مأساة أميرة شرقيةللكاتب الإنكليزي ( كراهام لويس ) نقد وتحليل الشيخ محمد تقي الدين الهلالي

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الكاتب : محمد تقي الدين الهلالي

رمضان - 1353هـ
يناير - 1935م

مأساة أميرة شرقية
نقد وتحليل بقلم الأستاذ العلامة المصلح الشيخ محمد تقي الدين الهلالي
( 1 )

بسم الله الرحمن الرحيم
نشرت مجلة (
Bombay India of Weekly Illustrated The
المصور الأسبوعي للهند بمباي في 27 أغسطس 933 ) ضمن سلسلة مقالات في
تاريخ الشرق للكاتب الإنكليزي ( كراهام لويس ) مقالاً تحت عنوان ( مأساة أميرة
عربية ) ارتكب فيه أخطاء عظيمة ، وها أنا ذا مترجم مقاله ، فراد عليه بما يجلي
الشبهة ، ويوضح الحقيقة بعد مقدمة وجيزة في بيان سبب كثرة الأخطاء والأغلاط
الجهلية ، والخطيئات العمدية ، التي تكثر جدًّا في كل ما يكتبه الإفرنج عن الإسلام
والمسلمين ، والشرق والشرقيين .
مقدمة في أخطاء المستشرقين وخطاياهم
أيجوز أن نتلقى بالقبول كل ما يكتبون عن الشرق ؟
لهؤلاء العلماء الأوربيين الذين يَتَسَمَّون بالمستشرقين أخطاء ، ولهم خطيئات
أيضًا ، أما أخطاؤهم فمنشؤها القصور ؛ لأن أكثرهم إذا لم يكن كلهم يتعلمون الآداب
والعلوم الشرقية بأنفسهم بمطالعة الكتب ، ويستعينون بتراجم أمثالهم ممن سبقهم ،
فَيُلِمُّون باللغات والعلوم إلمامًا ضعيفًا لا يمكن صاحبه أن يجلس على منصة الحكم
ويقضي بالقسطاس المستقيم ، والكتب وحدها لا تهدي ضالاًّ ، ولا تعلم جاهلاً ، وما
أحسن ما قاله أبو حيان النحوي وإن كان قد أخطأ في إيراده بالتعريض بالإمام ابن
مالك .
يظن الغُمر أن الكتب تهدي ... أخا فهم لإدراك العلوم
ومن يُدري الجهول بأن فيها ... غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى ... تكون أضل من تُوما الحكيم [1]
وقد قيل : لا تأخذ العلم عن صُحُفي ، ولا القرآن عن مصحفي[2] ، فأكثر
المستشرقين صحفيون في العلوم الشرقية ، ولنضرب لذلك مثلاًً ( جورج سايل )
أول من ترجم القرآن إلى الإنكليزية ، وهو أحد الثلاثة الذين شهد لهم العلامة أحمد
بن فارس الشدياق رحمه الله بالمعرفة الحقيقية للغة العربية ، وحكم على سائر
المدعين لمعرفتها على عهده في البلاد البريطانية أنهم لا يعلمون ، ولذلك قرأت شيئًا
من ترجمته ، فوجدت في الجزء الأول من القرآن أربعين غلطة ، وكتبت في ذلك
مقالات نشرتها في مجلة الضياء الهندية في السنة الماضية ( 1352 ) .
ومثال آخر رسائل أبي العلاء المعري ترجمها إلى الإنكليزية عالم إنكليزي
نسيت اسمه ، وطُبعت في أوربة ، طالعتها فوجدتها مشحونة بالأغلاط .
