أيضاً على تكرار قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المرسلات.
وفات هؤلاء الضعفاء والمهازيل أن يعترضوا أيضاً على تكرار قوله تعالى: في سورة التكاثر: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
كما فاتهم أن يعترضوا على تكرار قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [16] وجهل شياطين الإنس أن التكرار المحمود أحد فنون الإطناب وهو فن بلاغي من علم المعاني به يطابق الكلام مقتضى الحال."اهـ (3)
فالتكرار من محاسن أساليب الفصاحة العربية، خاصة إذا تعلق بعضه ببعض. وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذا أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه، أو قصدت الدعاء عليه.. كررته توكيداً.
وإنما نزل القرآن المجيد بلسانهم، وكانت مخاطباته جارية فيما بين بعضهم وبعض، وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة".اهـ (4)
قال ابن رشيق القيرواني في " باب التكرار " في كتابه " العمدة في محاسن الشعر وآدبه" :
وللتكرار مواضع يحسن فيها، ومواضع يقبح فيها، فأكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعاني، وهو في المعاني دون الألفاظ أقل، فإذا تكرر اللفظ والمعنى جميعاً فذلك الخذلان بعينه .اهـ (5)
أمثلة للتكرار عند العرب :
قال أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي البغدادي الحنبلي :{579:ت} : في "كتابه الوعظي الأدبي الذي لم يكتب مثله في بابه " المدهش ":
"ومن عاداتهم ـ أي العرب ـ : تكرير الكلام، وفي القرآن: "فبأي آلاء ربكما تكذبان". وقد يريدون تكرير
الكلمة ويكرهون إعادة اللفظ فيغيرون بعض الحروف، وذلك يسمى الاتباع، فيقولون:
أسوان أتوان: أي حزين، وشيء تافه نافه، وإنه لثقف لقف، و جايع نايع، وجلّ وبلّ، وحياك الله وبياك، وحقير نقير، وعين جدرة بدرة: أي عظيمة، ونضر مضر، وسمج لمج، وسيغ ليغ، وشكس لكس، وشيطان ليطان، وتفرقوا شذر مذر، وشغر بغر، ويوم عك لك: إذا كان حاراً، وعطشان نطشان، وعفريت نفريت، وكثير بثير، وكز ولز وكن أن، وحار جار يار، وقبيح لقيح شقيح، وثقة تقة نقة، وهو أشق أمق حبق: للطويل، وحسن بسن قسن، وفعلت ذلك على رغمه ودغمه وشغمه، ومررت بهم أجمعين أكتعين أبصعين".اهـ (6)
وبعد أن رأيت أمثلة للتكرار في كلام العرب وذلك من خلال ما أوردناه عن ابن الجوزي إذاً فإليك شعر العرب في ذلك من الجاهليين إلى أهل عصر الاحتجاج وآخر عصر الاحتجاج كما هو المعروف سنة 150هـ إلى عصر المولدين ومن سلك هذا الفن
* وقال الحارث بن عباد{80ق.هـ: ت} من [الخفيف] :
يا بَني تَغلِبَ خُذوا الحِذرَ إِنّا*-*-* قَد شَرِبنا بِكَأسِ مَوتٍ زُلالِ
يا بَني تَغلِبٍ قَتَلتُم قَتيلاً *-*-* ما سَمِعنا بِمِثلِهِ في الخَوالي
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* لَقِحَت حَربُ وائِلٍ عَن حِيالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* لَيسَ قَولي يرادُ لَكِن فعالي
