ليلة القدر - رؤية جديدة

إنضم
09/04/2011
المشاركات
483
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
3483alsh3er.jpg


ليلة القدر


لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ..

والقدر: هو مبلغ الشيء، والقدر: هو الحال والشأن، يقال قدَّر فلان هذا الأمر، أي عرف حالهوشأنه.
وقدَّر الإنسان خالقه أي: عرف عالي شأنه وعظيم جلاله وكماله.. ولكن كيف تكون معرفة الله ورؤية عظمته وجلاله؟. وكيف يقدِّر المخلوق خالقه حق قدره.

أقول: لا يصل الإنسان لهذه الحالة الرفيعة إلاَّ بعد شهوده عظمة الله، ورؤية كماله، فأنا لا أعرف قدرك إلاَّ إذا رأيتك،
أو إذا رأيتك على رأس عملك أو في حال ممارستك لشؤونك، أو إذا رأيت صفاتك التي تشهد لي بعلوِّ قدرك، وتنطق بسموِّ مكانتك وعظيم شأنك..
وكذلك النفس لا توقن بعظمة خالقها إلاَّ إذا شهدت عظمة ذلك المالك العظيم في ملكوته،قائماً بالتربية والإمداد على خلقه،
مفيضاً برَّه وإحسانه على سائر مخلوقاته،غامراً الكون برأفته وواسع رحمته.
فالإنسان بعد أن آمن بربه إيماناً غيبياً، وبعدأن أقرَّ بعظمة الخالق ورحمته إقراراً فكرياً، إذا هو استقام على أمر ربه،
ومَرِن على طاعة الله، فلم يخالفه، ولم يعصه في أمر من أوامره، فلا بدَّ له إذا هو استمرعلى هذا الحال من الاستقامة والطاعة،
وثابر على التقرُّب إلى الخالق بالإحسان إلى المخلوقات كافة؛ من ساعة يشهد فيها كمال الله سبحانه شهوداً نفسياً ولابد له من
حالة تنغمر فيها نفسه بذلك النور الإلهي، فترى عظمة خالقها وموجدها وتعاين حنانه تعالى عليها، وواسع عطفه ورحمته بها وبالمخلوقات جميعها،
وهنالك تعرف قدر ربِّها وتوقن برحمته وعطفه عليها.
وتلك الليلة العظيمة التي يشهد فيها الإنسان هذه المشاهدة النفسية، ويرى هذه الرؤية الذوقية، وتحصل له بها تلك المعرفة الشهودية،تلك الليلة هي ليلة القدر.

ولعظم هذه الليلة جعل الله سبحانه وتعالى لكل نبي ليلة حتى تكون كل الليالي إرهاصاً لمقدم ليلة القدر..


1 ـ لكل نبي من الأنبياء ليلة


فإبراهيم عليه السلام له ليلة: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ...)الأنعام : 76


ولوطاً عليه السلام له ليلة: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)الدخان: 23


والأحقاف وهو اسم المنطقة التي سكنها قوم عاد وهم قوم نبي الله هود عليه السلام كانت له ولهم ليلة:


قال الله تعالى (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) الحاقة : 7


وموسى عليه السلام كانت له ليلة: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {7}
فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {8} يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {9})النمل: 7 ـ 9


(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)القصص:29


ورسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له ليال..فكانت له ليلة الإسراء وليلة النصف من شعبان..


فالليالي كلها كانت إرهاصا وتقديما لليلة مباركة هي ليلة القدر ولعظم شأنها
أنزل الله سبحانه وتعالى فيها كتابه المجيد(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)..(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ..


والليالي التي احتوتها نالها الشرف دونا عن سائر الليالي فأقسم الله سبحانه وتعالى بها فقال(وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ *)
فالليلي العشر هي العشر الأواخر من رمضان على خلاف بأنها العشر الأولى من ذي الحجة ...ولأن الحج عبادة نهارية فلا ينطبق عليها
هذا القول لأن رمضان عبادة ليلية وفيه قيام الليل.. قَالَ تَعَالَى : (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًاوَأَقْوَمُ قِيلًا )المزمل.. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ)..


