إختلف المفسرون في المعوذتين هل هما مكيتان أم مدنيتان فمنهم من قال بأنها مدنيه بناءاً على سحر لبيد بن الأعصم للرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال بأنها مكيه
مع إجماعهم على أنها نزلت بسبب أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي ذهب إليه الطاهر ابن عاشور أنها مكيه وذكر رواية كريب عن ابن عباس قوله مكيه,,ورواية أبوصالح عن ابن عباس أنها مدنيه
قال والأصح أنها مكيه لأن رواية كريب عن ابن عباس مقبوله بخلاف رواية أبي صالح عن ابن عباس ففيها متكلم.
وقال في ثنايا تفسيره لقوله تعالى {ومن شر النفاثات في العقد}:
وجملة القول هنا:أنه لما كان الأصح أن السوره مكيه فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمون من أن يصيبه شر النفاثات لأن الله أعاذه منها.
الذي فهمته من كلام الطاهر ابن عاشور رحمه الله:أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُسحر وكأن قوله هذا يوافق العلّه التي ذكرها سيد قطب في ظلال القرآن :بأن الروايات المذكوره في سحر لبيد للرسولصلى الله عليه وسلم تخالف أصل العصمه النبويه في الفعل والتبليغ
ولاتستقيم مع الإعتقاد بأن كل فعل من أفعاله صلى الله عليه وسلم وكل قول من أقواله سنه وشريعه
كما أنها تصطدم بنفي القرآن الكريم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسحور وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك.
واستبعد سيد قطب رحمه الله الروايات التي تحكي سحر لبيد للرسولصلى الله عليه وسلم لأنها ليست من المتواتر وأن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيده وأن المرجع هو القرآن والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الإعتقاد..وأن نزول هاتين السورتين في مكه هوالراجح مما يوهن أساس الروايات الأخرى..
فهل مافهمته صحيح؟
أليس الإجماع الوارد من المفسرين يدل على صحة الروايه الوارده في سبب النزول وأن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر ؟؟وكيف خالف ابن عاشور الجمهور؟؟
_وهل قول من قال بأنها مكيه ينفي بذلك وقوع السحر للنبيصلى الله عليه وسلم؟؟
مالقول الفصل في المعوذتين هل هما مكيتان ام مدنيتان؟؟وأي الفريقين أقوى في الحجه؟؟
جواب هذا السؤال ينبغي أن يتضمن بيان ثلاثة مسائل:
المسألة الأول: تحرير القول في المعوذتين أمكيتان هما أم مدنيتان؟
المسألة الثانية: هل حادثة سحر لبيد بن الأعصم للنبي صلى الله عليه وسلم صحيحة؟
المسألة الثالثة: هل كانت تلك الحادثة هي سبب نزول المعوذتين؟
فأما بيان المسألة الأولى فهذه خلاصة دراسته من كتاب جمهرة التفاسير :
(اختلَفَ أهلُ العِلْمِ فِي نُزولِ المعوِّذَتينِ علَى قولينِ:
القول الأول: أنهما مكِّيتَانِ
وممن قال بهذا القول: الواحديُّ، وأبو المظفَّرِ السَّمعانيُّ، وابنُ عطيةَ، وابنُ جُزَيءٍ الكَلبيُّ، وأبو حيَّانَ الأندلسيُّ، وابنُ عاشُورٍ.
القول الثاني: أنهما مدنيَّتانِ
وممن قال به: الليثُ بنُ نصرٍ السمرقنديُّ، والثعلبيُّ، وأبو عمرٍو الدانيُّ، وأبو مَعْشَرٍ الطبَريُّ، والبغويُّ، وابنُ كثيرٍ، والعَينيُّ في شَرْحِ سُنَنَ أبي دَاوودَ.
وممن حكى الخلاف ولم يرجح: ابن أبي زمنين، والماوردي، وهبة الله بن سلامة المقرئ، والزمخشري، وعلم الدين السخاوي، والقرطبي، وجلال الدين المحلي، والقسطلاني في إرشاد الساري، وزكريا الأنصاري، والشوكاني، والألوسي.
