ليلة القدر بيان فضلها وأرجى ليليها

إنضم
02/11/2015
المشاركات
43
مستوى التفاعل
3
النقاط
8
الإقامة
مصر
ليلة القدر
بيان فضلها وأرجى ليليها

كتبــــــــه
أبو عمار محمد بن عبد الستار الفيديميني​
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ . [ سورة القدر ].
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
وبعـــد:
فهذه رسالة في فضل ليلة القدر وبيان أرجى ليليها، قد جمعت فيها ما قيل في ليلة القدر، وما دار حولها من خلاف مع ذكر كل قولٍ بدليله ومناقشته وبيان الراجح من المرجوح في ذلك.
فالله أسأل أن يتقبلها ويجعلها لنا سبب مغفرة ورحمة، وأن يجازي كل من ساهم في إخراجها وكل من قرأها أو دل عليها خير الجزاء.
هذا وإن وفقت فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه براء .
كما أرجو من إخواني تصحيح الخطأ، وسد الخلل، وتقويم الذلة، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، آمين.
تعريف القدر، ولماذا سميت به ليلة القدر
القدر لغة: القَدْرُ والقَدَرُ، هو القضاء والحكم، وهو ما يقدره الله عز وجل من القضاء ويحكم به من الأمور.
والقَدَرُ: كالقَدْرِ، وجَمْعُهما جَمِيعًا أَقْدار.، قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: القَدَرُ الِاسْمُ، والقَدْرُ الْمَصَدْرُ؛ وأَنشد:
كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى أَخِيكَ مَتاعُ ..... وبِقَدْرٍ تَفَرُّقٌ واجْتِماعُ([1]).
ويقع القدر في اللغة بمعنى الشرف والمكانة والشأن يقال: رجل رفيع القَدْر بين قومه([2])، ويأتي بمعنى الغنى واليسار. ([3])
القدر اصطلاحاً : لا يخرج عن المعنى اللغوي لذلك ذهب جماهير أهل العلم إلى أن ليلة القدر سميت بهذا الاسم لأنه يقدر فيها أمر السنة كلها .، فهي ليلة الحكم والتقدير.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ قَالَ: «يُقَدِّرُ اللَّهُ أَمْرَ السَّنَةِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، إِلَّا الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ».([4]) وعنه «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَمْشِي فِي النَّاسِ وَقَدْ رُفِعَ فِي الْأَمْوَاتِ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «يُفْرَقُ فِيهَا أَمْرُ الدُّنْيَا مِنَ السَّنَةِ إِلَى السَّنَةِ»([5]). وعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «يُفَرَقُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ»([6]). وعنه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] قَالَ: «لَيْلَةِ الْحُكْمِ»([7]). وعَنْ قَتَادَةَ, فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] قَالَ:«هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] فِيهَا يُقْضَى مَا يَكُونُ مِنَ السَّنَةِ إِلَى السُّنَّةِ»([8]). وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فِي قَوْلِهِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] قَالَ: «يُدَبَّرُ أَمْرُ السَّنَةِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»([9]). وعن الحسن البصري قال: «إِنَّهَا اللَّيْلَةُ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، فِيهَا يَقْضِي اللَّهُ كُلَّ أَجَلٍ وَأَمَلٍ وَرِزْقٍ إِلَى مِثْلِهَا»([10]).
قال ابن القيم رحمه الله: «وهذا هو الصحيح أن القدر مصدر قدر الشيء يقدره قدرا فهي ليلة الحكم والتقدير وقالت طائفة ليلة القدر ليلة الشرف والعظمة من قولهم لفلان قدر في الناس فإن أراد صاحب هذا القول أن لها قدراً وشرفاً مع ما يكون فيها من التقدير فقد أصاب وإن أراد أن معنى القدر فيها هو الشرف والخطر فقد غلط أن الله سبحانه أخبر أن فيها يفرق أي يفصل الله ويبين ويبرم كل أمر حكيم»([11]).
وقيل: سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً، وثواباً جزيلاً.، وقيل: سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها. وقيل: سميت بذلك لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر. وقيل: لأنه ينزل فيها ملائكة ذوو قدر وخطر. وقيل: لأن الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة. وقال سهل: سميت بذلك لأن الله تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين. وقال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة، كقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: 7] أي ضيق. ([12])
فضل ليلة القدر
قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾([13]).
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) أي القرآن (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقع الخلاف في تحديدها على ما سيأتي بيانه وتفصيله .
وهي الليلة المباركة التي قال الله، عز وجل: ﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾([14]). وهي في شهر رمضان كما قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾([15]). قال ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَكَانَ اللَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوحِيَ مِنْهُ شَيْئًا، أَوْحَاهُ، أَوْ أَنْ يُحْدِثَ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ شَيْئًا أَحْدَثَهُ». وفي رواية:«أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِشْرِينَ سَنَةً»: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]». وفي رواية: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أَنْزَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ فَكَانَ فِيهِ مَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ وَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ». وفي رواية: «وَكَانَ بِمَوْقِعِ النُّجُومِ، وَكَانَ اللَّهُ يُنَزِّلُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْضَهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ، قَالَ: وَقَالُوا: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]». وفي رواية: «ثُمَّ أُرْسِلَ عَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ رِسْلًا فِي الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ». وفي رواية: «فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنْزِلُهُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَيُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا»([16]).
ثم قال الله تعالى معظماً شأن ليلة القدر ومبيناً فضلها، بعد أن ذكر اختصاصها بإنزال القرآن الكريم فيها، فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ).
قال القرطبي: وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل. وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر.اهـ([17])
وعَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَبِسَ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللهِ أَلْفَ شَهْرٍ قَالَ: فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2] يَقُولُ اللَّهُ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفِ شَهْرٍ الَّتِي لَبِسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِيهَا السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَمْ يَضَعْهُ عَنْهُ »([18]).
وعَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ. أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ، مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»([19]).
وَعَنْ مُجَاهِدٍ:«صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ أَلْفِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ , لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ».
وقال أكثر المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
ومن فضل هذه الليلة (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ) والروح قيل: هو جبريل عليه السلام، وقيل: هم صنف من الملائكة، والأول أرجح، وقد ذكر نزول الملائكة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «إِنَّهَا لَيْلَةُ سَابِعَةٍ أَوْ تَاسِعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى»([20]). وفي هذا الحديث دلالة على كثرة الملائكة في تلك الليلة.
وعند ابن أبي حاتم، وابن كثير في أثر عَنْ كَعْبٍ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى عَلَى حَدِّ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ فَهِيَ عَلَى حَدِّ هَوَاءِ الدُّنْيَا وَهَوَاءِ الْآخِرَةِ، عُلُوُّهَا فِي الْجَنَّةِ وَعُرُوقُهَا وَأَغْصَانُهَا مِنْ تَحْتِ الْكُرْسِيِّ، فِيهَا مَلَائِكَةٌ لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَغْصَانِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعِ شَعْرَةٍ مِنْهَا مَلَكٌ وَمَقَامُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَسَطِهَا فَيُنَادِي اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي كل ليلة القدر مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَلَيْسَ فِيهِمْ مَلَكٌ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ للمؤمنين.
فينزلون مع جِبْرِيلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، فَلَا تَبْقَى بُقْعَةٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا وَعَلَيْهَا مَلَكٌ إِمَّا سَاجِدٌ وَإِمَّا قَائِمٌ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَنِيسَةٌ أَوْ بَيْعَةٌ أَوْ بَيْتُ نَارٍ أَوْ وَثَنٍ أَوْ بَعْضُ أَمَاكِنِكُمُ الَّتِي تَطْرَحُونَ فِيهَا الْخَبَثَ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ سَكْرَانٌ أَوْ بَيْتٌ فِيهِ مُسْكِرٌ أَوْ بَيْتٌ فِيهِ وَثَنٌ مَنْصُوبٌ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ جَرَسٌ مُعَلَّقٌ أَوْ مَبْوَلَةٌ أَوْ مَكَانٌ فِيهِ كَسَاحَةِ الْبَيْتِ، فَلَا يَزَالُونَ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَجِبْرِيلُ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا صَافَحَهُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ مَنِ اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ وَرَقَّ قَلْبُهُ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَإِنَّ ذلك من مصافحة جبريل.
وذكر كعب أن مَنْ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بواحدة ونجاه مِنَ النَّارِ بِوَاحِدَةٍ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِوَاحِدَةٍ، فَقُلْنَا لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ يَا أَبَا إِسْحَاقَ صَادِقًا، فَقَالَ كعب الأحبار: وَهَلْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا كُلُّ صَادِقٍ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَتَثْقُلُ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ حَتَّى كَأَنَّهَا عَلَى ظَهْرِهِ جَبَلٌ، فَلَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ هَكَذَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَأَوَّلُ مَنْ يَصْعَدُ جِبْرِيلُ حَتَّى يَكُونَ فِي وَجْهِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى مِنَ الشَّمْسِ فَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَلَهُ جَنَاحَانِ أَخْضَرَانِ لَا يَنْشُرُهُمَا إِلَّا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَتَصِيرُ الشَّمْسُ لَا شُعَاعَ لَهَا ثُمَّ يدعو ملكا مَلَكًا فَيَصْعَدُ فَيَجْتَمِعُ نُورُ الْمَلَائِكَةِ وَنُورُ جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، فَلَا تَزَالُ الشَّمْسُ يَوْمَهَا ذَلِكَ مُتَحَيِّرَةً، فَيُقِيمُ جِبْرِيلُ وَمَنْ مَعَهُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا يَوْمَهَمْ ذَلِكَ فِي دُعَاءٍ وَرَحْمَةٍ واستغفار للمؤمنين والمؤمنات ولمن صام رمضان إيمانا واحتسابا، ودعا لِمَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ إِنْ عَاشَ إِلَى قَابِلٍ صام رمضان لله، فإذا أمسوا دخلوا إلى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَيَجْلِسُونَ حِلَقًا حِلَقًا فَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِمْ مَلَائِكَةُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ رَجُلٍ رَجُلٍ وعن امرأة امرأة، فيحدثونهم حتى يقولوا ما فَعَلَ فُلَانٌ وَكَيْفَ وَجَدْتُمُوهُ الْعَامَ؟
فَيَقُولُونَ: وَجَدْنَا فُلَانًا عَامَ أَوَّلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مُتَعَبِّدًا، وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ مُبْتَدِعًا، وَوَجَدْنَا فُلَانًا مُبْتَدِعًا وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ عَابِدًا، قَالَ: فَيَكُفُّونَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِذَلِكَ وَيَقْبَلُونَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِهَذَا، وَيَقُولُونَ: وَجَدْنَا فُلَانًا وَفُلَانًا يَذْكُرَانِ اللَّهَ وَوَجَدْنَا فُلَانًا رَاكِعًا وَفُلَانًا سَاجِدًا، وَوَجَدْنَاهُ تَالِيًا لِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَهُمْ كَذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَفِي كُلِّ سَمَاءٍ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ حَتَّى يَنْتَهُوا مَكَانَهُمْ مِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى: فَتَقُولُ لَهُمْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، يَا سُكَّانِي حَدِّثُونِي عَنِ النَّاسِ وَسَمُّوهُمْ لِي، فَإِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَإِنِّي أُحِبُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ، فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ لَهَا وَيَحْكُونَ لَهَا الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، ثُمَّ تُقْبِلُ الْجَنَّةُ عَلَى السِّدْرَةِ فَتَقُولُ: أَخْبِرِينِي بِمَا أَخْبَرَكِ سُكَّانُكِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَتُخْبِرُهَا.
قَالَ: فَتَقُولُ الْجَنَّةُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ، اللَّهُمَّ عَجِّلْهُمْ إِلَيَّ فَيَبْلُغُ جِبْرِيلُ مَكَانَهَ قَبْلَهُمْ، فَيُلْهِمُهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: وَجَدْتُ فُلَانًا سَاجِدًا فَاغْفِرْ لَهُ، فَيَغْفِرُ لَهُ، فَيَسْمَعُ جِبْرِيلُ جَمِيعَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيَقُولُونَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ وَمَغْفِرَتُهُ لِفُلَانٍ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُ عَبْدَكَ فُلَانًا الَّذِي وَجَدْتُهُ عَامَ أَوَّلَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَوَجَدْتُهُ الْعَامَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَتَوَلَّى عَمَّا أُمِرَ بِهِ فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ إِنْ تَابَ فَأَعْتَبَنِي قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِثَلَاثِ سَاعَاتٍ غَفَرْتُ لَهُ. فَيَقُولُ جِبْرِيلُ لَكَ الْحَمْدُ إِلَهِي أَنْتَ أَرْحَمُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ بِعِبَادِكَ مِنْ عِبَادِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، قال: فيرتج العرش وما حوله والحجب والسموات وَمِنْ فِيهِنَّ تَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ. قَالَ وَذَكَرَ كَعْبٌ أَنَّهُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ إِذَا أَفْطَرَ بعد رمضان أن لا يَعْصِيَ اللَّهَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا حِسَابٍ »([21]).
ومن فضل هذه الليلة أيضاً أنها كما قال الله تعالى (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي ليلة القدر سلام وخير كلها لا شر فيها. حتى مطلع الفجر أي إلى طلوع الفجر. قال الضحاك: لا يقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة وقيل: أي هي سلام، أي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وكذا قال مجاهد: هي ليلة سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وقال الشعبي: هو تسليم الملائكة على أهل المساجد، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، يمرون على كل مؤمن، ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن.([22])
فضل قيام ليلة القدر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [ رواه الجماعة ]. وفي رواية لمسلم، قال: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَيُوَافِقُهَا - أُرَاهُ قَالَ - إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ».
يعني قاصداً بذلك وجه الله، مخلصاً في ذلك لله -جل وعلا-، لا يبعثه ولا ينهزه على ذلك إلا الإيمان الواقر في قلبه، واحتساب الأجر من الله -جل وعلا-، لا لأمر من الأمور ليترتب على ذلك جواب الشرط «غفر له ما تقدم من ذنبه». قال ابن المنذر : إن هذا عام يرجى أن يغفر له جميع ذنوبه صغائرها وكبائرها.
وعَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ». [ رواه النسائي، أحمد، وصححه الألباني، والأرنؤوط ]. وهو عند ابن ماجه من حديث أنس بإسناد حسن بلفظ: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ».
فمن فاتته هذه الليلة (فقد حرم) أي منع الخير كله، والمراد حرمان الثواب الكامل أو الغفران الشامل الذي يفوز به القائم في إحياء ليلها.
قال الطيبي: اتحد الشرط والجزاء دلالة على فخامة الجزاء أي فقد حرم خيراً لا
يقادر قدره.اهـ، لأنه لا يستطيع أن يحصل عليه في العمر كله؛ لأنه يعتريه النوم والغفلة في كل يوم وليلة، لذلك كان الحرمان من ذلك حرمانًا عظيمًا لا حصر له بلا حدود.
علامات ليلة القدر
عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: قَالَ لِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي «أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي صَبِيحَتِهَا بَيْضَاءَ تَرَقْرَقُ، لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ، كَأَنَّهَا طَسْتٌ». [ رواه الجماعة، غير البخاري وابن ماجه ].
«لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ، كَأَنَّهَا طَسْتٌ» قيل: لأن الملائكة لكثرة اختلافها في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها تستر بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس.
وعَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «نَظَرْتُ إِلَى الْقَمَرِ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَرَأَيْتُهُ كَأَنَّهُ فِلْقُ جَفْنَةٍ». [ رواه النسائي، وأحمد، وصححه الشيخ/أحمد شاكر، والأرنؤوط، وجهالة الصحابي لا تضر وإن كان ذكر في إسنادٍ آخر ضعيف أنه علي].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ ﷺ فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ، وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ؟». [ رواه مسلم ].
«شِقِّ جَفْنَةٍ؟»: الشق هو النصف والجفنة القصعة، قال القاضي: فيه إشارة إلى أنها إنما تكون في أواخر الشهر لأن القمر لا يكون كذلك عند طلوعه إلا في أواخر الشهر.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ، لَا حَارَّةٌ، وَلَا بَارِدَةٌ، تُصْبِحُ شَمْسُهَا صَبِيحَتَهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ». [ رواه الطيالسي، وابن خزيمة، قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات، وصححه الألباني ].
وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي كُنْتُ أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ نُسِّيتُهَا، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَهِيَ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا يَفْضَحُ كَوَاكِبَهَا لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يَخْرُجَ فَجْرُهَا». [ رواه ابن خزيمة ، وابن حبان، وصححه لغيره الألباني، والأرنؤوط].
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ لَا بَرْدَ فِيهَا، ولَا حَرَّ وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ، وَإِنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ». [ رواه أحمد، والطبراني، وابن حبان، وصححه الضياء، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وصححه الألباني، والأرنؤوط].
«بلجة» أي: مسفرة مشرقة نيرة مضيئة.، «ساجية» يقال: سَجا الليل إذا سكن الناس والأصوات فيه.، «مستوية» لا حركة لها، بخلاف ما إذا كان لها شعاع فإنه يخيل لها حركة بحركة الشعاع، والله أعلم.
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فِي وَتْرٍ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُهَا فَنُسِّيتُهَا، هِيَ لَيْلَةُ مَطَرٍ وَرِيحٍ» ، أَوْ قَالَ: «قَطْرٍ وَرِيحٍ».
[ رواه أحمد، والطبراني، قال ابن حجر: رجاله ثقات، وصححه الأرنؤوط].
الاختلاف في ليلة القدر
اختلف الناس في بيان وتحديد ليلة القدر أي الليالي هي على أقوال كثيرة ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ما يزيد على أربعين قولاً، والسبب في اختلافهم هو كثرة الأحاديث الواردة فيها وتضاربها، ونحن إن شاء الله تعالى هنا سنذكر كل قولاً بدليلة ونناقشه ومن ثم نذكر الراجح لدينا من هذه الأقوال، فالله المستعان وعليه التكلان.
القول الأول: أنها رفعت أصلاً :
قال ابن حجر في الفتح (4/ 263 ): حكاه المتولي في التتمة عن الروافض والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية وكأنه خطأ منه والذي حكاه السروجي أنه قول الشيعة .
قال العيني في العمدة ( 9/ 207 ): هذا النقل عن الحنفية غير صحيح.
واحتج هؤلاء بما جاء عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالخَامِسَةِ». [ رواه البخاري، والنسائي، وأحمد ]. والتلاحى: هو التنازع والتخاصم .
فتمسك هؤلاء من هذا الحديث بقوله ﷺ: «فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ». وهذا من فرط جهلهم فإن ما بعده يرده وهو قوله ﷺ: «فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالخَامِسَةِ». فكيف يأمر بالتماسها بعد رفعها، والصحيح الذي عليه اتفاق أهل السنة أنها باقية وأن الذي رفع هو بيان علم عينها .
وعَنْ صَالِحٍ، مَوْلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: زَعَمُوا أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَدْ رُفِعَتْ قَالَ: «كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ». [ رواه عبد الرزاق في مصنفه ورجاله وثقوا ].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُرَيْكٍ قَالَ: رَأَيْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ وَقَامَ الْحَجَّاجُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَذْكُرُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَهَا قَالَ: إِنَّ قَوْمًا يَذْكُرُونَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَجَعَلَ زِرٌّ يُرِيدُ أَنْ يَثِبَ عَلَيْهِ، وَيَحْبِسُهُ النَّاسُ. [ رواه عبد الرزاق في مصنفه بإسنادٍ حسن ].
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا - أَوْ نُسِّيتُهَا - فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي الوَتْرِ». [ رواه الجماعة ]
وفي رواية لمسلم، قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَإِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِهَا، فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَنُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ». يحتقان: أي يطلب كل واحد منهما حقه ويدعي أنه المحق.
وأصرح من ذلك في الرد على أصحاب هذا القول حديث أَبَو ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفِي رَمَضَانَ، أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: «بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ» . قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا فَإِذَا قُبِضَ الْأَنْبِيَاءُ رُفِعَتْ، أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». [ رواه النسائي، وأحمد، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وفيه مرثد بن عبد الله قال الذهبي فيه جهالة، وقال العجلي: تابعي ثقة، وقال ابن حجر: مقبول، والحديث ضعفه الألباني، والأرنؤوط]. وفي رواية لابن أبي شيبة، قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ رُفِعَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ: «بَلْ هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ».

