قال الدكتور مساعد بن سليمان الطيار - وفقه الله - في كتابه الماتع ( أنواع التصنيف المتعلقة بتفسير القرآن ، ص 185 - 190 ، ط2 دار ابن الجوزي ) :
" إنَّ لعلم الوقف والابتداءِ علاقةً أكيدةً بعلمِ التَّفسيرِ ، إذ هو أثرٌ من آثارِ التَّفسيرِ . ذلك أنَّ مَنِ اختارَ وقفاً ، فإنَّه اعتمد المعنى أوَّلاً ، ثُمَّ وقفَ ، فالواقفُ يفسِّرُ ، ثُمَّ يقِفُ ، فهو بوقفِه على موضعِ الوقفِ يبيِّنُ وجه المعنى الذي يراه .
وإذا نظرتَ في كتبِ هذا العلم ، أو في وقوفِ المصاحفِ ، فإنَّكَ تنطلقُ من الوقفِ إلى المعنى ، وليس في ذلك مخالفةٌ لما ذكرتُ لك ، وإنَّما اختلفت زاويةُ النَّظرِ ، فكاتبُ الوقفِ تفهَّمَ المعنى ، ثُمَّ وقفَ ، وأنتَ نظرتَ في وقفه ، ثُمَّ تعرَّفتَ على المعنى الذي اختارَه .
وهذا يعني أنَّ بين المعنى والوقفِ تلازماً ، وهو أنَّ مَن قصدَ الوَقفَ على موضعٍ ، فإنَّه قد فسَّرَ ، فإنَّه دلَّ بتفسيرِه على الموضعِ الصَّالحِ للوقفِ .
ولهذا فإنَّ تفسيرَ السلف يُعَدُّ عمدةً في اختيارِ الوقوفِ ، وقد كان أبو عمرٍو الدَّانيُّ ( ت 444 ) يعتمدُ على تفسيراتِهم في بعض ترجيحاتِه في الوقفِ .
ومن ذلك ما ورد من الوقف على لفظِ ( الحسنى ) من قوله تعالى { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى } [ الرعد : 18 ] ، فقد حكم بالوقف على هذا الموضع بالتَّمامِ .
ثُمَّ قال : " والحسنى ها هنا الجنَّةُ ، وهي في موضع رفعٍ بالابتداءِ ، والخبرُ في المجرور قبلها ، الذي هو ( للذين استجابوا ) .
حدثنا محمد بن عبد الله المري ، قال : حدثنا علي ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا ابن سلام ، قال : قال قتادة : الحسنى : الجنَّة .
وقال ابن عبد الرَّزَّاق : ليس ( الأَمْثَالَ ) [ الرعد : 17 ] بتمام ؛ لأنَّ ( الحسنى ) صفةٌ له ، فلا يتمُّ الكلامُ دونها ، والمعنى على التَّقديمِ والتأخيرِ ؛ أي :الأمثالُ الحسنى للذين استجابوا لربِّهم .
والأول هو الوجه " [1] .
والأمثلة في علاقة الوقوفِ بالتَّفسيرِ كثيرةٌ ، ويكفي في مثلِ هذا المثالُ ، ومن الأمثلةِ التي هي مرتبطةٌ بالتَّفسيرِ ، ولها علاقة بعلم الفقهِ ، ما ورد في آيةِ القذفِ من سورة النور ، وهي قوله تعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 4 ، 5 ] .
فمن لم ير قبول شهادة القاذف بعد التوبة ، كان الوقف عنده على قوله تعالى ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) .
ومن كان رأيُه قبولَ شهادةِ القاذفِ بعد التَّوبة ، كان الكلام عنده متَّصِلاً ، وكانَ الوقفُ عنده على قول الله تعالى ( فإن الله غفور رحيم ) [2] .
هذا ، وَوُجُودُ بابٍ في علم التَّجويدِ يتعلَّقُ بالوقفِ والابتداءِ لا يعني أنَّه نابعٌ من علمِ القراءةِ ، بل هو أثرٌ من آثارِ التَّفسيرِ ، ولكن إذا بانَ المعنى ، ظهرَ للقارئ مكانُ الوقفِ ، وهذا يعني أنَّه إنَّما يعلَّقُ بالأداءِ بعد فهمِ المعنى ؛ لأنَّ القارئَ يَحْسُنُ أداؤه بإبرازِ المعاني بالوقفِ على ما يتمُّ منها ، وبه تظهرُ جودةُ ترتيلِه ، والله أعلم .
ولا تخلو كتبُ علمِ الوقفِ والابتداءِ من حكايةِ بعضِ الوقوفِ الغريبة ، التي قد يستملِحها بعضُ النَّاسِ ، ولكنَّها خلافُ الظاهرِ المتبادرِ لنظمِ القرآنِ ، ومن أمثلةِ ذلكَ :
ما وردَ من الوقفِ على لفظِ ( ربِّكم ) ، والابتداء بقوله ( عليكم ألا تشركوا به شيئا ) في قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الأنعام : 151 ] ، قال الأشموني : " ( ما حرم ربكم ) حَسَنٌ ، ثمَّ يبتدئُ ( عليكم ألا تشركوا ) على سبيل الإغراءِ ؛ أي : الزموا نفيَ الإشراكِ " [3] .