وَقَالَ : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا )الإنسان: 26.


طوبى لمن سهرت بالليل عيناه……. وبات في قلقٍ في حبِّ مولاه
وقام يرعى نجوم الليل منفـردًا……. شوقًا إليه وعين الله ترعـاه



2 ـ أخفاها الله سبحانه وتعالى مثل ما أخفى قيام الساعة جاء في الآية 15 من سورة طه( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)...
ومثل ما أخفى عز وجل أجل الإنسان..


وفي الأمور الحياتية يخفي المرء عن أهله الشيء الجلل ويكون أعظم ما يكون إذا كان الأمر نفسياً ,رأينا ذلك مع النبي يوسف عليه السلام
حينما اتهمه أخوته كذبا وزورا نلاحظ قوله سبحانه وتعالى: (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ)يوسف: 77
فيوسف عليه السلام أسرّها بمعنى أخفاها لأن الإسرار في حد ذاته إخفاء لهم..


ولو لم يخبرنا الحق بما كان في نفس يوسف عليه السلام ما عرفنا عن ذلك الأمر من شيء..وحدث أمر مثله مع
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة زواجه من السيدة زينب بنت جحش والقصة معروفة ولكن ما يعنيني هنا هو الألم النفسي
الذي عاشه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولولا أن الله عز وجل أخبرنا ما عرفنا عنه شيئاً (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) الأحزاب:37 ..


ومثل ما أخفى الله الشر فوضعه في موضع الخير..وأخفى الخير فوضعه في موضع الشر وفي كل خير..
(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)البقرة: 216.


(فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) النساء: 19.


كذلك أخفى الله سبحانه وتعالى ليلة القدر..

(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم
مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ) سورة القدر.

ولم يقل لنا سبحانه وتعالى في أي شهر..سواء من الشهور العربية أو العبرية أو القبطية أو الشمسية..وعليه ظل الصحابة
رضوان الله تعالى عليهم يترقبونها طول السنة..لأن الله سبحانه وتعالى قال عنها هي ليلة خير من ألف شهر..


في أي شهر هي ليلة القدر ..لم يقل رب العالمين..وظلوا يعبدون الله سبحانه وتعالى باهتمام طول السنة حتى ينالوا ليلة القدر..هبطت همتهم قليلاً..

فأراد الله سبحانه وتعالى تحفيز هممهم مرة أخرى فقال عز من قائل: (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا
مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) سورة الدخان.

فإن ليلةَ القدرِ ليلةٌ كثيرةُ الخيرِ ، شريفةُ القدرِ ، عميمةُ الفضلِ ، متنوِّعةُ البركات . ولعظمها أنزل فيها القرآن العظيم( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) سورة الدخان :4.


فالله تعالى يقدّر فيها الأرزاق والآجال..والعمل فيها له قدرٌ عظيمٌ..وهي ليلة الحكم والفصل..


وعبدوا الله سبحانه وتعالى طول السنة بجدية وإخلاص..ثلاثة عشر سنة..والصحابة يبحثون عن ليلة القدر طول السنة في كل ليلة..
حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدنية وفرض الصيام..


ويوم أن فرض رب العالمين الصيام فرض أيضا الجهاد..وبعد ثلاثة عشر سنة من ترقب ليلة القدر وبعد فرض الجهاد أراد الله سبحانه وتعالى
أن يكافئ المسلمين فقال لهم أول مكافأة لكم على صيامكم وجهادكم أنني أقول لكم:


(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) فبعد ما كانت ليلة القدر يلتمسوها طوال العالم كله أصبح المسلم يجمع بين آيتين..
( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)..( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)..


وقوله سبحانه وتعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)..إذن ليلة القدر في أي شهر؟..


في شهر رمضان..وهذا أمر لم يعرفه الصحابة إلا بعد ثلاثة عشر عاما..


فليلة القدر إذن هي ليلة من ليالي شهر رمضان..