ومثال ثالث ترجمة محمد مار مادويك العالم الأديب الشهير صاحب مجلة
( إسلاميك كلتشر ) أي الثقافة الإسلامية ، وله تصانيف جياد قرأت شيئًا من ترجمته
للقرآن فوجدت فيها أغلاطًا واضحة جدًّا ، وكتبت إليه بشيء منها فاعترف وأجابني
شاكرًا وطالبًا المزيد ، إلا في غلطة منها ؛ فإنه أبى أن يعترف وعمي عليه فهم
الصواب فيها ، وهي في قوله تعالى : { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } ( البقرة : 12 ) ومثيلتها قوله بعد ذلك : { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } ( البقرة : 13 ) ترجمها بما معناه أليسوا سفهاء ... إلخ ، ووضع علامة الاستفهام في
آخر الجملة ، وكذلك صنع بالتي بعدها ، فلم يميز بين ( ألا ) المركبة التي هي
همزة الاستفهام ولا النافية كقوله تعالى : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ } ( الملك : 14 ) ؟ وقول الشاعر :
ألا اصطبار لمن ولت شبيبته ... وآذنت بمشيب بعده هرم
وبين ( ألا ) الاستفتاحية البسيطة كما في الآية ، وفي قول امرئ القيس : ألا
أيها الليل الطويل ألا انجل البيت ، فكتبت إليه جوابًا وضحت له المسألة ، فرجع
إلى الاعتراف وقال : إنني متعجب جدًّا من عدم انتباه الأستاذ الغمراوي لهذه
الأغلاط ، وأنا قد اعتمدت عليه في تصحيح الكتاب ، وأقمت سنتين في مصر بقصد
تنقيحه .
ولو كان الزمان مواتيًا والفرصة سانحة لصححت ترجمته من أولها إلى
آخرها ؛ لأنها أول ترجمة قام بها إنكليزي مسلم وآخرها أيضًا ، وإن لم تسلم من
الأغلاط المعنوية أيضًا ؛ ولكنها على كل حال أفضل من تراجم النصارى .
وأما الخطيئات فيرتكبها ثلاثة أضرب من المستشرقين :
( الضرب الأول ) هم القسيسون المتعصبون كجورج سايل المتقدم ذكره
ومرجليوث وزويمر ومن على شاكلتهم ، والحامل لهم على ارتكابها شدة بغضهم
للإسلام وللشرق كله من أجل الإسلام .
( الضرب الثاني ) السياسيون المستعمرون وغرضهم معروف .
( الثالث ) الأدباء الذين لا يترفعون عن الكذب وزخرف القول ليكتسبوا بذلك
المال الوافر ، والشهرة الواسعة ، وإعجاب القراء الأوربيين الجاهلين ، الذين
يصدقون كل ما يقرؤون عن الشرق والشرقيين .
ولعل ( مستر لويس كراهام ) محرر المقالات الشرقية الأدبية التاريخية في
مجلة ( المصور الأسبوعي ) التي تُنشر باللغة الإنكليزية في مدينة ( بمباي - الهند )
من هذا الضرب الأخير ؛ فإنه كتب مقالاً في المجلة المذكورة بتاريخ … تحت
عنوان ( مأساة أميرة شرقية ) وملأه بالأكاذيب والأخطاء والخطايا ، وستقف على
ذلك فترى كيف يعبث كُتاب أوربة بالحقائق ، ويتحدثون عن التاريخ العربي بما
يشبه قصص ألف ليلة وليلة ، لا فيما ينشر في بلادهم فقط ، بل فيما ينشر في
الشرق الإنكليزي وأكثر المستعمرات وشبه المستعمرات أيضًا ، ونحن عن ذلك
غافلون أو متغافلون .
قبل الشروع في نخل مقال كراهام ، ووضعه على محك النقد يجب عليّ أن
أعترف بأن هنا لك قسمًا رابعًا من المستشرقين هم بريئون من تعمد الخطيئات
ومبرؤون عنها ، وكانوا قبل هذا الزمان قليلاً جدًّا ، فمنهم توماس كارليل وجيبون
وكوثى ، وأما في هذا العصر فهم بحمد الله كثير لا يحصون ؛ ولكن الخاطئين أكثر
منهم بكثير ، بل لا مناسبة بينهم ، فيجب علينا أن نفتح عيوننا ، وننظر ماذا يقال
عن أدبنا وتاريخنا في الصحف والمخيلات ( السينمات ) ودور التمثيل وسائر
الأندية ، ونغبر في وجوه المبطلين اهـ .
قال لويس كراهام :
الجمال في النساء يجلب لمن تحلت به كفلين متساويين من سعادة وشقاء ،
وصحف التاريخ طافحة بالحوادث التي أتاح الحسن فيها للمرأة الثراء والغنى ،
والمكانة ، والنعيم والعذاب .
يظهر أن كل صورة ظهرت ملأى بالنور والغبطة تكون خاتمتها أبدًا ظلمة
وانحطاطًا من شامخ إلى هوة سحيقة .
