لمسات بيانية في نصوص من التنزيل

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29/03/2003
المشاركات
19,331
مستوى التفاعل
138
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]
هناك من الأسرار البيانية في القرآن الكريم ما يهتز طالب العلم طرباً عندما يقرأها أو يستنبطها ، وقد امتلأت كتب العلماء من السلف والخلف بمثل هذه الأسرار واللمسات البيانية الخلابة ، تجدها وأنت تقرأ في كتب التفسير ، وفي كتب البلاغة ، وربما في كتب التراجم أحياناً.
وسأبدأ في هذه المشاركة بشيء من هذا اللون المساند للمفسر في تفسيره لكتاب الله ، فهي ليست من صلب التفسير حتى لا يعترض معترض ، ولكنها من المسائل التي لا يأباها المعنى والدليل إن شاء الله.
وقد أخذت عنوان المشاركة من كتابٍ بديعٍ للأستاذ الدكتور فاضل بن صالح السامرائي وفقه الله وبارك في علمه، حيث قد كتب كتاباً بهذا العنوان طبعته دار عمار في الأردن. وأصل الكتاب كان بحثاً قدمه في المؤتمر الأول للإعجاز القرآني المعقود بمدينة السلام بغداد في شهر رمضان عام 1410هـ ، وطبعت بحوث ذلك المؤتمر في كتاب قيم بعنوان (الإعجاز القرآني) ، طبعته وزارة الأوقاف والشؤون الدينية العراقية.
وأشكر أخي الكريم الشيخ سعيد الرقيب وهو أحد أعضاء ملتقى أهل التفسير الذي أشار إلى أن هناك برنامج يقدمه الدكتور فاضل السامرائي في قناة الشارقة تحت نفس العنوان (لمسات بيانية) ، وهو برنامج أسبوعي يسير مع كتابه هذا في مهيع واحد ، وكتابه الآخر الرائع كذلك (التعبير القرآني) ، وكتابه (بلاغة الكلمة).
وللفائدة فإن كتب الدكتور فاضل بن صالح السامرائي كلها ذات قيمة علمية كبيرة ، وخاصة لطلاب العلم المتخصصين في التفسير والدراسات القرآنية ، ولو لم يكن له من المصنفات إلا كتاب (معاني النحو) لكفاه ذلك فخراً ، ومن تأمل كتابه هذا عرف قدر الرجل وعلمه.
وسأبدأ في هذه المشاركة بذكر لمسة بيانية واحدة حتى لا تملوا ، وهكذا في كل مشاركة قادمة إن شاء الله ، وأرجو من الزملاء الكرام المشاركة بقدر الطاقة ، مع الحرص على الانتقاء ، وسأعتمد على ما ذكره الدكتور فاضل السامرائي ، وأحرص على رصد ما أجده بإذن الله في غيره من كتب التفسير والبلاغة مستقبلاً ، وقد مر عليَّ أثناء قراءتي لكتب عبدالقاهر الجرجاني ، والدكتور محمد أبو موسى ، والدكتور عبدالعظيم المطعني من ذلك شيء كثير ، فلعلي أعود إليها بإذن الله مستقبلاً ، وأنتقي منها ما يمتع وينفع بإذن الله.

اللمسة البيانية الأولى :
من سورتي المعارج والقارعة

قال تعالى في سورة المعارج :(وتكون الجبال كالعهن)[الآية 9].
وقال في سورة القارعة :(وتكون الجبال كالعهن المنفوش)[الآية 5].
فزاد كلمة (المنفوش) في سورة القارعة على ما في المعارج ، فما سبب ذاك؟

والجواب - والله أعلم :
1- أنه لما ذكر القارعة في أول السورة ، والقارعة من (القَرْعِ) ، وهو الضرب بالعصا ، ناسب ذلك ذكر النفش ؛ لأن من طرائق نفش الصوف أن يُقرعَ بالمقرعة. كما ناسب ذلك من ناحية أخرى وهي أن الجبال تهشم بالمقراع - وهو من القَرْع – وهو فأس عظيم تحطم به الحجارة ، فناسب ذلك ذكر النفش أيضاً.
فلفظ القارعة أنسب شيء لهذا التعبير. كما ناسب ذكر القراعة ذكر (الفراش المبثوث) في قوله :(يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) أيضاً ؛ لأنك إذاقرعت طار الفراش وانتشر. ولم يحسن ذكر (الفراش) وحده كما لم يحسن ذكر (العهن) وحده.