ومع ذلك استصعب المسلمون الأمر فاستكثروا أن يلتمسوها على طول شهر رمضان فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف..

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكفت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا،
وقال: (إنّي رأيت ليلة القدر ثم أُنسيتها ـ أو نسيتها ـ فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، وإنّي رأيت أنّي أسجد في ماء وطين،
فمن كان اعتكف معي فليرجع) ، فرجعنا، وما نرى في السماء قزعة، فجاءت سحابةٌ فمطرت حتى سال سقف المسجد،
وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته.
رواه البخاري (2/62-63) كتاب فضل ليلة القدر باب التماس ليلة القدر رقم (2016).

وبعد أن قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر)..إلا أن الأمر قد شق على المسلمين فراحوا يجتهدون
حتى حصروها في ليلة السابع والعشرين من الشهر الفضيل..والأكثر من هذا أننا وجدنا من راح يحدد الساعة بالتمام..
والصحيح أن ليلة القدر لا أحد يعرف لها يوماً محدداً ، فهي ليلة متنقلة ، فقد تكون في سنة ليلة خمس وعشرين ،
وقد تكون في سنة ليلة إحدى وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة تسع وعشرين ، وقد تكون في سنة ليلة سبع وعشرين ،
ولقد أخفى الله تعالى علمها ، حتى يجتهد الناس في طلبها ، فيكثرون من الصلاة والقيام والدعاء في ليالي العشر من رمضان رجاء إدراكها ،
وهي مثل الساعة المستجابة يوم الجمعة .
وفي الجملة لقد أبهم الله سبحانه وتعالى هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا بالعبادة في ليالي رمضان طمعاً في إدراكها .

ولأن ليلة القدر ليلة عظيمة كانت هي الوعاء الذي يحتوي القرءان الكريم..فالقرءان الكريم لأنه قرءان ذو قدر نزل على قلب نبي ذي قدرلأمة ذات قدر
انزله سبحانه وتعالى في ليله القدر .هذه الليلة بعظمتها تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم.. فالملائكة على امتداد السنة كلها ينزلون بأمر الله جلّ علاه.

 
يقول سبحانه وتعالى:
(وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً )مريم : 64
طوال السنة تتنزل الملائكة بالأمر .والملائكة تتعاقب علينا .على مدي الأربعة وعشرين ساعة بأمر ربهم وكل ملك له وظيفة يؤديها بالأمر..