ليلى بنت الجودي الغساني رئيس القضاة وُهِب لها جمال زاهر يحرق قلوب
الرجال ، ويبعث أهواءهم ، لقد اشتهرت شهرة واسعة بالجمال الفاتن منذ صباها ،
ولم تلبث أن تزوجت بمالك بن نويرة ، وكان مالك صديقًا حميمًا للبطل الإسلامي
العظيم ( خالد بن الوليد ) ولأسباب خارجة عن هذه القصة أتى مالك عملاً جعل
خالدًا لا يثق به ، وساءت العلاقات بينهما جدًّا ، حتى انتهى ذلك إلى أن صار كل
منهما رئيسًا لفرقة معادية للأخرى ، وكلتا الفرقتين تبذل أقصى جهدها للفتك
بالأخرى بحجة شرعية في معتقدها الخاص ، ولم تدم هذه الواقعة طويلاً حتى وقع
البائس مالك بن نويرة هو وحليلته ليلى أسيرين في يد خالد .
والآن قد ألممنا بشيء من وصف ليلى نقول : إنها وهبت قلبها لزوجها ،
وعزمت على أن تبذل كل مرتخص وغالٍ في الدفاع عنه لتربح حياته ، وكانت
النساء إذ ذاك محتجبات ، وكان كشف وجوههن يعد خزيًا وعارًا ، ومع ذلك تزينت
ليلى بحليها ، وأرادت أن تجعل حسنها شفيعًا في زوجها ، فعزمت على أن تقصد
خالدًا تطلب منه الرحمة ، وتظهر أمامه سافرة ، وتضم إلى حسنها شفيعًا آخر وهو
أعذب ما تقدر عليه من الكلام لعله يهب لها حياة مالك .
كانت تلك الليلة ليلة لهو وطرب وسرور ، وانبساط وشرب خمور ، في
معسكر خالد ، والجنود مغتبطون قاعدون حول النار يصطلون ، ويعددون أعمال
ذلك اليوم ( الوقعة ) وبينما هم كذلك إذا بشبح متزمل بعباءة كثيفة يجتازهم حتى
يقف أمام فسطاط خالد ، فما هي إلا همسة يهمسها الشبح للحارس حتى يلج الفسطاط ،
ويرى خالد مضطجعًا على سريره ليستريح ، وكانت ستائر الخيمة من الجوخ
العالي الذي أُخِذَ من الغنائم ، وذلك السرير بعينه جاء من قافلة فارسية ، وكان
الفسطاط مضاء بنور ضئيل ، ورائحة العود تعبق فيه وتزيده روعة وجلالاً ، وما
وقع بصر خالد على الشبح حتى نزع العباءة الضخمة التي كانت تحيط به ،
وظهرت ليلى أمام خالد ، ولم تلبث إلا لحظة حتى جثت على ركبتيها ، وتفجر من
بين شفتيها الجميلتين جدول منحدر من الكلام ، وكأن قلبها في مخالب طائر ،
وأسعدتها عيناها ففاضت بالدموع ، فرأت ابتسامة على شفتي خالد ، واهًا ! لقد
نجحت ! لقد أذاب جمالها قلب القائد الحربي الحديدي ، سُرت ليلى بذلك .
بغتة يكسر صوت خالد ذلك السكون ، وكان صوته غليظًا خشنًا من الغضب ،
ما كادت ليلى تسمع رنين لفظه حتى جحظت عيناها من الرعب ، ولما رأت الرجل
الذي دعاه خالد فزعت منه ، وأرادت أن تجفل ؛ ولكن دمها صار جمدًا حين سمعت
نص الحكم الذي فاه به القائد ، اضرب عنق مالك في الحين ، وادع لي إمامًا يعقد
لي على ليلى الآن .
أما الرعب والفزع الذي وقع لهذه المرأة السالبة للعقول فلا يمكن وصفه ،
فتصور القارئ له خير من أن أصفه له ، فكرت ليلى لحظة وهي في غاية
الاضطراب ، فتحققت أن جمالها هو الذي خذلها وأسلمها ، لقد أنتج عملها ضد
المقصود ، فبدلاً من أن توقظ رحمة خالد أيقظت هواه ، لم يضع شيء من الوقت
ففي الحال أُبْلِغ البائس مالك الحكم ، وما شعرت ليلى وهي لا تزال جاثية ذاهلة أمام
سرير خالد إلا وصوت مالك يرشق قلبها المثقل بالآلام ضغثًا على إبالة ( هذا هو
سر القضية ، ما قتلني إلا أنت ) ، وهكذا صارت ليلى زوجًا لخالد لاعنة جمالها
الذي كان نكبة عليها .
