ابنة الرجل الصالح أو ابنة شعيب حينما جاءت تدعو موسى عليه السلام لزيارة أبيها يصف القرآن الكريم حيائها فيقول سبحانه:( فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .
المعلوم أن المرأة التي عندها صفة الحياء تحاول أن تقلل الكلام مع الرجال الغرباء. وتعمل على أن يكون الكلام مختصراً لا لبس فيه ولا غموض. ورب سائل يسأل : لماذا أطالت الكلام مع موسى عليه السلام وأظهرت سبب الدعوة ؟ وكان بإمكانها أن تكتفي بالقول له: إن أبي يدعوك ؟ أو إن أبي يريدك في أمر هام؟.
والجواب على ذلك على أوجه:
* حينما ذكرت المرأة السبب في دعوة أبيها لموسى فإن ذلك يُذَكّر موسى عليه السلام بتلك المرأة التي سقا لها ولولا ذلك لما عرفها
*. لقد كان عليه السلام غاضاً لبصره ولم ير ما يدعوه لمعرفتها لولا أنها صرّحت بتلك العبارة.
* لو اكتفت المرأة بالقول : إن أبي يدعوك. لتوجس موسى عليه السلام خيفة من تلك الدعوة فلعلها تكون دعوة فيها شرّ أو امر فيه خوف.
* إن ذكر السبب في الزيارة وقصدها يوفر الكثير من الأسئلة عند موسى تكون قد خطرت على قلبه وهو الغريب الطريد الذي يتخوّف من كل شيء.
* إن التذكير في صنيع المعروف يجب أن يتقدم في الكلام لإظهار حسن النوايا وتأكيد خلق الشكر.
*إن ذكر المرأة لسبب الدعوة فيه أيضاً تأكيد على حسن الجزاء عند حسن العمل. وهذا خلق الأنبياء عليهم السلام . فقد كان النبي عليه السلام يكافيء المحسن ويعطي البار. وهو القائل عليه أفضل الصلاة والسلام: من صنع إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تستطيعوا أن تكافئوه ، فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه.
هذا والله تعالى أعلم.
شكر الله لأخينا الفاضل تيسير على هذا الموضوع الذي هو في نظري مثال على المواضيع التي تربط المسلم بالنص القرآني وتدعو إلى تدبره. رجعت إلى تفسير الرازي ـ وأنا من المعجبين بتفسيره ـ فوجدته أورد إشكالات على الآية ولكنها لم ترق لي ، فأحببت أن أنقلها لكم واعتراضاتي عليها ، فإليكموها: قال الرازي: أما قوله : { قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } ففيه إشكالات : أحدها : كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية ، فإن ذلك يورث التهمة العظيمة ، وقال عليه السلام : « اتقوا مواضع التهم » ؟ والجواب : عن الأول أن نقول : أما العمل بقول امرأة فكما نعمل بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى في الأخبار وما كانت إلا مخبرة عن أبيها ، وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع.