والظاهرُ المتبادرُ من النَّظمِ القرآنيِّ أنَّ الوقفَ يكونُ على لفظِ ( عليكم ) ، وتحتملُ جملة ( ألا تشركوا به شيئا ) على هذا وجهينِ من الإعراب :
الأولُ : أن تكونَ هذه الجملة خبراً لمبتدأ محذوف ، ويكونُ تقديرُ الكلام : هو ألاَّ تشركوا [4] ، أو يكون تقديرُه : ذلك ألاَّ تشركوا [5] ، وعلى هذا الوجه الإعرابيِّ يصلح الابتداءُ بها على سبيلِ الاستئنافِ .
الثاني : أن تكونَ هذه الجملةُ في موقع عطفِ البيانِ من جملةِ ( إلا ما حرم ) ، ويكونُ التقديرُ : قل تعالوا أتلُ ما حرَّمَ ربُّكم عليكم : أتلُ ألا تشركوا به شيئاً [6] .
ومن الوقوفِ الغريبةِ المستنكرةِ ما حكاه النَّحاسُ في قوله تعالى { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] ، قال : " ومن القُصَّاصِ الجُهَّالِ من يقفُ على ( ولها عرش ) ، فقال عبد الله بن مسلمٍ [7] : وقال من لا يعرفُ اللُّغةَ والوقفَ : ( ولها عرش ) ، ثُمَّ يبتدئُ ( عظيم وجدتها ) [ النمل : 23 ، 24 ] ، وقد أخطأ ، ولو كان كما قال ، لقال : عظيمٌ أن وجدتها .
قال أبو جعفر : ( وهذا من قول القتبيِّ حسنٌ جميلٌ ) " [8] .
ولهذا لا يحسنُ أن يستحسنَ القارئُ وقفاً دونَ أن يكونَ عنده فيه نظرٌ صحيحٌ ، وكم تسمع من مستنكراتِ الوقفِ التي يقصدُ أئمَّةُ المساجد أو غيرُهم من القراءِ الوقفَ عليها لشيءٍ لاح لهم بادي الرَّأي ، وهي عند التَّمحيصِ هباءٌ منثورٌ لا حقيقةَ له ؟!
وقد طُبعَ من كتبِ الوقف والابتداء : إيضاحُ الوقف والابتداء ، لابن الأنباري ( ت 328 ) ، والقطعُ والائتنافُ ، للنَّحَّاس ( ت 338 ) ، والمكتفى في الوقف والابتداء ، لأبي عمرو الدَّانيِّ ( ت 444 ) ، وعلل الوقوف ، للسجاونديِّ ( ت 560 ) ، والمقصد لتلخيص ما في المرشد في الوقف والابتداء ، لأبي زكريا الأنصاريِّ ( ت 926 ) ، وتقييد وقوف القرآن ، لمحمد بن أبي جمعة الهبطيِّ ( ت 930 ) ، ومنار الهدى في الوقف والابتداء ، للأشمونيِّ .
_________ [1] المكتفى في الوقف والابتداء ، للداني ، تحقيق : الدكتور يوسف المرعشلي ( ص : 335 ) . والأمثلة في اعتماد تفسير السلف في بيانِ مواضعِ الوقوف كثيرةٌ في كتاب الداني .
[2] انظر تفصيل الأقوال في : القطع والائتناف ( ص : 94 - 95 ) .
[3] منار الهدى في بيان الوقف والابتداء ، للأشموني ، نشر مكتبة الحلبي ، ط 3 .
[4] ينظر : تفسير الطبري ، تحقيق : شاكر ( 12 : 215 ) .
[5] ينظر : القطع الائتناف ، للنحاس ( ص : 326 ) .
[6] ينظر : تفسير الطبري ، تحقيق : شاكر ( 12 : 216 ) ، والقطع والائتناف ( ص 326 ) ، والتحرير والتنوير ( 8 : 157 ) .
[7] هو ابن قتيبة .
[8] القطع والائتناف ( ص : 535 ) .
وقال - وفقه الله - في كتابه ( المحرر في علوم القرآن ، ص 252 - 254 ، ط 2 دار ابن الجوزي ) :
" يرتبط موضوع الوقف والابتداء بالمعنى ، لذا فهو منبثق من علم ( التفسير ) ، وهو أثر من آثاره . وله ارتباط بعلم ( النحو ) من جهة معرفة ما يصح الوقف عليه وما لا يصح من المفردات أو الجمل المرتبطة ببعضها من جهة النحو ؛ كالمعطوفات والجملة الحالية وغيرها . وله ارتباط بعلم ( القراءات ) ، وذلك ظاهر باختلاف الوقف والابتداء بسبب اختلاف القراءة . وستأتي أمثله لعلاقة هذه العلوم بعلم ( الوقف والابتداء ) " .