2- إن ما تقدم من ذكر اليوم الآخر في سورة القارعة ، أهول وأشد مما ذكر في سورة المعارج . فقد قال في سورة المعارج :(تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة * فاصبر صبراً جميلاً * إنهم يرونه بعيداً* ونراه قريباً). وليس متفقاً على تفسير أن المراد بهذا اليوم ، هو اليوم الآخر. وإذا كان المقصود به اليوم الآخر فإنه لم يذكر إلا طول ذلك اليوم ، وأنه تعرج الملائكة والروح فيه. في حين قال في سورة القارعة :(القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة) فكرر ذكرها وعَظَّمها وهوَّلها. فناسب هذا التعظيم والتهويل أن يذكر أن الجبال تكون فيه كالعهن المنفوش. وكونها كالعهن المنفوش أعظم وأهول من أن تكون كالعهن من غير نفش كما هو ظاهر.

3- ذكر في سورة المعارج أن العذاب (واقع) وأنه ليس له دافع (سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع) ووقوع الثقل على الصوف ، من غير دفع له لا ينفشه بخلاف ما في القارعة ، فإنه ذكر القرع وكرره ، والقرع ينفشه وخاصة إذا تكرر ، فناسب ذلك ذكر النفش فيها أيضاً.

4- التوسع والتفصيل في ذكر القارعة حسَّن ذكر الزيادة والتفصيل فيها ، بخلاف الإجمال في سورة المعارج ، فإنه لم يزد على أن يقول :(في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة).

5- إن الفواصل في السورتين تقتضي أن يكون كل تعبير في مكانه ، ففي سورة القارعة ، قال تعالى :(يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش). فناسبت كلمة (المنفوش) كلمةَ (المبثوث).
وفي سورة المعارج ، قال :(يوم تكون السماء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن*). فناسب (العهن) (المهل).

6- ناسب ذكر العهن المنفوش أيضاً قوله في آخر السورة :(نار حامية) لأن النار الحامية هي التي تذيب الجبال ، وتجعلها كالعهن المنفوش ، وذلك من شدة الحرارة ، في حين ذكر صفة النار في المعارج بقوله :(كلا إنها لظى * نزاعة للشوى) . والشوى هو جلد الإنسان. والحرارة التي تستدعي نزع جلد الإنسان أقل من التي تذيب الجبال ، وتجعلها كالعهن المنفوش ، فناسب زيادة (المنفوش) في القارعة من كل ناحية. والله أعلم.
7- كما أن ذكر النار الحامية مناسب للقارعة من ناحية أخرى ، ذلك أن (القَرَّاعة) – وهي من لفظ القارعة – هي القداحة التي تقدح بها النار.
فناسب ذكر القارعة ، ذكر الصوف المنفوش ، وذكر النار الحامية ، فناسب آخر السورة أولها.
وبهذا نرى أن ذكر القارعة حسَّنَ ذكر (المبثوث) مع الفراش ، وذكر (المنفوش) مع الصوف ، وذكر النار الحامية في آخر السورة. والله أعلم.

المصدر :
(لمسات بيانية في نصوص من التنزيل) لفاضل السامرائي حفظه الله ص 198-200
 
اللمسة البيانية الثانية

من سورتي الطور والقلم.
قال تعالى في سورة الطور:(فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون).
وقال في سورة القلم :(ما أنت بنعمة ربك بمجنون).

فزاد قوله :(بكاهن) على ما في سورة القلم ، فما سبب ذاك ؟
والجواب : أن هناك أكثر من سبب دعا إلى هذه الزيادة.

1- منها أنه فصل في سورة الطور في ذكر أقوال الكفرة في الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد ذكروا أنه كاهن ، وذكروا أنه مجنون ، وذكروا أنه شاعر . ( أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون). وقالوا إنه كاذب :(أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون).
في حين لم يذكر غير قولهم إنه مجنون في سورة القلم :(ويقولون إنه لمجنون) فناسب ذكر هذه الزيادة في سورة الطور.

2- ومنها أنه ذكر في سورة الطور قوله :(أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين) والاستماع مما تدعيه الكهنة لتابعيهم من الجنِّ ، فناسب ذلك ذكر الكهنة فيها.

3- ومنها أنه ذكر السحر في سورة الطور فقال :(أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ). فناسب ذكر السحر ذكرَ الكهنة.

4- ومما حسن ذلك أيضاً أنه توسع في القَسَم في أول سورة الطور بخلاف سورة القلم ، فقد قال :(والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع* والبحر المسجور).
في حين لم يقسم في سورة القلم إلا بالقلم وما يسطرون. فناسب التوسع في الطور هذه الزيادة.

5- ذكر في سورة القلم في آخر السورة قول الكفرة ، إنه لمجنون ولم يزد على هذا القول ، فقال :(وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون) فرد عليهم في أول السورة بنفي الجنون عنه فقال:(ما أنت بنعمة ربك بمجنون). فناسب آخر السورة أولها.

ثم انظر من ناحية أخرى كيف ناسب التأكيد بالباء الزائدة في النفي (بمجنون) التوكيد باللام في الإثبات (لمجنون) لأن الباء لتوكيد النفي واللام لتوكيد الإثبات. والله أعلم.

من (لمسات بيانية) للسامرائي ص 168-169
 
لمسات بيانية

لمسات بيانية

بينما كنت (أبحبش) وأنقش على مشاركات قديمة للدكتور عبد الرحمن وقع تحت يدي هذه المشاركة والتي أثارت استغرابي من ناحيتين:
الأولى أن المادة العلمية فيها تدخل في صلب التفسير وسحر البيان ومع ذلك لم تكن وقتها لتثير أي قاريء في التوقف عندها أو التعليق عليها.
والثانية ان هذه المشاركة قسمت الى قسمين وكان بينهما ما يقارب الستة أيام ومع ذلك فلم ترعي انتباه أحد من المشاركين سوى قرائتها من بعض النفر القليل.
فقلت في نفسي :
إما أن يكون عدد المشاركين ذلك الوقت قليل. أو أن تكون تلك المشاركة وضعت في وقت قد شُغل فيه الأخوة الأعضاء عنها ولم يراجعوها. أو أن يكون أهل التفسير من الأعضاء آنذاك لم يكونوا على اطلاع مستمر بما يستحدث من مشاركات .
فحمدت ربي على ما آل اليه الملتقى الآن من نشاط بحيث يتناول أي مسألة تفسيرية أو بيانية في غاية الشوق ويتلمس ما بها من بيان وسحر .ويستشعرون ما صوّره الدكتور عبد الرحمن حين قال: ( يهتز طالب العلم طرباً عندما يقرأها أو يستنبطها ).
ولأجل ذلك فإني أعيد استحياء هذه المشاركة من جديد عسى أن يستدرك الأخوة ما لذ فيها وطاب . فيدركوا ما فات الأعضاء الأولين ما راح منهم وغاب.والحمد لله الرازق الوهاب.
 
سؤال حول المشاركة:
هل يوجد علاقة إعجازية بين قوله تعالى (العهن المنفوش ) وبين مادة الصوف الصخري التي تُصنع من الصخور ؟
وهل كلمة عهن عند أهل اللغة تعني الصوف؟ أم أن هناك معانٍ أخرى لها؟؟
 
فائدة
العهن هو الصوف الملوّن باللون الأحمر .
في تفسير زيد بن أسلم وتكون الجبال كالعهن كالصوف الأحمر وهو أضعف الصوف وهي في حرف ابن مسعود كالصوف الأحمر المنفوش. قال يحيى وهي في قراءة ابن مسعود كالصوف الأحمر المنفوش(تفسير ابن أبي زمنين)
وفي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت: فتلت قلائدها من عهن كان عندي. العهن الصوف المصبوغ
قال ابن الاعرابي وغيره: يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا. قال: ولا يكون العهن من الصوف إلا المصبوغ،
قال القرطبي: العهن الصوف الأحمر، واحده عهنة. وقيل: العهن الصوف ذو الألوان، فشبه الجبال به في تلونها ألوانا.
قلت: وبما أن الجبال ألوان مختلفة فقد كانت كالعهن الملوّن الوان مختلفة أيضاً .الم تر قول الله تعالى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ.
 
بارك الله فيكم يا أبا أنس على إحياء هذا الموضوع ، فقد طالب العهد به وبغيره من الموضوعات الجديرة بالنقاش والإفادة ، وقد كنتُ كتبته أول ما بدأنا في الملتقى ، وكثير من الباحثين لا يعرف الدكتور فاضل السامرائي حينها بخلاف اليوم ولله الحمد .
وكثير من الموضوعات القيمة لا تحظى بنقاشات توازي قيمتها العلمية لأسباب جديرة بالتأمل والدراسة ، ولعل أخي أمين الشنقيطي وفقه الله وقد تصدى لدراسة الملتقى دراسة علمية أن يدرس هذه الإشكالية ويقترح الحلو لها فنحن في حاجة إلى ذلك ، وأنتم كذلك يا أبا أنس فأنت أستاذنا في علم المكتبات والقراءة وأسباب العزوف عنها ولعله يحلق بها أسباب العزوف عن التعليقات على الموضوعات العلمية ، وكثرة التعليقات على الموضوعات التي لا تحتاج إلى إعمال العقل ، ومراجعة المصادر العلمية .
وفقك الله وجعلك مباركاً أينما كنت .
 
عودة
أعلى