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* جَدَّ نَوحُ النِساءِ بِالإِعوالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* شابَ رَأسي وَأَنكَرَتني القَوالي
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* لِلسُرى وَالغُدُوِّ وَالآصالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* طالَ لَيلي عَلى اللَيالي الطِوالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* لِاِعتِناقِ الأَبطالِ بِالأَبطالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* وَاِعدِلا عَن مَقالَةِ الجُهّالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* لَيسَ قَلبي عَنِ القِتالِ بِسالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* كُلَّما هَبَّ ريحُ ذَيلِ الشَمالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* لِبَجَيرٍ مُفَكِّكِ الأَغلالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* لِكَريمٍ مُتَوَّجٍ بِالجَمالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* لا نَبيعُ الرِجالَ بَيعَ النِعالِ
قَرِّبا مَربَطَ النَعامَةِ مِنّي *-*-* لِبُجَيرٍ فداهُ عَمّي وَخالي .اهـ
* قال امرؤ القيس {80ق.هـ: ت}من [الطويل]:
ديار لسلمى عافيات بذي الخال *-*-* ألح عليها كل أسحم هطال
وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا *-*-* بوادي الخزامي أو على رأس أو عال
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا *-*-* من الوحش أو بيضاً بميثاء محلال
ليالي سلمى إذ تريك منضداً *-*-* وجيداً كجيد الريم ليس بمعطال
قال ابن رشيق : ولم يتخلص أحد تخلصه فيما ذكر عبد الكريم وغيره، ولا سلم سلامته في هذا الباب .اهـ (7)
* قال الحارث بن مهلهل يرثي كليباً :
على أن ليس عدلاً من كُلَيبٍ *-*-*-*-*إذا ما ضِيمَ جيرانُ المُجيرِ
على أن ليس عدلاً من كليبٍ *-*-*-*-*إذا رجف العِضاهُ من الدَّبورِ
على أن ليس عدلاً من كليبٍ *-*-*-*-* إذا خَرَجَتْ مُخَبَّأةُ الخُدُورِ
على أن ليس عدلاً من كليبٍ *-*-*--* إذا ما أُعْلِنَتْ نَجْوى الأمُورِ
على أن ليس عدلاً من كليبٍ *-*-*-* إذا خيفَ المَخُوفُ من الثُغُورِ
على أن ليس عدلاً من كليبٍ *-*-*-* غداة تَلاتِلِ الأمرِ الكبيرِ
على أن ليس عدلاً من كليبٍ *-*-* إذا ما خارَ جارُ المستجيرِ (8)
علق الدكتور أبو موسى في كتابه " خصائص التراكيب " على هذه الأبيات فقال ـ حفظه الله ـ :
"وبهذا تستطيع تفسير التكرار في قصيدة المهلهل -على أن ليس عدلا من كليب- فقد تكرر هذا المقطع في أكثر من عشرين بيتا؛ لأنه تعبير عن إحساسه بقدر كليب، وأنه ليس له نظير في القبائل، وهذا المقطع كما ترى محور أساسي في بناء معنى القصيدة، وجوها النفسي ثم هو بعيد الغور في ضمير المهلل، فهو يلح عليه ليصوره كما يجده في أبعاده الشاعرة، فكانت كل نغمة ورنة في هذا التكرار كأنها تحمل صورًا، وأطيافًا من هذه الأبعاد الغائرة، والذي يعرف تاريخ كليب، وقدره في عشيرته، وبيئته يستطيع أن يتعمق هذا التكرار.
