أخي الكريم أحمد بن فارس وفقه الله
لا شك أن لاختيارك هذا الاسم للكتابة به في الملتقى سراً لا أعلمه ، لعله حب هذا العالم الجليل أحمد بن فارس بن زكريا الرازي (ت395هـ) رحمه الله ، وقد صحبتُ هذا العالم الجليل مدة من الزمن أدرس آثاره ، وأتأملها ، وما ندمت على تلك الصحبة ، وعلى حد قول المتنبي :
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
إن كان يجمعنا حب لغرته = فليت أنا بقدر الحب نقتسمُ ![/poem]
وأما سؤالكم عن الفرق بين الاستفهام الإنكاري والتقريري . فإن للاستفهام أنواعاً أخرى تعرف من خلال سياق الاستفهام . وقد أفاض علماء المعاني في دراستها رحمهم الله.
وعلم المعاني - كما تعلمون - هو جزء من علوم البلاغة الثلاثة (المعاني – البيان – البديع). ولا يخلو كتاب من كتب البلاغة من الكلام عن الاستفهام وأدواته. وهم يعدون الاستفهام نوعاً من أنواع الإنشاء الطلبي . ويعرِّفون الاستفهام بأنه طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل بأداة خاصة من أدوات الاستفهام.
وأدوات الاستفهام –أخي أحمد – كثيرة ، منها : الهمزة ، وهل ، وما ، وكم ، ومَنْ ، ومتى ، وكيف ، وأين ، وغيرها.
ولكل أداة من أدوات الاستفهام وظيفة أو وظائف خاصة . فمثلاً الهمزة يطلب بها أحد أمرين : التصور ، والتصديق. فالتصور هو إدراك المفرد وتعيينه. والتصديق هو إدراك النسبة . وهل يطلب بها التصديق فقط. وهكذا بقية الأدوات لكل أداة وظيفتها الخاصة.
ولكن هذا الاستفهام قد يخرج عن الاستفهام المجرد إلى معانٍ أخرى ، تعرف بالقرائن ، ودلالة سياق الكلام ، وهذه المعاني كثيرة ، منها :
- النفي . مثل قوله تعالى :(فمن يهدي من أضل الله). وقوله تعالى :(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).
- التعجب . مثل قوله تعالى :(ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق).
- الإنكار . مثل قوله تعالى :(أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً ؟).
- التمني . ولا يحضرني مثال من القرآن ، ولكن يحضرني قول صاحب اليتيمة :
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
هَلْ بالطلولِ لِسائلٍ رَدُّ ؟ = أم هل لها بتكلمٍ عهدُ ؟[/poem]- التقرير . مثل قوله تعالى :( ألم نشرح لك صدرك ) وقوله :(ألم نربك فينا وليداً).
- التحقير . مثل قوله تعالى :( أهذا الذي بعث الله رسولاً؟)
- الاستبطاء. مثل قوله تعالى :( متى نصر الله ؟)
- الاستبعاد. مثل قوله تعالى :(أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه)
- التهكم والاستهزاء. مثل قوله تعالى :(قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟)
- الوعيد والتهديد. مثل قوله تعالى :(ألم تر كيف فعل ربك بعاد ؟)
- التحضيض. مثل قوله تعالى :(قال ألا تأكلون ؟).
- وغيرها .
وبما أن سؤالك عن الاستفهام الإنكاري والتقريري أقول :
[color=0000FF]الاستفهام التقريري [/color]هو أن تطلب من المخاطب أن يقر بِما يُسأَلُ عنه نفياً أو إثباتاً ، لأي غرض من الأغراض التي يراد لها التقرير. كالإدانة واللوم ونحو ذلك. ومن أمثلته في القرآن الكريم ما تقدم من قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم :( أَلَم نشرح لك صدرك). يعني قد شرحنا لك صدرك يا محمد ، وتقريره بذلك لكي يشكر هذه النعمة ويقدرها حق قدرها.