القول الثاني: أنها خاصة بسنة واحدة وقعت في زمن النبي ﷺ :
قال الحافظ في الفتح: حكاه الفاكهي .
وهذا القول مردود بحديث أبي ذر السابق، «بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وأيضاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: «هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ». [ رواه أبو داود ، قال الطحاوي: أصل هذا الحديث موقوف، وضعف المرفوع الألباني وصحح وقفه ].

القول الثالث: أنها خاصة بهذه الأمة ولم تكن في الأمم قبلهم:
قال الحافظ في الفتح: جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله عن الجمهور، وحكاه صاحب العدة من الشافعية ورجحه، قال ابن كثير: وحكى الخطابي عليه الإجماع، ونقله الرافعي جازماً به عن المذهب.
وحجة هؤلاء ما تقدم عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ. أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ، مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ».
والذي دل عليه حديث أبو ذر أنها كانت في الأمم الماضين كما هي في أمتنا.
وقد رد الحافظ ابن حجر هذا القول بأن دليلهم محتمل فلا يدفع التصريح الذي في حديث أبي ذر.

القول الرابع: أنها ممكنة في جميع السنة :
قال الحافظ في الفتح: هو المشهور عن الحنفية وحكي عن جماعة من السلف منهم ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، وغيرهم.
وحجتهم ما جاء عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ: أَنَّهُ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ، يُصِبْهَا». [ رواه الجماعة، غير البخاري، وابن ماجه ]. وأجيب عنه بجواب أبي رضى الله عنه حيث قال: «رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ». وفي رواية: «وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَلَكِنَّهُ عَمَّى عَلَى النَّاسِ لِكَيْلَا يَتَّكِلُوا، وَاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ».
قال الحافظ في الفتح: وزيف المهلب هذا القول وقال لعل صاحبه بناه على دوران الزمان لنقصان الأهلة وهو فاسد لأن ذلك لم يعتبر في صيام رمضان فلا يعتبر في غيره حتى تنقل ليلة القدر عن رمضان .اهـ
قال الشوكاني في النيل ( 4/322 ): وهو مردود – أي هذا القول - بكثير من أحاديث الباب المصرحة باختصاصها برمضان .
ثم إن قول ابن مسعود هذا يخالفه ما صح عنه من أنها ليلة سبعة عشر كما سيأتي.
ويرده أيضاً قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾. وقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾. فنص القرآن ظاهر أن ليلة القدر في رمضان .