قلت: إن التكرار كأنه دندنة تستعذبها النفس المليئة أو المستفزة، شاجية كانت أو طروبة، وهذا يفسره من بعض جوانبه قولهم: إن باب الرثاء أولى ما تكرر فيه الكلام لمكان الفجيعة، وشدة القرحة التي يجدها المتفجع، وقيل لبعضهم: متى تحتاج إلى الإكثار؟ فقال: إذا عظم الخطب".اهـ (9)
* قالت الخنساء ـ رضي الله عنها ـ :{24:ت}:
وإن صخراً لمولانا وسيدنا *-*-* وإن صخراً إذا نشتو لنحار
وإن صخراً لتأتم الهداة به *-*-* كأنه علم في رأسه نار
وقال أيضاً ـ عليه الرحمة ـ ( أي ابن رشيق القيرواني ): فتكرار الممدوح هاهنا تنويه به، وإشارة بذكره، وتفخيم له في القلوب والأسماع.اهـ (10)
* قال الشاعر :
لا تقتلي مسلماً إن كنت مسلمة *-*-*-* إياك من دمه إياك إياك (11)
*قال الشاعر :
لا تقطعنّ الصديق ما طرفت*-*-*-* عيناك من قول كاشح أشر
قال الشوكاني : قال الحسين بن الفضل التكرير طرد للغفلة وتأكيد للحجة.اهـ (12)
* قالت : ابنة البشير بن النعمان الأنصاري ترثي زوجها :
وحدثني أصحابه أن مالكا*-*-*-* أقام ونادى صحبه برحيل
وحدثني أصحابه أن مالكا*-*-*-* ضروب بنصل السيف غير نكول
وحدثني أصحابه أن مالكا*-*-*-* صروم كماضي الشفرتين صقيل . اهـ (13)
* قالت ليلى الأخيلية :{80:ت}:
لَنِعْمَ الفَتى يا تَوْبَ كُنْتَ إذا الْتَقَتْ *-*-* صُدُورُ الأَعالي واسْتَشالَ الأَسافِلُ
ونِعْمَ الفَتى يا توبَ كُنْتَ ولَمْ تَكُنْ *-*-* لتُسْبقَ يوماً كُنْتَ فيه تُحاوِلُ
ونِعْمَ الفَتى يا توبَ كنتَ لخائفٍ *-*-* أتاكَ لكي يُحْمى ونِعْمَ المجاملُ
ونِعْمَ الفَتى يا توبَ جاراً وصاحِباً *-*-* ونِعْمَ الفَتى يا توبَ حين تُفاضِلُ
لَعَمْري لأَنْتَ المَرْءُ أَبكي لفَقْدِهِ *-*-* بِجِدٍّ ولَوْ لامَتْ عَلَيْهِ العَواذِلُ
لَعَمْري لأَنْتَ المَرْءُ أبكي لفَقْدِهِ *-*-* ويكْثُرُ تَسْهِيدي لهُ لا أُوائِلُ
لَعَمْري لأنْتَ المَرْءُ أَبْكِي لفَقْدِهِ *-*-* ولو لامَ فيه ناقصُ الرأيِ جاهِلُ
لَعَمْري لأَنْتَ المَرْءُ أَبكي لِفَقْدِهِ *-*-* إذا كثُرَتْ بالمُلْحمينَ التَّلاتِلُ
أبى لَكَ ذمَّ الناسِ يا توبَ كُلَّما *-*-* ذُكِرْتَ أمورٌ مُحْكَماتٌ كوامِلُ
أبى لكَ ذمَّ الناسِ يا توبَ كُلَّما *-*-* ذُكِرْتَ سماحٌ حِينَ تأْوِي الأراملُ
فلا يُبْعِدَنْكَ اللّهُ يا تَوْبَ إنَّما *-*-* لقِيتَ حِمامَ الموتِ والموتُ عاجِلُ
ولا يُبْعِدَنْك اللّهُ يا تَوْبَ إنّها *-*-* كذاكَ المَنايا عاجِلاتٌ وآجِلُ
ولا يُبْعِدَنْكَ اللّهُ يا تَوْبَ والْتَقَتْ *-*-* عَلَيْكَ الغوادي المُدْجَناتُ الهواطِلُ
*قال الشاعر :
كم وكم كم كم وكم كم كم وكم *-*-* قال لي: أنجز حر ما وعد
*قال أبو الطيب المتنبي :{354:ت}:
العارِضُ الهَتِنُ اِبنُ العارِضِ الهَتِنِ اِب*-*-*نِ العارِضِ الهَتِنِ اِبنِ العارِضِ الهَتِنِ
* قال الشيخ عز الدين الموصلي :
تكرار مدحي هدى في الشامل النعم ابن *-*-* الشامل النعم ابن الشامل النعم
* قال الشيخ صفي الدين الحليّ في مدح النبي وأجمل بها من قصيدة :
الطاهر الشيم ابن الطاهر الشيم ابن *-*-* الطاهر الشيم ابن الطاهر الشيم
وبعد أن أتينا لك بأشعار العرب وكلامهم تبين أن هذه من عادة العرب ومن فعالهم وبذلك تدري أن القرآن ما نزل غريباً عن كلامهم وعن استعارتهم وعن مجازاتهم بل إنه نزل بكلامهم وإليك الأمثلة في القرآن الكريم :
**أمثلة للتكرار في كتاب الله :
*من ذلك تكرير الجملة مرتين وهذا من قبيل التكرير الجملي مثل :
(1) {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}
(2) {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}.
