صالح بن سليمان الراجحي
Member
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس للمدود عند القراء الأولين قيود ولا حدود (بحث مختصر)
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه.ليس للمدود عند القراء الأولين قيود ولا حدود (بحث مختصر)
أما بعد:
فإن من المسائل المشهورة عند القراء مسألة المد في القراءة, وللمتأخرين فيها تفاصيل كثيرة وقيود وحدود ومقادير.
وهذا مخالف لما عليه إجماع القراء السابقين.
وقد نقل هذا الإجماع الإمام مكي بن أبي طالب رحمه الله حيث يقول: "ولم يقل أحد من القراء والنحويين: إن المد يحصر في قدر ألف وقدر ألفين وأنه لا يكون أكثر ولا أقل هذا لم يقله أحد".
وسوف أذكر نص كلامه كاملاً بعد قليل.
كذلك قال ابن الجزري رحمه الله: "وأما المنفصل فقد اختلفت العبارات في مقدار مده اختلافاً لا يمكن ضبطه ولا يصح جمعه, فقل من ذكر مرتبة لقارئ إلا وذكر غيره لذلك القارئ ما فوقها أو ما دونها".
وسوف أذكر أيضاً نص كلامه كاملاً بعد قليل.
وقد سبق في موضوع آخر بيان أن جميع أنواع أداء التلاوة إنما هو ناشئ عن اختلاف القراء في اختيارهم, واختلاف لهجاتهم وطريقة أدائهم, وتأثرهم بطبيعة لهجات القبائل العربية, وذلك في كل ما يتعلق بصفات الأداء من مد وإدغام وغنة وإمالة وترقيق وتفخيم وتغليظ وروم وإشمام وهمز وتسهيل وبدل وغير ذلك.
وذكرت على ذلك خمسة عشر دليلاً.
وكان الموضوع بعنوان "اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
والمد في الحقيقة من صفات الأداء, لكني أفردت مسألة المد هنا لمزيد من التوضيح والبيان.
فإن المد في تلاوة القرآن من الأمور التي تتأتى تلقائياً مع الترتيل والتغني, دون تكلف ولا عناء, ولو أردت أن ترتل القرآن وتتغنى به دون مد لما قدرت.
ولو أمرت عامياً لم يتعلم حرفاً من القراءات والتجويد أن يقرأ ويتغنى ويرتل لأتى بالمدود على أحسن ما أنت سامع.
وقد اشتهر عند المتأخرين أن المدود في القراءة لها قوانين وحدود دقيقة ومقادير محددة لا يصح الزيادة فيها ولا النقص, وهذا أمر مخترع لا أصل له في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا أصحاب القرون المفضلة ولا القراء العشرة.
وسوف أذكر في هذا الموضوع بعض الأدلة التي تدل على هذا وتؤكده.
وقبل هذه النقول أقول:
اعلم أن المد إنما هو فتح الفم بخروج النفس مع امتداد الصوت وذلك قدر لا يعلمه إلا الله كما قال الإمام مكي كما سيأتي.
فالمد هو أمر فطري طبيعي ينشأ عند التلاوة والتغني, ولم يرد أي دليل على وجوب التزام مقدار معين فيه, بل المطلوب وجود أصله أما مقداره فمتروك حرية ذلك واختياره للقارئ نفسه.
وأما تحديد ذلك بقيود وحدود وزمان فإن فيه تضييقاً وعسراً ومشقة, لأنه مخالف ومصادم للطبيعة البشرية التي فطرها الله تبارك وتعالى.
وقبل ذلك هو أمر محدث مخترع لا أصل له من كلام الأولين ولا من فعلهم وطريقتهم.
والآن أذكر ما يؤكد ذلك من أقوال كبار أئمة القراءات كابن مجاهد وأبي عمرو الداني ومكي بن أبي طالب وابن الجزري وغيرهم.
أولاً:
قال الحافظ أبو عمرو الداني رحمه الله في "جامع البيان" (1/342) بعد أن ذكر مراتب القراء في طول المد: "وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف وتخليص السواكن، وتحقيق القراءة وحدرها، وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافاً يخرج عن المتعارف في اللغة والمتعالم في القراءة".