حقًّا لقد كان جمال هذه المرأة مدهشًا ، وناهيك أنه في وقعة عقرباء جالت
جنود خالد جولة ( انهزمت انهزامة قليلة ) فهجم العدو على فسطاط خالد ، وكان
سيدهم ( مجاعة ) قد أسرته خيل خالد من قبل ، فوجدوه مطروحًا هناك موثقًا ،
فأراد هؤلاء البدو المتوحشون أن يقتلوا ليلى ؛ لكن جمالها الفتَّان كان قد سرى في
قلب ( مجاعة ) وعمل عمله ، فدفعهم عنها وأجارها منهم ، وأرادوا أن يفكوا أسره ،
فأبى وفضَّل أن يبقى أسيرًا عند ليلى ليمتع بصره بالنظر إليها حينًا .
واشتهر جمال ليلى وطار صيتها في الآفاق حتى صار الناس يتغنون به في
المدينة ، فهاج هوى عبد الرحمن بن أبي بكر فأخذ يشبب بها ، ويتغنى بحبه لها ،
وما زال هائمًا بها حتى أسعده الحظ بتزوجها فرفعها إلى أعلى مكانة من الإجلال
حتى هجر لأجلها نساءه وخليلاته ( سراريه ) .
لكن ذلك الإجلال والعشق كان فارغًا ؛ لأنه إنما كان يحب الجمال الجسمي ،
ضاربًا عرض الحائط بجمالها النفسي ، كان زواجه غمًّا عليها وحزنًا ، لم تزل
الأميرة البائسة تذكر مالكًا وأيامه السعيدة ، ولما وجدت نفسها في مستوى الحيوان
الأعجم إن هي إلا متعة وملهاة ، انقبضت نفسها ، واستولى عليها الهم ، وغلب
عليها الصمت ، فنحل جسمها ، وذبل جمالها ، فذبل معه حب عبد الرحمن لها .
وفي خاتمة الأمر رجعت إلى بيت أبيها لتقضي بقية أيامها في تفكير هادئ ،
وهكذا كانت عاقبة هذه المرأة العجيبة - كانت حياتها كما ترى حياة شاقة أدت لأجلها
ثمنًا غاليًا حتى على حسنها وجمالها .
* * *
في الفسطاط
صور الكاتبُ داخلَ فسطاط خالد صورة تضاهي غرفة أحد ملوك الهند في
العصر الحاضر ، فهذه النارجيلة الطويلة قائمة منتصبة ، وهذه باطية بلورية مملوءة
خمرًا تحفها الكاسات النفسية ، وهذه المباخر يتصعد في جو الحجرة دخانها ويعبق
طيبها ، وهذه المصابيح الجميلة معلقة يتوقد نورها ، وهذا خالد بن الوليد الذي
اخترعته مخيلة كراهام مرتديًا ثيابًا فاخرة على الزي المصري تخاله أحد العمد
المترفين جالسًا على كرسي مزخرف بديع ، وتحت قدميه الحافيتين كرسي جميل
لوضع القدمين ، وها هي ذي المائدة البهية منصوبة عليها من الفواكه ألوان وأفنان .
وهذه ليلى ابنة الجودي عارية النصف الأعلى من جسمها تقريبًا ، متزينة
بأقراطها وفتخاتها ، وثلاثة أزوج من الأساور ، فزوج في عضدها ، وآخر أسفل
قليلاً من مرفقها ، وثالث في معصمها ، متجردة في سراويل بلا غلالة ولا درع ،
وحجالها في أسفل ساقيها إلى كعبيها ، غادة بيضاء ، وسيمة جيداء ، ملفوفة لفاء ،
هضيمة الخصر عظيمة ما تحته ، طوالة زلحة برهرهة ( ولولا التأدب مع المرحوم
العلامة أحمد بن فارس صاحب الساق على الساق لأسهبت في سرد هذه الأوصاف )
ترى هذه المرأة الفتانة جاثية على ركبة واحدة ، محدقة النظر في وجه خالد العبوس ،
جزوعًا هلوعًا ، مستعطفة مستحرمة بعينيها ، ومنظرها الذي يذيب الجماد ، بله ،
جدول الكلام المنصب المنساب من شفتيها كما قال كراهام مخترع القصة نفسه .