القول الخامس: أنها مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه:
قال الحافظ: وهو قول ابن عمر رواه بن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه وروي مرفوعاً عنه أخرجه أبو داود وفي شرح الهداية الجزم به عن أبي حنيفة وقال به بن المنذر والمحاملي وبعض الشافعية ورجحه السبكي في شرح المنهاج وحكاه بن الحاجب رواية.
قلت المرفوع تقدم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: «هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ». [ رواه أبو داود ، قال الطحاوي: أصل هذا الحديث موقوف، وصححه ابن حجر الموقوف، وضعف المرفوع الألباني وصحح وقفه ].
قلت : وهذا القول رواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري .
عَنْ صَالِحٍ، مَوْلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: زَعَمُوا أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَدْ رُفِعَتْ قَالَ: «كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ» قَالَ: قُلْتُ: فَهِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ أَسْتَقْبِلُهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ». [ رواه عبد الرزاق في مصنفه ورجاله وثقوا ].
قال ابن عبد البر في التمهيد ( 2/208 ): وقد ثبت عن أربعة من الصحابة رضي الله عنهم أنها في كل رمضان ولا أعلم لهم مخالفا .اهـ
قلت: قصد بالأربعة أبو ذر في حديثه السابق، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس رواه عبد الرزاق في مصنفه عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ «لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ يَأْتِي».
قلت: وهو ضعيف من رواية داود بن الحصين فيه كلام ثم إنهم اتفقوا على أن روايته عن عكرمة منكرة .
وعلى كل فهذا القول محتمل لأكثر من معنى، قال الطحاوي: قد يحتمل قوله ﷺ «في كل رمضان» هذا المعنى – أي في إحدى ليالي رمضان -, ويحتمل أنها في كل رمضان تكون إلى يوم القيامة.اهـ
وقال العراقي: والحديث محتمل للتأويل بأن يكون معناه أنها تتكرر وتوجد في كل سنة في رمضان .اهـ
ويرد هذا القول أيضاً ما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي وَتْرٍ، يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ».[ رواه بهذا اللفظ البخاري، وأحمد، وغيرهم ].
وقد يجاب عليه بأن هذا الحديث يحتمل أن يكون خاص بتلك السنة.
القول السادس: أنها في ليلة معينة من رمضان مبهمة:
قال الحافظ في الفتح: حكاه السروجي في شرح الهداية عن الصاحبان لأبي حنيفة، وقاله النسفي في منظومته، حكاه بن العربي عن قوم.اهـ
والأحاديث الصحيحة الصريحة التي سنوردها في بقية الأقوال ترد هذا القول .
*****
القول السابع: أنها أول ليلة من رمضان:
قال الحافظ في الفتح: حكي عن أبي رزين العقيلي الصحابي؛ وروى ابن أبي عاصم من حديث أنس قال: «لَيْلَةُ الْقدر أول لَيْلَة من رَمَضَان» قال ابن أبي عاصم: لا نعلم أحدا قال ذلك غيره .اهـ
لم أقف على هذين القولين مسندين.، ولعل صاحب هذا القول تأول ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ:«إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ». [ رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني، والأرنؤوط].

القول الثامن والتاسع: أنها ليلة النصف من رمضان أو شعبان:
قال الحافظ في الفتح: حكاه شيخنا سراج الدين بن الملقن في شرح العمدة والذي رأيت في المفهم للقرطبي حكاية قول أنها ليلة النصف من شعبان وكذا نقله السروجي عن صاحب الطراز فإن كانا محفوظين فهو القول التاسع ثم رأيت في شرح السروجي عن المحيط أنها في النصف الأخير .اهـ
أما صاحب القول الثامن فلم أقف له على دليل ولو احتمالاً، والقول التاسع يحتمل أن يكون أصحابه تأولوا حديث مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يَطْلُعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ». [ رواه ابن حبان، والطبراني، والبيهقي، والدراقطني ]. وعَنْ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ لِأَخِيهِ». [ رواه الدارمي، وابن أبي عاصم، والبزار، والدراقطني ]. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ». [ رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد ].
قلت: ولا تخلوا طرق هذا الحديث من ضعف وقد صححها بمجموعها وشواهدها الألباني، والأرنؤوط .
ثم وقفت على أثر للشجري في أماليه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] ، قَالَ: «فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يُدَبِّرُ اللَّهُ أَمْرَ السَّنَةِ , وَيَنْسَخُ الْأَحْيَاءَ مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَيَكْتُبُ حَاجَّ بَيْتِ اللَّهِ , فَلَا يَزِيدُ فِيهِمْ أَحَدٌ , وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ». والمعلوم أن الذي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة القدر .
وقد أخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم هذا الأثر عن عكرمة وهو صحيح إليه.
وفي الدر المنثور ( 7/401 ): عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ: «تقطع الْآجَال من شعْبَان إِلَى شعْبَان حَتَّى أَن الرجل لينكح ويولد لَهُ وَقد خرج اسْمه فِي الْمَوْتَى».
وعزاه السيوطي لابن زنجويه، والديلمي، ولم أقف على إسناده.، والذي وقفت عليه مرسل ضعيف عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، أن رسول الله ﷺ قال: به . [ رواه ابن سمعون في أماليه، والبيهقي في الشعب ].
وهذا القول لا يصح فيه شيء ، والصحيح ليس بصريح، ويرده قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾. وقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾.
فنص القرآن ظاهر أن ليلة القدر في رمضان .

القول العاشر: أنها ليلة سبع عشرة من رمضان:
قال الحافظ في الفتح: وهو محكي عن زيد بن أرقم وابن مسعود.اهـ قلت: وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين .
أما قول ابن مسعود فعَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:«الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ صَبِيحَةَ يَوْمِ بَدْرٍ {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] وَفِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَفِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا فِي وِتْرٍ». [ رواه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والطبراني، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي ].
وجاء مرفوعاً عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اطْلُبُوهَا لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، وَلَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ»، ثُمَّ سَكَتَ .[ رواه أبو داود، قال ابن حجر فيه مقال، وضعفه الألباني، وصححه الأرنؤوط ].
وقول زيد جاء عَنْ حَوْطٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: «مَا أَشُكُّ وَمَا أمتري أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ، لَيْلَةَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَيَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ». [ رواه ابن أبي شيبة، والطبراني، ورجاله وثقوا، قال الهيثمي: وحوط قال البخاري: حديثه هذا منكر ].
عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَلَا كَإِحْيَائِهِ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَخُصُّ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ فِيهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَفِي صَبِيحَتِهَا فُرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَكَانَ فِيهَا يُصْبِحُ مُبْهَجَ الْوَجْهِ». [ رواه الطبراني، قال الهيثمي: فيه أبو بلال الأشعري، وهو ضعيف].
وهذا القول عن زيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، لم يصح إليهما، وأما قول ابن مسعود على ما ورد عنه موقوفاً أو مرفوعاً، فلم يقع منه على الجزم بأنها ليلة سبع عشرة ، والوارد على الشك «اطْلُبُوهَا لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ، وَلَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ». ثم إنه جاء بلفظ يخالف هذا اللفظ فقال: «تَحَرُّوهَا لِإِحْدَى عَشْرَةَ، تَبْقَى صَبِيحَةَ بَدْرٍ»، وعند الحاكم، بلفظ: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِتِسْعَ عَشْرَةَ صَبِيحَةَ يَوْمِ بَدْرٍ، يَوْمَ الْفُرْقَانِ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ». وصححه، ووافقه الذهبي.
قال العلامة الألباني في شأن المرفوع: هذا إسناد ضعيف؛ علته أبو إسحاق- وهو عمرو بن عبد الله السبيعي-، وهو مدلس؛ وقد عنعنه، وكان قد اختلط؛ فلا ندري أحدث به قبل الاختلاط أم بعده؟
وفيه علة أخرى وهو حكيم بن سفيان الرقي، قال الذهبي في الميزان: قواه ابن حبان. وقال أبو حاتم: صدوق وليس بحجة. وبه أعله المنذري في مختصره فقال: وفيه مقال.اهـ
وقد صح عنه ما يخالف ذلك كما أخرجه البزار عَنْه قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: «كُنْتُ أُعْلِمْتُهَا ثُمَّ انْفَلَتَتْ مِنِّي فَاطْلُبُوهَا فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ أَوْ ثَلَاثٍ يَبْقَيْنَ». قال الهيثمي: رجاله ثقات، وصححه الألباني .

القول الحادي عشر، والثاني عشر: أنها مبهمة في العشر الأوسط، أو ليلة ثمان عشرة:
قال الحافظ في الفتح: حكاه النووي وعزاه الطبري لعثمان بن أبي العاص والحسن البصري وقال به بعض الشافعية .اهـ قال، وقيل: أنها ليلة ثمان عشرة قرأته بخط القطب الحلبي في شرحه وذكره بن الجوزي في مشكله.اهـ قلت: عزاه ابن الجوزي رحمه الله للحسن البصري رحمه الله .
أما الحادي عشر فلعل مستندهم فيه ما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ .... الحديث». [ رواه الجماعة، غير الترمذي، وابن ماجه ]. إلا أن آخر هذا الحديث يرده قال: فَاعْتَكَفَ عَامًا، حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتَكِفِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَالتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ».
أما الثاني عشر فلم أقف على دليل يمكن أن يستدل له به .

القول الثالث عشر: أنها ليلة تسع عشرة :
قال الحافظ في الفتح: رواه عبد الرزاق عن على وعزاه الطبري لزيد بن ثابت وبن مسعود ووصله الطحاوي عن ابن مسعود.اهـ
قلت: أما رواية عبد الرزاق قال: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَتَحَرَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ». [ وهو منقطع الإسناد فإن أبو جعفر الباقر لم يرى جده على، وروايته عن جده الحسين مرسلة ].
وأما ما عزاه الطبري لزيد وابن مسعود فقد تقدم الكلام عليه في القول العاشر، وأنه وقع الاختلاف في لفظه فمرة رواه بلفظ: «لَيْلَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ»، ومرة بلفظ : «لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ».، والكلام عليه كالكلام في القول العاشر فراجعه .

القول الرابع عشر، والخامس عشر: أنها أول ليلة من العشر الأخير:
قال الحافظ في الفتح: إليه مال الشافعي وجزم به جماعة من الشافعية .اهـ، أما القول الخامس عشر، فقال: مثل الذي قبله إلا أنه إن كان الشهر تاماً فهي ليلة العشرين وإن كان ناقصاً فهي ليلة إحدى وعشرين وهكذا في جميع الشهر وهو قول ابن حزم وزعم أنه يجمع بين الإخبار بذلك .اهـ
أما القول الأول فلعل دليلهم حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ العَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي، وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ، وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجَاوِرُ مَعَهُ، وَأَنَّهُ أَقَامَ فِي شَهْرٍ جَاوَرَ فِيهِ اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَأَمَرَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: «كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ العَشْرَ، ثُمَّ قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، فَابْتَغُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَابْتَغُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ»، فَاسْتَهَلَّتِ السَّمَاءُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَأَمْطَرَتْ، فَوَكَفَ المَسْجِدُ فِي مُصَلَّى النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَبَصُرَتْ عَيْنِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِينًا وَمَاءً . [ متفق عليه، تقدم تخريجه ].
عَنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عَلِيًّا قُتِلَ صَبِيحَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فقَامَ حُسْنُ بْنُ عَلِيٍّ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، وَاللَّهِ لَقَدْ قَتَلْتُمُ اللَّيْلَةَ رَجُلًا فِي لَيْلَةٍ نَزَلَ فِيهَا الْقُرْآنُ، وَفِيهَا رُفِعَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَفِيهَا قُتِلَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ».[ رواه البزار، وأبو يعلى، والحاكم وصححه، وهو كما قال ].
ويمكن أن يستدل للقول الثاني كما قال الحافظ بحديث عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ, فَقَالَ: جَلَسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي آخِرِ هَذَا الشَّهْرِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى نَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ؟ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ» وَقَالَ: وَذَلِكَ مَسَاءَ لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَهِيَ إِذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَّلُ ثَمَانٍ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَوَّلِ ثَمَانٍ، وَلَكِنَّهَا أَوَّلُ السَّبْعِ إِنَّ الشَّهْرَ لَا يَتِمُّ». [ رواه أحمد، وابن خزيمة، والطحاوي، وصححه الألباني، والأرنؤوط].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: «التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى».[ رواه البخاري، وأبو داود، وأحمد ].
بالجمع بين هذه الأحاديث الثالثة إن كان الشهر تاماً فهي ليلة العشرين وإن كان ناقصاً فهي ليلة إحدى وعشرين، وعلى كلا القولين فهي أول ليلة من العشر الأواخر فيرجع الثاني إلى الأول . والله أعلم
وأجيب عن هذا القول بأنه لم يحددها بأول العشر الأواخر، أما حديث أبي سعيد الخدري فأجيب عنه بأنه متعلق بتلك السنة لا في كل عام يدل عليه بقية الأحاديث الواردة في ليلة القدر .