(3) {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}
(4) {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}
*أما التكرير اللفظي( المقصود به إعادة اللفظ أو مرادفه أومؤداه في المعنى) فمنه :
(1) {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
(2) {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
**من أمثلة التكرار الموضوعي في كتاب الله (14) :
*أوردها الدكتور أحمد جمال العمري فقال :
1- تكرار الإضراب :
وقد ورد في القرآن العظيم منه ضربان:
أولهما: أن يكون ما فيه من الرد راجعا إلى العباد.
كقوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}
وثانيهما: أن يكون إبطالا، ولكنه على أنه قد مضى وانقضى وقته، وأن الذي بعده أولى بالذكر. كقوله تعالى:
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}.
وزعم ابن مالك في شرح الكافية -أن (بل) حيث وقعت في القرآن فإنها للاستئناف لغرض آخر لا لإبطال الأول. وهذا الكلام مردود بما سبق، ومردود بقوله أيضا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} فأضرب بها عن قولهم، وأبطل كذبهم.
2- تكرار الأمثال:
كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ} .
وكذلك ضرب مثل المنافقين -في أول سورة البقرة - ثناه الله تعالى، فقال سبحانه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} - مع قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْت} .
قال صاحب الكشاف - معلقا على قيمة هذا التكرار: (( والثاني أبلغ من الأول، لأنه أدل على فرط الحيرة، وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أخر، والعرب يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ)).
3- تكرار القصص:
وما دمنا نتحدث عن التكرار في القرآن العظيم -بوصفه آية من آيات إعجازه الكبرى، فإننا لا نستطيع أن نغفل عنصرا هاما من عناصر هذا التكرار- ألا وهو تكرار القصص القرآني، وإن كنا نعتقد أنه موضوع كامل متكامل، يحتاج إلى بحث مستقل -وسنتناوله إن شاء الله- إلا أننا نشير الآن إلى بعض ما يتصل به استيفاء لهذا البحث.
أقول.. إن من أنواع التكرار -تكرار القصص، كقصة إبليس في السجود لآدم، وقصة موسى وغيره من الأنبياء. فقد ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من القرآن العظيم، وذكر قصة نوح في خمس وعشرون آية، وقصة موسى في سبعين آية، وإنما كررها- كما يقول صاحب كتاب ((العواصم من القواصم)) لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر. وسبب ذلك أمور:
إحداها: أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا، ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى عليه السلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا، فقال تعالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وقال سبحانه: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}.
وهذه سمة من سمات البلغاء.. أن يكرر أحدهم في خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة.
الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن، ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين، وكان أكثر من آمن به مهاجريا، فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى آخرين، وكذلك سائر القصص.. فأراد الحق سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها، فيكون فيه إفادة القوم، وزيادة تأكيد وتبصرة لآخرين وهم الحاضرون.. هكذا قال ابن الجوزي.
الثالثة: تسليته لقلب النبي -صلى الله عليه وسلم- مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم- قال تعالى: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} .
الرابعة: إن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة.
الخامسة: قالها ابن فارس:- وهي أن الله تعالى أنزل هذا القرآن، وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية لصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم، بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله، بأي نظم جاءوا بأي عبارة عبروا.
