لمحات في آيات
لمحة1:
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة : 12]
انظر كيف يكون منهج المجرمين فاسدا في الدنيا، وفاسدا في الأخرى:
"وضعية" في الدارين و"علمانية" !
فالجهال ربطوا "المعرفة" بشروطها الوضعية فقط:
1-قدموا البصر على السمع (والغالب في القرآن تقديم السمع على البصر) إشارة إلى تمكنهم من المعرفة، فالبصر أقوى أداة للمعرفة لقوله عليه السلام:
"ليس الخبر كالمعاينة"
2-شفعوا البصر بالسمع إشارة إلى تآزر أدوات الإدراك لإكساب المعرفة قوة على قوة.
3-من التجربة الحسية القوية استخلصوا معرفة عقلية (أو قلبية) يقينية..فقالوا "إنا موقنون"
واليقين هو أعلى مراتب العلم.
4-ربطوا العلم بما ينبغي أن يرتبط به وهو العمل:" فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا"
فيكون الترتيب الغائي:
سنعمل صالحا....لأننا تيقنا
وتيقنا .........لأننا سمعنا وأبصرنا.
منهج وضعي لا غبار عليه يتلقاه بالقبول "داود هيوم "نفسه!!
لكن :
أين الله في كل هذا؟
أقصاه المجرمون من منهجههم..
ظنوا أن المعرفة قائمة بتحقق شروطها الوضعية فقط وأن معرفتهم مستقلة، آلية، تلقائية،كـأن الله لا يمسك بقلوبهم..!
والرد على طلب هؤلاء :
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام : 110]
والرد على أدلتهم "اليقينية" من غير الله:
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
"نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُون"
الضمائر كلها تعود عليهم ومن هنا فساد المنهج..
ولو قالوا مثلا:
نَعْمَلْ صَالِحًا[بإذنك] إِنَّا مُوقِنُون" لاستقام الطلب والمنهج..وأنى ذلك للمجرمين..
لمحة 2: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر : 15-14] الآية قريبة مما سبق... لنلحظ أولا بلاغة اختيار الكلمة: 1-الباب في السماء ،فهو مشهود لديهم لا يضامون في رؤيته..ولا يحجبه حاجب: المكان صالح للإدراك! 2- "فظلوا " فعل نهاري... الزمان صالح للإدراك! 3- "فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ" الفعل ذو ديمومة واستمرار...وليس فعلا خاطفا سريعا قد يقع فيه شك... 4- "فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ" لم تقتصر التجربة على مشاهدة الباب في السماء فحسب..بل ارتقوا إليه وتلبسوا به وعرجوا فيها...فيكون الجمع بين الإدراك البصري والخبرة المباشرة.. الفعل صالح للاستنباط! كيف يمكن رد كل هذا اليقين؟ قالوا: "إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ" هذه ذريعة السفسطة وحجتها في كل العصور: إن لم يكن الشك في الموضوع ممكنا، فليكن الشك في الذات! أعني : إذا لم يكن الشك ممكنا في المدرَكات، فليكن الشك في آلات الإدراك، في الذات المدرِكة...والنتيجة واحدة. عندئذ تنفتح هوة الجحبم: فلا سبيل إلى رد شكهم في الذات.. أولا:محال أن يستدلوا بما هو "محايث" فلا يكون العقل متهما وقاضيا في وقت واحد...فكل دليل قوي من العقل يرد بسهولة شديدة بقولك لخصمك:دليلك من العقل على العقل مصادرة فجة! ثانيا: محال أن يستدلوا بما هو "مفارق" لأن هؤلاء العقلانيين والتجربانيين لا يؤمنون بشيء خارج الحس والعقل .. الحاصل أن كل العقلانيين تلزمهم السفسطة تلك ضربة لازب! إنهم يستدلون على كل شيء بالعقل...لكن العقل نفسه يبقى عندهم في العتمة..فكيف يستدلون على العقل: بنفسه :محال، بغيره: محال..!
يا مقلب القلوب!
لنلحظ بلاغة الاشارة في الآيات: - وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ.. - مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ 1-المقام الأول مقام تشريع، يقتضي بيان الحلال والحرام ،فأشار إلى الشجرة ب"هذه" كأنها قريبة ليدركها المكلفان ويتعرفا عليها ويميزاها عن غيرها...
ا2-لمقام الثاني مقام إغراء ،يقتضي حضور موضوع الإغراء-والإغراء لا يتحقق إلا بإظهار التفاصيل، والتفاصيل لا تتجلى إلا عن كثب- فقرب الشيطان الشجرة : هَذِهِ الشَّجَرَةِ...