القول السادس عشر: أنها ليلة اثنين وعشرين:
وحجة من قال بهذا حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ بَنِي سَلَمَةَ وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ، فَقَالُوا:: مَنْ يَسْأَلُ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَذَلِكَ صَبِيحَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ؟ فَخَرَجْتُ فَوَافَيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ قُمْتُ بِبَابِ بَيْتِهِ، فَمَرَّ بِي فَقَالَ: «ادْخُلْ»، فَدَخَلْتُ فَأُتِيَ بِعَشَائِهِ، فَرَآنِي أَكُفُّ عَنْهُ مِنْ قِلَّتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ: «نَاوِلْنِي نَعْلِي» فَقَامَ وَقُمْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: «كَأَنَّ لَكَ حَاجَةً»، قُلْتُ: أَجَلْ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَهْطٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، يَسْأَلُونَكَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: «كَمِ اللَّيْلَةُ؟» فَقُلْتُ: اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ، قَالَ: «هِيَ اللَّيْلَةُ»، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: «أَوِ الْقَابِلَةُ»، يُرِيدُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ . [ رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، وصححه الألباني، والأرنؤوط].
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: « الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ: إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا، قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ؟ قَالَ: «إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا التَّاسِعَةُ، وَإِذَا مَضَى ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ، فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، وَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ». وفي رواية مسلم، قال: «إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ، فَالَّتِي تَلِيهَا ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَهِيَ التَّاسِعَةُ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ، فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ». [ رواه مسلم، وأبو داود، وأحمد، وصححه الألباني، والأرنؤوط]. قال بدر الدين العيني: وهذا إذا كان الشهر ناقصًا .اهـ، قلت: وجوابه كالسابق .

القول السابع عشر: أنها ليلة ثلاث وعشرين:
وحجة من قال بهذا ما جاء عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: «أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَأَرَانِي صُبْحَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ» قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ . [ رواه مسلم، وأحمد].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ قَالَ: جَلَسْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي مَجْلِسِ جُهَيْنَةَ قَالَ: فِي رَمَضَانَ - قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا يَحْيَى، سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، جَلَسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي آخِرِ هَذَا الشَّهْرِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى نَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ؟ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ» وَقَالَ: وَذَلِكَ مَسَاءَ لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَهِيَ إِذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَّلُ ثَمَانٍ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَوَّلِ ثَمَانٍ، وَلَكِنَّهَا أَوَّلُ السَّبْعِ إِنَّ الشَّهْرَ لَا يَتِمُّ». وفي رواية، قال: «الْتَمِسُوهَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ». [ رواه أحمد، وابن خزيمة، والطحاوي، وصححه الألباني، والأرنؤوط].
وعَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي بَادِيَةً أَكُونُ فِيهَا، وَأَنَا أُصَلِّي فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ، فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ أَنْزِلُهَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: «انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ»، فَقُلْتُ لِابْنِهِ: كَيْفَ كَانَ أَبُوكَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: «كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ، فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِحَاجَةٍ حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ، فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ وَجَدَ دَابَّتَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا فَلَحِقَ بِبَادِيَتِهِ». [ رواه أبو داود، ومالك في الموطأ، وابن خزيمة، والطحاوي، والبيهقي، وصححه الألباني، والأرنؤوط].
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ كَأَنَّهَا لَيْلَةٌ سَابِعَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تُوَاطَأَتْ فِي لَيْلَةِ سَابِعَةٍ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا مِنْكُمْ، فَلْيَتَحَرَّهَا فِي لَيْلَةٍ سَابِعَةٍ»، قَالَ: مَعْمَرٌ: «فَكَانَ أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثِ وَعِشْرِينَ، وَيَمَسُّ طِيبًا». [ رواه عبد الرزاق، وصححه الحافظ ابن حجر ].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُتِيتُ وَأَنَا نَائِمٌ فِي رَمَضَانَ، فَقِيلَ لِي: إِنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، قَالَ: فَقُمْتُ وَأَنَا نَاعِسٌ، فَتَعَلَّقْتُ بِبَعْضِ أَطْنَابِ فُسْطَاطِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، «فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي، فَنَظَرْتُ فِي اللَّيْلَةِ، فَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ». [ رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والطبراني، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وصححه الأرنؤوط].
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ «يَنْضَحُ عَلَى أَهْلِهِ الْمَاءَ لَيْلَةَ ثَلَاثِ وَعِشْرِينَ». [ رواه عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة، وإسناده صحيح ].
وعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّهَا كَانَتْ تُوقِظُ أَهْلَهَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ». [ رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة وهو صحيح ].
وعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ». [ رواه ابن أبي شيبة، وصححه الحافظ ابن حجر ].
عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ بِلَالًا عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: «لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ». [ رواه ابن أبي شيبة، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعنه].
وقال سعيد بن المسيب: «اسْتَقَامَ قَوْلُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ». [ رواه عبد الرزاق وهو حسن الإسناد ].
وعَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ: «كَانَ يَرَاهَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ».[ رواه عبد الرزاق ].

القول الثامن عشر: أنها ليلة أربع وعشرين:
وحجة من قال بهذا ما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ». [ رواه الطيالسي، وحسنه الضياء].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:«أُتِيتُ فِي مَنَامِي فِي رَمَضَانَ وَأَنَا نَائِمٌ، فَقِيلَ لِي: اللَّيْلَةُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، فَاسْتَيْقَظْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي، فَأَخَذْتُ بِطُنْبِ الْفُسْطَاطِ، فَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ صَبِيحَتَهَا، فَإِذَا لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ».[ رواه الطيالسي، وإسناده صحيح].
وعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «التَمِسُوا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ». [ علقه البخاري، ورواه المروزي مرفوعاً].
وعَنْ بِلَالٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ». [ رواه أحمد، والبزار، وحسنه الهيثمي، وفيه ابن لهيعة سيء الحفظ، ضعفه الأرنؤوط ].
عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ». [ رواه أحمد، وابن أبي حاتم، والطبراني، قال الهيثمي: فيه عمران بن داود القطان، ضعفه يحيى، ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث. وبقية رجاله ثقات.، قلت له شاهد من حديث جابر عند أبي يعلى ].
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: «نَزَلَتِ الْكُتُبُ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ». [ رواه ابن أبي شيبة ].
عَنْ أَبِي الْجَلْدِ، قَالَ: «نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَنَزَلَ الزَّبُورُ فِي سِتٍّ، وَالْإِنْجِيلُ فِي ثَمَانِ عَشْرَةَ، وَالْقُرْآنُ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ». [ رواه ابن أبي شيبة ].

القول التاسع عشر: أنها ليلة خمس وعشرين:
قال الحافظ في الفتح : حكاه بن العربي في العارضة وعزاه بن الجوزي في المشكل لأبي بكرة .اهـ
ولعل مستند هؤلاء ما جاء عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَكَرْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ أَبِي بَكْرَةَ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِطَالِبِهَا إِلَّا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بَعْدَ حَدِيثٍ سَمِعَتْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَإِنِّي سَمِعَتْهُ يَقُولُ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي تِسْعٍ بَقِينَ، أَوْ فِي سَبْعٍ بَقِينَ، أَوْ فِي خَمْسٍ بَقِينَ، أَوْ فِي ثَلَاثٍ بَقِينَ، أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ» ، فَكَانَ لَا يُصَلِّي فِي الْعِشْرِينَ إِلَّا كَصَلَاتِهِ فِي سَائِرِ السَّنَةِ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ اجْتَهَدَ. [ رواه الترمذي، والنسائي، وأحمد، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني، والأرنؤوط].
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالخَامِسَةِ». [ رواه البخاري، والنسائي، وأحمد]. وهذا في العشر الأواخر كما يوضحه حديث أنس .
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: «إِنِّي أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي رَمَضَانَ». حَتَّى تَلَاحَى رَجُلَانِ فَرُفِعَتْ. «فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ». [ رواه مالك في الموطأ، والشافعي في السنن، وأحمد، والنسائي، وصححه الأرنؤوط على شرط مسلم ].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، وَفِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، وَفِي خَامِسَةٍ تَبْقَى». [ رواه البخاري، وأبو داود، وأحمد ].
قال العيني شرح أبي داود ( 5/268 ): وخامسة تبقى هي ليلة خمس وعشرين.اهـ قلت: ونقله ابن عبد البر في التمهيد عن الإمام مالك .
قال ابن الملقن رحمه الله في التوضيح ( 13/602 ): هذا « على طريقة العرب في التأريخ إذا جاوزوا نصف الشهر، إنما يؤرخون بالباقي لا بالماضي؛ ولهذا المعنى عدُّوا «تاسعة تبقى» ليلة إحدى وعشرين، ولم يعدوها ليلة تسع وعشرين، وعدوا «سابعة تبقى» ليلة ثلاث وعشرين، ولم يعدوها ليلة سبع وعشرين لما لم يأخذوا العدد من أول العشر. وإنما كان يكون ذَلِكَ لو قال ﷺ في تاسعة تمضي، ولما قال ﷺ: «التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» وكان كلامًا مجملًا يحتمل معاني، وخشي ﷺ التباس معناه على أمته بيَّن الوجه المراد به، فقال: «في تاسعة تبقى، وفي سابعة تبقى، وفي خامسة تبقى» ليزول الإشكال في ذَلِكَ».اهـ

القول العشرون: أنها ليلة ست وعشرين:
قال الحافظ في الفتح : وهو قول لم أره صريحاً إلا أن عياضاً قال ما من ليلة من ليالي العشر الأخير إلا وقد قيل إنها فيه.اهـ
ويمكن أن يستدل لهذا القول بحديث أبي سعيد السابق قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: « الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ: إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا، قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ؟ قَالَ: «إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا التَّاسِعَةُ، وَإِذَا مَضَى ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ، فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، وَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ».
وحديث ابن عباس في القول السابق «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، وَفِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، وَفِي خَامِسَةٍ تَبْقَى».
قال ابن بطال ( 4/156 ): وإنما يصح معناه وتوافق ليلة القدر وترًا من الليالى على ما ذكر في الحديث إذا كان الشهر ناقصًا، فأما إن كان كاملاً فإنها لا تكون إلا في شفع فتكون التاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين، والخامسة الباقية ليلة ست وعشرين، والسابعة الباقية ليلة أربع وعشرين .اهـ

القول الحادي والعشرون: أنها ليلة سبع وعشرين:
قال الحافظ في الفتح : هو الجادة من مذهب أحمد ورواية عن أبي حنيفة وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه، وحكاه صاحب الحلية من الشافعية عن أكثر العلماء، وقال صاحب الكافي من الحنفية وكذا المحيط من قال لزوجته أنت طالق ليلة القدر طلقت ليلة سبع وعشرين لأن العامة تعتقد أنها ليلة القدر.اهـ مختصرا
وحجة هؤلاء عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، يَقُولُ: وَقِيلَ لَهُ إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: «مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ»، فَقَالَ أُبَيٌّ: «وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ، يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي، وَوَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا». [ تقدم تخريجه، رواه مسلم، وغيره ].
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» ، وَقَالَ: «تَحَرَّوْهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ . [ رواه أحمد، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال الأرنؤوط: صحيح على شرط الشيخين ]. وفي رواية لمسلم، قَالَ: رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا».
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ». [ رواه أبو داود، والطحاوي، وابن حبان، والطبراني، وصححه الألباني، والأرنؤوط على شرط الشيخين ].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ، وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ؟». [ رواه مسلم ]. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْفَارِسِيُّ: أَيْ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَإِنَّ الْقَمَرَ يَطْلُعُ فِيهَا بِتِلْكَ الصّفة .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ». [ رواه الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات ].
وعَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يَذْكُرُ الصَّهْبَاوَاتِ؟» فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَنَا بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ وَذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ . [ رواه أحمد لم يصرح بأنها ليلة سبع وعشرين، وإنما التصريح عن أبي يعلى، والطبراني، وإسناده منقطع أبي عبيدة لم يسمع من أبيه ].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ فَأَجْمَعُوَا أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لِعُمَرَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ، أَوْ إِنِّي لَأَظُنُّ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ؟»، قَالَ عُمَرُ: وَأَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ؟ فَقُلْتُ:«سَابِعَةٌ تَمْضِي، أَوْ سَابِعَةٌ تَبْقَى مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ»، فَقَالَ عُمَرُ: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، وَسَبْعَ أَرَضِينَ، وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنَّ الدَّهْرَ يَدُورُ فِي سَبْعٍ، وَخَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ مِنْ سَبْعٍ، وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ، وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْعٍ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ سَبْعٌ، وَرَمِيُ الْجِمَارِ سَبْعٌ، لِأَشْيَاءَ ذَكَرَهَا»، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ فَطِنْتَ لِأَمْرٍ مَا فَطِنَّا لَهُ. [ رواه ابن خزيمة، وعبد الرزاق، والطبراني، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، ورجاله ثقات ]. قال ابن عبد البر: في هذا الخبر أن عمر سأل من حضره يومئذ من الصحابة وكانوا جماعة .
قال الحافظ في الفتح: زعم ابن قدامة أن ابن عباس استنبط ذلك من عدد كلمات السورة وقد وافق قوله فيها هي سابع كلمة بعد العشرين، وهذا نقله بن حزم عن بعض المالكية وبالغ في إنكاره، ونقله بن عطية في تفسيره وقال إنه من ملح التفاسير وليس من متين العلم، واستنبط بعضهم ذلك في جهة أخرى فقال ليلة القدر تسعة أحرف وقد أعيدت في السورة ثلاث مرات فذلك سبع وعشرون.اهـ
وعَنْ قَنَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّهْمِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ زِرًّا عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: «كَانَ عُمَرُ، وَحُذَيْفَةُ، وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَا يَشُكُّونَ أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ تَبْقَى ثَلَاثٌ». قَالَ زِرٌّ: «فَوَاصَلَهَا». [ رواه ابن أبي شيبة، وإسناده حسن ].
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، وَزِرًّا، يَقُولَانِ: «لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَإِذَا كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ وَلْيُفْطِرْ عَلَى لَبَنٍ، وَلْيُؤَخِّرْ فِطْرَهُ إِلَى السَّحَرِ».[ رواه ابن أبي شيبة، وإسناده حسن ].