فأمَّا القولُ الأوَّلُ فنُسِبَ إلى: ابنِ عبَّاسٍ، وَقتادَةَ، وَالحسنِ، وَعكرمةَ، وَعطاءٍ، وَجابرِ بنِ زيدٍ، وعلي بن أبي طلحة، وَالضحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ.
َقَالَ الماورديُّ: (مَكِّيَّةٌ في قولِ الحَسَنِ وعِكْرِمَةَ وعَطاءٍ وجابرٍ، ومَدَنِيَّةٌ في أَحَدِ قَوْلَيِ ابنِ عبَّاسٍ وقَتادةَ).
ونَسَبَهُ أبو عبدِ اللهِ مُحَمَّد ُبنُ حَزْمٍ للضحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ، وَنَسَبهُ العَيْنِي للسُّدِّيِّ أيضًا.
وَنَسَبَهُ عبدُ الرَّزَّاقِ عَلي مُوسَى لابنِ المبارَكِ فِي مَوضِعَينِ مِن كُتُبهِ (ولم أقف على من أسنده إليه).
وَمِمَّا يُسْتدَلُّ بهِ لهذَا القولِ:
1: ما رواه أبو عبيدٍ القاسم بن سلام في فضائل القرآن عن عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة قال: (نزلت بالمدينة سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والحج، والنور، والأحزاب، والذين كفروا، والفتح، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والحواريون يريد الصف والتغابن، ويا أيها النبي إذا طلقتم، ويا أيها النبي لم تحرم، والفجر، والليل، وإنا أنزلناه في ليلة القدر، ولم يكن، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله؛ وسائر ذلك بمكة).
وهذا مقطوع على علي بن أبي طلحة.
2: مَا رَواه ابنُ الضريسِ في فضائلِ القرآنِ من طريقِ عمر بن هارون عن عمرَ بنِ عطَاءٍ عَن أبيهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ فِي ترتيبِ نزولِ سُوَرِ القرآنِ؛ فَعَدَّهُمَا فِيمَا نَزَلَ فِي مَكَّةَ، وعمر بن هارون متروك الحديث.
3: مَا رَوَاهُ ابنُ مُردويهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ بِمكةَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ذكرهُ السيوطيُّ في الدرِّ المنثورِ، وَلَمْ أَقِفْ علَى إسنادِهِ.
4: ما رواه مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ العَبْدِيُّ (ت: 223 هـ) قال: (حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قالَ: (البَقَرةُ وآلُ عِمْرَانَ والنِّسَاءُ والمائِدَةُ والأَنْفَالُ وَبَرَاءَةٌ والرَعْدُ والنَّحْلُ والحِجْرُ والنُّورُ والأَحْزَابُ ومُحَمَّدُ وَالفَتْحُ والحُجُرَاتُ والرَّحْمَنُ والحَدِيدُ إِلَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} عَشْرٌ مُتَوَالِيَاتٌ، وَ{إِذَا زُلْزِلَت} وَ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ} قالَ: هَذَا مَدَنِيٌّ، وَسَائِرُ القُرْآنِ مَكِّيٌ).
وَنَسَبَ هذَا القولَ إِلَى قتادَةَ: ابنُ أبي زمِنينَ، وَأبو عمرٍو الدانيُّ، وَابنُ عطيَّةَ، وَالعَينيُّ
وَقَالَ العَينيُّ: (فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَسَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ: مَكِّيَّةٌ).
قلتُ: أمَّا رِوَايةُ همَّامٍ فتقدَّم ذكرُهَا فيما رواه عنه العبدي، وقد أخرجها أيضاً ابن الأنباري والحارث المحاسبي في كتاب فهم القرآن.
وَأمَّا رِوَايَةُ سَعِيدٍ فأخرجها أبو عمرو الداني في كتاب البيان في عد آي القرآن.
وَنَسَبَ ابنُ الجوزيِّ إِلَى قتادَةَ القولَ بأنَّهُمَا مدَنيَّتَانِ.