إنما في ليلة القدر فالوضع مختلف..إذ أن الملائكة تنزل بالإذن..بالإذن وليس بالأمر.. وفرق كبير جدا بين الأمر والإذن مثلا في الجندية
نجدالجندي ينزل أو ينفذ أوامر القائد بالأمر يبعثه مأمورية بالأمر أما لو أن هذاالجندي عنده فرح أو مناسبة سارة فعليه التوجه للقائد
ويأخذ إذن هو عبارة عن تصريح له بالنزول..
وهكذا الملائكة على امتداد العام كله تنزل إلى الأرض بالأمر ولكنها في ليلة القدر تنزل بتصريح من المولى عز وجل تنزل بالإذن..
تطلب الملائكة الإذن من الله لأنها في هذا اليوم العظيم تريد أن تشارك المسلمون كلهم كلهم بلا استثناء في مشارق الأرض ومغاربها
بفرحة الدعاء فالمسلمون يرفعون اكفهم بالدعاء لله سبحانه وتعالى وذلك في تجمع عجيب..
ففي الحج الأكبر كان ختام القرءان الكريم وكانت ليلة الوقوف بعرفة وهي ليلة لا يشهدها إلا القادرون فقط ...
وفي هذا التجمع يباهي الله ملائكته يوم القيامة لأنهم جاءوه سبحانه وتعالى شعثاً غبراً ويرفعون أكفهم بالدعاء فلا يردهم الله جلّ علاه خائبين.
وفي شهر رمضان كان بداية نزول القرءان وكانت ليلة القدر..فيها يرفع مليار مسلم أكفهم بالدعاء فلا يردهم الله خائبين..
فالملائكة تطلب الإذن من الله وعلى رأسهم جبريل بالنزول إلى الأرض ليشهدوا موكب الإيمان والتقوى ففي هذاالموكب العظيم تجد المسلمين
كل على حده يطلب من الله سبحانه حاجته وفي يقينه أن الله سبحانه وتعالى سوف يستجيب ولسوف يستجيب.
وشرط الاستجابة كما قلنا هو الاستقامة..( قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ )يونس : 89
فالاستقامة على أمر الله والتقرب بالعمل الصالح إلى الله، كلاهما الشرطان الأساسيان وإن شئت فقل هما الجناحان اللذان يجعلان
النفس تطير إلى تلك الآفاق العالية وعندها تشهد ما تشهد من كمال الله سبحانه وتتحلى بالفضيلة والمعرفة.
أماالموسم المناسب الذي تتهيأ فيه النفس لتلك الحالة من الرؤية، والفوز بتلك الليلة المباركة، فإنما هو شهر رمضان،
وفي العشر الأواخر منه، تلتمسُ كما أخبر الصادق المصدَّق عليه أفضل الصلاة والسلام، ذلك لأنه يتوفَّر للصائم حينئذٍ ذانك
الشرطان الأساسيان، فالجوع والعطش في رمضان عونٌ على القطيعة بين الإنسان والشيطان،والإنسان قد مَرِنَتْ نفسه طوال
نهارها على هذه القطيعة الميمونة، تجده غير خجل منربه إطلاقاً.
كما أن له من طاعته لله بصيامه سبباً عظيماً وحافزاً قوياً يحفزه على الإقبال على ربّه فإذا وقف عشاءً للصلاة بعد أن تناول يسيراً من الطعام والشراب،
وقف وكله اتجاه وإقبال وطارت نفسه، تحلِّق في ذلك الأفق العالي لا يعوقها عائق، ولايقف بينها وبين خالقها حجاب
وإنك لتجد الصائم بمجرد دخوله في الصلاة لا يلبث أن يرى نفسه مغموراً بفيض من نور الله، شاخصاً ببصيرته إلى الله،
يعبده حق العبادة لأنه يراه ولا يزال يعيد الكرة يوماً فيوماً، وليلة بعد ليلة، حتى إذا أقبل العشرالأواخر من هذا الشهر
وقد صلب عود النفس فتشهد ما يتناسب مع حالها من جماله وجلاله وعظيم صفاته، وترى الكون كله قائماً بإمداده وتسييره،
سابحاً بفضله وإحسانه، مغموراً برحمته وحنانه.. وبشهودالإنسان ذلك الجلال الإلهي والجمال وبرؤيته كمال ربه المتعال، وبتطلُّعه إلى الرحمةالشاملة.
ولذلك العطف والحنان، يمتلئ حباً بذي الجلال والإكرام والعطفوالإحسان.
تلك هي ليلة القدر التي يشهد فيها العبد عظمة ربه، وساميصفاته، ويتنزَّل فيها القرآن على قلبه، تلك هي ليلة القدر
التي زيَّن الله بها شهررمضان، تلك هي الليلة التي يجب أن يفوز بها كل إنسان ومن مات ولم يشهد ليلة القدرفقد أضاع حياته وخسر هذا العمر.
كل فعل له زمان يحدث فيه وله مكان يحدث فيه..
هنا تكلم رب العالمين عن زمان نزول القرءان الكريم فقال إنا أنزلناه في ليلة القدر..وليلة القدر خير من ألف شهر..فأين مكان نزول القرءان الكريم..
كلنا يحسب للقرءان الكريم نزوله في الزمان وننسى المكان..
فالزمان له قدر وعليه يجب أن يكون مكان نزول القرءان الكريم ذي قدر يتناسب مع الزمان والذي هو خير من ألف شهر..
قال سبحانه وتعالى : (لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)الحشر:21..
ولكننا أنزلناه على قلبك يا محمد فتحمل نزول القرءان..
ما هو قلب الني صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟..
انتبه
كلنا نقول ليلة القدر خير من ألف شهر..وننسى مكان نزول القرءان..لا أحد يذكره أبداً..إذا أردت أن تعرف قدر القرءان الكريم فلتعرفه من ناحية الزمان والمكان..
من ناحية الزمان عرفنا نزوله في ليلة القدر..
وأما من ناحية المكان..
فهو قلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..الذي نزل عليه القرءان.. (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ)..