السادسة: أنه لما سخر العرب بالقرآن قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} ، وقال في موضع آخر: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد، واكتفى بها، لقال العربي بما قال الله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} : (إيتونا أنتم بسورة من مثله) فأنزلها الله تعالى في تعداد السور، دفعا لحجتهم في كل وجه.
السابعة: أن القصة الواحدة من هذه القصص، كقصة موسى مع فرعون -وإن ظن أنها لا تغاير الأخرى، فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ، فإن كل واحدة لابد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه، لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها. فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء، ثم قسم تلك الأجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها، ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة، من انفراد كل قصة منها بموضع، كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصة.
ويأتي التكرار لـ :
* (للتأكيد): كقوله تعالى : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} نقول: إنما كررت لغرض عظيم هو التأكيد.
*(للتنويه): كقول أبي الأسد:
ولائمة لامتك يا فيض في الندى *-*-* فقلت لها: هل يقدح اللوم في البحر؟
أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى *-*-* ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر؟!
كأن وفود الفيض يوم تحملوا *-*-* إلى الفيض لاقوا عنده ليلة القدر
مواقع جود الفيض في كل بلدة *-*-* مواقع ماء المزن في البلد القفر
*(التفخيم):كقول الحسن بن سهل:
إلى الأمير الحسن استجدتها *-*-* أي مزار ومناخ ومحل
أي مزار ومناخ ومحل *-*-* لخائف ومستريش ذي أمل
*( التقرير و التوبيخ والإنكار ): كقول بعضهم:
إلى كم وكم أشياء منكم تريبني *-*-* أغمض عنها لست عنها بذي عمي
قال ابن حجة الحموي : "وأما ما جاء منه للإنكار والتوبيخ فهو تكرار قوله تعالى في سورة الرحمن ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) فإن الرحمن جل جلاله ما عدد آلاءه هنا إلا ليبكت بها من أنكرها على سبيل التقريع والتوبيخ كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها له.اهـ
*( التكثير): كقول محمد بن مناذر الصبيري :
كم وكم كم كم وكم كم كم وكم *-*-* قال لي: أنجز حر ما وعد
* (التهديد والوعيد): كقوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، وقد ذكر (ثم) في المكرر، دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول.
و كقول الأعشى ليزيد بن مسهر الشيباني:
أبا ثابت لا تعلقنك رماحنا *-*-* أبا ثابت أقصر وعرضك سالم
وذرنا وقوماً إن هم عمدوا لنا *-*-* أبا ثابت واقعد فإنك طاعم!!
* (التهويل ) : كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} ، {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} ، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ، {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} ، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} ، قال الفراء : الكلمة قد تكررها العرب على التغليظ والتخويف .اهـ (15)
* (الاستبعاد): كقوله تعالى ( هيهات هيهات لما توعدون )
* ( التعجب ) : كقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} فكرر تعجبا من تقديره وإصابته الغرض، على حد ((قاتله الله ما أشجعه)).
* ( الاستغاثة ) : كقول العديل بن الفرخ:
بني مسمع لولا الإله وأنتم *-*-* بني مسمع لم ينكر الناس منكرا
* ( الازدراء والتهكم ) : كقول حماد عجرد لابن نوح، وكان يتعرب:
يا بن نوح يا أخا ال *-*-* حلس ويا ابن القتب
ومن نشا والده *-*-* بين الربا والكثب
يا عربي يا عربي *-*-* يا عربي يا عربي
هذا هو التكرار عموماً وقد قال العلماء : الكلام إذا تكررَ تقررَ.