وقوله تعالى على لسان فرعون يخاطب موسى عليه السلام :(ألم نربك فينا وليداً ؟). وفرعون يريد أن يقر موسى بذلك ليدينه بهذا ، أي : كيف نربيك ثم تنقلب علينا ؟!
وقوله تعالى على لسان قوم إبراهيم عليه السلام عندما حطم أصنامهم :(أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟) وغرضهم من إقراره بهذا إدانته ، والانتقام منه ، ولكنه أجاب بطريقة أخرى .
وقوله تعالى ممتناً على نبينا صلى الله عليه وسلم :(ألم يجدك يتيماً فآوى ؟ الآيات ) فهو استفهام تقريري ، للامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم. وغير ذلك من الأمثلة من كلام العرب شعراً ونثراً. ومن أجمل أمثلته قول جرير رحمه الله:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أَلستمْ خير من ركب المطايا؟ = وأندى العالمين بطون راحِ ؟[/poem]
[line]
وأما [color=0000FF]الاستفهام الإنكاري [/color]: فهو يدل على أن الأمر المستفهم عنه أمر منكر ، وقد يكون هذا الذي ينكره العقل أو الشرع أو العرف أو القانون أو غير ذلك.
وللاستفهام الإنكاري أنواع بحسب المراد بالإنكار ، فقد يكون إنكاراً يراد به التوبيخ على أمر قد مضى ، أو أمر قائم ، أو إنكاراً للتكذيب وغير ذلك.
ومن أمثلته قوله تعالى على لسان موسى يخاطب أخاه هارون :(أفعصيت أمري ؟).
وقوله تعالى :(أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً ؟). ينكر عليهم إنكاراً فيه تكذيب لهم.
وقوله تعالى على لسان نوح عليه السلام عندما دعا قومه فكذبوه:(قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟)
ويجب في الاستفهام الإنكاري أن يقع الأمر المُنْكَر بعد همزة الاستفهام كما في الأمثلة.
وقد يكون الأمر المنكر - بفتح الكاف - هو الفعل كما في قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام يخاطب أباه:(أتتخذ أصناماً آلهة ؟) ينكر عليه ذلك.
وقول إبراهيم عليه السلام لقومه :(قال أتعبدون ما تنحتون ؟) ينكر عليهم فعلهم.
وقد يكون المنكر هو الفاعل ، كقوله تعالى :(أهم يقسمون رحمة ربك ؟) وقوله تعالى :(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟)
وقد يكون المنكر هو المفعول ، كقوله تعالى :(أغير الله أتخذ ولياً ؟). وقوله تعالى :(أغير الله تدعون؟)
وقد يكون المنكر هو المفعول لأجله ، كقوله تعالى :(أإفكاً آلهة دون الله تريدون؟) وغير ذلك.
وموضوع الاستفهام موضوع شيق ، وقد بحثه كما أسلفت علماء المعاني ، فلو رجعت إلى أي كتاب من كتب البلاغة لوجدت دراسة حول موضوع الاستفهام ، مدعمة بالأمثلة الكافية إن شاء الله. وما ذكرته لك هو ما علق بالذاكرة من أنواع هذا الفن ، وأمثلته من القرآن الكريم .
وقد بحثه الدكتور محمد عبدالخالق عضيمة رحمه الله ، في كتابه النفيس (دراسات لأسلوب القرآن الكريم) وستجده في الأجزاء الثلاثة الأولى من كتابه وهو القسم الأول من الكتاب ، وقد استقصى رحمه الله الأمثلة للاستفهام بأنواعه في القرآن الكريم.
كما تعرض لبعضه أحمد بن فارس في كتابه الصاحبي عند حديثه عن بعض أدوات الاستفهام.
أسأل الله لك التوفيق ، ومرحباً بك مرة أخرى في ملتقى أهل التفسير.