وأما خالد هذا الخيالي فيتصوره الرائي مقطب الوجه إلا أن عينيه لا
تستطيعان أن تخفيا ما سرى في جسمه ونفسه من الهيام بحسن هذه الدمية الجاثية
بين يديه ، وهي كما قال الكاتب ( تراجيدي ) أي مأساة ترق لها قلوب الأسود
الهصر ، والسباع الضارية ، لو كانت حقيقية أو خيالية ، أما وقد أساء مخترعها إلى
القراء بأن جعلها في الدعوى حقيقة تاريخية ، وفي الواقع خرافة خيالية ؛ فإن ذلك
يغض من روعتها ، ويقلل من تأثيرها ، ويشوش تصورها .
فيا ليت شعري أكان كراهام لويس جادًّا أم هازلاً ، جاهلاً أم متجاهلاً ،
مستهزئًا بنفسه أم بالقراء ، أم بالتاريخ أم بالأدب حين أخذ صورة امرأة خليعة من
نساء الفرس الساكنين في بمباي ووضعها بين يدي صورة فلاح غني من ريف
مصر في غرفة راجا هندي مترف ، وقال للناس هذه صورة خالد بن الوليد القائد
العربي ، لا في بيعة بحمص أو دمشق ( فيكون الأمر لولا النارجيلة والخمر قريبًا )
بل في معسكره بالبطاح من أرض بني تميم وهو في سرية متحفز لقتال أهل الردة ؟
لكن هذا الكاتب الظريف أبى له خياله إلا أن يجعل فسطاطه مجلس كسرى أو
قيصر ، وأضاف إليه نارجيلة ، لئلا يحرم من زينة مجالس أولي النعمة والترف من
أهل الشرق الأقصى ، وليس على فكره بمستنكر أن يجمع الأزمنة في زمان واحد ،
والأمكنة المختلفة في مكان واحد ، والأشخاص المتعددين في شخص واحد كما
سيأتي بيانه في تحقيق قصة ليلى ابنة الجودي , لقد أعجبني جدًّا ما قال الأستاذ
معين الدين أحد رفقاء دار المصنفين في رده على هذا الكاتب في مجلة (معارف)
الأوردية ؛ فإنه بعد أن فند ما تكذَّبه الكاتب ، وأدى إليه ما يستحقه من الاحتقار قال
ما ترجمته : تصويره خالدًا وفسطاطه كمن يصور المسيح على طيارة يحوم في جو
باريس ويتفرج على قصورها . اهـ .
(يتبع)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) المنار : اشتهر اسم تُوما الحكيم حتى صار مضرب المثل في الجهل المركب من جهلين ، الجهل بالأمر ، والجهل بهذا الجهل ، إذا قال الشاعر في هجائه :
قال حمار الحكيم توما ... لو أنصف الناس كنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... وصاحبي جاهل مركب .
(2) الصحفي من يأخذ العلوم عن الصحف بدون تلقٍ عن العلماء ، وهو بالتحريك نسبة إلى الصحيفة؛ لأن العرب تنسب إلى المفرد لا إلى الجمع ، والمصحفي من يتلقى القرآن من المصحف لا عن القراء الحفاظ وكل منهما يكون كثير الغلط والخطأ .
(34/535)
 
الكاتب : محمد تقي الدين الهلالي

ربيع الأول - 1354هـ
يوليو - 1935م
مأساة أميرة شرقية
بقلم الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي
نزيل البصرة
( 2 )

ونحن مع احترامنا للنبي المكرم عيسى نقول : قد أجاد الأستاذ في تنظيره
وتمثيله ، ألا يعلم لويس أن شرب الدخان في النارجيلة أو غيرها إنما حدث بعد
اكتشاف كولومبوس أمريكا ، ولم ينتشر إلا في الأزمنة الأخيرة ، بل في هذا الزمان
نفسه لو دخلت مجلس أمير من بني تميم أهل اليمامة لم تر فيها نارجيلة فضلاً عن
الخمر ؛ فهل بلغ به هوان نفسه عليه أن يزعم أن مجالس أمراء أبي بكر وعمر
كانت محتوية على الخمر ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ، فأي رجل من زنوج إفريقية ،
بل قبائل إسكيمو يلقي نظرة إجمالية على التاريخ ويتوهم وجود الخمر في مجالس
أمراء الخلفاء ولم تمضِ على انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى إلا أيام قلائل ولم
يروِ لنا التاريخ شرب الخمر في مجالس الأمراء إلا بعد ذلك بأزمان طويلة ؟
وليس مقصودي أن أبرئ خالدًا من الوجهة الدينية ، أو أدعي له العصمة
الواجبة للأنبياء ؛ لأن الكاتب لم يتصدَّ لهذا الأمر إلا من الوجهة التاريخية والأدبية ؛
ولذلك أحصر ردي عليه فيهما ؛ فهل يستطيع أن ينقل لنا كلمة واحدة من التواريخ
المعتبرة يثبت بها ما افتلعه ؟ هيهات ذلك .