ثانياً:
لما ذكر ابن الجزري بعض ما روي عن القراء في شأن المدود قال (1/333) : "فهذا ما حضرني من نصوصهم, ولا يخفى ما فيها من الاختلاف الشديد في تفاوت المراتب, وأنه ما من مرتبة ذكرت لشخص من القراء إلا وذكر له ما يليها, وكل ذلك يدل على شدة قرب كل مرتبة مما يليها, وإن مثل هذا التفاوت لا يكاد ينضبط"اهـ
قلت: قارن هنا بين هذا الذي ذكره عن القراء وما ذكره الدكتور عبد العزيز قارئ في كتابه "قواعد التجويد" ص (42) أن التجويد قسمان: واجب وصناعي, ثم قال: القسم الثاني: صناعي: وهو ما يتعلق بالمهارة في إتقان النطق الصحيح، وذلك ببلوغ الغاية في تحقيق الصفات والأحكام، وضبط مقادير المدود ضبطاً دقيقاً لا يزيد نصف درجة ولا ينقص، بل بعض القراء يزن المدود بأدق من ذلك فيفرق بين ربع الحركة في الزيادة أو النقص"اهـ
أظنك الآن عرفت بوضوح مدى التباعد الهائل الشاسع بين طريقة القراء القدامى وبين طريقة المتأخرين.
ثالثاً:
روى إسحاق بن أحمد الخزاعي المتوفى سنة (308)هـ عن أصحابه أن المد كله مد يسير وسطاً مبيناً.
قال: وكذلك كل ممدود في القرآن لا يسرفون في مده، ولكن يمده مداً حسناً. ذكره الداني في "جامع البيان" (1/344)
إذاً هو مد وسط حسن فلا قيود ولا تحديد.
رابعاً:
قال الإمام مكي بن أبي طالب رحمه الله المتوفى سنة (437) هـ في كتابه "تمكين المد" ص (36) : "(فصل في أن المد لا يحصر وأن تقديره بالألفات للتقريب على المبتدئين)
والتقدير عندنا للمد بالألفات إنما هو تقريب على المبتدئين وليس على الحقيقة, لأن المد إنما هو فتح الفم بخروج النفس مع امتداد الصوت وذلك قدر لا يعلمه إلا الله, ولا يدري قد الزمان الذي كان فيه المد للحرف ولا قدر النفس الذي يخرج مع امتداد الصوت في حيز المد إلا الله تعالى, فمن ادعى قدراً للمد حقيقة فهو مدعي علم الغيب.
وقد وقع في كتب القراء التقدير بالألف والألفين والثلاثة على التقريب للمتعلمين ... ولم يقل أحد من القراء والنحويين: إن المد يحصر في قدر ألف وقدر ألفين وأنه لا يكون أكثر ولا أقل هذا لم يقله أحد.
ألا ترى أن أبا إسحاق الزجاج قال: لو مددت صوتك يوماً وليلة لم يكن إلا ألفاً واحدة"اهـ
فمقادير المدود إذاً بنص كلام الإمام مكي إنما هي اجتهاد من بعض القراء, وأما السابقون فلم يرد عنهم شيء من ذلك التحديد البتة.
وقد سئل ابن مجاهد رحمه الله عن وقف حمزة على الساكن قبل الهمزة، والإفراط في المد فقال: كان يأخذ بذلك المتعلم، ومراده أن يصل المتعلم إلى ما نحن عليه من إعطاء الحروف حقها. ذكره السخاوي في "جمال القراء" ص (516)
خامساً:
قال ابن غلبون المتوفى سنة (399) هـ
في كتابه "التذكرة في القراءات" (1/148) بعد أن ذكر المد عند القراء: "غير أنهم يتفاضلون في المد:
فأشبعهم في المد ورش وحمزة.
ثم عاصم دون مدهما قليلاً.
ثم ابن عامر والكسائي دون مد عاصم قليلاً.
ثم قالون وأبو عمرو دون مهد ابن عامر والكسائي قليلاً.
وهذا الإشباع في المد الذي عرفتك أنهم يتفاضلون فيه إنما هو على التقريب من غير تمطيط ولا إسراف".
سادساً:
قال أبو عمرو الداني رحمه الله في "التيسير" ص (30) : "وأطولهم مداً ورش وحمزة, ودونهما عاصم, ودونه ابن عامر والكسائي.