القول الثاني والعشرون: أنها ليلة ثمان وعشرين:
قال الحافظ في الفتح : وقد تقدم توجيهه قبل .اهـ والكلام عليه كالكلام في القول العشرين فراجعه .
القول الثالث والعشرون: أنها ليلة تسع وعشرين:
قال الحافظ في الفتح : حكاه ابن العربي .اهـ
وتوجيهه والاستدلال له بما جاء عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:«هِيَ فِي رَمَضَانَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ؛ فَإِنَّهَا وِتْرٌ: فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ، أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ، فَمَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ». [ رواه أحمد، والشاشي، والطبراني، قال الهيثمي: فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه كلام، وقد وثق، وحسنه العراقي، والألباني، والأرنؤوط، وأصل الحديث في الصحيحين، وله شواهد ].
وحديث أَبِي بَكْرَةَ، السابق قَالَ: رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فِي تِسْعٍ بَقِينَ، أَوْ فِي سَبْعٍ بَقِينَ، أَوْ فِي خَمْسٍ بَقِينَ، أَوْ فِي ثَلَاثٍ بَقِينَ، أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ».
فعلى هذا إن كان الحساب من آخر الشهر تكون آخر ليلة هي تسع وعشرون ، فإن تسع بقين ليلة واحد وعشرين، وثلاث بقين ليلة سبع وعشرين، فتكون آخر ليلة تسع وعشرين، هذا إذا كان الشهر تاماً، وإذا كان المراد بآخر ليلة هي الأخيرة من الشهر فإن كان الشهر غير تاماً كانت تسع وعشرين، والله أعلم .
القول الرابع والعشرون: أنها ليلة ثلاثين :
قال الحافظ في الفتح : حكاه عياض والسروجي في شرح الهداية ورواه محمد بن نصر والطبري عن معاوية ، وأحمد من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة .اهـ
قلت: أما ما حكاه القاضي عياض والسروجي فقالا أنها آخر ليلة، وكونها ليلة ثلاثين يقع على تمام الشهر.، قال العراقي في طرح التثريب: ويتداخل هذا القول مع الذي قبله إذا كان الشهر ناقصا، ولم أر قائلا بذلك كما تقدم وإذا عددناه قولا كان.اهـ
ويستدل لهذا القول بالحديثين السالفين في القول قبله، أعنى حديث أبي بكرة، وعبادة رضي الله عنهما .
وحديث معاوية عند المروزي، وابن خزيمة بإسنادٍ صححه الألباني، عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ».
والذي وقفت عليه عند أحمد من طريق أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ، لَمْ تُعْطَهَا أُمَّةٌ قَبْلَهُمْ: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِّنُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ الْمَئُونَةَ وَالْأَذَى وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ، وَيُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فَلَا يَخْلُصُوا فِيهِ إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، وَيُغْفَرُ لَهُمْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ». [ رواه أحمد، والحارث، والمروزي، وفيه هشام بن أبي هشام متفق على ضعفه، والحديث ضعفه الهيثمي، والأرنؤوط].
ولا أدري وجه استدلال الحافظ بهذا الحديث، هل هو قوله: «وَيُغْفَرُ لَهُمْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ»، أم هو وهم منه رحمه الله فجل من لا يسهو، وإن كان أخر الحديث يرد هذا الاستدلال، وهو: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ».
ثم إن هذا الحديث ضعيف لا يصح للاستدلال بالإثبات أو النفي، والله أعلم .

القول الخامس والسادس والعشرون: أنها في أوتار العشر الأخير:
قال الحافظ في الفتح: وهو أرجح الأقوال وصار إليه أبو ثور والمزني وابن خزيمة وجماعة من علماء المذاهب .اهـ، وقال العراقي في الطرح: حكاه القاضي عياض وغيره ونص عليه أحمد بن حنبل .اهـ
السادس والعشرون :
مثله بزيادة الليلة الأخيرة وحجة ما سيأتي من حديث أبي بكرة ، وعبادة بن الصامت .
وحجة هؤلاء ما جاء عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ». [ رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد ].
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا».[ رواه مسلم ].
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا - أَوْ نُسِّيتُهَا - فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي الوَتْرِ». [ صحيح تقدم تخريجه ].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، وَفِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، وَفِي خَامِسَةٍ تَبْقَى». [ صحيح تقدم تخريجه ].
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، يَقُولُ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى أَوْ سَابِعَةٍ تَبْقَى أَوْ خَامِسَةٍ تَبْقَى أَوْ ثَالِثَةٍ تَبْقَى أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ». [ صحيح تقدم تخريجه ].
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«فِي رَمَضَانَ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَإِنَّهَا فِي وَتْرٍ: فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ، أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ».[ صحيح تقدم تخريجه ]. وفي رواية:«فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فِي وَتْرٍ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُهَا فَنُسِّيتُهَا، هِيَ لَيْلَةُ مَطَرٍ وَرِيحٍ».[ رواه أحمد، وصححه الأرنؤوط].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ وَقَدْ بُيِّنَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ ومَسِيحُ الضَّلَالَةِ، فَكَانَ تَلَاحٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بِسُدَّةِ الْمَسْجِدِ، فَأَتَيْتُهُمَا لِأَحْجِزَ بَيْنَهُمَا، فَأُنْسِيتُهُمَا، وَسَأَشْدُو لَكُمْ مِنْهُمَا شَدْوًا: أَمَّا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وِتْرًا ...». [ رواه أحمد، وحسنه الأرنؤوط].
وعَنْ عُمَرَ، قَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «اطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وِتْرًا».[ رواه أحمد، وأبو يعلى، وابن خزيمة، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه الأرنؤوط].
وهذا القول رغم كثرة أدلته إلا أنه يتعارض مع ما جاء في أنها تقع في ليالي الأشفاع، كحديث ابن عباس أنها ليلة أربع وعشرين، وحديث عبادة في آخر ليلة، وأحاديث البواقي فإن كان الشهر كاملاً فإنها لا تكون إلا في شفع فتكون التاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين، والخامسة الباقية ليلة ست وعشرين، والسابعة الباقية ليلة أربع وعشرين، كما ذكره ابن بطال وغيره من العلماء، وكما ورد ذلك وصح عن أبي سعيد .

القول السابع والعشرون: أنها تنتقل في العشر الأواخر كلها:
قال الحافظ في الفتح: قاله أبو قلابة ونص عليه مالك والثوري وأحمد وإسحاق وزعم الماوردي أنه متفق عليه وكأنه أخذه من حديث بن عباس أن الصحابة اتفقوا على أنها في العشر الأخير ثم اختلفوا في تعيينها منه واختلف القائلون به فمنهم من قال هي فيه محتملة على حد سواء نقله الرافعي عن مالك وضعفه بن الحاجب ومنهم من قال بعض لياليه أرجى من بعض فقال الشافعي أرجاه ليلة إحدى وعشرين وهو القول الثامن والعشرون وقيل أرجاه ليلة ثلاث وعشرين وهو القول التاسع والعشرون وقيل أرجاه ليلة سبع وعشرين وهو القول الثلاثون.اهـ
والقول بأنها تنتقل في العشر الأواخر رجحه ابن عبد البر، وابن العربي، والقاضي عياض ونقله عن مالك والثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبى ثور وغيرهم، قال العراقي : وعزاه ابن عبد البر في الاستذكار للشافعي ولا نعرفه عنه ولكن قال به من أصحابه المزني وابن خزيمة وهو المختار عند النووي وغيره واستحسنه الشيخ تقي الدين للجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك فإنها اختلفت اختلافاً لا يمكن معه الجمع بينها إلا بذلك.اهـ ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم .
قلت: والقول بأنها تنتقل في العشر الأواخر هو الراجح عندي جمعاً بين الأدلة، وسيأتي تقرير ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى .
وحجة من قال بهذا القول عموم حديث عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُجَاوِرُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَقُولُ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ». [ رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد ].
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ». [ رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والطيالسي، والطبراني، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وصححه الأرنؤوط].
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ». [ رواه مسلم، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة ].
وحديث أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، يَقُولُ: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، لِتِسْعٍ بَقَيْنَ، أَوْ لِسَبْعٍ بَقَيْنَ، أَوْ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ لِآخِرِ لَيْلَةٍ». [ صحيح تقدم تخريجه ]. وهذا الحديث يحتمل وقوعها في الوتر والشفع من العشر، وذلك بحسب تمام الشهر ونقصانه .

القول الحادي والثلاثون: أنها تنتقل في السبع الأواخر:
قال الحافظ في الفتح: وقد تقدم بيان المراد منه في حديث ابن عمر هل المراد ليالي السبع من آخر الشهر أو آخر سبعة تعد من الشهر ويخرج من ذلك القول الثاني والثلاثون والقول الثالث والثلاثون أنها تنتقل في النصف الأخير ذكره صاحب المحيط عن أبي يوسف ومحمد وحكاه إمام الحرمين عن صاحب التقريب.اهـ
وحديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ». [ رواه بهذا اللفظ مسلم، وأبو داود، والنسائي، وأحمد، ومالك في الموطأ]. وفي رواية أخرى، : أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، وَأَنَّ أُنَاسًا أُرُوا أَنَّهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ». وفي لفظ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ». [ رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وأحمد ].
أما قول الحافظ وقد تقدم بيان المراد منه، فإنه قال في الحديث: «الظاهر أن المراد به أو اخر الشهر وقيل المراد به السبع إلى أولها ليلة الثاني والعشرين وآخرها ليلة الثامن والعشرين فعلى الأول لا تدخل ليلة إحدى وعشرين ولا ثلاث وعشرين وعلى الثاني تدخل الثانية فقط ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين وقد رواه المصنف في التعبير من طريق الزهري عن سالم عن أبيه إن ناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر وإن ناسا أروا أنها في العشر الأواخر فقال النبي ﷺ التمسوها في السبع الأواخر وكأنه ﷺ نظر إلى المتفق عليه من الروايتين فأمر به».اهـ
ويستدل أيضاً لهذا القول بحديث أبي ذر، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفِي كُلِّ رَمَضَانَ هِي؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: أَفَتَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا رُفِعُوا رُفِعَتْ أَوْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «لَا بَلْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَحَدَّثَ فَاهْتَبَلْتُ غَفْلَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي فِي أَيِّ رَمَضَانَ هِي؟ قَالَ: «فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَحَدَّثَ فَاهْتَبَلْتُ غَفْلَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، فِي أَيِّ الْعِشْرِينَ هِي؟ قَالَ: «فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَحَدَّثَ فَاهْتَبَلْتُ غَفْلَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا أَخْبَرْتِنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِي فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ عَلَيَّ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ثُمَّ قَالَ: «فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا». [ رواه النسائي، وأحمد، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وفيه مرثد بن عبد الله قال الذهبي فيه جهالة، وقال العجلي: تابعي ثقة، وقال ابن حجر: مقبول، والحديث ضعفه الألباني، والأرنؤوط، قلت: ذكره ابن حبان في الثقات وصحح الحاكم حديثه فالحديث حسن إن شاء الله وقد احتج به الحافظ ابن حجر القول بخصوصية الأمة بليلة القدر بهذا الحديث].
وهذا القول يتعارض مع حديث أبي سعيد بأنها ليلة إحدى وعشرين، وحديث عبادة «هِيَ فِي رَمَضَانَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ؛ فَإِنَّهَا وِتْرٌ: فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ، ... الحديث».
والجمع بين الدليلين أن يقال إن ذلك كان في سنة من السنين وأنهم لم تواطأت رؤياهم على السبع أمرهم بالتماسها في السبع الأواخر من تلك السنة، والله أعلم .