لقد كنا نظن أن مجلاتنا الأدبية لمَّا تصل بعد إلى المستوى الأعلى من التحقيق
في التاريخ والأدب ، وأن كتابنا لا تزال بضائعهم مزجاة في ذلك ، ولكننا بعد ما
رأينا هذا المقال اغتبطنا أيما اغتباط بمجلاتنا وكتابنا . وكنا نظن أن كاتبًا شهيرًا قد
تصدى لكتابة سلسلة مقالات في التاريخ والشرقيين في أشهر المجلات الإنكليزية في
الهند وعرضها على علماء الشرق والغرب يربأ بنفسه أن يرتكب الخلط والخبط
والكذب البحت ، ولكن أبى الله إلا أن يفضح هذا الأديب الكبير ليعلم مطايا الإفرنج
ومقلدوهم أن أدباءهم ليسوا معصومين كما يزعمون من الوهم والغلط والجهل
والكذب ، بل ربما فاقوا غيرهم في ذلك ، وسترى في الرد على مقاله ما يجلو كل
شك ويلاشي كل ريب .
ومن العجيب أن الأديب " كرهام " جعل من خالد خالدَيْنِ ، ولرجل واحد
صورتين ، فالصورة الأولى التي تقدم الكلام عليها تخالف تمامًا صورة خالد التي
نشر تحتها ترجمة خالد بن الوليد وأعماله وسيرته في المجلة نفسها ، في جزء 8
أكتوبر 1933 فخالد الأول مستطيل الوجه مائل إلى الاستدارة ، ذو لحية مقصوصة
قصًّا غير بليغ ؛ وأما الثاني فإن وجهه صغير مخروطي ، وملامحه مخالفة أشد
المخالفة لملامح الأول ، ذو لحية فرنسية مخروطية منهوكة بلا عارضين ، فهكذا
يكون التخبط ، وإلا فلا .
* * *
الرد على مقاله
ومناقشته الحساب
( 1 ) زعم الكاتب الكاذب أن ليلى بنت الجودي الغسانية كانت زوجًا لمالك
بن نويرة ثم تزوجها خالد بن الوليد ثم تعشقها وغنى بحبها عبد الرحمن - يعني ابن
أبي بكر الصديق - ومازال ملحًّا في طلبها إلى أن ظفر بها أخيرًا ، ففتن بها حتى
أعرض عن نسائه وسراريه وجعلها سيدة البيت ، ثم لم يلبث أن هجرها وفارقها
فرجعت إلى بيت والدها بدمشق ، وقضت بقية حياتها فيه ، هذا ملخص قصة ليلى
بزعمه .
أقول : وهذا كذب محض ، وجهل فاضح ؛ فإن ليلى بنت الجودي لم
يتزوج بها مالك بن نويرة ، وكيف يتزوج بها وهو من أهل اليمامة في قلب جزيرة
العرب وكان وثنيًّا مشركًا ، وليلى بنت الجودي نصرانية ، وأبوها أحد رؤساء
النصرانية في دمشق . وامرأة مالك بن نويرة التي تزوجها خالد بعد قتل زوجها
اسمها أم تميم بنت المنهال ، لم يتعشقها عبد الرحمن ، ولم يتغن بحبها ولا تزوجها .
وقد التبس الأمر على هذا الكاتب المسكين لفقره في الأدب الشرقي ، فمزج امرأتين
وعجنهما وجعلهما شيئًا واحدًا لحول في عين بصيرته ، وسيجيء الكلام على
ليلى بنت الجودى في آخر الرد ، إن شاء الله .