ثم قال :
" إن علم الوقف والابتداء من العلوم المهمة للمقرئ والقارئ ، إذ به تتبين المعاني ، وهذا هو الهدف من هذا العلم ، قال النحاس ( ت 338 هـ ) : " ... فقد صار في معرفة القطع والائتناف التفريق بين المعاني ، فينبغي لقارئ القرآن أن يتفهم ما يقرؤه ، ويشغل قلبه به ، ويتفقد القطع والائتناف ، ويحرص على أن يُفهِم المستمعين في الصلاة وغيرها ، وأن يكون وقفه عند كلام مستغنٍ أو شبهه ، وأن يكون ابتداؤه حسناً ، ولا يقف على ( الموتى ) في قوله { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ } [ الأنعام : 36 ] ، ولا أمثاله ؛ لأن الوقف ههنا قد أشرك السامعين بين والموتى ، والموتى لا يسمعون ولا يستجيبون ، وإنما أخبر عنهم أنهم يُبعثون ... " [1] .
وهذا يعني أن علم الوقف والابتداء أثر من آثار المعنى ، فمعرفة المعنى هي التي ترشد إلى مكان الوقف من عدمه ، وليس كغيره من العلوم التي يدرسها في التجويد مما يحتاج إلى رياضة لسان .
العلوم المهمة لمن أراد معرفة الوقف والابتداء :
إنَّ من العلوم المهمَّة لمن أراد أن يعرف الوقف والابتداء علم التفسير وعلم النحو ، وعلم القراءات ؛ لأن المعنى يُعرف بها ، قال ابن مجاهد ( ت 324 هـ ) : " لا يقوم بالتمام [2] إلا نحوي عالم بالقراءة ، عالم بالتفسير ، عالم بالقصص وتلخيص بعضها من بعض ، عالم باللغة التي نزل بها القرآن " [3] .
وإذا تأمَّلت هذه العلوم وجدتها ترجع إلى معرفة المعنى الذي هو أساس علم الوقف والابتداء ، فمعرفة التفسير واختلافات المفسرين يُعرف بها المعنى ، فيعرف الواقف أين يقف بناءً على هذا التفسير أو ذاك .
ومن أشهر الأمثلة التي يُمثَّل بها في هذا المقام تفسير قوله تعالى { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } [ آل عمران : 7 ] ، فمن فسَّر التأويل بما تؤول إليه حقائق القرآن فإنه يقف على لفظ الجلالة ؛ لأن علم الحقائق مما يختصُّ به الله ، ومن ادعى علمه فقد كذب على الله .
ومن فسر التأويل بالتفسير جاز له أن يصل لفظ الجلالة بما بعده ويقف على لفظ ( العلم ) ؛ لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسيره .
وأنت تلحظ في هذا المقام كيف اختلف الوقف باختلاف التفسير ، وأصل ذلك راجع إلى المعنى المراد بالتأويل ، فالمعنى أولاً ، ثمَّ يجيء الوقف تبعاً للمعنى .
ومن أمثلة احتياج علم الوقف والابتداء إلى معرفة النحو ما ذكره النحاس ( ت 338 هـ ) في استشهاده على ذلك بأن الاختلاف في إعراب لفظ ( مِلَّة ) من قوله تعالى { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] يورث اختلافاً في صحة الوقوف على لفظ ( حرج ) من عدمه ، قال : " ويحتاج إلى معرفة النحو وتقديراته ؛ ألا ترى أن من قال ( ملةَ أبيكم إبراهيم ) منصوبة بمعنى كَمِلَّةِ ، وأعمل فيها ما قبلها = لم يقف على ما قبلها . ومن نصبها على الإغراء وقف على ما قبلها " [4] .
ومن أمثلة اختلاف الوقف باختلاف القراءات ما ذكره طاهر بن غلبون ( ت 399 هـ ) في الاختلاف في قراءة ( ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ ) من قوله تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ النور : 58 ] ، قال : " وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي ( ثلاثَ عوراتٍ ) بنصب الثاء ، ورفعها الباقون .
فمن نصب لم يبتدئ به ؛ لأنه بدل من قوله ( ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ) ؛ التقدير : ليستأذنكم هؤلاء لأوقات ثلاث عورات ، فلذلك لا يجوز أن يقطع منه .
ومن رفع جاز له الابتداء به لأنه مستأنف ، وذلك أنه يوقعه على إضمار مبتدأ ؛ تقديره : هذه ثلاث عورات ، أو يرفعه بالابتداء ، والخبر في قوله ( لكم ) [5] .
______ [1] القطع والائتناف للنحاس ، تحقيق الدكتور أحمد خطاب العمر ( ص 97 ) .
[2] يريد : الوقف .
[3] القطع والائتناف ( ص 94 ) .
[4] القطع والائتناف ( ص 95 ) .
[5] التذكرة في القراءات لطاهر بن عبد المنعم بن غلبون ، تحقيق الدكتور عبد الفتاح بحيري إبراهيم ( 2 : 571 ) .