ودونهما أبو عمرو من طريق أهل العراق, وقالون من طريق أبي نشيط.
وهذا كله على التقريب من غير إفراط, وإنما هو على مقدار مذاهبهم في التحقيق والحدر, وبالله التوفيق". وانظر: "الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكي (1/58)
وهذا أيضاً مما يدل على عدم تقدير مقادير معينة للمدود, وإنما يتفاوت القراء في ذلك تفاوتاً لا يمكن أن يضبط, فإنه راجع إلى اختلاف الطبائع وطرائق التغني والترتيل.
سابعاً:
أقوال ابن الجزري رحمه الله.
ذكر ابن الجزري في "النشر" (1/316) أنهم اختلفوا على كم مرتبة هو؟
فقيل: على أربع مراتب.
وقيل: على ثلاث مراتب.
وقيل: على مرتبتين.
وقال ابن الجزري في "النشر" (1/314) : وقد أجمع الأئمة على مد نوعي المتصل وذي الساكن اللازم, وإن اختلفت آراء أهل الأداء أو آراء بعضهم في قدر ذلك المد, واختلفوا في مد النوعين الآخرين وهما المنفصل وذو الساكن العارض وفي قصرهما, والقائلون بمدها اختلفوا أيضاً في قدر ذلك المد.
وقال: "فأما المتصل فاتفق أئمة أهل الأداء من أهل العراق إلا القليل منهم وكثير من المغاربة على مده قدراً واحداً مشبعاً من غير إفحاش ولا خروج عن منهاج العربية"اهـ
فلم يذكر فيه أي تحديد, بل قال: من غير إفحاش ولا خروج عن منهاج العربية.
وقال ابن الجزري (1/317) : "المد اللازم يجمع القراء على مده مشبعاً قدراً واحداً من غير إفراط... وقد اختلفت آراء أهل الأداء من أئمتنا في تعيين هذا القدر المجمع عليه, فالمحققون منهم على أنه الإشباع, والأكثرون على إطلاق تمكين المد فيه, وقال بعضهم هو دون ما مد للهمز, وكل ذلك قريب.
ثم اختلفوا أيضاً في تفاضل ذلك على بعض, فذهب كثير إلى أن مد المدغم منه أشبع تمكيناً من المظهر من أجل الإدغام...
وذهب بعضهم إلى عكس ذلك وهو أن المد في غير المدغم فوق المدغم...
وذهب الجمهور إلى التسوية بين مد المدغم والمظهر في ذلك كله".
وقال أيضاً (1/319) : "وأما المنفصل فقد اختلفت العبارات في مقدار مده اختلافاً لا يمكن ضبطه ولا يصح جمعه, فقل من ذكر مرتبة لقارئ إلا وذكر غيره لذلك القارئ ما فوقها أو ما دونها".
ثم ذكر أنهم اختلفوا في اختلفوا في مراتبه.
فقيل: مرتبتان, وقيل: ثلاث, وقيل: أربع, وقيل: خمس, وقيل: ست, وزاد بعضهم مراتب أخرى.
وقال ابن الجزري في "النشر" (1/326) : واعلم أن هذا الاختلاف في تقدير المراتب بالألفات لا تحقيق وراءه, بل يرجع إلى أن يكون لفظياً, وذلك أن المرتبة الدنيا وهي القصر إذا زيد عليها أدنى زيادة صارت ثانية ثم كذلك حتى تنتهي إلى القصوى, وهذه الزيادة بعينها إن قدرت بألف أو بنصف ألف هي واحدة فالمقدر غير محقق والمحقق إنما هو الزيادة.
وقال أيضاً (1/348) : وأما السكون فهو على أقسام المد أيضاً لازم وعارض, وكل منهما مشدد وغير مشدد.
فاللازم غير المشدد حر واحد وهو (ع) من فاتحة مريم والشورى, فاختلف أهل الأداء في إشباعها في توسطها وفي قصرها لكل من القراء... وأما الساكن العارض غير المشدد فقد حكى فيه الشاطبي وغيره عن أئمة الأداء الثلاثة مذاهب, وهي الإشباع والتوسط والقصر.