( 2 ) زعم أن ليلى زوجة مالك بن نويرة وقعت مع زوجها في أسر خالد ،
وهو كذب أيضًا ؛ إذ لم يذكر أحد من المؤرخين ( فيما نعلم ) أن خيل خالد أخذت
مع مالك زوجته ، والحقيقة - كما في الطبري والكامل وابن خلدون وغيرها - أن
خالد ابن الوليد نزل بالبطاح ، وبث سراياه ، فجاءته الخيل بجماعة من بني يربوع ،
منهم مالك بن نويرة ، فسأل خالد الذين جاءوا بهم : أهم مسلمون فيبقيهم أم
مرتدون فيقتلهم ؟ فاختلفوا فشهد أبو قتادة ونفر أنهم مسلمون ، وأنهم أذَّنوا وصلوا
معهم وشهد آخرون أنهم غير مسلمين فأمر بهم خالد فقتلوا ، ولم يذكر أحد أنه
كانت معهم امرأة ، مع أن الرواة ذكروا كل شيء ، حتى إنهم لم يغفلوا عن ذكر أن
ذلك كان ليلاً ، وأن البرد كان شديدًا .
( 3 ) زعم أن امرأة مالك كانت قد وهبت قلبها لزوجها ، وأزمعت أن تبذل
كل مرتخص وغالٍ في فدية زوجها ، فتزينت بحليها وحللها وذهبت إلى خالد لتشفع
لزوجها ؛ فلما رآها عشقها ، وأصدر أمره بقتل زوجها ، ودعوة إمام لعقد النكاح ،
وخلق لها عباءة كثيفة ، وزعم أن النساء يومئذ كن محتجبات وكان كشف وجوههن
عارًا ، وهذا كله كذب وجهل ، فإن الحجاب لم يكن له وجود في ذلك الزمان حتى
في نساء المسلمين ؛ فكيف بنساء المرتدين ؟ وإنما حدث الحجاب بعد ذلك بزمن
طويل . ( انظر كتابنا : الإسفار في مسألة الحجاب والسفور ) ولم يكن عقد النكاح
يتوقف على إمام المسجد في بلاد العرب في ذلك الزمان ولا في هذا أيضًا ، وإنما
هي عادة من عادات المسلمين في الهند وفي كثير من البلاد الإسلامية ، وليس ذلك
بمشروع في الإسلام ، ويكفي لعقد النكاح أن يشهد شاهدا عدل من المسلمين ، ولكن
أهل البلاد المتحضرة يحضرون القاضي أو نائبه عادة ، وأما خالد فلم يكن له إمام ،
بل هو القائد والإمام كما هي العادة في ذلك الزمان أن يكون الأمير هو الإمام ، ولم
يدخل خالد بامرأته في تلك الليلة ، بل تركها حتى تنقضي عدتها كما في ابن جرير :
مجلد 64 ، ص 192 .
( 4 ) لو فرضنا أن أم تميم ذهبت إلى خالد لتشفع في زوجها لما أمكن أن
يتصور متصور - حتى في هذا الزمن - أن امرأة شريفة زوج أمير تنزين بما
عندها من حلي وحلل وتذهب في الليل البهيم ، فتدخل على رجل أجنبي يملك
ناصيتها ، وتخلو به في خيمته ، لأمور :
( أ ) أن التجمل والتحلي إنما يكون وقت الفرح لا وقت الحزن ، ولا سيما في
ذلك الوقت العصيب حين أحب الأحباب إليها تحت خطر الموت ، ينتظر كلمة
تخرج من بين شفتي القائد تحييه أو تقتله ، فتزينها في ذلك الوقت مما لا يعقله أحد
يعرف عادات العرب وأحوالهم ؛ لأنها لو فعلت ذلك لقضت على نفسها وعلى خالد ؛
إذ الخلوة بالأجنبية - ولا سيما في الليل - فسق موجب للعزل والتعزير ، ولا يمكن
لامرأة عرفت بذلك أن تكون زوجة لسيد من سادات العرب ، بل ولا من أوساطهم
ولا لرجل عرف بذلك أن يكون أميرًا لأبي بكر .
( ب ) أن ( الديمقراطية ) عند العرب كانت في عنفوان شبابها ، ولم يكن
الجنود يخضعون ولا يطيعون الأمير إذا رأوا منه منكرًا ، والدليل موجود في نفس
القصة وهو شيئان :
( الأول ) : أن بعض الجند - وهم الأنصار - اختلفوا مع قائدهم خالد في
التوجه إلى البطاح [1] ، فقال لهم خالد : لا أكره أحدًا منكم ، أما أنا فذاهب ؛ فتخلفوا
عنه وذهب ، ثم بعد ذلك ندموا ولحقوا به .