وَحَكَى الماوَردِيُّ عَن قتادَةَ قولينِ فِي هذِهِ المسألةِ، وَتبعهُ علَى ذَلكَ جَمَاعَةٌ من المفسرين.
قالَ ابْنُ عَاشُورٍ فِي تفسيرِ سُورَةِ الفَلَقِ: (وَاختُلِفَ فيها: أمَكِّيَّةٌ هي أمْ مَدنِيَّةٌ؟ فقالَ جابِرُ بنُ زَيدٍ والحسَنُ وعَطاءٌ وعِكرِمَةُ: مَكِّيَةٌ، وَرَوَاه كُرَيْبٌ عنِ ابنِ عبَّاسٍ.
وقالَ قَتادةُ: هي مَدنِيَّةٌ، ورَواهُ أبو صالِحٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ.
والأَصَحُّ أنها مَكِّيَّةٌ؛ لأنَّ رِوايةَ كُرَيْبٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ مَقبولةٌ، بخِلافِ رِوايةِ أبي صالِحٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ؛ ففيها متكَلَّمٌ) ا.هـ.
وَأَمَّا القولُ الثاني فنُسِبَ إِلَى: ابنِ عباسٍ، وَابنِ الزُّبيرِ ، وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَسُفَيَانَ بنِ عُيينَةَ
نَسَبَهُ إِلَى ابنِ عبَّاسٍ: النحَّاسُ، وَأبو عمرٍو الدَّانِيُّ، وَابنُ عطيَّةَ
قالَ أبو عمرٍو الدَّانِي: (مَدَنِيَّةٌ، هذا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ، وقال قَتَادَةُ: مَكِّيَّةٌ).
وَقَالَ العينيُّ: (وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ سُفْيَانَ)
قلتُ: يُرِيدُ بذَلِكَ مَا رَوَاهُ أبو عُبيد الله المخزوميُّ عن سُفْيَانُ فِي تفسيرِهِ عَن هِشَامِ بنِ عُروةَ عَن أبيهِ عَن عَائِشَةَ فِي حادَثَةِ سَحْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ، وأن سورة الفلق نرلت بسبب تلك الحادثة.
وهذه الرواية أخرَجها اللالكائيُّ وأبو القاسمِ الأصبهانيُّ، وذكر الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في التلخيصِ أنها في تفسير ابن عيينة، وفيها تَفَرُّدٌ عن جميعِ رواةِ هذا الحديثِ من الأئمة وهم جماعةٌ من الحفَّاظ.
وفقك الله شيخنا الفاضل وبارك فيك وأحمد الله الذي منّ علينا إقتناء كتابكم جمهرة التفاسير حتى أنني أطلعت على ماتكرمتم به من الرد أعلاه في كتابكم أثناء بحثي في السورتين
وأود أن أطرح سؤالاً وهو إذا كان الراجح القول بأنهما مدنيتان فلما تُكتب في فهرس المصحف مكيتان؟؟
الذي أعد هذه القائمة اللجنة العلمية المشرفة على طباعة المصحف الشريف ، وقد ذكروا أن عمدتهم في بيان المكي والمدني ما توصلوا إليه من كتب التفسير والقراءات.
والعجيب أن هذين الحديثين لم أقف في كتب التفسير والقراءات على من استدل بهما على مدنية المعوذتين.
وهذه المسألة من المسائل التي اختلف فيها المفسرون والقراء، فرجحت اللجنة أنهما مكيتان ، وإن كان الأمر عند المحدثين ظاهراً.
والمسألة مبناها على صحة النقل؛ فقول المحدثين هنا مقدم.
ولي عودة لإتمام الجواب عن المسألتين الباقيتين إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية: هل حادثة سحر لبيد بن الأعصم للنبي صلى الله عليه وسلم صحيحة؟
الجواب:
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سَحَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني زُريق يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخيَّل إليه أنَّه يفعل الشيءَ وما فعله ). وذكرت القصة.
والحديث رواه جمع من الأئمة في مصنفاتهم وهو حديث صحيح لا مطعن فيه.
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (سَحَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود). رواه أحمد وعبد بن حميد والطحاوي والطبراني.