3-المقام الثالث مقام تبكيت ،فالله تعالى حرم الشجرة وكان المفروض أن يجتنباها ويبتعدا عنها فأشار ربنا إليها ب " تِلْكُمَا" الدالة على بعد المسافة..وفيه من التبكيت أن الشجرة كانت بعيدة ومع ذلك أتيتماها وأكلتما منها...
حديث : ( ليس الخبر كالمعاينة ، إن الله عز وجل أخبر موسى عليه السلام بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت ) لا يسعفك - أخي أباعبدالمعز - في الإستشهاد به على كلامك !
فأمر الآخرة والحساب أمر غيبي لا يدرك بالرؤية ولكن يؤمن به بسماعه من الرسول ، فإذا جاء البعث رأى الكافر عيانا ماكان يكذب ، وسمع تصديق الله رسله ، حينها يوقن ويتمنى أن لو يرجع للدنيا فيعمل صالحا ، ولات حين مناص .
أسلوب بديع في ضرب الأمثال..وقد جاء التذييل في الآية نفسها تنبيها على ذلك:
" كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ"
ويكمن وجه الإبداع في ترتيب غير متوقع لعناصر الخطاب:
ذلك لأن الترتيب المعهود في خطاب المثل أن يأتي "التنصيص " مقدما على "النص"... أعني يأتي أولا ذكر أنه سيضرب مثل، ثم يعقبه ذكر المثل..
ففي سورة الحج-مثلا- جاء التنصيص على المثل أولا:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ..
ثم جاء نص المثل بعد ذلك:
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ-73 -
هذا الترتيب طبعي عند بادي الرأي ...لأن التنصيص المتقدم يهدي القاريء إلى نوع الخطاب الذي سيتلقاه، ومن ثم يأخذ أهبته لتوجيه القراءة وجهتها الملائمة ...
غير أن المثل المضروب في سورة "الرعد" قد تقدم فيه نص المثل وأجل التنصيص عليه..فلا يعي القاري أن الخطاب مثل مضروب حتى يفرغ من قراءته -عندما ينبؤه التذييل أن ما قرأ كان مثلا!!-:
" كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ"
فيكون المتلقي مضطرا إلى الرجوع القهقرى، فقد تحتم أن يعيد التأويل جذعا!!
وهنا تثير بلاغة التلقي سؤالا لا مناص منه:
ماذا كان يقرأ المتلقي قبل أن يهتدي إلى أن المقروء مثل!!!
بوسعنا أن نرصد في ذهن المتلقي ثلاث لحظات تأويلية - على أقل تقدير-:
1- لحظة الاستصحاب الدلالي:
-أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً...
عندما يتلو المتلقي هذا الجزء من الآية يكون خاضعا لسلطان السياق المتقدم، فيؤول المقروء على نحو يتحقق فيه التشاكل الدلالي بين ما بين يديه وما خلفه:
قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ-16
ينهض السياق على أركان الحجاج في الألوهية والربوبية...ومدار الحجاج بصفة عامة مبني على العلاقة بين الربوبية والألوهية..حيث تتقررقاعدة جليلة -فيها النجاة أو الهلاك-ذات بندين:
- التفرقة بين الربوبية والألوهية على صعيد المفهوم..
- التوحيد بين الربوبية والألوهية على صعيد المصداق..
إن المخاطبين بالحجاج في هذه الآيات لا ينكرون البند الأول-وقد نشأ الخلل فيما بعد عند طوائف من المسلمين، حكماء ومتكلمين وأرباب سلوك، وحدوا بين مفهومي الربوبية و الألوهية فاعتقدوا إن إثبات الربوبية هو عينه إثبات الألوهية فسقطوا في محض الشرك دون وعي منهم-
و الحجاج هنا يحوم حول البند الثاني فقط ..فيسفه المشركين إذ يؤلهون من لا يملك أي صفة من صفات الربوبية ويلحقونهم شركاء برب العالمين خالق ومالك كل شييء ،باعتراف هؤلاء المشركين أنفسهم...فتكون الآية مقروءة بحسب هذا السياق:
-أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً...
فالرب خالق الحياة وأسبابها، ومن أجلى المظاهر نزول المطر المتجدد أمام أنظار المشركين، وما يعقب ذلك من بعث الحياة الكامنة في الأرض أمام أنظارهم أيضا...فكيف يؤلهون غيره وليس لهم من الخلق أي شيء!!!
2-لحظة التردد :
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ..
قراءة هذا الجزء من الآية يثير شيئا غير قليل من الريب في التأويل...فهنا فجوة دلالية واضحة:
فأية علاقة بين إنزال المطر من قبل الله تعالى وعمل الصاغة والحدادين..
