محمد عبد المعطي محمد
New member
لمسات بيانية جميلة تجدها في تدبر كتاب الله تعالى الذي تشابهت آياته في الحسن والإحكام.
*ما وجه الإختلاف من الناحية البيانية بين آية 62 في سورة البقرة، وآية 69 في سورة المائدة؟
في المائدة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}، وفي البقرة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}. الآيتان فيهما تشابه واختلاف وزيادة في إحداها عن الأخرى.
أولا: من حيث الإعراب والتقديم والتأخير، ودوره في صياغة المعنى والدلالة؟
النصب في "الصابئين" ليس فيه إشكال (إذ هو من باب العطف على اسم إن الناصبة)، وإنما الرفع هو الذي كثيراً ما يُسأل عنه. والرفع في آية سورة المائدة من حيث الناحية الإعرابية ليس فيه إشكال عند النحاة لأنهم يقولون على غير إرادة (إنّ)، على محل إسم إنّ (فكأنها لم تكن عاملة في "الصابئين"، و"الصابئون" معطوفة على محل اسمها الذي هو مبتدأ قبل دخول "إن"). أى يجعلونه مبتدأ جملةٍ مستأنفة على تقدير: والصابئون كذلك. لكن ما النكتة البيانية في ذلك حتى لو خرّجناها نحوياً؟ فالإعراب فرع المعنى. لماذا رفع "الصابئون"؟ (إنّ) تفيد التوكيد فمعناه أن هنا قِسم مؤكّد وقسم غير مؤكد. (الصابئون) غير مؤكدة، والباقي مؤكد لماذا؟ لأنهم دونهم في المنزلة. فهم أبعد المذكورين ضلالاً.. يقول المفسرون أن هؤلاء يعبدون النجوم. صبأ في اللغة أي خرج عن المِلّة، أو الدين. فالصابئون خرجوا عن الديانات المشهورة، ودخلوا في الوثنية البغيضة.. هؤلاء أبعد المذكورين عن رقى الإيمان، والباقون أصحاب كتاب، فالذين هادوا والنصارى والذين آمنوا أتباع رسالات وكتب سماوية وإن ضلوا، ولقد عاب القرآن على اليهود إذ صححوا مذهب الشركين على دين الإسلام؛ وكانوا أولى باتباع دين محمد والأنبياء قبله أو حتى عدم نصرة الوثنية عليه. فوجب هنا ألا يوضع الجميع في سلةٍ واحدة، فمن كان عنده كتاب وجاءه رسول ؛ وإن حرَّف وبدل أولى ممن عبد الوثن والطاغوت، ويرسم معالم هذا الإنصاف التشكيل النحوي في الآية الكريمة التي فصلت" الصابئين" عن أهل الكتاب في الإعراب، وهو بعينه ما عناه- الجرجاني- في نظريته الشهيرة عن النظم ..
*لماذا لم يأت بها مرفوعة ووضعها في نهاية الترتيب؟ هنا ندخل في مسألة التقديم والتأخير وليست في مسألة المعنى. وهي ليست الآية الوحيدة التي فيها تغيّر إعرابي. في آية التوبة {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (3) التوبة}،فقد عدلت الآية عن إعراب "ورسولَه" على النصب مع أنه يمكن العطف على لفظ الجلالة "الله" المنصوب إعراباً، وإنما عُطف على المحل، أي (ورسوله كذلك بريء) لأن براءة الرسول ليست ندّاً لبراءة الله تعالى، ولكنها تبع لها، براءة الله تعالى هي الأولى ولو كانت "ورسولَه" على النصب تكون مؤكَّدة ومقارنة لبراءة الله، فإشارة ذلك إلى أن براءته ليست بمنزلة براءة الله سبحانه وتعالى، وإنما هي دونها فرفعت" ورسولُه) على غير إرادة (إنّ).
حتى في الشعر العربي: إن النبوةَ والخلافةَ فيهمُ*** والمكرماتُ وسادةٌ أطهارُ.
قال "المكرماتُ" بالرفع، ولم يقل "المكرماتِ" نصبا بالعطف على اسم "إن"؛ لأن المكرمات وهؤلاء السادة لا يرتقون لا إلى النبوة ولا إلى الخليفة. هذه الدلالة موجودة في الشعر ففهمها العرب.
وفي سورة الحج تحدثت الآيات عن مطلق الايمان والكفر والحساب يوم القيامة لذلك لما بدأ ذكرهم أولاً بالتأكيد جمعهم جميعاً بحرف العطف حتى يأتي معنى كلمة {يفصل بينهم}. لاحظ الآية: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)}، إذن هنا لا مجال ولا معنى لفصل المؤمنين لأن الفصل سيكون يوم القيامة. وهنا في آية المائدة: إن الذين آمنوا لهم حكم، وهؤلاء لهم حكم مقيّد إذا فعلوا هذا معناه أنه سينحازون الى الإيمان والاسلام. لكن هنا ليس هناك كلام على الايمان أو غيره وإنما كلام على الفصل، كيف يفصل؟ لا بد أن يجمعهم أولاً ثم يفصل بينهم؛ فكان التركيب النحوي بالعطف في سورة الحج مفيدا لمعنى الجمع يوم الجمع لساعة الفصل.
***
يبقى السؤال حول التقديم والتأخير في الترتيب في آية المائدة قال تعالى {والصابئون والنصارى}، وآية البقرة فيها: {والنصارى والصابئين}. ففي المائدة قدّم ورفع "الصابئين"، بناءاً على أنه ذمّ النصارى في المائدة ذماً فظيعاً على معتقداتهم، وتكلم على عقيدة التثليث، فجعلهم كأنهم لم يؤمنوا بالله ابتداءً، وكأنهم صنف من المشركين ؛ ففيها قال تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (72)}، وقال: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74)}، ولما كان الكلام على ذم العقائد عقيدة النصارى أخّر النصارى حتى تكون منزلتهم أقل، وقدّم الصابئين مع أنهم لا يستحقون. وفي البقرة لم يذم عقيدة النصارى في سياق الآيات؛إذ لم يكونوا مقصودون به فوُضع الصابئين في موضعهم المنطقي في آخر المِلل.
ثانياً: هناك فرق بين الآيتين {فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} في آية سورة البقرة، أما في سورة المائدة {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، والمذكورين في الآيتين هم نفسهم (الذين آمنوا، الذين هادوا، النصارى، الصابئين)، فما دلالة ما جاءت في سورة البقرة {فلهم أجرهم عند ربهم} ولم تأتِ في سورة المائدة؟.
الجواب: أن في سورة المائدة السياق كما قلنا في ذمّ عقائد اليهود والنصارى ذمّاً كثيراً مسهباً. أما في سورة البقرة، فالكلام عن اليهود فقط وليس النصارى. ولنتأمل الآيات في السورتين وكيف تحدثت عن اليهود: ففي سورة البقرة والتي كانت أول ما نزل في المدينة وفيها أول لقاء بين الرسول وأهل الكتاب ، هنالك في السورة تجد السياق تذكير بنعمة الله وفضله على يهود والوعظ والأمل في عودتهم عن ضلالهم، فسياق الوعظ والترقيق في آيات البقرة يستصحبه الوعد بالأجر للمهتدين؛ ولذلك جاءت {فلهم أجرهم عند ربهم}.
على خلاف السياق في سورة المائدة والتي نزلت في أواخر ما نزل في عمر دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة حين اشتداد ضلال أهل الكتاب وحربهم على دين الله الحق ، فاسترسلت سورة المائدة في الدفاع عن عقيدة الحق وذم عقائد الضالين من يهود والنصارى، وفي هذا السياق القوى في الحق والعنيف على الشرك لا مجال هنا سوى للترغيب اللطيف مع ترهيب خفى في قوله تعالى:{فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}؛ وكأنه يقول لهم لا نجاة من الخوف والحزن في الآخرة بغير تقوى الله والرجوع إلى سبيله.
وفي هذا دروس تربوية للمنهج الدعوي المتدرج في نشر الحق والدفاع عنه والقوة والحكمة في بيانه حين يقتضي الأمر.