القول الرابع والثلاثون: أنها ليلة ست عشرة أو سبع عشرة:
قال الحافظ في الفتح: رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث عبد الله بن الزبير.اهـ
عَنِ جَعْفَرِ بْنُ بُرْقَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا، مِنْ قُرَيْشٍ يَقُولُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي يَوْمِهَا أَهْلَ بَدْرٍ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ التَّقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] قَالَ جَعْفَرٌ: بَلَغَنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سِتَّ عَشْرَةَ أَوْ سَبْعَ عَشْرَةَ . [ رواه الحارث في مسنده، وذكره الحافظ في المطالب العالية، وهو ضعيف لإبهام الرجل من قريش ].
وهذا القول قريب من قول ابن مسعود، وليس فيه شيء مرفوع إلى النبي ﷺ، ويعارض ما صح فليس بشيء . والله أعلم

القول الخامس والثلاثون: أنها ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين:
قال الحافظ في الفتح: رواه سعيد بن منصور من حديث أنس بإسناد ضعيف ، القول السادس والثلاثون أنها في أول ليلة من رمضان أو آخر ليلة رواه بن أبي عاصم من حديث أنس بإسناد ضعيف ، القول السابع والثلاثون أنها أول ليلة أو تاسع ليلة أو سابع عشرة أو إحدى وعشرين أو آخر ليلة رواه بن مردويه في تفسيره عن أنس بإسناد ضعيف ، القول الثامن والثلاثون أنها ليلة تسع عشرة أو إحدى عشرة أو ثلاث وعشرين رواه أبو داود من حديث بن مسعود بإسناد فيه مقال وعبد الرزاق من حديث علي بإسناد منقطع وسعيد بن منصور من حديث عائشة بإسناد منقطع أيضا.اهـ
أما الأول: فأثر أنس لم أقف عليه وقد ضعفه الحافظ فلا حاجة إليه، وقد أخرج الطبراني ما يؤيد هذا القول عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ». [ قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أبو المهزم، وهو ضعيف].
أما الثاني، والثالث: فلم أقف أيضاً عليهما من قول أنس أو غيره، ويكفي تضعيف الحافظ لهما بعد إيرادهما .
أما الرابع: فقد تقدم الكلام عليه في القول العاشر، ولا يصح فيه شيء مرفوعاً.

القول التاسع والثلاثون: أنها ليلة ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين:
قال الحافظ في الفتح: وهو مأخوذ من حديث ابن عباس، والنعمان بن بشير.اهـ وقد حكاه أيضاً العراقي كما في طرح التثريب .
قلت: أما حديث ابن عباس أخرجه البخاري عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، وَعِكْرِمَةَ، قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هِيَ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، هِيَ فِي تِسْعٍ يَمْضِينَ، أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ» يَعْنِي لَيْلَةَ القَدْرِ. وأخرجه أحمد في مسنده عَنْ لاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَعِكْرِمَةَ، قَالا: قَالَ عُمَرُ: مَنْ يَعْلَمُ مَتَى لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالا: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ... فذكره .
وحديث النعمان، قال:«قُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَامَ بِنَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لَا نُدْرِكَ الْفَلَاحَ، قَالَ: وَكُنَّا نَدْعُو السُّحُورَ الْفَلَاحَ». فَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: «لَيْلَةُ السَّابِعَةِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ السَّابِعَةُ، فَمَنْ أَصَوْبُ نَحْنُ، أَوْ أَنْتُمْ». [ رواه أحمد، وابن خزيمة، والفريابي، وصححه الأرنؤوط، والأعظمي ].
وجوابه كما مضى في غيره .

القول الأربعون: أنها ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين:
قال الحافظ في الفتح: وهو مأخوذ من حديث عبادة بن الصامت .اهـ
قلت : أخرجه البخاري، والنسائي، وأحمد ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ، وَالسَّابِعَةِ، وَالخَامِسَةِ». وفي رواية للطيالسي: «فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى أَوْ تَاسِعَةٍ تَبْقَى أَوْ خَامِسَةٍ تَبْقَى». ونحوه من حديث أنس أخرجه مالك، وأحمد، والنسائي .
ونحوه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: «التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى». [ رواه البخاري، وأبو داود، وأحمد ].
قال مالك في قوله ﷺ: «التمسوها فى تاسعة تبقى» هى ليلة إحدى وعشرين، و «سابعة تبقى» ليلة ثلاث وعشرين، و «خامسة تبقى» ليلة خمس وعشرين.
ورده ابن بطال في شرحه على البخاري، قال: وإنما يصح معناه وتوافق ليلة القدر وترًا من الليالى على ما ذكر فى الحديث إذا كان الشهر ناقصًا، فأما إن كان كاملاً فإنها لا تكون إلا فى شفع فتكون التاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين، والخامسة الباقية ليلة ست وعشرين، والسابعة الباقية ليلة أربع وعشرين.

الأقوال المتبقية
قال الحافظ في الفتح: القول الحادي والأربعون أنها منحصرة في السبع الأواخر من رمضان لحديث بن عمر، القول الثاني والأربعون أنها ليلة اثنتين وعشرين أو ثلاث وعشرين لحديث عبد الله بن أنيس عند أحمد، القول الثالث والأربعون أنها في أشفاع العشر الوسط والعشر الأخير قرأته بخط مغلطاي، القول الرابع والأربعون أنها ليلة الثالثة من العشر الأخير أو الخامسة منه رواه أحمد من حديث معاذ بن جبل والفرق بينه وبين ما تقدم أن الثالثة تحتمل ليلة ثلاث وعشرين وتحتمل ليلة سبع وعشرين فتنحل إلى أنها ليلة ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين وبهذا يتغاير هذا القول مما مضى ، القول الخامس والأربعون أنها في سبع أو ثمان من أول النصف الثاني روى الطحاوي من طريق عطية بن عبد الله بن أنيس عن أبيه أنه سأل النبي ﷺ عن ليلة القدر فقال تحرها في النصف الأخير ثم عاد فسأله فقال إلى ثلاث وعشرين قال وكان عبد الله يحيي ليلة ست عشرة إلى ليلة ثلاث وعشرين ثم يقصر ، القول السادس والأربعون أنها في أول ليلة أو آخر ليلة أو الوتر من الليل أخرجه أبو داود في كتاب المراسيل عن مسلم بن إبراهيم عن أبي خلدة عن أبي العالية أن أعرابيا أتى النبي ﷺ وهو يصلي فقال له متى ليلة القدر فقال اطلبوها في أول ليلة وآخر ليلة والوتر من الليل وهذا مرسل رجاله ثقات ، وجميع هذه الأقوال التي حكيناها بعد الثالث فهلم جرا متفقة على إمكان حصولها والحث على التماسها وقال ابن العربي الصحيح أنها لا تعلم وهذا يصلح أن يكون قولا آخر وأنكر هذا القول النووي وقال قد تظاهرت الأحاديث بإمكان العلم بها وأخبر به جماعة من الصالحين فلا معنى لإنكار ذلك ونقل الطحاوي عن أبي يوسف قولاً جوز فيه أنه يرى أنها ليلة أربع وعشرين أو سبع وعشرين فإن ثبت ذلك عنه فهو قول آخر هذا آخر ما وقفت عليه من الأقوال وبعضها يمكن رده إلى بعض وإن كان ظاهرها التغاير وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير وأنها تنتقل كما يفهم من أحاديث هذا الباب وأرجاها أوتار العشر وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين على ما في حديث أبي سعيد وعبد الله بن أنيس وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين وقد تقدمت أدلة ذلك .اهـ