أما في سورة الرحمن وتكرير آية ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) فيقول عنها أهل التفسير
(1)قال إسماعيل حقي البروسي : فالاستفهام للتقرير أي للحمل على الإقرار بتلك النعم ووجوب الشكر عليها.اهـ (16)
وقال أيضاً ـ عليه الرحمة ـ :" وقال في برهان القرآن : تكررت الآية إحدى وثلاثين مرة ثمان منها ذكرها عقيب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم ثم سبع منها عقيب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم وحسن ذكر الآلاء عقيبها لأن في خوفها ودفعها نعماً توازي النعم المذكورة أو لأنها حلت بالأعداء وذلك يعد من أكبر النعماء وبعد هذه السبع ثمان في وصف الجنات وأهلها على عدد أبواب الجنة وثمان أخرى بعدها للجنتين اللتين دونها فمن اعتقد الثماني الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الثمانيتين من الله ووقاه الله السبع السابقة".اهـ
(2) قال الإمام الشوكاني :" وكرر سبحانه هذه الآية في هذه السورة تقريرا للنعمة وتأكيدا للتذكير بها على عادة العرب في الاتساع ".اهـ
(3) قال الإمام محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير " :
وفائدة التكرير توكيد التقرير بما لله تعالى من نعم على المخاطبين وتعريض بتوبيخهم على إشراكهم بالله أصناماً لا نعمة لها على أحد ، وكلها دلائل على تفرد الإِلهية . وعن ابن قتيبة: ( أن الله عدّد في هذه السورة نعماء ، وذكر خلقه آلاءه ثم أتبع كل خلة وَصَفها ، ونعمة وضعها بهذه ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها ) اهـ . (17)
(3) قال أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغويّ :{516:ت}:
" كررت هذه الآية في أحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة ، وتأكيداً للتذكير بها ، ثم عدد على الخلق آلاءه ، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه ، ليفهمهم النعم ويقررهم بها ، كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي ، وهو ينكرها ويكفرها : ألم تكن فقيراً فأغنيتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن خاملاً فعززتك ، أفتنكر هذا ؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب ". اهـ (18)
(4) قال السيد مرتضى في " الدرر والغرر " : التكرار في سورة الرحمن ، إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة ، فكلما ذكر نعمة أنعم بها ، وبّخ على التكذيب ، كما يقول الرجل لغيره : ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال ؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا ؟ فيحسن فيه التكرير ، لاختلاف ما يقرر به ، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم . اهـ وقد أتينا بأقوالهم ولله الحمد فانظرها في موضعها.
(5) نقل القاسمي في " محاسن التأويل " رأي شيخ الإسلام في ذلك قال عليه الرحمة:
وقال شيخ الإسلام في " متشابه القرآن " : ذكرت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة ، ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله ، وبدائع صنعه ، ومبدأ الخلق ومعادهم ، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها ، بعدد أبواب جهنم ، وحسن ذكر الآلاء عقبها ؛ لأن من جملة الآلاء : رفع البلاء ، وتأخير العقاب . وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلها ، بعدد أبواب الجنة ، وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين ، أخذاً من قوله : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله ، ووقاه السبعة السابقة . انتهى . (19)
(6) وقال الشيخ الشنقيطي:{1393:ت}: في كتابه " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب":
"تكرير {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} للتوكيد ولم يكرر متواليا لأن تكريره بعد كل آية أحسن من تكريره متواليا وإذا كان للتوكيد فلا إشكال لأن المذكور منه بعد ما ليس من الآلاء مؤكد للمذكور بعد ما هو من الآلاء." (20)
(7) وقال الخطيب الشربيني :{972:ت}:
"وكرر هذه الآية في هذه السورة في أحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة ، وتأكيداً في التذكير ، وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهم النعم ، ويقرّرهم بها كما تقول لمن تتابع عليه إحسانك وهو يكفره وينكره : ألم تكن فقيراً فأغنيتك ؟
أفتنكر هذا ؟
ألم تكن خاملاً فعززتك ؟
أفتنكر هذا ؟
ألم تكن راجلاً فحملتك ؟
أفتنكر هذا ؟
والتكرير حسن في مثل هذا ، قال القائل :
*كم نعمة كانت لكم كم كم وكم*
وقال آخر :
*لا تقتلي مسلماً إن كنت مسلمة ** إياك من دمه إياك إياك*
وقال آخر :
*لا تقطعنّ الصديق ما طرفت ** عيناك من قول كاشح أشر*
*ولا تملنّ يوماً زيارته ** زره وزره وزر وزر وزر*" .اهـ (21)
وقال الرازي : وكرّرت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة : إما للتأكيد ، ولا يعقل لخصوص العدد معنى. وقيل : الخطاب مع الأنس والجنّ والنعمة منحصرة في دفع المكروه ، وتحصيل المقصود ، وأعظم المكروهات : نار جهنم ولها سبعة أبواب ، وأعظم
المقاصد نعيم الجنة ولها ثمانية أبواب ، فالمجموعة خمسة عشر وذلك بالنسبة للإنس والجنّ ثلاثون والزائد لبيان التأكيد.اهـ (22)
(8) وقال الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة في كتابه الماتع " البلاغة العربية " :
جاء في سورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) تكرير عبارة:
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
إحدى وثلاثين مرّة خطاباً للإِنْسِ والجنّ المخلوقين للامتحان في ظروف الحياة الدنيا.