وهذا بالضبط ما نقصده بالسياق الترتيبي، والسياق التاريخي الدعوي، والسياق التربوي، وأثر كل هذا في نظم وتركيب، ودلالة وتدبر القرآن العظيم.
وأيضاً بما أن سورة البقرة جاءت أقل غضباً وذكراً لمعاصي اليهود لذا جاءت الرحمة فقد وردت الرحمة ومشتقاتها في سورة البقرة( 19 مرة) بينما وردت في المائدة ( 5 مرات) لذا اقتضى التفضيل بزيادة الرحمة في البقرة، والأجر يكون على قدر العمل فالنسبة للذين آمنوا من أهل الكتاب قبل تحريفه وهم مؤمنون بالله تعالى عليهم أن يؤمنوا إيماناً آخر باليوم الآخر المقصود الذين آمنوا إيماناً حقيقياً.
ثالثاً:{ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} تعبير في غاية العجب، والدقة من الناحية التعبيرية والدقة الدلالية والأداء، ولا تعبير آخر يؤدي مؤدّاه.بما يمكن أن نسميه" الدقة الأدائية" في لغة القرآن.
وتفصيل ذلك أنه نفى من الخوف الاسم ولم ينفي فعل الخوف، فلم تكن" ولا يخافون"، كما قال " ولا هم يحزنون"، ثم ما قيمة ضمير" هم" الدلالية ههنا؟
إن الخوف أمر جبلي لا ينفك عنه إنسان، وخصوصا في هول مشاهد القيامة؛ والمؤمن ممدوح بخوفه من الله الذي يبلِّغه الأمن يوم القيامة، فليس من المناسب نفى فعل الخوف عنه،والنفى هنا لمقتضى الخوف {لا خوف عليهم} معناها لا يُخشى عليهم خطر؛ فالخوف موجود، وهو طبيعي، ولكن الأمان من الله تعالى أمّنهم به.وبما أنهم عرفوا مكانهم عند ربهم فليس بقلوبهم مكان للحزن؛ فنفى فعلهم للحزن على ما فاتهم؛ فمن كان الله معه ل يفته شيء، كما نفى تجدد الحزن لهم في ذلك الموقف العصيب يوم الدين أو فيما يسقبل بعده..كما لا يستقيم قولنا" لا حزن عليهم" بمعنى لا يحزن عليهم احد؛ فالمؤمن تبكيه الأرض والسماء، بعكس الكفار {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)} (الدخان: 29).
والنكتة في {ولا هم يحزنون}: بتقديم (هم) أي أن الذين يحزن غيرهم وليس هم. نُفي الفعل عنهم، ولكن أُثبِت لغيرهم بدلالةٍ غير مباشرة .. كأن نقول (ما أنا ضربته) أي لست أنا الذي ضربته ، فانظر من ضربه؟ نفيته عن نفسي ، وأشير إلى وجود شخص آخر ضربه (يُسمّى في علوم البلاغة التقديم للقصر)، أما عندما نقول (ما ضربته) يعني لا أنا ولا أعلم غيري.
* ما الفرق بين(عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) في سورة الكهف و (وَعَمِلَ صَالِحًا) هنا في آية البقرة؟
في عموم القرآن إذا كان السياق في العمل يقول (عملاً صالحاً). كما في آخر سورة الكهف {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (110)} لأنه تكلم عن الأشخاص الذين يعملون أعمالاً سيئة، ويكون السياق في الحديث عن الأعمال وشروط قبولها وصحتها {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} والسورة أصلاً بدأت بالعمل {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)}.مع العمل يقول "عملاً" تنبيها لخطورة وشأن العمل في السياق الدلالي للآيات.
أما في آية البقرة:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} فليست في سياق الأعمال فقال {عمل صالحاً} هكذا بمطلقها.
وههنا نصل إلى أن لغة القرآن في دقة أداء كلماتها وقيمة تركيبها وسياقاتها الدلالية المتنوعة وتشابهها واختلافها محكمة احكاماً معجزا لا يستطيعه بشر، ومن يمتلك قدرا مناسبا من الحس اللغوي والبلاغي يدرك عظمة لغة القرآن وأدائها التربوي والعقلاني اللطيف.