وقال أيضاً (1/351) وهو يتكلم عن سبب المد: وقد يكون قوياً وقد يكون ضعيفاً, والقوة والضعف في السبب يتفاضل، فأقواه ما كان لفظياً, ثم أقوى اللفظي ما كان ساكناً أو متصلاً, وأقوى الساكن ما كان لازماً, وأضعفه ما كان عارضاً, وقد يتفاضل عند بعضهم لزوماً وعروضاً...
وقال ابن الجزري (1/334) : "لا أمنع التفاوت في المد اللازم على ما قدمت إلا أني أختار ما عليه الجمهور".
ثامناً:
قال أبو عمرو الداني في "جامع البيان" (1/342) : "وأشبع القراء مداً وأزيدهم تمكيناً في الضربين جميعاً من المتصل والمنفصل حمزة في غير رواية خلاد، وأبو بكر في رواية الشموني عن الأعشى عنه، وحفص في رواية الأشناني عن أصحابه، والكسائي في رواية قتيبة, لأن هؤلاء يسكتون على الساكن قبل الهمزة, فهم لذلك أشد تحقيقاً وأبلغ تمكيناً.
ودونهم في الإشباع والتمكين حمزة في رواية خلاد ونافع في رواية ورش من طريق المصريين، ودونهما عاصم في غير رواية الشموني عن الأعشى عن أبي بكر، وفي غير رواية الأشناني عن حفص، ودونه الكسائي في غير رواية قتيبة وابن عامر، ودونهما أبو عمرو من طريق ابن مجاهد، وسائر البغداديين، ونافع من رواية أبي نشيط عن قالون عنه من قراءتي على أبي الحسن, لأني قرأت عليه من غير تمييز في روايته، ودونهما ابن كثير ومن تابعه على التمييز بين ما كان من كلمة ومن كلمتين في حروف المد, وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف، وتخليص السواكن، وتحقيق القراءة وحدرها".
تاسعاً:
قال أبو عبد الله بن شريح كما في "النشر" (1/329) عن المنفصل: "فورش وحمزة أطولهم مداً، وعاصم دونهما، وابن عامر والكسائي دونه، وقالون والدوري عن اليزيدي دونهما، وابن كثير وأبو شعيب أقلهم مداً، وقد قرأت لقالون والدوري عن اليزيدي كابن كثير وأبي شعيب قال: وإنما يشبع المد في هذه الحروف إذا جاء بعدها همزة، أو حرف ساكن مدغم، أو غير مدغم، وقال أبو علي الأهوازي في "الوجيز" إن ابن كثير وأبا عمرو ويعقوب وقالون وهشاماً لا يمدون المنفصل، وإن أطولهم مداً حمزة وورش، وإن عاصماً ألطف مداً، وإن الكسائي وابن ذكوان ألطف منه مداً، قال: فإذا كان حرف المد مع الهمزة في كلمة واحدة أجمعوا على مده زيادة، ويتفاضلون في ذلك على قدر مذاهبهم في التجويد والتحقيق".
عاشراً:
قال الدكتور عبد العزيز القارئ في كتابه "حديث الأحرف السبعة" ص (177) : "بعض أوجه الأداء يصعب حصول التواتر على نقلها ولا يتصور وقوعه, كضبط مقادير المدود بالحركات, فإن الاتفاق على ضبط ذلك بتلك الدقة المتناهية شيء فوق طاقة البشر, لذلك تجد الروايات مختلفة اختلافاً كبيراً في مقدار مد المتصل".
وقال الدكتور مساعد الطيار في كتابه "مقالات في علوم القرآن" (2/411) : هذا العلم قد دخله الاجتهاد في بعض مسائله، وذلك من دقائق ما يتعلق بهذا العلم، ومما يحتاج إلى بحث ومناقشة وتحرير من المتخصصين في هذا العلم ومن ذلك ما يتعلق بالمقادير، والمقصود بذلك مقدار الغنة والمدود والسكت وغيرها مما يقدر له زمن بالحركات أو بقبض الأصبع أو بغيرها من موازين المجودين للزمن المقدر.
وليس القول بدخول الاجتهاد في المقادير يعني أنه لا أصل لها، بل لها أصل، لكن تقدير الزمن بهذا الحد بالذات مما تختلف فيه الطبائع، ويصعب ضبطه".