يقول الحق سبحانه وتعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الحشر : 21
فالجبل لا يقوى على تحمل نزول القرءان الكريم فما بالكم بقلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يقول تعالي: ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء :192ـ 195
فالحق جل علاه يقول أن القرءان الكريم نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ على قلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ .. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ..
ولقد عرفنا من السيرة النبوية المطهرة ومن القرءان الكريم قصة ثلاثة جبال..
الجبل الأول أخبرنا الله سبحانه وتعالى عنه ألا وهو جبل الطور ذلك الجبل الذي شرف بتجلي الله جل علاه له ولم يقو على
تحمل النظر إلى وجهه الكريم فاندك ولم يوجد له أثر..نعم هذا الجبل الذي نسمع قصته ولم نر أثره..فقط موضع الجبل معروف..
إنني اسميه الجبل الخاشع..يقول سبحانه وتعالى مادحاً ذلك الجبل:
( وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ
فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ )الأعراف : 143
أما عن الجبل الثاني فهو جبل أحد..ذلك الجبل الذي قال عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) . رواه البخاري ومسلم..
تأملوا في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ..إذن الجبل له مشاعر وعواطف وأحاسيس وهذه كلها مكانها القلب فجبل أحد
له قلب يشعر ويحس ويحب..مثلنا تماماً..
أحد جبل يحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..ويبادله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفس المشاعر.
والجبل الثالث هو جبل حراء..
ولقد شهد جبل حراء لقاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجبريل ولحظة نزول القرءان الكريم..وكان الله به رحيما فلم يشأ أن ينزله عليه
ولو حدث هذا لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ .
إذن الطاقة الاستيعابية لقلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنزول القرءان الكريم أكبر من أن يتحملها الجبل الأشم فالجبل لا يقو على تحمل نزول القرءان.
لذلك أنزل الله جل علاه القرءان الكريم على قلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ..وهذا هو البعد المكاني لنزول القران.
فكيف نزل القرءان الكريم على قلب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَولم يتصدع؟..فتذكروا ليلة القدر من ناحية المكان ومن ناحية
الزمان لتعرفوا شيئاً عن نبيكم عليه الصلاة والسلام..
3 ـ ومثل ما فضل الله سبحانه وتعالى الرسل بعضهم على بعض..ومثل ما فضل بعض الأمكنة على بعض فمكة أم القرى..
أخرج الترمذي بسنده عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "والله، إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله،
ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت".. وفي رواية للترمذي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: "ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك". إن الحرم في مكانين فقط لاثالث لهما؛
أحدهما: مكة، والثاني: المدينة النبويّة، فمكة ليست كأي بلد من البلدان، والمسجد الحرام ليس كأي مسجد من المساجد في كل بقاع الأرض،
فالأماكن تختلف بعضها عن بعض في الفضل، وكذلك الأشخاص (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ) الحج:75.
والله سبحانه وتعالى فضل بعض الأيام على بعض، وبعض الليالي على بعض، وبعض الشهور على بعض، وبعض السنين على بعض،
وبعض القرون على بعض، وبعض الأمم على بعض، كما أنه سبحانه وتعالى فضل بعض النبيين على بعض، وبعض الملائكة على بعض.
فقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى بالتفضيل في عموم مخلوقاته سبحانه وتعالى، فيوم عرفة خير يوم في السنة،
وفضَّل الله تعالى بعض الشهور والأيام على بعض فـ( عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) التوبة: 36،
وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثلاثة متوالية، والرابع شهر رجب الفرد بين جمادى وشعبان وشهر رمضان أفضل الشهوروفضَّل
الأيام بعضها على بعض؛ فَخيرُ يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة.، وقرن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل القرون،
وجرت سنة الله سبحانه وتعالى بهذا التفضيل..كذلك فضل الله سبحانه وتعالى ليلة القدر على سائر الليالي..
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)..
ماذا تعرف يا محمد ويا كل مسلم..ماذا تعرفون عن ليلة القدر؟؟..

لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ
تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ
سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ) سورة القدر
وقوله تعالى( سَلَـٰمٌ هِىَ ) إشارة إلى العناية الإلهية بشمول الرحمة لعباده سبحانه وتعالى المقبلين إليه.
ومن أجمل ما قرأت شعراً

أطلي ليلة القدر

لعبد المعطي الدالاتي


أطلّّي غُرّةَ الدهرِ
أطلي ليلةَ القدرِ
أطلي درّةَ الأيام
مثلَ الكوكب الدرّي
أطلّي في سماء العمر
إشراقاً مع البدرِ
سلامٌ أنتِ في الليل
وحتى مطلعِ الفجرِ
سلامٌ يغمرُ الدنيا
يُغشّي الكونَ بالطهرِ
وينشرُ نفحةَ القرآنِ
والإيمانِ والخيرِ
لأنكِ منتهى أمري
فإني اليوم لا أدري
أفي حلُمٍ..أفي وعيٍ..
أنا! يا حِيرةَ الفكرِ!
فما قيسٌ وما ليلى
وما ذاك الهوى العُذري!
حفظتُ هواكِ في سري،
فباحتْ مهجةُ السرِّ
وصنتُ سناكِ في صدري
فشعّتْ خفقةُ الصدرِ
أداريهِ وأسكبُهُ
بقلبِ زجاجةِ العطرِ
وأصحَبهُ مدى عمري..
وأحملُه إلى قبري
لأنكِ أنت أمنيتي
فرشتُ الحبَّ في قصري
لأجلكِ صُغتُ قافيتي
وصغتُ قصيدةَ العمرِ
أرتّلها وأنشدُها فأرحلُ
في مدى الشعرِ
فمن شطرٍ إلى شطرِ
ومن سطرٍ إلى سطرِ
ويصغي الكونُ في شغفٍ
لقافيةٍ على ثغري
لقافيةٍ ملوّنةٍ
بلونِ خمائلِ الزهرِ
فحرفٌ لونهُ يُغوي ،
وحرفٌ حسنهُ يغري
وليس الفضلُ لي أبداً
فما عندي سوى فقري
وكلّ الفضل والنُعمى
لربٍّ مالكٍ أمري
ومنْ يدري! بما قد رانَ
من وزرٍ على ظهري
فيا رباهُ فارحمني..
فوزري ..آهِ من وزري
لأنكِ أنت أمنيتي..
لأنك ليلة القدرِ
والسُّؤال الأخير عنها: ماذا ينبغي لِمَن صَادَفَها، أو ظَنَّها أن يفعلَ؟
لقد سألتْ أم المؤمنين عائشة السيدة رضي الله عنها هذا السؤال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
فأجَابَهَا بقوله: "قولي: اللهمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ، تُحبُّ العفوَ فاعفُ عني" أخرجه ابن ماجه (3850)، والترمذي (3513)،
وقال: حديث حسن صحيح، ووافَقَه الألباني في السلسلة الصحيحة (3337).
وبتأمُّل هذا الدعاء نجده من جوامع الكلم؛ لأنَّه أوَّلاً تَوَسُّلٌ إلى الله -تعالى- بصفته التي تناسب المطلوب،
وهو "عَفُوٌّ"، وامتداحه بها "تُحِبُّ العَفْوَ"، ثم طلب العفو وهو جامع لخيري الدنيا والآخرة، معافاة البدن منَ الوَجَع،
والدِّين منَ البِدَع، ومَن عُوفِيَ فلْيَحْمَدِ الله، أمَّا في الآخرة فمَن عُوفِيَ من الحساب والعقاب، فقد فاز بِحُسْن المآب.



 
عودة
أعلى