الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى .. أما بعد : فهذه كلمات موجزة تحكي ليلة في بيت قدوة الأمة e ، لتقتدي به أمته في ليلها ، فقد حاد كثير من المسلمين عن سنة النبي e في كثير من أمور حياتهم ، وقد قال الله تعالى : ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [ ( الأحزاب : 21 ) ، قال ابن كثير – رحمه الله : هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله e في أقواله وأفعاله وأحواله .ا.هـ . فالمسلم الذي يرجو الله واليوم الآخر يقتدي بالنبي e في أقواله وأفعاله وأحواله ، ولا قدوة بدون علم ، فالعلم قبل القول والعمل ، كما يقول العلماء . من هنا كان لا بد للمسلم أن يقف على فعله e في الليل ، فيعلم ليعمل ، ولما كان ما يفعله e في بيته من الغيب النسبي ، أي : الذي لا يعلمه إلا من شاهده ؛ فقد نقل لنا – ولله الحمد - أزواجه ما كان خفيًّا علينا في بيته ، ونقل لنا – أيضًا - بعض صحابته من ذلك ما عايشه مع النبي e . ومن هذا النقل نسوق قصة ليلة في بيت النبي e .. نتأمل عمله فيها .. ونتفاعل مع ذلك ، لنطبقه في حياتنا . والله الكريم أسأل أن يوفقنا للفهم والعمل ، وأن ينفع بهذه الرسالة كل من اطلع عليها .. إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
في الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ e مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ، ثُمَّ رَقَدَ ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ قَعَدَ ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ ، فَقَالَ : ] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ .. ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ ، وَاسْتَنَّ ، فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ؛ ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ .. هذا لفظ البخاري ، ولفظ مسلم : رَقَدْتُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةَ كَانَ النَّبِيُّ e عِنْدَهَا ، لأَنْظُرَ كَيْفَ صَلاَةُ النَّبِيِّ e بِاللَّيْلِ ؛ قَالَ : فَتَحَدَّثَ النَّبِيُّ e مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ، ثُمَّ رَقَدَ .. فساق الحديث ( [1] ) . ففي هذا الحديث بيان لما كان يفعله النبي e في بيته ليلا ، ونجملها في الآتي : 1 – الحديث مع أهله . 2 – النوم إلى ثلث الليل الأخير . 3 – الاستيقاظ . 4 – الوضوء . 5 – الاستنان . 6 – الصلاة . 7 – صلاة سنة الصبح بالبيت ... ثم الذهاب إلى المسجد فصلى الصبح بالناس e . وقول ابن عباس - رضي الله عنهما : ( رَقَدْتُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةَ كَانَ النَّبِيُّ e عِنْدَهَا ) أي : في ليلتها المختصة بها بحسب قسمالنبيeبينالأزواج؛ وأم المؤمنين ميمونة هي بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها ، وهي خالة ابن عباس رضي الله عنهما .
قال ابن عباس - رضي الله عنه : فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ e مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ، ثُمَّ رَقَدَ ، فيه دلالة على حديث الرجل مع زوجته بعد العشاء ، فيُستثنى من كراهة السمر بعد العشاء ، لما فيه من المصلحة من مؤانسة الأهل وحسن العشرة ؛ وما يترتب على ذلك من مصالح عظيمة في بناء الأسر المستقيمة ، فكم من مشكلات في البيوت سببها إهمال الزوج الحديثَ مع أهله ، وتجاهله فوائد هذه المحادثة . وفي ( مصنف ابن أبي شيبة ) عن ابن أبي مليكة أن قومًا من قريش كانوا يسمرون ، فترسل إليهم عائشة – رضي الله عنها : انقلبوا إلى أهليكم ، فإن لهم فيكم نصيبًا ( [1] ) . وهذا يدل على فقهها - رضي الله عنها – فقد استحبت السمر عند الأهل ؛ لما فيه من المؤانسة لهم ، وهو من حسن العشرة .
2 – النوم إلى ثلث الليل الأخير
فائدة ذلك ليأخذ الجسم راحته ، فيقوم نشيطًا على العبادة ؛ ثم كان هذا آخر ما انتهى إليه عمل النبي e ، وهو تأخير الوتر لثلث الليل الأخير ، لفضيلة الوقت ، فإنه وقت التنـزل الإلهي على ما يليق بجلاله وعظمته جل وعلا ، فقد روى مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " يَنْزِلُ رَبُّنَا - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ ، فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، وَمَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ " ( [2] ) . ويدرك في الثلث الأخير من الليل وقت السحر الذي امتدح الله تعالى المستغفرين به ، فقال : ] وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [ [ آل عمران : 17 ] ، وقال : U : ] وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [ [ الذاريات : 18 ] .