قال الرازي: وثانيها : أنه سقى أغنامهما تقرباً إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه فإن ذلك غير جائز في المروءة ، ولا في الشريعة؟ وثالثها : أنه عرف فقرهن وفقر أبيهن وعجزهم وأنه عليه السلام كان في نهاية القوة بحيث كان يمكنه الكسب الكثير بأقل سعي ، فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من السقي من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة؟ والجواب : عن الثاني ، أن المرأة وإن قالت ذلك فلعل موسى عليه السلام ما ذهب إليهم طلباً للأجرة بل للتبرك برؤية ذلك الشيخ ، وروي أنها لما قالت ليجزيك كره ذلك ، ولما قدم إليه الطعام امتنع ، وقال إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ، ولا نأخذ على المعروف ثمناً ، حتى قال شعيب عليه السلام هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا ، وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق تحمله فقبل ذلك على سبيل الاضطرار وهذا هو الجواب : عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات. وأقول: هذه افتراضات من الرازي رحمه الله لا دليل عليها. فكون موسى فعل ذلك قربة لا دليل عليه. وكذلك فقرهن وفقر أبيهن لا دليل عليه ، والقوة وحدها لا تكفي للكسب إذا لم يكن هناك أبواب للكسب ، والدليل أن دعاء موسى عليه السلام كان يشير إلى أنه كان يترقب من الله فتح أبواب المعاش له. وأما التبرك برؤية ذلك الشيخ فتحتاج إلى دليل ، لا أقول أكثر من ذلك !! وأما كراهة موسى وما بعده من الكلام فلا ندري عمن رواه الرازي رحمه الله !؟ قال الرازي: ورابعها : كيف يليق بشعيب النبي عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون ذلك الرجل عفيفاً أو فاسقاً؟ والجواب : عن الرابع لعله عليه السلام كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها فكان يعتمد عليها . وأقول: الجزم بأن الرجل هو نبي الله شعيب يحتاج إلى دليل. ثم لو كان هو لما كان هناك حاجة إلى مثل هذا الجواب ، فمثل هذه التصرفات تحكمها الظروف والأعراف ، فالأصل هو الطهر والبراءة ، ثم نحن لا نعلم كيف كانت بيئتهم التي كانوا يعيشون فيها ، فربما كانت بكيفية يؤمن فيها من مثل هذه الأمور ، أم عفة وعدالة موسى عليه السلام ففعله يدل عليه حيث سقى لهن وهو غريب بينما لم يفعله الرعاء الذين ينتظر منهم مثل هذا الفعل بحكم علمهم بحال البنات وأبيهن.
بارك الله بك أبا سعد على ما قدمت . ومن اجل الإستزادة . في كتابه لمسات بيانية لسور القرآن الكريم قال الدكتور فاضل صالح السامرائي:
لم يعتذر موسى وقال لا أبغي أجراً وإنما كان يحتاج لمن يتكلم معه، ولم يجري حديث بينهما كل الحديث إن أبي يدعوك فتبعها وهو يمشي أمامها وهي توجهه، أول مرة مشت أمامه فرأى الرياح تلعب في ثوبها فقال لها امشي خلفي وأرشديني. (فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)) والخائف يحتاج إلى من يؤمنه ويطعمه (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) قريش) فآمنه وأطعمه.
أظن أن هذا السؤال الذي افترضه الرازي رحمه الله في غير محله وكان الرد عليه أيضاً يغشاه الضعف والمحاجّة . فمن قال أن أخذ الأجرة غير المشروطة غير جائز؟؟ وكيف لا يصح والقرآن الكريم يتحدث عن موسى في مصاحبته للخضر في جواز أخذ الأجرة وقد اعترض على الخضر بتفريطه في هذا الحق؟؟ والخضر عليه السلام بنى الجدار تقرباً الى الله تعالى كما هو معلوم:
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) والله اعلم
أخي تيسير لقد تعرض الرازي للفرق بين هذه القضية وقضية الجدار ، فموسى هناك يقول للخضر لو أنك طلبت الأجر على إقامة الجدار قبل القيام بالعمل ، فقال: " قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فكشفت عنها فقال موسى عليه السلام إني من عنصر إبراهيم عليه السلام فكوني من خلفي حتى لا ترفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحل لي ، فلما دخل على شعيب فإذا الطعام موضوع ، فقال شعيب تناول يا فتى ، فقال موسى عليه السلام أعوذ بالله قال شعيب ولم؟ قال لأنا من أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً ، فقال شعيب ولكن عادتي وعادة آبائي إطعام الضيف فجلس موسى عليه السلام فأكل ، وإنما كره أكل الطعام خشية أن يكون ذلك أجرة له على عمله ، ولم يكره ذلك مع الخضر حين قال : { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] والفرق أن أخذ الأجر على الصدقة لا يجوز ، أما الاستئجار ابتداء فغير مكروه ." وهنا يبدو لي التفريق وجيه ، لكن لي هنا ملاحظة زيادة على ما سبق: أولا: الرازي أورد هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه دون إسناد فلا نعلم صحته. ثانيا: أنه قال سابقا أن موسى عليه السلام سقى للمرأتين قربة . وقلت هذا لا دليل عليه إلا كون الفاعل هو موسى عليه الصلاة والسلام. ولو فرضنا أن قربة فهل أخذ الأجر على فعل القربة لا يجوز ؟ أعتقد أن الإخوة على علم بالخلاف في المسألة ، ومن ذلك أخذ الأجرة على تعليم القرآن. وأعتقد هنا أن القضية من باب المكافأة وفي الحديث الشريف أن هذا جائز: روى أبو داود رحمه الله تعالى: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ." وقد أشار أخونا تيسير إلى ذلك في مشاركته الأولى.