القول الذي أرجحه
بالنظر في الأقوال السالفة يتبين لنا أن الذي صحت به الرواية عن رسول الله ﷺ أن ليلة القدر لا تخرج عن العشر الأواخر من رمضان، وأن الأقوال التي وردت بأنها خارج العشر لا يصح منها شيء مرفوعاً إلى النبي ﷺ، والصحيح منها غير صريح، وقد ناقشنا كل قول بعد عرضه فلا حاجة للإعادة .
وقد تعددت الأقوال بناءًا على تعدد الروايات في أي ليلة هي من العشر على ما تقدم بيانه، ومن أمعن النظر في الأدلة اتضح له وبجلاء أن ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وهذا القول هو القول الوحيد الذي يجمع بين الأحاديث الواردة عن رسول الله ﷺ في ليلة القدر، وما رجحه الحافظ ابن حجر من أنها تنتقل في الوتر من العشر الأواخر لا يستقيم مع ما ورد عن رسول الله ﷺ من كونها تأتي في الأشفاع كحديث ابن عباس أنها ليلة أربع وعشرين، وحديث أبي بكرة، وعبادة بن الصامت من كونها آخر ليلة فعلى تمام الشهر تكون ليلة شفع، ونحن هنا نستعرض ورودها في جميع ليالي العشر عن رسول الله ﷺ.
ليلة عشرين: حديث ابن عباس، وفيه: «التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى».
[ رواه البخاري ]. على ما تقدم بيانه .
ليلة إحدى وعشرين: حديث أبي سعيد، وفيه: «رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ»، فَاسْتَهَلَّتِ السَّمَاءُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَأَمْطَرَتْ، فَوَكَفَ المَسْجِدُ فِي مُصَلَّى النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ.
[ متفق عليه ].
ليلة اثنين وعشرين : حديث عبد الله بن أنيس، وفيه: ، فَقَالَ: «كَمِ اللَّيْلَةُ؟» فَقُلْتُ: اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ، قَالَ: «هِيَ اللَّيْلَةُ».
[ رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، وصححه الألباني، والأرنؤوط].
ليلة ثلاث وعشرين : حديث عبد الله بن أنيس، وفيه: «أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَأَرَانِي صُبْحَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ» قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
[ رواه مسلم ].
وحديث ابن عباس، قال: أُتِيتُ وَأَنَا نَائِمٌ فِي رَمَضَانَ، فَقِيلَ لِي: إِنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، قَالَ: فَقُمْتُ وَأَنَا نَاعِسٌ، فَتَعَلَّقْتُ بِبَعْضِ أَطْنَابِ فُسْطَاطِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، «فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي، فَنَظَرْتُ فِي اللَّيْلَةِ، فَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ».
[ رواه أحمد، وصححه الهيثمي والأرنؤوط].
ليلة أربع وعشرين: حديث ابن عباس، وفيه : «فَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ صَبِيحَتَهَا، فَإِذَا لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ».
[ رواه الطيالسي، وصححه ابن حجر].
وحديث أبي سعيد، وفيه: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ».
[ رواه الطيالسي، وحسنه الضياء].
ليلة خمس وعشرين: حديث أنس، وفيه: «فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».
[ رواه مسلم، وغيره ].
وحديث ابن عباس، وفيه: «وَفِي خَامِسَةٍ تَبْقَى». [ رواه البخاري ].
وخامسة تبقى هي ليلة خمس وعشرين .
ليلة ست وعشرين: ودليله قول أبو سعيد، في تفسير الخامسة «وَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ». [ رواه مسلم ]. وهذا يناسب إذا نقص الشهر.
ليلة سبع وعشرين: من حديث أبي بن كعب، وفيه: «أَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ».
[ رواه مسلم، وغيره ].
وصح مرفوعاً من حديث معاوية، وابن عمر، وجابر بن سمرة .
ليلة ثمان وعشرين: ودليلة كليلة ست وعشرين .
ليلة تسع وعشرين: حديث عبادة بن الصامت، وفيه: «أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ». ونحوه حديث أبي بكرة، وكلاهما صحيح.، وقد تكون آخر ليلة هي التاسعة والعشرون.
ليلة الثلاثين: حديث معاوية، رفعه: «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ».
[ رواه ابن خزيمة، وصححه الألباني].
فهذه الأخبار صحت عن رسول الله ﷺ، وظاهرها التعارض، ووجه الجمع بينها أن يقال أن اختلافها باختلاف السنين وأنها تختلف من سنة عن الأخرى، وأنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وأرجى العشر السبع الأواخر، وأرجى السبع الوتر منها، وأرجاها ليلة سبع وعشرين.
والقول بأنها تنتقل في العشر الأواخر هو قول جمهور أهل العلم مالك والشافعي والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور([23])، وأبو بكر الأثرم، وأبو قلابة، والمزني، وابن خزيمة، وابن المنذر، والماوردي، ورجحه ابن عبد البر([24])، وابن رشد الجد([25])، قائلاً: وهو أصح الأقاويل وأولاها بالصواب والله أعلم، لأن الأحاديث كلها تستعمل على هذا، واستعمالها كلها أولى من استعمال بعضها واطراح سائرها، لا سيما وهي كلها أحاديث صحيحة ثابتة لا مطعن فيها لأحد .اهـ
وابن بطال([26])، قال: و(خامسة تبقى) ليلة خمس وعشرين. وإنما يصح معناه وتوافق ليلة القدر وترًا من الليالى على ما ذكر في الحديث إذا كان الشهر ناقصًا، فأما إن كان كاملاً فإنها لا تكون إلا في شفع فتكون التاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين، والخامسة الباقية ليلة ست وعشرين، والسابعة الباقية ليلة أربع وعشرين على ما ذكره البخاري عن ابن عباس، فلا تصادف واحدة منهن وترا، وهذا يدل على انتقال ليلة القدر كل سنة في العشر الأواخر من وتر إلى شفع، ومن شفع إلى وتر؛ لأن النبي ﷺ لم يأمر أمته بالتماسها في شهر كامل دون ناقص، بل أطلق على طلبها في جميع شهور رمضان التي قد رتبها الله مرة على التمام، ومرة على النقصان، فثبت انتقالها في العشر الأواخر كلها.اهـ
وابن العربي المالكي([27])، قال: والصّحيح أنّها في العشر الأواخر من كلِّ رمضان، إِلَّا أنّها تنتقل في العشر .اهـ
والقاضي عياض([28])، قال: حديث أبي في سنةٍ، وحديث عبد الله في سنةٍ أخرى، وحديث أبى سعيد في سنةٍ أخرى، وأمر النبي ﷺ بها في العشر الأواخر في عامٍ، وفى السبع في عامٍ، وكلتاهما في العشر الوسط في عام، وعلى هذا لا يصعب شيء من هذه الأخبار، ولا يُطرح لصحة جميعها، وعلى هذا يأتي أنها ليست في ليلةٍ معينة أبداً، وأنها تنتقل في الأعوام، ونحو هذا قول مالك والثورى والشافعى وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبى ثور وغيرهم: إنها تنتقل فى العشر الأواخر من رمضان .اهـ
والنووي([29])، قال: قال إمامان جليلان من أصحابنا وهما المزني وصاحبه أبو بكر محمد ابن اسحق بن خزيمة أنها منتقلة في ليالي العشر تنتقل في بعض السنين إلى ليلة وفي بعضها إلى غيرها جمعا بين الأحاديث وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها.اهـ
وابن تيمية، قال: ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان هكذا صح عن النبي ﷺ ... وتكون في الوتر منها. لكن الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وليلة خمس وعشرين وليلة سبع وعشرين وليلة تسع وعشرين.، ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي ﷺ:«لتاسعة تبقى لسابعة تبقى لخامسة تبقى لثالثة تبقى . فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الأشفاع. وتكون الاثنين والعشرين تاسعة تبقى وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى. وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح. وهكذا أقام النبي ﷺ في الشهر.، وإن كان الشهر تسعاً وعشرين كان التاريخ بالباقي.، كالتاريخ الماضي. وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه . ([30])اهـ
وابن دقيق العيد([31])، قال: والقول بتنقلها حسن؛ لأن فيه جمعاً بين الأحاديث، وحثاً على إحياء جميع تلك الليالي.اهـ
وابن الملقن الشافعي، قال: وهو قوي يجمع به بين أحاديث الباب، وإنما تنتقل في العشر الأواخر.([32])اهـ
وابن عثيمين([33])، قال: والصحيح أنها تتنقّل فتكون عاماً ليلة إحدى وعشرين، وعاماً ليلة تسع وعشرين، وعاماً ليلة خمس وعشرين، وعاماً ليلة أربع وعشرين، وهكذا؛ لأنه لا يمكن جمع الأحاديث الواردة إلا على هذا القول، لكن أرجى الليالي ليلة سبع وعشرين، ولا تتعين فيها كما يظنه بعض الناس، فيبني على ظنه هذا، أن يجتهد فيها كثيراً ويفتر فيما سواها من الليالي.اهـ
الحكمة من إخفائها
أخرج البخاري، والنسائي، وأحمد عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ لِيُخْبِرَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «إِنِّي خَرَجْتُ أُخْبِرُكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التِّسْعِ، وَالسَّبْعِ وَالْخَمْسِ».
التلاحى: التجادل والتخاصم، يقال: تلاحى فلان وفلان تلاحيًا، ولاحى فلان فلانًا ملاحاة ولحاءً بالمد .
قال ابن بطال: هذا يدل أن الملاحاة والخلاف يصرف فضائل كثيرة من الدين، ويحرم أجرًا عظيمًا؛ لأن الله تعالى لم يرد التفرق من عباده، وإنما أراد الاعتصام بحبله، وجعل الرحمة مقرونة بالاعتصام بالجماعة([34]).اهـ
وقال ابن العربي: فيه دليل على أنّ العقوبة تعمُّ سائر النّاس من المسيء والمُحْسِن؛ لأنّ تلاحي الرّجلين كان سببًا أَلَّا يعرفها أحدٌ، فالجدال لا يأتي بخير، فعمَّ العقوبة بجدالهما المسيء والمُحسِن([35]).اهـ
وقد ذكر العلماء الحكمة من رفعها، قال ابن الجوزي: فإن قيل: فكيف أمر بطلب ما قد رفع؟ فالجواب: أنه إنما أمر بالتعبد لتقع المصادفة بالعمل لا العلم بالعين، لأنه متى تصور علمها زال معنى الرفع، وقوله:«عسى أن يكون خيرا لكم» وذلك لأن
كتمها أحرص لهم على طلبها، ولو عينت لاقتنعوا بتلك الليلة فقل عملهم([36]).اهـ
وقال ابن الملقن: قوله: «وعسى أن يكون خيرًا لكم» يريد أن البحث عنها والطلب لها بكثير من العمل هو خير من هذِه الجهة، قاله ابن بطال، وقال ابن التين: لعله يريد أنه لو أخبرتم بعينها لأقللتم في العمل في غيرها، وأكثرتموه فيها، وإذا غيبت عنكم أكثرتم العمل في سائر الليالي رجاء موافقتها، قاله ابن حبيب وغيره([37]).اهـ
ولذلك ينبغي الاجتهاد في جميع أيام العشر كما ورد ذلك عن النبي ﷺ وجمهور أصحابه رضي الله عنهم .
كيفية تحريها
ينبغي لمن يتحرى ليلة القدر ويطلبها أن يستن بسنة رسول الله ﷺ وهي الاعتكاف فإن النبي ﷺ هكذا طلبها كما ورد ذلك عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ فَقُلْتُ: أَلاَ تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ نَتَحَدَّثُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: قُلْتُ: حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ، قَالَ: «اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَشْرَ الأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَاعْتَكَفَ العَشْرَ الأَوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ، فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، وَإِنَّهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فِي وِتْرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ» وَكَانَ سَقْفُ المَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزَعَةٌ، فَأُمْطِرْنَا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَرْنَبَتِهِ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ».
رواه البخاري، وغيره ، وفي رواية لأحمد، قال: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ، فَلَمَّا تَقَضَّيْنَ أَمَرَ بِبُنْيَانِهِ فَنُقِضَ، ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ، ... فذكر نحوه.
وفي رواية للنسائي: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا قِطْعَةُ حَصِيرٍ، قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ، فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ، فَقَالَ:«إِنِّي أَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأوْسَطَ ثُمَّ أَتَيْتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ» ... وذكر نحو السابق .
ففي هذا الحديث بيان أن النبي ﷺ التمس ليلة القدر باعتكاف العشر الأول، وبين له جبريل أنها أمامه فالتمسها أيضا باعتكاف العشر الأوسط ثم العشر الأواخر من رمضان، وقد استقر اعتكاف النبي ﷺ للعشر الأواخر واعتكف معه أصحابه واعتكف نساءه من بعده.
وهذا قد ثبت وتواتر عن النبي ﷺ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ». [ متفق عليه ].
وفي ذلك دلالة على أن الاعتكاف من السنن المؤكدة مما واظب عليه الشارع، فينبغي للمؤمن الاقتداء في ذَلِكَ به، وذكر ابن المنذر، عن ابن شهاب أنه كان يقول: عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف، وأن رسول الله ﷺ لم يتركه منذ دخل المدينة كل عام في العشر الأواخر حَتَّى قبضه الله.
وقال ابن المنذر: روينا عن عطاء الخراساني أنه كان يقال: مثل المعتكف كمثل عبد ألقى نفسه بين يدي ربه، ثم قال: ربي لا أبرح حَتَّى تغفر لي، ربي لا أبرح حَتَى ترحمني.
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ». [ رواه الجماعة، غير ابن ماجه ].
فأكدت بقولها حتى توفاه الله استمرار هذا الحكم وعدم نسخه وأكدت ذلك بقولها ثم اعتكف أزواجه من بعده فأشارت إلى استمرار حكمه حتى في حق النساء فكن أمهات المؤمنين يعتكفن بعد النبي من غير نكير وإن كان هو في حياته قد أنكر عليهن الاعتكاف بعد إذنه لبعضهن كما صح عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ، يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً، فَأَذِنَتْ لَهَا، فَضَرَبَتْ خِبَاءً، فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ ﷺ رَأَى الأَخْبِيَةَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَأُخْبِرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَلْبِرَّ تُرَوْنَ بِهِنَّ» فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ . [ رواه الجماعة ].
فذاك لمعنى آخر وهو كما قال العلماء خوف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه أو لغيرته عليهن أو ذهاب المقصود من الاعتكاف بكونهن معه في المعتكف أو لتضييقهن المسجد بأبنيتهن.
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ فَسَافَرَ عَامًا فَلَمْ يَعْتَكِفْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلٍ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا». [ رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني، والأرنؤوط]. وفي صحيح ابن حبان أيضا عن أنس «كان رسول الله ﷺ إذا كان مقيما يعتكف العشر الأواخر من رمضان فإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين».
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ «يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا». [ رواه الجماعة، غير مسلم، والترمذي ].
ذلك لأنه علم بانقضاء أجله وذلك من مدارسة جبريل له القرآن مرتين، فأراد أن يستكثر من الأعمال الصالحة تشريعاً لأمته أن يجتهدوا في العمل إذا بلغوا أقصى العمر ليلقوا الله على خير أعمالهم ولأنه عليه ﷺ اعتاد من جبريل عليه السلام أن يعارضه بالقرآن في كل عام مرة واحدة فلما عارضه في العام الأخير مرتين اعتكف فيه مثل ما كان يعتكف .
وقد اتفق العلماء على أن اعتكاف النبي ﷺ في رمضان لطلب ليلة القدر رجاء ثوابها وتحصيل فضلها، وأنه كان إذا عمل عملاً أثبته فلما ترك الاعتكاف لعارض من سفر أو نحوه قضاه من العام الذي بعده، وأنه لما علم قرب أجله زاد فى الطاعة والتقرب من الله والخلوة بالذكر والصلاة وتلاوة القرآن ، فينبغي لمن يطلب ليلة القدر أن يحرص على اعتكاف العشر الأواخر من رمضان كما فعل النبي ﷺ وواظب عليه، وواظب عليه نساءه من بعده.
الاجتهاد والعمل في العشر الأواخر
بعد أن تقرر لدينا أن ليلة القدر لا تخرج عن العشر الأواخر من رمضان، وأن النبي ﷺ كان يتحراها بالاعتكاف في هذه الليالي فينبغي لطالب ليلة القدر الحريص على بلوغ ثوابها وتحصيل فضلها أن يشتد في الاجتهاد فيها فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ». [ رواه الجماعة، غير الترمذي ].
وعَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَرَفَعَ الْمِئْزَرَ». قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ - أحد الرواة -: مَا رَفَعَ الْمِئْزَرَ؟ قَالَ: اعْتَزَلَ النِّسَاءَ .
[ رواه الترمذي، وأحمد، وغيرهما، وصححه الألباني، والأرنؤوط].
قال ابن بطال رحمه الله : إنما فعل ذلك ﷺ؛ لأنه أخبر أن ليلة القدر في العشر الأواخر، فَسَنَّ لأمته الأخذ بالأحوط في طلبها في العشر كله لئلا تفوت، إذ يمكن أن يكون الشهر ناقصًا وأن يكون كاملا، فمن أحيا ليال العشر كلها لم يفته منها شفع ولا وتر، ولو أعلم الله عباده أن في ليالى السنة كلها مثل هذه الليلة لوجب عليهم أن يحيوا الليالى كلها في طلبها، فذلك يسير في جنب طلب غفرانه، والنجاة من عذابه، فرفق تعالى بعباده وجعل هذه الليلة الشريفة موجودة في عشر ليال؛ ليدركها أهل الضعف وأهل الفتور في العمل مَنا من الله ورحمة([38]).اهـ
بل كان يبالغ النبي ﷺ في الاجتهاد فوق العادة، فيهجر الفراش يحيى الليل فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ اجْتِهَادًا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ». [ رواه الجماعة، غير البخاري، وأبو داود ]. وفي رواية لابن خزيمة، قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ، ثُمَّ لَمْ يَأْتِ فِرَاشَهُ حَتَّى يَنْسَلِخَ». فترك المبيت على الفراش في العشر الأواخر من رمضان إذ البائت على الفراش أثقل نوماً، وأقل نشاطاً للقيام من النائم على غير الفرش الوطيئة الممهدة في مثل هذه الأيام والليالي المباركة .
كما أن في قوله ﷺ : «وأيقظ أهله» من الفقه أن للرجل أن يحض أهله ومن كان تحت رعايته على عمل النوافل، ويأمرهم بغير الفرائض والتزود من أعمال البر، ويحملهم عليها.
ونحو ذلك ما رواه الترمذي، والمروزي من حديث زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يُطِيقُ الْقِيَامَ إِلَّا أَقَامَهُ».
- فمن أعمال هذه العشر أن يوقظ الرجل أهله كما كان يفعل النبي ﷺ، ولا يقصر عمل الخير على نفسه بل يشارك أهله فيه حتى الصغار منهم على قدر استطاعتهم.
- ومن أفضل الأعمال في هذه الأيام طول القيام من الليل فعَنْ النُّعْمَانِ بْنَ بَشِيرٍ، قَالَ:«قُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَامَ بِنَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لَا نُدْرِكَ الْفَلَاحَ»، قَالَ: وَكُنَّا نَدْعُو السُّحُورَ الْفَلَاحَ.
[ رواه النسائي، وأحمد، وصححه ابن خزيمة، والحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني، والأرنؤوط].
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَمَضَانَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، قَالَ: فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِقِيَّةَ الشَّهْرِ. [ رواه الخمسة، وصححه الألباني، والأرنؤوط].
- كذلك من الأعمال المستحبة تلاوة القرآن بالتدبر ومدارسته وهذا مما لا شك فيه إذ أن ليلة القدر هي الليلة التي أنزل فيها القرآن والاجتهاد في العشر يكون في تحصيل ثواب تلك الليلة المباركة، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ». [ رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وأحمد ].
ونزول جبريل - عليه السلام - في رمضان للتلاوة دليل عظيم لفضل تلاوة القرآن فيه، وهذا أصل تلاوة الناس القرآن في كل رمضان تأسيًا به.، ولذا كان السلف الصالح يقبلون في رمضان على تلاوة القرآن الكريم ومدارسته ويزداد اجتهادهم في العشر الأواخر تأسياً برسول الله ﷺ.
قال الإمام ابن رجب – رحمه الله-: دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك ، و عرض القرآن على من هو أحفظ له … و فيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان ، وفي حديث فاطمة عليها السلام عن أبيها أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة و أنه عارضه في عام وفاته مرتـــين([39]).
قال رحمه الله : وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه و بين جبريل كانت ليلا يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلا فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم، و يتواطأ فيه القلب و اللسان على التدبر كما قال تعـالى { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا }.اهـ([40])
فإن قيل أيهما أفضل ؟ أن يكثر الإنسان التلاوة أم يقللها مع التدبر و التفكر ؟
هذا قد نقل جوابه الحافظ ابن حجر عن النووي فقال: قال النووي والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الفهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر واستخراج المعاني وكذا من كان له شغل بالعلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يخل بما هو فيه ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل ولا يقرؤه هذرمة والله أعلم. ([41])اهـ
- كذلك من الأعمال المستحبة في هذه الليلة كثرة الذكر والدعاء، وقد جاء عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَاذَا أَدْعُو بِهِ؟ قَالَ:«قَوْلِي: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَافِيَةَ فَاعْفُ عَنِّي». [ رواه أحمد، وأصحاب السنن، غير أبي داود، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني، والأرناؤوط].
وفي هذا الحديث دلالة على استجابة الدعاء في هذه الليلة، قال البيهقي في فضائل الأوقات: طلب العفو من الله مستحب في جميع الأوقات، وخاصة في هذِه الليلة.اهـ
فيتعين على كل مسلم أن يكرر هذا الدعاء ليلة القدر، وأن يفضله على ما سواه، لأنه لفظ أفضل الخلق الذي علمه لأحب زوجاته.
*****​
والحمد لله رب العالمين