3 – الاستيقاظ ثم قراءة الآيات الأخيرة من سورة آل عمران
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ قَعَدَ [ أي قام من النوم ] ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ [ يتفكر في عجائب خلق الله ] ، فَقَالَ : ] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ ؛ وفي رواية للبخاري : فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ، ثُمَّ قَرَأَ الْآيَاتِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ ( آلِ عِمْرَانَ ) حَتَّى خَتَمَ ( [3] ) ؛ وهذه الآيات فيها من عجائب الخلق ، وعظيم آيات الله تعالى ، ما تحار فيه العقول ، وتخضع له القلوب ؛ ولذا قال تعالى : ] لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ أي : لأرباب العقول السليمة . وفي تلاوته e لهذه الآيات بعد استيقاظه ليلا تعليم للأمة عبادة التفكر ، وهي عبادة عظيمة أمر الله تعالى بها في كثير من آيات القرآن ؛ وتخصيص ذلك بالليل لسكونه ، وخلو القلب عن الشواغل ، وظهور آيات السماء التي لا تظهر إلا ليلا ، والعلم عند الله تعالى .
وللحديث صلة . [1]- انظر ( المصنف ) رقم : 6697 .
قوله : ( وَاسْتَنَّ ) ؛ الاستنان : استعمال السواك ، لأن من استعمله يُمِرُّه على أسنانه ؛ وكانت هذه سنته e : يستاك إذا قام من الليل ، ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها - قَالَتْ : كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ ، فَيَتَسَوَّكُ ، وَيَتَوَضَّأُ ، وَيُصَلِّى ( [1] ) ؛ وفي سنن أبى داود عَنْهَا - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ يُوضَعُ لَهُ وَضُوءُهُ وَسِوَاكُهُ ، فَإِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ تَخَلَّى ، ثُمَّ اسْتَاكَ ( [2] ) . وفي مسند أحمد سُئِلَتْ عَائِشَةُ – رضي الله عنها - عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ e بِاللَّيْلِ ؛ فَقَالَتْ : كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَنَامُ ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ - وَعِنْدَهُ وَضُوءُهُ مُغَطًّى وَسِوَاكُهُ - اسْتَاكَ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ، فَقَامَ فَصَلَّى ( [3] ) . وهذا يدل على أنه e كان يستاك قبل الوضوء .
5 – الوضوء
قال ابن عباس – رضي الله عنهما : ( ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ ، وَاسْتَنَّ ) ، وفي رواية : ( فأحسن الوضوء ) ، ولمسلم : ( ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ ، وَلَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ ) ؛ وفي رواية : ( فأسبغ الوضوء ، ولم يمس من الماء إلا قليلا ) . قوله : (بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ ) أي : من غير إسراف ولا تقتير ؛ وهو يدل على أن ما كان بين طرفي الإفراط والتفريط فهو حسن ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه يتوضا مثنى مثنى ، فهو وسط بين الوضوء مرة مرة ، وثلاث ثلاث ؛ وقوله ( فأسبغ الوضوء ، ولم يمس من الماء إلا قليلا ) صفة أخرى لوضوءه e ، أو : بيان للوضوء الحسن ، وفيه إيماء إلى عدم الإسراف في استعمال الماء ؛ وقوله : ( وَلَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ ) أي : أسبغ الماء إلى محاله المفروضة .
6 – الصلاة
قال ابن عباس رضي الله عنهما : فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ؛ وفي رواية عند الشيخين تفصيل لهذه الركعات ، قال : فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَوْتَرَ ؛ ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ ( [4] ) . وفي هذه الرواية ما يفيد أنه e صلى ثلاث عشرة ركعة ؛ وفي صحيح مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ t أَنَّهُ قَالَ : لأَرْمُقَنَّ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ e اللَّيْلَةَ ؛ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا ، ثُمَّ أَوْتَرَ ؛ فَذَلِكَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ( [5] ) . قال ابن حجر – رحمه الله في ( الفتح ) : والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها ، فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها ، ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم ، ولا سيما إن زاد أو نقص ؛ والمحقق من عدد صلاته في تلك الليلة إحدى عشرة ، وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن يكون منها سنة العشاء ، ووافق ذلك رواية أبي جمرة عن ابن عباس بلفظ : ( كانت صلاة النبي e ثلاث عشرة ) يعني بالليل ، ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا ، وبينها يحيى بن الجزار عن ابن عباس عند النسائي بلفظ : ( كان يصلي ثمان ركعات ، ويوتر بثلاث ، ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح ) . انتهى المراد منه ( [6] ) . قال مقيده – عفا الله عنه : القول بأن الركعتين فوق الإحدى عشرة هما ركعتا الفجر موافق لما في صحيح مسلم عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : سَمِعْتُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - تَقُولُ : كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ e مِنَ اللَّيْلِ عَشَرَ رَكَعَاتٍ ، وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ؛ فَتِلْكَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ( [7] ) ؛ وهو عند البخاري بلفظ : كَانَ النَّبِيُّ e يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ؛ مِنْهَا الْوِتْرُ ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ ( [8] ) . والعلم عند الله تعالى .
7 – صلاة سنة الصبح بالبيت
قال ابن عباس – رضي الله عنهما : ( ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ) أي : سنة الصبح ، ( ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ )أي : بالجماعة . صلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد ؛ كانت حياته كلها عبادة لله تعالى ، وأمرنا الله Y أن نقتدي به .. اللهم من كان من أمة محمد على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فردَّه إلى الحق ردًّا جميلا حتى يكون من أهل الحق .. آمين .