( الثاني ) : أن أبا قتادة أعلن إنكاره على خالد في قتل مالك وأصحابه ،
حتى ذهب مغاضبًا له إلى المدينة ، واشتكى لأبي بكر الصديق الخليفة ما رأى من
خالد ، واستعان بعمر واجتهدا أن يحملا أبا بكر على عزل خالد فلم يفعل .
( ج ) لو أن أبا قتادة ومن وافقه من الناقمين على خالد ، وفيهم عمر بن
الخطاب الذي كان كالوزير لأبي بكر ، وكان إذ ذاك مجتهدًا في حمل أبي بكر على
عزل خالد ، وبقيت في قلبه حزازة على خالد حتى إنه حين تولى الخلافة عجل
بعزله ، فلو أن قتادة رأى خالدًا قد خلا بامرأة مالك ليلاً قبل عقد النكاح ، بل في
حياة زوجها ، لأخبر بذلك عمر ، وكانت حجته قائمة على فسق خالد ، ثم لشنع
عمر بذلك على خالد ، وألزم أبا بكر عزله ، فلا يجد منه بدًّا .
( 4 ) ربما تكون العادة عند الأوروبيين - قوم الكاتب - أن المرأة إذا أرادت
أن تشفع عند أمير تجملت وتزينت وتغنجت وتدللت لتسبي قلب ذلك الأمير ،
فيقضي حاجتها ، وأما العرب فإن العادة عندهم على خلاف ذلك ، فإن المرأة إذا
ذهبت إلى رجل أجنبي ولم يكن أميرًا تذهب إليه حزينة متبذلة باكية حيية خاشعة ،
وأما المرأة التي تتزين وتتبرج وتذهب للأجانب فهي في نظر العرب بغيّ فاجرة ،
لا تتمكن من الدخول على الأشراف .
( 5 ) زعم " كارهام لويس " أن تلك الليلة كانت ليلة هياط ومياط ، وأكل
وشرب ، وسكْر ورقص ، وخلاعة وبطر ؛ احتفالاً بالنصر والظفر ، وقد زل
حماره في الطين في هذا أيضًا ، ولو أشرف إشرافة على التاريخ الإسلامي أو ألمَّ
إلمامة به ، ولا سيما في أوله لعلم أنه كاذب ، ولخجل من نفسه ( كما يقول الإنكليز )
قبل خجله من الناس . لو كانت الجنود المحمدية يا مستر كراهام تحتفل عند
الانتصار بالأكل والزمر والخمر والعهر ، ما أكلت جنود أسلافكم وسادتكم الذين
استعبدوكم قرونًا - أعني الروم الجبابرة - في ربع قرن أو أقل على قلة
عددهم وعُددهم .
إني أرثي لجهلك يا مستر كراهام ، وأتمنى أن تعلم - ولو قليلاً - سيرة محمد
وأصحابه الأبرار الأطهار . أفتظن أن أصحاب محمد كأصحاب نابليون وكجنودكم
في الوقت الحاضر : كلما انتصروا فزعوا إلى اللهو والفواحش كالدواب ؟ إن
أصحاب محمد كانوا يحيون لياليهم في معسكرهم بالصلاة وتلاوة القرآن اقتداء
بنبيهم ، اقرأ يا كراهام في سورة السجدة من القرآن : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ( السجدة : 16 ) ثم
اقرأ في سورة الفتح : { مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ
السُّجُودِ } ( الفتح : 29 ) ثم اقرأ في سورة الذاريات : { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } (الذاريات : 17 - 19 ) وكذلك كان هدي نبيهم وإمامهم كما وصفه الشاعر بقوله :
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
__________
(*) نشرها (كرهام لويس) المستشرق الإنكليزي في جريدة المصور الأسبوعي للهند ، صور فيها الصحابي خالد بن الوليد القائد الحربي الأعظم في فسطاط كمجالس راجات الهند تدار فيه كؤوس المُدام ، واصطفت نراجيل دخان التبغ ، وصور ليلى بنت جويد متزينة بأحدث أزياء نساء أوربة وحلي الشرق ، تدخل عليه لتشفع لمالك بن نويرة زوجها بزعمه إذ أسرها معه في حرب الردة ، فعشقها ، وأمر بقتله وتزوجها . وقد نشرنا الفصل الأول في ج 7 م 34 .
(1) أرض بني يربوع ، قوم مالك بن نويرة .
(35/82)
 
عودة
أعلى