فبأَيّ آلاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبان: أي فبأيّ نِعَمِ رَبّكُمَا عَلَيْكُما تُكذِّبان. إنّ نِعَمَ الله على العباد لا يستطيع العباد إحصاءها، ومع كلّ فقرة من فقرات حياتهم بتتابع السّاعات والأوقات تمرُّ على كلِّ فَرْدٍ منْهُمْ نِعَمٌ كثيرة وجليلة، وانصرافه الدائم إلى الاستمتاع بها دون ملاحظة خالقها والمتفضِّل على عباده بها يحتاجُ تذكيراً بها، ليقوم بحقّ اللَّهِ عليه في مقابلها، بالإِيمان والطاعة والْحَمْدِ والشّكر.
ففي هذا التكرير عقب ذكْرِ كُلِّ فقرة من فقرات آيات صفاتِ الله في كونه، المشتملة على بعض نِعَمِه، أو الإِنْذار، بعقابه وعذابه، تنبيهٌ على حاجة العبد المبتَلَى أن يَذْكُرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ دَواماً عند كلِّ فقرة من فقرات حياته، ومَوْجَةٍ من موجات نهرها الجاري، لئلاَّ تَجُرَّهُ الغفلات إلى النسيان، فالمعصية، فاجتيال الشياطين لفِكْرِه ونَفْسِه وعَواطِفه، ودفعه إلى السُّبُلِ المزلقة إلى الشقاء، فالعذاب، فنار جهنّم.
فجُعِلَتْ هذه العبارة فاصلة في السّورة، وهذه الفاصلة تأثير فَنِّيّ جماليّ مستطرف، مع ما تشتمل عليه من معنىً يدلُّ على حاجَةِ العباد إلى ذكر نعم الله عليهم مع كلّ موجةٍ من موجات نَهَرِ حياتهم، سواءٌ أكانت ممّا يحبّون أو ممّا يكرهون، ممّا يَطْمَعُون فيه أو ممّا يحذرون منه. اهـ (23)
وخلاصة القول: لقد اجتمعت في هذه الخصيصة من نظم القرآن عدة معان عجيبة:
منها: أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة، ولا أحدث مللا، فباين بذلك كلام المخلوقين.
ومنها: أنه ألبسها زيادة ونقصانا، وتقديما وتأخيرا، ليخرج بذلك الكلام أن تكون ألفاظه واحدة بأعيانها، فيكون شيئا معادا، فنزهه -الحق سبحانه- عن ذلك بهذه التغيرات.
ومنها: أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص، صارت متفرقة في تارات التكرار، فيجد المرء -لما فيها من التغيير- ميلا إلى سماعها، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة.