وقال الدكتور علي الغامدي في كتابه "اللحن" ص (62) : "غنة المشدد والمدغم والمخفى قد اجتهد بعضهم فقدرها بحركتين, وأصبح هذا عرفاً شائعاً عند عامة مقرئي وقراء هذا الزمان, بل أصبح من يقصر عن هذا المقدار يعد من اللاحنين, بل جعله بعضهم من الآثمين, وهذا التقدير لا أعلم له أصلاً في تقدير المتقدمين, ولعله وليد العصور المتأخرة القريبة".
بعد هذه النقول أقول:
لقد اتضح جلياً أن المدود في القراءة لا تحد بألفات ولا حركات ولا زمان, ولا يؤيد القول بذلك أي قول أو فعل صادر من القراء المتقدمين كالقراء العشرة وغيرهم, بل أقوالهم وأفعالهم وطرائقهم كلها تنص على خلاف كذلك, فقد كانوا خلواً من هذه القيود والمقادير والتفاصيل, وما كانت قراءتهم إلا قراءة حسنة سهلة حرة متقاربة منعتقة من القيود والأغلال.
وهذا هو المتوافق مع الاختلاف الفطري بين البشر واختلاف ألسنتهم وتعاطيهم من القراءة والتغني والمدود.
أما المتأخرون فصارت عندهم القراءة بهذه القيود المحدثة شاقة مكلفة, فلا بد أن يتمرن القارئ على طريقة مرسومة محدد فيها كل شيء, وليس للقارئ أي اختيار فيغتال بذلك التغني الحر والتدبر والهناء بالقراءة.
وكم رأت عيناك من قارئ قراءته تأخذ بالألباب وتشتاق إليه الأسماع, يقرأ وقد أطلق العنان لطبيعته وسجيته, فما هو إلا أن يتقيد ببعض القيود في القراءة ويبدأ بمراعتها حتى تتحول قراءته إلى مادة مصنوعة قد فقدت بريقها وجاذبيتها وحريتها وطعمها.
أخيراً
بقي التوقف قليلاً مع حديث عبد الله بن مسعود t في مسألة المد.
فقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً قرأ عليه (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) مرسلة, فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: وكيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أقرأنيها (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فمدها.
وهذا الحديث ضعيف كما سيأتي في تخريجه.
لكن على افتراض صحة الحديث فإنه لا دلالة فيه على تحديد طريقة أو مقدار للمد أو غيره, وإنما المطلوب هو المد أيُّ مد, فإن أصل المد لا بد منه ولا تصح القراءة إلا به, أما مقاديره وحدوده فليست كذلك.
ولذلك لم يذكر ابن مسعود للرجل مقدار ذلك المد.
وإنما نبهه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأنه قد أخل بأصل المد, ولا شك أن من قرأ (للفقراء) مرسلة من دون أي مد فهو مخطئ.
ولهذا أخبره ابن مسعود رضي الله عنه بأن فيها المد, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين أقرأه مد في القراءة.
وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وأخذت سائر القرآن من أصحابه).
ولم يرد عنه حرف واحد في أن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصحابة أوقفه أو نبهه عند أي شيء يتعلق بالمد أو غيره.
والحديث على أي حال فيه ضعف.
وهذا تخريجه:
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (5/257), ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (9/137)
من طريق: شهاب بن خراش، عن موسى بن يزيد الكندي قال: كان ابن مسعود يقرئ رجلاً...) الحديث.
وشهاب بن خراش لا بأس به, ولكن قال فيه ابن عدي في "الكامل" (4/34): "له أحاديث ليست بالكثيرة، وفي بعض رواياته ما ينكر عليه".
وقال ابن حبان في "المجروحين" (1/459): كان رجلاً صالحاً، وكان ممن يخطئ كثيراً حتى خرج عن حد الاحتجاج به".
وموسى بن يزيد الكندي غير معروف.
ويحتمل أنه مسعود بن يزيد الكندي كما وقع عند ابن الجزري في "النشر" (1/315), وكما في "مجمع الزوائد" (7/155)
فإن كان هو مسعود بن يزيد الكندي فإنه أيضاً ليس بمعروف وليس له ترجمة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينير بصائرنا ويصلح سرائرنا ويهدينا صراطه المستقيم إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم ومحبكم صالح بن سليمان الراجحي
[email protected]