*ما وجه الإختلاف من الناحية البيانية بين آية 62 في سورة البقرة، وآية 69 في سورة المائدة؟
في المائدة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}، وفي البقرة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}. الآيتان فيهما تشابه واختلاف وزيادة في إحداها عن الأخرى.
أولا: من حيث الإعراب والتقديم والتأخير، ودوره في صياغة المعنى والدلالة؟
النصب في "الصابئين" ليس فيه إشكال (إذ هو من باب العطف على اسم إن الناصبة)، وإنما الرفع هو الذي كثيراً ما يُسأل عنه. والرفع في آية سورة المائدة من حيث الناحية الإعرابية ليس فيه إشكال عند النحاة لأنهم يقولون على غير إرادة (إنّ)، على محل إسم إنّ (فكأنها لم تكن عاملة في "الصابئين"، و"الصابئون" معطوفة على محل اسمها الذي هو مبتدأ قبل دخول "إن"). أى يجعلونه مبتدأ جملةٍ مستأنفة على تقدير: والصابئون كذلك. لكن ما النكتة البيانية في ذلك حتى لو خرّجناها نحوياً؟ فالإعراب فرع المعنى. لماذا رفع "الصابئون"؟ (إنّ) تفيد التوكيد فمعناه أن هنا قِسم مؤكّد وقسم غير مؤكد. (الصابئون) غير مؤكدة، والباقي مؤكد لماذا؟ لأنهم دونهم في المنزلة. فهم أبعد المذكورين ضلالاً.. يقول المفسرون أن هؤلاء يعبدون النجوم. صبأ في اللغة أي خرج عن المِلّة، أو الدين. فالصابئون خرجوا عن الديانات المشهورة، ودخلوا في الوثنية البغيضة.. هؤلاء أبعد المذكورين عن رقى الإيمان، والباقون أصحاب كتاب، فالذين هادوا والنصارى والذين آمنوا أتباع رسالات وكتب سماوية وإن ضلوا، ولقد عاب القرآن على اليهود إذ صححوا مذهب الشركين على دين الإسلام؛ وكانوا أولى باتباع دين محمد والأنبياء قبله أو حتى عدم نصرة الوثنية عليه. فوجب هنا ألا يوضع الجميع في سلةٍ واحدة، فمن كان عنده كتاب وجاءه رسول ؛ وإن حرَّف وبدل أولى ممن عبد الوثن والطاغوت، ويرسم معالم هذا الإنصاف التشكيل النحوي في الآية الكريمة التي فصلت" الصابئين" عن أهل الكتاب في الإعراب، وهو بعينه ما عناه- الجرجاني- في نظريته الشهيرة عن النظم ..
*لماذا لم يأت بها مرفوعة ووضعها في نهاية الترتيب؟ هنا ندخل في مسألة التقديم والتأخير وليست في مسألة المعنى. وهي ليست الآية الوحيدة التي فيها تغيّر إعرابي. في آية التوبة {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (3) التوبة}،فقد عدلت الآية عن إعراب "ورسولَه" على النصب مع أنه يمكن العطف على لفظ الجلالة "الله" المنصوب إعراباً، وإنما عُطف على المحل، أي (ورسوله كذلك بريء) لأن براءة الرسول ليست ندّاً لبراءة الله تعالى، ولكنها تبع لها، براءة الله تعالى هي الأولى ولو كانت "ورسولَه" على النصب تكون مؤكَّدة ومقارنة لبراءة الله، فإشارة ذلك إلى أن براءته ليست بمنزلة براءة الله سبحانه وتعالى، وإنما هي دونها فرفعت" ورسولُه) على غير إرادة (إنّ).
حتى في الشعر العربي: إن النبوةَ والخلافةَ فيهمُ*** والمكرماتُ وسادةٌ أطهارُ.
قال "المكرماتُ" بالرفع، ولم يقل "المكرماتِ" نصبا بالعطف على اسم "إن"؛ لأن المكرمات وهؤلاء السادة لا يرتقون لا إلى النبوة ولا إلى الخليفة. هذه الدلالة موجودة في الشعر ففهمها العرب.