لا شك أن القصد إلى تشبيه زبد بزبد مستبعد جدا ،لا يليق ببلاغة القرآن أبدا، فلا يظنن أحد أن الآية تصف ما ينشأ من زبد في سيول الأمطار لتقرر بعدها أن هذا الزبد مثل الزبد المتكون في جفنات الصاغة عند صهر الذهب!!!
3-لحظة تجديد القراءة:
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ..
هذا الجزء الأخير من الآية يرغم المتلقي على إعادة القراءة لتزول الفجوة السابقة وتتسق دلاليا..
فالصورة لم تعد حسية بل هي معنوية ...ومدار الأمر ليس على رصد ظاهرة طبيعية -من سقوط الماء- أو ظاهرة صناعية -من جعل الحلي- بل مداره على وصف الصراع بين الحق والباطل..فأخرج القرآن المعنوى في صور الحسي...فيكون تشابه الزبد المائي والزبد الصناعي من حيث تمثيلهما للباطل ..ذلك الباطل الذي يملأ الفضاء ويعرض نفسه على الأنظار وهو انتفاش فارغ لا يصمد أمام أدنى اختبار..
ويكون تماثل الماء والذهب الخالص من حيث إشارتهما إلى الحق والحقيقة ...ذلك الحق الذي يرسب إلى قعر الجفنة تحت رغوة الباطل أو يسلك في الأرض تحت ستار الزبد...
فتكون القراءة الجديدة كاشفة عن مضمون جديد:
الصراع بين الحق والباطل، وجدل المستعلن و المستخفي!!
1- الخر سقوط مع صوت، فيناسب الجسم الثقيل فيقال :خرت الشجرة ولا يقال –فيما أحسب-خرت ورقة الشجرة... قال تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) فسجودهم مقترن بصوتين:الذكر والبكاء.
ويذهب علماء النفس إلى أن المنتحر، بالسقوط من مكان عال، لا بد من أن يصرخ أثناء سقوطه (مع أنه اختار الموت واختار الوسيلة)مما يدل على حدة الإحساس بالرعب عند الساقط..وهذا المعنى مقصود من المثل فالإحساس بالرعب عند المشرك مقابل بالإحساس بالأمن عند الموحد: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْن ُوَهُمْ مُهْتَدُونَ .
2- خر من السماء....والسماء علو ورفعة كذلك التوحيد. ويستفاد من المثل المضروب أن التوحيد أصيل في الفطرة والشرك عارض طارئ كما في الحديث الصحيح: ..خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا...
3- خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ للتعبير بالمضارع قدرة عجيبة على تحويل نمط الخطاب :فلو اسنعمل المضي في الموضعين لكان الخطاب إخباريا...! لكن مع فعل "فَتَخَطَّفُهُ" يتحول "الخبر" إلى "مشهد" فنكون بصدد خطاب تصويري.. "فَتَخَطَّفُهُ":لفظ واحد يقرأ مرة واحدة لكن له ديمومة في المخيلة..فللخيال أن يستحضر جماعات الطيروتكرار فعل الخطف وتوزع أشلاء الساقط ...مما يؤكد المنحى التصويري للمثل.
4- ليس لهذا المشرك إلا فعل إرادي واحد :خر. وبعدها يكون مسلوب الإرادة والاختيار، فالساقط لا يستطيع أن يختار مكان سقوطه ،أو أن يميل يمينا أو شمالا ،أوأن يتوقف عن السقوط ...
5- "فَتَخَطَّفُهُ الطير" هو عجز مطلق...واختيار" الطير" بليغ لوجهين على الأقل: 1- الطير جنس فيه الجوارح والبغاث فيؤول المعنى إلى أن المشرك عرضة لكل ما هب ودب وهدف للشريف والخسيس. 2- الطير عادة نفور من الإنسان: شأنها الابتعاد لا الاقتراب، لكنها هنا أدركت بحسها أن هذا الساقط لا حول له ولا قوة فتجرأت عليه.
6- لم يفقد المشرك حريته وقوته فحسب بل فقد كل مقومات الإنسان...فهو في المثل مجرد جسم في سقوط حر، لا فرق بينه وبين صخرة، فلا يملك لنفسه في سقوطه إلا ما تملك الصخرة لنفسها!!