ومنها: ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد.(24)
ومن اللطائف تناص الشاعر أحمد مطر ـ حفظه الله ـ مع هاتيك اللفظة قال :
غفت الحرائق
أسبلت أجفانها سحب الدخان
الكل فان ,
لم يبق إلا وجه ربك ذو الجلالة و اللجان
و لقد تفجر شاجبا و منددا و لقد أدان
فبأي آلاء الولاة تكذبان
و له الجواري السائرات بكل حان
و له القيان ,
و له الإذاعة دجن المذياع لقنه البيان
الحق يرجع بالربابة و الكمان
فبأي آلاء الولاة تكذبان
عقد الرهان ,
و دعا إلى نصر الحوافر بعدما قتل الحصان
فبأي آلاء الولاة تكذبان
و قضية حبلى قد انتبذت مكانا ,
ثم أجهضها المكان
فتململت من تحتها وسط الركام قضيتان
فبأي آلاء الولاة تكذبان
من ما ت ما ت ,
ومن نجى سيموت في البلد الجديد من الهوان
فبأي آلاء الولاة تكذبان
في الفخ تلهت فأرتان
تتطلعان إلى ا لخلاص على يد القطط السمان
فبأي آلاء الولاة تكذبان
خلق المواطن مجرما حتى يدان
و الحق ليس له لسان
و العدل ليس له يدان
و السيف يمسكه جبان
و بدمعنا و دمائنا سقط الكيان
فبأي آلاء الولاة تكذبان
في كل شبر من دم ,
سيذاب كرسي و يسقط بهلوان
فبأي آلاء الشعوب تكذبان.
وإليك هذه الطرفة :
وقال نحوي لصاحب بطيخ: بكم تانك البطيختان اللتان بجنبهما السفرجلتان ودونهما الرمانتان؟ فقال: بضربتان وصفعتان ولكمتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟
أو هذه ذهب أحد النحاة إلى بائع فقال : بكم هاتان القنينتان اللتان فيهما نكتتان خضرواتان فقال البائع : مدهامتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ؟
المراجع :
(1) مقال بمجلة " مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة" للدكتور أحمد جمال العمري .
(2) خزانة الأدب وغاية الأرب / لابن حجة الحموي
(3) مقال بمجلة " مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة" للدكتور علي البدري .
(4) مرجع سابق رقم (1)
(5) "العمدة في محاسن الشعر وآدبه" لابن رشيق القيرواني
(6) المدهش لأبي الفرج ابن الجوزي
(7) مرجع سابق رقم (5)
(8) وقد أقر الشريف المرتضي القاسمي ( جمال الدين صاحب محاسن التأويل ) حين أخذ منه وكذاك الشهاب الآلوسي ( محمود بن عبد الله الحسيني وليس محمود شكري الآلوسي )
وقال آلوسي زاده: ( عُرف بذلك لدى أهل العلم وللاستزاده اقرأ كتاب أعيان القرن الثالث عشر الهجري / لجرجي زيدان فلقد نعته بذلك ولم أجد في أي كتاب من كتب التراجم تلقيبه بذلك بل إني وجدت أن تيك اللقب يلقب به محمود شكري الآلوسي ): ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولولا خوف الملل لأوردتها.اهـ وقد أوردنا هاتيك القصائد فهي بين يديك فانظرها بالأعلى .
وقال القاسمي : ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ، هو من لطائف العرب ، فاعرفه .اهـ
(9) خصائص التراكيب لأبي موسي ( محمد بن محمد )
(10) مرجع سابق رقم (5)
(11) ربيع الأبرار للزمخشري
(12) فتح القدير للشوكاني
(13) مرجع سابق رقم (9)
(14) مرجع سابق رقم (1)
(15) معاني القرآن للفراء ج3، صـ 287
(16) روح البيان للبرسوي
(17) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور
(18) معالم التنزيل للبغوي
(19) محاسن التأويل للقاسمي
(20) دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب
(21) السراج المنير للخطيب الشربيني
(22) مفاتيح الغيب
(23) البلاغة العربية لحبنكة
(24) مرجع سابق رقم (1)