هذه الآيات من أنصع الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها على حياء المرأة وعفتها، وهي تبين أن هذا الخلق فطرة وجبلَّة جبلت عليها المرأة فلم تختلف فيها الشرائع، كما أنها من أقوى الردود على المزايدين حول حقوق المرأة وأدعياء حرِّيتها.
فيضاف إلى ما ذكره الإخوة أن هذه المرأة لم تطل الكلام أصلا إلا للضرورة الداعية، والدالة على كريم الشمائل وطبع العفة المتأصل والقاطع لكل ريبة.
وهذا القول ربما يحتاج أيضاً الى تثبت وسند لأنه خارج عن النص القرآني . ولو افترضنا أن قول الرازي صحيح أي أن قصد موسى عليه السلام كان محصوراً بطلب الأجر من أهل القرية قبل الشروع بالعمل. وقد كان موسى يدرك أن هذا الإعتراض هو الأخير في حقه وأن صحبته من الخضر قد انقطعت في هذا الإعتراض. فهل يمكن لموسى عليه السلام أن يضحّي بتلك الصحبة العلميّة لمجرد اعتراض بسيط قد انقضى؟؟؟ . أم أن الأمر في عين موسى كان أكبر من ذلك؟ بتقديري والله أعلم أن الأمور التي يتوجب على موسى الإعتراض عليها يجب أن تكون مصيرية ومتناقضة تستوجب الإستنكار كقتل الغلام وخرق السفينة. وعلى ذلك فإن مسألة الجدار وبنائه لا تقل أهمية في نظر موسى عن المسألتين السابقين. فهي لم تكن مجرد جدار بناه الخضر . بل إنها تتعلق بنفاذ مؤونة وانقطاع السبل لاستدامة الحياة مما يتوجب على أهل القرية إطعامهم بعد أن فرّطوا بواجبهم الأول وهو إقراء الضيف.
قال القرطبي: كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر، ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء، وفي القرية سألا القوت، وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة، منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا لغيره.
والله أعلم.
هل يمكن أن نفهم من حوار موسى عليه الصلاة والسلام مع المرأتين وأبيهما أن سكان مدين كانوا يتحدثون نفس اللغة التي كان يتحدثها بنو إسرائيل قوم موسى عليه السلام ؟
لم تكن مدين بعيدة عن العبرانيين فكانوا يسكنون منطقة متلاصقة وماء مدين كما قال بعض أهل التفسير هي منطقة الأردن وبعض البادية الفلسطينية . وكما هو معلوم فإن العربية التي كان يتكلم بها مدين قريبة من العبرانية لغة قوم موسى أو بني اسرائيل. فكلا اللغتين من أصل واحد. والله أعلم. كما هو حاصل الآن فإن اليهود في فلسطين يتكلمون العربية ويفهمونها. وأيضاً أهل فلسطين كلهم أو جلهم يعرفون العبرية قراءة وكتابة. والله أعلم.