والحديث صحيح الإسناد، وصححه الحافظ العراقي، وقال الألباني: هو على شرط مسلم.
في الحديث الأول أن الذي سحره رجل من بني زريق.
وفي الحديث الثاني: الذي سحره رجل من اليهود.
والجمع بينهما ما بينته روايات صحيحة في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سحر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يهوديٌّ من يهود بني زريق).
وبنو زريق بطن مشهور من الخزرج وهم من الأنصار، وقد أسلم أكثرهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم .
وكان لهم مسجد معروف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق.
وكان كل من الأوس والخزرج لهم حلفاء من اليهود في الجاهلية.
قال ابن عباس: ( كانت المرأة تكون مِقْلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده [تلتمس بذلك طول بقائه، فجاء الإسلام ، وفيهم منهم] فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار؛ فقالوا : لا ندع أبناءنا ؛ فأنزل الله عز وجل { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ } [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خيروا أصحابكم ، فإن اختاروكم ، فهم منكم ، وإن اختاروهم ، فهم منهم »]). رواه أبو داود والسياق له، والطحاوي وما بين المعكوفين له، ورواه أيضاً البيهقي وابن حبان بألفاظ مقاربة.
وقول اليهود: ( لا ندع أبناءنا ) يريدون أبناءهم من الرضاعة، ممن أرضعوهم فتهودوا من الأوس والخزرج قبل مجيء الإسلام.
فلذلك كان لبيد بن الأعصم يهودياً وهو من بني زريق.
وفي رواية في صحيح البخاري أن الذي سحره لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقاً.
فيكون هذا الخبيث قد جمع أوصاف الخبث فهو يهودي منافق ساحر.
وقول عائشة: (حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخيَّل إليه أنَّه يفعل الشيءَ وما فعله)
جاء مفسراً من رواية أخرجها البخاري في صحيحه من طريق سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِرَ حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن.
قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا.
وقد أنكر هذه الحادثة بعض المعتزلة ، وزعموا أن الإقرار بها قدح في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه موافقة للكفار في قولهم فيما حكى الله عنهم: {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً}
وأجاب أهل العلم عن إيراد المعتزلة بأن المسحور في هذه الآية المراد به الذي أصابه جنون بسبب السحر فخبَّله السحر وأذهب عقله، أمَّا الذي لم يؤثر السحر في عقله وإدراكه ومنطقه فغير مراد هنا ولا حجة لهم في المنع من تصديق قوله بسبب هذا السحر.
والسحر الذي وقع للنبي صلى الله عليه وسلم غير مؤثر في عقله وتبليغه الرسالة بلا خلاف بين أهل العلم.
قال السهيلي (ت:581هـ): (الحديث ثابت خرَّجه أهل الصحيح ، ولا مطعن فيه من جهة النقل، ولا من جهة العقل، لأن العصمة إنما وجبت لهم في عقولهم وأديانهم، وأما أبدانهم فإنهم يُبتلون فيها، ويُخلَصُ إليهم بالجراحة والضرب والسموم والقتل، والأُخذة التي أُخِّذَها رسول الله صلى الله عليه من هذا الفنِّ ، إنما كانت في بعض جوارحه دون بعض)ا.هـ.
الأُخذَة:السحر.
قال ابن القيم: (اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء ، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه من المتكلمين).
يقصد بالمتكلمين المعتزلة، وهم الذين اشتهر عنهم إنكار هذه القصة.
ومِنَ المعتزلة ومَن وافقهم في بعض أصولهم من ينكر هذه الحادثة لإنكاره حقيقة السحر أصلاً كما فعل ذلك الجصاص والنحاس، ونُقِل ذلك عن القاضي عبد الجبار وأبي بكر الأصم.
ومنهم من أعرض عن ذكرها في تفسيره كما فعل الزمخشري.
والماوردي حكى القولين وتوقف، وهو موافق للمعتزلة في بعض أصولهم.