7- ذهب المفسرون إلى أن "أو" للتخيير والتنويع قال ابن عاشور:
وَقَوْلُهُ: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ تَخْيِيرٌ فِي نَتِيجَةِ التَّشْبِيهِ، كَقَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [الْبَقَرَة: 19] . أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ شِرْكُهُ ذَبْذَبَةٌ وَشَكٌّ، فَهَذَا مُشَبَّهٌ بِمَنِ اخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فَلَا يَسْتَوْلِي طَائِرٌ عَلَى مِزْعَةٍ مِنْهُ إِلَّا انْتَهَبَهَا مِنْهُ آخَرُ، فَكَذَلِكَ الْمُذَبْذَبُ مَتَى لَاحَ لَهُ خَيَالٌ اتَّبَعَهُ وَتَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَقِسْمٌ مُصَمِّمٌ عَلَى الْكُفْرِ مُسْتَقِرٌّ فِيهِ، فَهُوَ مُشَبَّهٌ بِمَنْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي وَادٍ سَحِيقٍ، وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ شِرْكُهُ لَا يُرْجَى مِنْهُ خَلَاصٌ كَالَّذِي تَخَطَّفَتْهُ الطَّيْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شِرْكُهُ قَدْ يَخْلُصُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ إِلَّا أَنَّ تَوْبَتَهُ أَمْرٌ بَعِيدٌ عَسِيرُ الْحُصُولِ. وفي النفس شيء من هذا التقسيم وإن ذكره جمهرة المفسرين!! قال الألوسي: و"أو" للتقسيم على معنى أن مهلكه إما هوى يتفرق به في شعب الخسار أو شيطان يطوح به في مهمه البوار، وفرق بين خاطر النفس والشيطان فلا يرد ما قاله ابن المنير من أن الأفكار من نتائج وساوس الشيطان، والآية سيقت لجعلهما شيئين، وفي تفسير القاضي أنها للتخيير على معنى أنت مخير بين أن تشبه المشرك بمن خر من السماء فتخطفه الطير وبين من خر من السماء فتهوي به الريح من مكان سحيق أو للتنويع على معنى أن المشبه به نوعان والمشبه بالنوع الأول الذي توزع لحمه في بطون جوارح الطير المشرك الذي لا خلاص له من الشرك ولا نجاة أصلا، والمشبه بالنوع الثاني الذي رمته الريح في المهاوي المشرك الذي يرجى خلاصه على بعد، وقال ابن المنير: إن الكافر قسمان لا غير، مذبذب متمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة وهذا مشبه بمن اختطفه الطير وتوزعته فلا يستولي طائر على قطعة منه إلا انتهبها منه آخر وتلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه وترك ما كان عليه، ومشرك مصمم على معتقد باطل لو نشر بالمناشير لم يكع ولم يرجع لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه فهو فرح مبتهج بضلالته وهذا مشبه في قراره على الكفر باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل هو أبعد الاحياز عن السماء فاستقر فيه انتهى، ولا يخفى أن ما ذكرناه أوفق بالظاهر.انتهى.
والذي أراه أن "أو" في المثل بمعنى "الواو" العاطفة: فليس ثمة تقسيم للمشركين فظاهر الآية يأباه إذ يدل على شخص واحد له حالتان: -تخطفه الطير -تهوي به الريح و"أو" العاطفة بين الحالتين أو الحدثين لا تعني التخيير في نتيجة التشبيه -كما زعم ابن عاشور- بل هما حالتان مستقلتان يمر بهما المشرك ف"الطير" و"الريح" لا يتموضعان على المحور العمودي الاستبدالي بل على المحور الأفقي .. "فتخطفه الطير "جزاء للمشرك في الدنيا "تهوي به الريح "جزاء للمشرك في الأخرى.. عقوبتان للمشرك لا نوعان من المشركين . وهذا بعض التفصيل: أ- قال: تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ... ولم يقل: تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ إلى مَكَانٍ سَحِيقٍ... وحرف الظرف "إلى" هو الملائم للساقط فيكون مركب "من السماء " مقابلا بمركب" إلى مَكَانٍ سَحِيقٍ" جمعا بين الابتداء والانتهاء- والفضاء فاصل بينهما- لكن الآية استعملت "في": فحركة الريح بالمشرك تتم في فضاء مغلق لا مفتوح ..فالحركة ليست إلى اتجاه المكان السحيق بل فيه، والخيال يقدر هنا الحركة في هوة أو هاوية (من أسماء جهنم الهاوية) ب- لا نرى في جغرافية الأرض ما يستحق أن يوصف بالسحيق..والسحيق هنا ليس هو البعد في المكان أو البعد في الضلالة فحسب، بل البعد عن رحمة الله أيضا: "فسحقا لأصحاب السعير" ج- نستأنس ببعض التعابير النبوية: «هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا» «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ»
هكذا يكون المثل قد بين حالة المشرك في الدنيا في صورة الساقط في الجو تتخطفه الطير ،وبين مصيره في الآخرة وهو السقوط إلى قعر الهاوية أعاذنا الله منها!