وفي سورة الحج تحدثت الآيات عن مطلق الايمان والكفر والحساب يوم القيامة لذلك لما بدأ ذكرهم أولاً بالتأكيد جمعهم جميعاً بحرف العطف حتى يأتي معنى كلمة {يفصل بينهم}. لاحظ الآية: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)}، إذن هنا لا مجال ولا معنى لفصل المؤمنين لأن الفصل سيكون يوم القيامة. وهنا في آية المائدة: إن الذين آمنوا لهم حكم، وهؤلاء لهم حكم مقيّد إذا فعلوا هذا معناه أنه سينحازون الى الإيمان والاسلام. لكن هنا ليس هناك كلام على الايمان أو غيره وإنما كلام على الفصل، كيف يفصل؟ لا بد أن يجمعهم أولاً ثم يفصل بينهم؛ فكان التركيب النحوي بالعطف في سورة الحج مفيدا لمعنى الجمع يوم الجمع لساعة الفصل.
***
يبقى السؤال حول التقديم والتأخير في الترتيب في آية المائدة قال تعالى {والصابئون والنصارى}، وآية البقرة فيها: {والنصارى والصابئين}. ففي المائدة قدّم ورفع "الصابئين"، بناءاً على أنه ذمّ النصارى في المائدة ذماً فظيعاً على معتقداتهم، وتكلم على عقيدة التثليث، فجعلهم كأنهم لم يؤمنوا بالله ابتداءً، وكأنهم صنف من المشركين ؛ ففيها قال تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (72)}، وقال: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74)}، ولما كان الكلام على ذم العقائد عقيدة النصارى أخّر النصارى حتى تكون منزلتهم أقل، وقدّم الصابئين مع أنهم لا يستحقون. وفي البقرة لم يذم عقيدة النصارى في سياق الآيات؛إذ لم يكونوا مقصودون به فوُضع الصابئين في موضعهم المنطقي في آخر المِلل.
ثانياً: هناك فرق بين الآيتين {فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} في آية سورة البقرة، أما في سورة المائدة {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، والمذكورين في الآيتين هم نفسهم (الذين آمنوا، الذين هادوا، النصارى، الصابئين)، فما دلالة ما جاءت في سورة البقرة {فلهم أجرهم عند ربهم} ولم تأتِ في سورة المائدة؟.
الجواب: أن في سورة المائدة السياق كما قلنا في ذمّ عقائد اليهود والنصارى ذمّاً كثيراً مسهباً. أما في سورة البقرة، فالكلام عن اليهود فقط وليس النصارى. ولنتأمل الآيات في السورتين وكيف تحدثت عن اليهود: ففي سورة البقرة والتي كانت أول ما نزل في المدينة وفيها أول لقاء بين الرسول وأهل الكتاب ، هنالك في السورة تجد السياق تذكير بنعمة الله وفضله على يهود والوعظ والأمل في عودتهم عن ضلالهم، فسياق الوعظ والترقيق في آيات البقرة يستصحبه الوعد بالأجر للمهتدين؛ ولذلك جاءت {فلهم أجرهم عند ربهم}.
على خلاف السياق في سورة المائدة والتي نزلت في أواخر ما نزل في عمر دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة حين اشتداد ضلال أهل الكتاب وحربهم على دين الله الحق ، فاسترسلت سورة المائدة في الدفاع عن عقيدة الحق وذم عقائد الضالين من يهود والنصارى، وفي هذا السياق القوى في الحق والعنيف على الشرك لا مجال هنا سوى للترغيب اللطيف مع ترهيب خفى في قوله تعالى:{فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}؛ وكأنه يقول لهم لا نجاة من الخوف والحزن في الآخرة بغير تقوى الله والرجوع إلى سبيله.
وفي هذا دروس تربوية للمنهج الدعوي المتدرج في نشر الحق والدفاع عنه والقوة والحكمة في بيانه حين يقتضي الأمر.