([1]) انظر: لسان العرب لابن منظور ( 5/74 ) حرف الراء، فصل: القاف ، ط/صادر –بيروت .

([2]) معجم اللغة العربية المعاصرة ( 3/1781 ) ط/عالم الكتب.

([3]) لسان العرب لابن منظور ( 5/76 ) .

([4]) ابن جرير الطبري في تفسيره ( 13/560 ) ط/هجر، والبيهقي في الشعب برقم ( 3394 ) وفيه ضعف .

([5]) الطبري ( 21/10 )، والحاكم في المستدرك برقم ( 3678 ) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي: صحيح على شرط مسلم .

([6]) القضاء والقدر للبيهقي ( 1/216 ) رقم ( 258 ) ط/العبيكان – السعودية .

([7]) ابن أبي شيبة في مصنفه برقم ( 8692 ).

([8]) عبد الرزاق في تفسيره برقم ( 2801 )، والبيهقي في الشعب برقم ( 3392 ).

([9]) الطبري ( 21/8 )، والبيهقي في الشعب برقم ( 3390 ).

([10]) الطبري ( 21/7 )، ابن بطة في الإبانة برقم ( 1677 ).

([11]) شفاء العليل ( 1/23 ) ط/المعرفة – بيروت .

([12]) تفسير القرطبي ( 20/130 – 131 ) ط/دار الكتب – القاهرة .

([13]) سورة القدر كاملة .

([14]) سورة الدخان : الآية ( 3 ).

([15]) سورة البقرة : الآية ( 185 ).

([16]) أخرج هذه الروايات الحاكم في المستدرك كتاب التفسير وصححها ووافقه الذهبي .، وبعضها عند النسائي في السنن الكبرى .

([17]) تفسير القرطبي ( 20/131 ) .

([18]) رواه ابن أبي حاتم في التفسير ( 19424 )، البيهقي في الكبرى ( 8522 ) وهو مرسل إسناده حسن .

([19]) الموطأ برقم ( 1145) ط/الأعظمي .

([20]) رواه أحمد في مسنده ( 10734 ) ط/الرسالة، وابن خزيمة ( 2194 )، والطيالسي ( 2668 ) قال الهيثمي: رجاله ثقات، وحسنه ابن حجر، والألباني، والأرناؤوط .

([21]) ابن أبي حاتم في تفسيره ( 19428) وإسناده ضعيف جداً، تفسير ابن كثير ( 8/452 ) ط/طيبة – القاهرة ، وقال هذا أثر غريب ونبأ عجيب .

([22]) انظر: تفسير القرطبي ( 20/134 )، تفسير ابن كثير ( 8/444 ).

([23]) الاستذكار لابن عبد البر ( 3/414 )، إكمال المعلم للقاضي عياض ( 4/134 )، المجموع للنووي ( 6/459 )، تفسير الخازن ( 4/451 )، تفسير ابن كثير ( 8/450 ).

([24]) التمهيد ( 23/63).

([25]) المقدمات والممهدات ( 1/267 ) ط/دار الغرب الإسلامي .

([26]) شرح صحيح البخاري ( 4/156 ).

([27]) المسالك شرح موطأ مالك ( 4/269 ) ط/دار الغرب الإسلامي .

([28]) إكمال المعلم للقاضي عياض ( 4/134 ).

([29]) المجموع ( 6/450 ).

([30]) مجموع الفتاوى ( 25/285 ).

([31]) إحكام الأحكام ( 2/40 ).

([32]) التوضيح شرح الجامع الصحيح ( 13/591 ).

([33]) الشرح الممتع ( 6/492 ).

([34]) شرح البخاري ( 4/158 ).

([35]) المسالك شرح موطأ مالك ( 4/268 ).

([36]) كشف المشكل من الصحيحين ( 2/80 ).

([37]) التوضيح شرح الجامع الصحيح ( 13/607 ).

([38]) شرح البخاري لابن بطال ( 4/159 ).

([39]) رواه البخاري، ومسلم .

([40]) لطائف المعارف لابن رجب ( 354 – 355 ).

([41]) فتح الباري ( 9/97 ).

([42]) أحكام الاعتكاف مقال للدكتور/سعد عطية فياض مسجل بشبكة الألوكة بتاريخ 8/8/2012م-20/9/1433 هـ بتصرف .

([43]) كتاب الصيام من شرح عمدة الأحكام لابن تيمية ( 2/779 ).

([44]) شرح النووي على مسلم ( 8/317 – 318 ).

([45]) سبل السلام للصنعاني ( 2/174 ).

([46]) المغني لابن قدامة المقدسي ( 2/156 ).

([47]) مجالس شهر رمضان لابن عثيمين ص245 – 246 .

([48]) فتح القدير للكمال بن الهمام ( 2/396 ) ، المجموع للنووي ( 6/502 ) ، شرح العمدة لابن تيمية ( 2/835 ).

([49]) شرح العمدة لابن تيمية ( 2/829 )، حاشية ابن عابدين ( 2/445 ).

([50]) شرح العمدة لابن تيمية ( 2/802 - 842 ).

([51]) رواه أبو داود، والدراقطني، وقال: يقال: إن قوله: وأن السنة للمعتكف إلى آخره ليس من قول النبي ﷺ, وأنه من كلام الزهري ومن أدرجه في الحديث فقد وهم والله أعلم. اهـ، وقال ابن التركماني: جَعلُ هذا الكلام من قول مَن دونَ عائشةَ دعوى، بل هو معطوف على ما تقدَّم من قولها: السنة كذا وكذا، وهذا عند المحدثين من قسم المرفوع.اهـ، والحديث صححه الألباني، والأرنؤوط.

([52]) مراتب الإجماع لابن حزم ص74 .

([53]) بدائع الصنائع ( 2/114 ).

([54]) تحفة الراكع والساجد ص209 .

([55]) شرح النووي على مسلم ( 5/55 ).
 
عودة
أعلى