ولا خلاف بين السلف في ثبوت هذه القصة ، كما أنه لا خلاف في أنها غير مؤثرة في تبليغه صلى الله عليه وسلم للرسالة.
وفيك بارك الله ونفع.
[line]-[/line] المسألة الثالثة: هل كانت تلك الحادثة هي سبب نزول المعوذتين؟
هذه المسألة وقع فيها لبس في كثير من كتب التفسير ، وهذا اللبس له أسباب سأبينها بإذن الله تعالى
لكن أمثل ما يستدل به في هذه المسألة ما أخرجه عبد بن حميد والطحاوي في مشكل الآثار كلاهما من طريق أحمد بن يونس قال: حدثنا: أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حَيَّان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود.
قال: فاشتكى فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين، وقال: إن رجلا من اليهود سحرك، والسحر في بئر فلان.
قال: فأرسل علياً فجاءَ به.
قال: فأمرَه أن يحلَّ العُقَدَ، وتُقْرَأ آية؛ فجعلَ يقرأ ويحلُّ حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال.
قال: فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليهوديِّ شيئا مما صنع به.
قال: ولا أراه في وجهه).
قوله: (فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين) هذا مما تفرد به أحمد بن يونس عن أبي معاوية ، وهو ثقة ثبت، روى عنه البخاري ومسلم في صحيحهما بلا واسطة، وقال الإمام أحمد لرجل يطلب الحديث: اخرج إلى أحمد بن يونس فإنه شيخ الإسلام.
وهذه الزيادة اختُلف فيها:
فمن صححها اعتبرها من زيادة الثقة كما فعل الألباني رحمه الله.
ومن نظر إلى مخالفتها لسائر طرق الحديث أعلها بالمخالفة.
فإن حديث زيد بن أرقم روي من أربعة طرق هذا بيانها: الطريقُ الأوَّل: طريق جرير عن الأعمش عن ثمامة بن عقبة عن زيد بن أرقم، وقد أخرجه الطبراني في معجمه الكبير من طريق إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن المديني ثلاثتهم عن جرير به، وأخرجه الحاكم في مستدركه من طريق أحمد بن حنبل عن جرير به، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وليس فيه ذكر نزول المعوذتين، وهو أقرب إلى رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. الطريق الثاني: طريق شيبان عن الأعمش عن ثمامة عن زيد بن أرقم بمثل رواية جرير أخرجه الطبراني في الكبير. الطريق الثالث: طريق سفيان الثوري عن الأعمش عن ثمامة عن زيد بن أرقم أخرجه ابن سعد في الطبقات، والبزار في مسنده، وفي إسناده عندهما موسى بن مسعود وهو أبو حذيفة النهدي، وليس فيه ذكر نزول المعوذتين. الطريق الرابع: طريق أبي معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم، واختلف فيه فرواه ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي والطبراني وأبو الشيخ الأصبهاني والبغوي من طرق عن أبي معاوية عن الأعمش به، وليس فيه عند جميعهم ذكر نزول المعوذتين.
ورواه عبد بن حميد والطحاوي في مشكل الآثار كلاهما من طريق أحمد بن يونس عن أبي معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم وذكر فيه نزول المعوذتين.
فهذه الزيادة تفرد بها أحمد بن يونس وهو إمام ثقة، لكنه خولف في هذه الزيادة فقد حدَّث بهذا الحديث عن أبي معاوية: أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة وهناد بن السري ولم يذكروا هذه الزيادة.
فمن اعتبر هذه الزيادة مخالفة حكم عليها بالشذوذ لمخالفة أحمد بن يونس بقية الرواة عن أبي معاوية ثم مخالفة هذه الزيادة لطرق الحديث الأخرى، ومن اعتبرها من باب زيادة الثقة صححها كما فعل الألباني رحمه الله.
وأما حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وهو الحديث المشهور في قصة سحر النبي صلى الله عليه وسلم
قالت عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنهَا: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّىْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهْوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: « يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِى فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِى رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِى، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَىَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ.
قَالَ مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِي أَيِّ شَىْءٍ؟ قَالَ: فِى مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ.
قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ ».
فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ: « يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ».
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أَسْتَخْرِجُهُ .
قَالَ: « قَدْ عَافَانِى اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا »
فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ).
فهذا الحديث رواه الشافعي والحميدي وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي والطحاوي وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي والواحدي والبغوي، وليس فيه عند جميعهم ذكر نزول المعوذتين.
وروى اللالكائي في شرح السنة وأبو القاسم الأصبهاني في كتاب الحجة في بيان المحجة كلاهما من طريق أحمد بن إبراهيم العبسقي عن محمد بن إبراهيم بن عبد الله عن أبي عبيد الله المخزومي عن سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فذكر الحديث بنحو رواية الجماعة وزاد في آخره: قالت: ونزلت {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} حتى ختم السورة).
وذكر ابن حجر في التلخيص أن هذه الزيادة في تفسير سفيان بن عيينة رواية أبي عبيد الله عنه.
قلت: وهي الرواية التي أخرجها اللالكائي وأبو القاسم الأصبهاني.
والذي يظهر لي أن هذه الزيادة معلولة لأمور: أولها: مخالفة الأئمة الثقات الحفاظ وهم جمع كثير ومخرج الحديث عندهم واحد؛ فقد روى هذا الحديثَ عن هشامِ بنِ عروةَ: أبو أسامة الحافظ، وعبدُ اللهِ بن نمير، وعيسى بن يونس، وابن أبي الزناد، والليث بن سعد، وأبو ضمرة أنس بن عياض، ومعمر بن راشد، ويحيى القطان، ووهيب بن خالد، وعلي بن مسهر، ولم يذكروا فيه المعوذتين.
فهذا يبين مخالفة هذه الزيادة لو صحت عن سفيان بن عيينة لجماعة من الأئمة رووا الحديث عن هشام. الأمر الثاني: أن الشافعي والحميدي وعبد الله بن محمد المسندي قد رووا هذا الحديث عن سفيان بن عيينة عن هشام به، وليس فيه هذه الزيادة، ورواية المسندي أخرجها البخاري في صحيحه، ورواية الحميدي في مسنده، ورواية الشافعي أخرجها البيهقي. الأمر الثالث: أن ابن عيينة أول ما سمع هذا الحديث من عبد الملك بن جريج عن بعض آل عروة ثم سمعه من هشام، كما ذكر ذلك الحميدي في مسنده، وابن جريج كثير التدليس؛ فجائز أن تكون تلك الزيادة مما دخل عليه من حديث بعض آل عروة ولا نعرف حالهم، وجائز أن تكون عن بعض من قد يدلس عنهم ابن جريج، وجائز أن تكون مدرجة من بعضهم ثم أسندت خطأ، هذا إذا صحت نسبتها إلى سفيان ولم تكن مما أدرج من أحد رواة تفسيره *. الأمر الرابع: أن هذه الزيادة فيها نزول سورة الفلق مفردة، فخالفت ما صح من نزولهما جميعًا. الأمر الخامس: أن ظاهر أحاديث عقبة بن عامر يدل على أن المعوذتين نزلتا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حال صحة وسفر، وهو أمر يحتاج إلى بحث ودراسة، والله تعالى أعلم.
[line]-[/line] * لم يرتضِ شيخي الشيخ سعد الحميد - حفظه الله - التعليل بهذه العلة، وقال: ابن جريج صرَّح بالسماع هنا، وأقر بقية الأمور وأوصى بدراسة الأمر الخامس لأنه إذا ثبت كان فيصلاً في هذه المسألة.
" سورة الفلق مختلف فيها والصحيح أنها مدنية لأن سبب نزولها سحر اليهود كما سيأتي، وهم بالمدينة كما في البخاري وغيره فلا يلتفت لمن صحح كونها مكية وكذا سورة الناس ". قاله شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المصري الحنفي (المتوفى: 1069هـ) في تفسير سورة الفلق من حَاشِيته عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي، والْمُسَمَّاة: عِنَايةُ القَاضِى وكِفَايةُ الرَّاضِى عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوي .