ليلة القدر - مقالة نفيسة للدكتور محمد عبد الله دراز - رحمه الله -

إنضم
25/08/2010
المشاركات
32
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
مصر
قال التلميذ لأستاذه : نبئني أيها المربي الفاضل ما سرُّ هذا التكريم البليغ ، وهذه الحفاوة العظمى التي يختص بها شهر رمضان من بين شهور العام ؟
قال المربي : لأنه كما قال الله :( أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ)(البقرة : 185)
قال الطالب : ألم ينزل شيء من القرآن قطُّ في غير رمضان؟
قال المربي : بلى ، في كلِّ الشهور قد نزل قرآن ولكن أول شذرة قرآنية هبط بها جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم كان في شهر رمضان حينما كان محمد صلى الله عليه وسلم يعبد ربّه في غار حراء
فكانت هذه نقطة تحول بين عهدين ، كانت أول قطرة من غيث الرحمة الإلهية التي جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، من الضلالة إلى الهدى ، من الشقوة إلى السعادة ، ثم تتابع الغيثُ في مدى ثلاث وعشرين سنة حتى أكمل الله دينه وأتمَّ نعمته بإتمام هذا الذكر الحكيم
كانت الإيحاءة القرآنية الأولى إذا هي باكورة هذه النعمة العظمى ، وارتبطت ذكراها بتاريخ نزولها ، فكلما جاء رمضان ذكرنا هذه الهداية ، وذكرنا منْ أهداها ، وكان حقًا علينا شكره عليها ، وتجديد ولاءنا له ولها
قال الطالب : وهل استغرقت هذه المنزلة الأولى من الوحي القرآني طوال شهر رمضان الأول؟
قال المربي : كلاّ ، بل كانت في لمحة خاطفة انبثق عنها فجر ليلة من لياليه
قال الطالب : ما بالنا إذاً نحتفل بالشهر كله ؟ ألم يكن بحسبنا أن نحتفل بهذه الليلة الفذّة وحدها ؟
قال المربي : أتحسبُ أن النور الذي انبثق في تلك الليلة كان هكذا شعاعًا ضئيلاً لايضيء إلا قدر وضعه ؟ لقد كان له إشعاع غامر لايسعه الشهر ، بل يفيض على الدهر ، لقد كانت ساعة سعيدة سعدت بجوارها ألف ساعة وكان أقل ما يقضى به واجب الوفاء لربّ هذه النعمة وهو أن نشتغل بشكره في مدى ذلك الشهر
قال الطالب : هذا حسنٌ ، ولكننا سمعنا الله ينوّه في كتابه بذكر شهر رمضان ، فإذا كانت سائر ليالي رمضان إنما نالت هذا الشرف لجوارها تلك الليلة التي نزل فيها القرآن ، ألم تكن هذه الليلة نفسها أحق أن ينوّه الله بها ، مثل ما نوّه بالشهر كله أو أعظمه ؟
قال المربي : زادك الله يابني فقهًا وفهمًا لقد كان الله نوّه في كتابه في شهر رمضان مرة واحدة ، ونوّه بالليلة نفسها مرتين ـ وسمَّاها باسمين كريمين : سمّاها الليلة المباركة فقال (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3))(سورة الدخان)
وسماها "ليلة القدر" ذات القدر والشأن العظيم فقال (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(القدر:1) وأنزل في شأنها هذه السورة الكاملة المسماة باسمها.
قال الطالب: لقد كنت تحدثنا أن رمضان كله ذو شأن قدر ، وأن العمل فيه عظيم الأثر ، مضاعف الأجر ، فإذا كانت كلّ ليالي رمضان ذات قدر فما نرى ، إذاً ليلة التي نزل فيها القرآن مزيد فضل بهذه التسمية على سائر الليالي.
قال المربي : ما أراك يابني إلا قد خذلت الآن ذاكرتك اللغوية
أنسيت الفرق بين أن يكون الشيء ذا قدر ، ذا قدر ما ، وبين أن يكون هو صاحب القدر ، كأنّ ماعداه بالقياس إليه ليس شيئًا مذكوراً؟
قال الطالب : لاتؤخذاني بما نسيت . ولكن هل تأذن لي أن أسأل : إلى أي مدى تصل نسبة هذا الفرق بين قيمة الأعمال في ليلة القدر ، وبين قيمتها في سائر ليالي رمضان؟
قال المربي : سأمثل لك ذلك . ألا تعرف أن مضاعفة قيم الأعمال تكون في العادة بالآحاد أو العشرات أو بالمئات ؟ فهل تقرّ عينًا إذا قلت لك : إن العمل في ليلة القدر يربو على العمل في ثلاثين ألف ليلة غيرها ؟
قال الطالب : ما عهدناك تغلو وتسرف في تقدير الامور ... ثلاثون ألف ليلة ؟ من أين لك هذا ؟
قال المربي : من كتاب الله تعالى ، اقرأ إن شئتَ : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ)
لم يقل من ألف ليلة ، ولكن قال (مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)
قال الطالب : تبارك الذي لاتنفذ – كذا – وأظنُّ أن الصواب (تنفد) –خزائن نعمته.. نبأني إذاً عن هذا الفضل العظيم لايزال في متناول العاملين المخلصين منّا في كل رمضان ؟ أليس ذلك كان خصوصية لليلة المعينة التي نزل فيها القرآن أول مرة ؟
قال المربي : يابني ، إنه لو كان الأمر كما زعمت في شأن هذه الليلة أقول ، لو كانت فضيلتها إنما هي لليلة التي نزل فيها القرآن أول مرة ، إذاً لنتحدث القرآن عنها كما يتحدث عن حادث تاريخي مضى أو انقضى وإذاً لقال إنها كانت خيراً ، وكانت سلامًا ، وإنما تنزلت فيها الملائكة ، ولكنه يتحدث عنها حديثه عن شيء متكرر مستمر ، فيقول : إنها (خَيْرٌ) وإنها (سَلَامٌ) وإنها : (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا)
فهي إذاً باقية ما بقيت على الارض طائفة من الأمة مستمسكة بالحق عالة على ظهور كلمته :( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال : 53)
ولقد علمنا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته رضوان الله عليهم ، كانوا يلتمسونها في رمضان كل عام.
قال الطالب : يلتمسونها ... أليست هي ليلة معينة معروفة في رمضان الأول ، تتكرر في مثل يومها من كل عام ؟ ألسنا متى عرفنا تاريخ النجم الأول من القرآن اتخذناه وقتًا ثابتًا في كل رمضان ؟
قال المربي : إنها ليست دورة فلكية آلية ، إنها منحة ربانية يبارك الله بها الليلة التي يشاء إنزال الملائكة والروح فيها ، وقد كانت ليلة القدر الأولى وهي باكورة الوحي في اليوم السابع عشر منرمضان فيما رواه المحقِّقون من المؤرِّخين واعتمده المحقِّقون منالمفسِّرين،استنباطًا من الآية الكريمة في سورة الأنفال : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَالْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍقَدِيرٌ)(الأنفال : 41) فإن يوم التقاء الجمعين وهو يوم بدر - كان فيالسابع عشر - .
ولكنها تنقَّلت بعد ذلك في زمن النبيصلى الله عليه وسلم وأصحابه أنفسهم فكانت في الحادي والعشرين ، وفي السادس والعشرين ، وفي الخامس والعشرين، وفي السابع والعشرين ، وقد أقسم أبيّ بن كعب – رضي الله عنه – فيما رواه مسلم أنها في السابع والعشرين يريد والله أعلم في عامه ذاك ، ولكن جمهور العلماء أخذوا به على عمومه .. وأنت أرأيتك لو كانت في يوم معين ثابت في كلّ عام ، أكنت تقبل على الله يومها وتعرض عنه في سائر الأيام ؟ فما يضيرك يابني أن تعرّض لنفحاتها بإحياء بضع ليال من أواخر هذا الشهر تكثر فيها ذكرك الله ، وبرّك بخلق الله ؟ إنها يابني فرصة ثمينة بالحرص عليها والسعي إليها ، وما أحسن قول القائل فيها : .. إنها ليلة ذات قدر ، أنزل فيها كتاب ذو قدر ، على نبي ذي قدر ، في أمة ذات قدر : (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5))
(سورة القدر)
كتب الله فيها لنا ولك العافية والأمان والسلام
ا.هـ من كتاب (الصوم تربية وجهاد : 101-108)
 
عودة
أعلى