وهذا بالضبط ما نقصده بالسياق الترتيبي، والسياق التاريخي الدعوي، والسياق التربوي، وأثر كل هذا في نظم وتركيب، ودلالة وتدبر القرآن العظيم.
وأيضاً بما أن سورة البقرة جاءت أقل غضباً وذكراً لمعاصي اليهود لذا جاءت الرحمة فقد وردت الرحمة ومشتقاتها في سورة البقرة( 19 مرة) بينما وردت في المائدة ( 5 مرات) لذا اقتضى التفضيل بزيادة الرحمة في البقرة، والأجر يكون على قدر العمل فالنسبة للذين آمنوا من أهل الكتاب قبل تحريفه وهم مؤمنون بالله تعالى عليهم أن يؤمنوا إيماناً آخر باليوم الآخر المقصود الذين آمنوا إيماناً حقيقياً.
ثالثاً:{ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} تعبير في غاية العجب، والدقة من الناحية التعبيرية والدقة الدلالية والأداء، ولا تعبير آخر يؤدي مؤدّاه.بما يمكن أن نسميه" الدقة الأدائية" في لغة القرآن.
وتفصيل ذلك أنه نفى من الخوف الاسم ولم ينفي فعل الخوف، فلم تكن" ولا يخافون"، كما قال " ولا هم يحزنون"، ثم ما قيمة ضمير" هم" الدلالية ههنا؟
إن الخوف أمر جبلي لا ينفك عنه إنسان، وخصوصا في هول مشاهد القيامة؛ والمؤمن ممدوح بخوفه من الله الذي يبلِّغه الأمن يوم القيامة، فليس من المناسب نفى فعل الخوف عنه،والنفى هنا لمقتضى الخوف {لا خوف عليهم} معناها لا يُخشى عليهم خطر؛ فالخوف موجود، وهو طبيعي، ولكن الأمان من الله تعالى أمّنهم به.وبما أنهم عرفوا مكانهم عند ربهم فليس بقلوبهم مكان للحزن؛ فنفى فعلهم للحزن على ما فاتهم؛ فمن كان الله معه ل يفته شيء، كما نفى تجدد الحزن لهم في ذلك الموقف العصيب يوم الدين أو فيما يسقبل بعده..كما لا يستقيم قولنا" لا حزن عليهم" بمعنى لا يحزن عليهم احد؛ فالمؤمن تبكيه الأرض والسماء، بعكس الكفار {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)} (الدخان: 29).
والنكتة في {ولا هم يحزنون}: بتقديم (هم) أي أن الذين يحزن غيرهم وليس هم. نُفي الفعل عنهم، ولكن أُثبِت لغيرهم بدلالةٍ غير مباشرة .. كأن نقول (ما أنا ضربته) أي لست أنا الذي ضربته ، فانظر من ضربه؟ نفيته عن نفسي ، وأشير إلى وجود شخص آخر ضربه (يُسمّى في علوم البلاغة التقديم للقصر)، أما عندما نقول (ما ضربته) يعني لا أنا ولا أعلم غيري.
* ما الفرق بين(عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) في سورة الكهف و (وَعَمِلَ صَالِحًا) هنا في آية البقرة؟
في عموم القرآن إذا كان السياق في العمل يقول (عملاً صالحاً). كما في آخر سورة الكهف {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (110)} لأنه تكلم عن الأشخاص الذين يعملون أعمالاً سيئة، ويكون السياق في الحديث عن الأعمال وشروط قبولها وصحتها {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} والسورة أصلاً بدأت بالعمل {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)}.مع العمل يقول "عملاً" تنبيها لخطورة وشأن العمل في السياق الدلالي للآيات.
أما في آية البقرة:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} فليست في سياق الأعمال فقال {عمل صالحاً} هكذا بمطلقها.
وههنا نصل إلى أن لغة القرآن في دقة أداء كلماتها وقيمة تركيبها وسياقاتها الدلالية المتنوعة وتشابهها واختلافها محكمة احكاماً معجزا لا يستطيعه بشر، ومن يمتلك قدرا مناسبا من الحس اللغوي والبلاغي يدرك عظمة لغة القرآن وأدائها التربوي والعقلاني اللطيف.