لمحاتٌ علميةٌ في القرآن الكريم للباحث محمد قرانيا

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29/03/2003
المشاركات
19,318
مستوى التفاعل
127
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
القرآن الكريم معمارٌ فريد متكامل. هو نسيجُ وحدِه، لغةً وأسلوباً وفكراً، وإيقاعاً. يتميّز برصفٍ للألفاظ يفجّر ما بداخلها من نغم، لا ينبع من حواشي الكلمات وأوزانها وفواصلها فحسب، وإنما من باطنها أيضاً، بأسلوبٍ محيّر معجزٍ، وبطريقةٍ تسلمنا إلى خشوعٍ وإدراك غامض، يضعنا في جوّ سحري آسرٍ، حتّى قبل أن ندرك كنهه "فإذا بدأنا نتأمل ونعقل ونحلل، ونعكف على الكلمات، فسوف تنفتح لنا كنوزٌ من المعاني والمعارف والأفكار، تحتاج إلى مجلداتٍ لشرحها"(1).‏

ونظراً لاتساع موضوع اللمحات العلمية، فإننا سنكتفي بإطلالاتٍ سريعةٍ على بعض اللمحات في الكتاب الكريم، آخذين بعين الاعتبار، أن القرآن كتابُ دينٍ وعقيدة وهداية، وليس كتابَ علمٍ أو فلسفةٍ، تكفي منه اللمحة والومضة والرمز والإشارةِ، عن الجزئيات والتفاصيل.‏

إن من أسرار القرآن الكريم، صلاحيتَه لكل مستويات التفكير الإنساني؛ فحوى إلى جانب الآيات المبسّطة المعاني، آياتٍ عاليةَ المستوى، يجد فيها الفقيه ما يفي ويفيض عن ثقافته الدينية، كما يجد فيها المفكّرُ العالم آياتٍ تقارب العلوم التجريبية، وتُرضي نوازعَ البحث والاستقصاء في نفسه، لأن البحث والاستيعاب، وربط الحقائق وتنظيمها في إطارٍ محدّد من النظريات والقوانين، هو من سمات رجل العلم الأصيل، "لهذا عندما يقرأ المفكّرُ القرآنَ، نجده يتوقّف عند آياتٍ معيّنةٍ لها جاذبيةٌ خاصة، ومعانٍ يرى فيها علماً قائماً بذاته"(2).‏

إن كثيراً من الآيات القرآنية تحتوي على تلميحاتٍ فيها عمومياتٌ تتيح للقارئ حريةَ التأمّل والتفكير، وهذا ما يؤكّد أن القرآن ليس كتابَ نظرياتٍ علمية، ولا يجوز ربطُ ما ورد فيه من الإشارات العلمية، بالكشوفات العلمية، كأن "نفصّل لبعض الآيات أثواباً من الاختراعات الحديثة" حتّى ندلّل فيها سعظمة القرآن، ولكن ذلك لا يمنع من الاستشهاد ببعض الآيات القرآنية التي سبقت زمن الاكتشافات، والمعطيات العلمية المعاصرة.‏

لقد حضّ القرآن على العلم والمعرفة التي تؤدّي إلى الإيمان، الذي تتفاوت درجته بتفاوت درجة المعرفة: (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ(.(فاطر ـ 28).‏

وكلٌّ من الإيمان والمعرفة، لا يتأتَّيان إلا بالنظر إلى جلال الخالق من خلال مخلوقاته ـ حيةً وميتةً ـ فالذي يدقّق بإمعانٍ أكثر، هو الذي يرى ويدرك بصورةٍ أدقّ وأعمق، ومن ثمّ فهو الذي يحظى بمرتبةٍ عاليةٍ من العبادة ، لارتكازه على التفكير العلمي وليس على مجرّد الدعاء والتسبيح فحسب.‏

لقد ألحتِ الآيات العديدة على ضرورة التفكّر والتدبّر: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكّرون في خلق السموات والأرض(.(آل عمران ـ 191) لذا كان التفكير في صنع الله ـ إضافة إلى أنه عبادة ـ دعوةً لإعمال العقل، بغية الاستفادة من بديع صنع الخالق، والاشتغالِ بالبحث العلمي الذي يُمكّن من إدراك كنهِ بعض الأسرار الرائعة، التي يتوصّل إليها رجل العلم، قبل المتفقّه في الدين "ومن هنا قد يتجلّى لرجل العلم المغزى العظيم عندما يقرأ بإمعان (ربنا ما خلقت هذا باطلاً. سبحانك(.(آل عمران ـ 191) ومعنى الباطل: هو كل شيء لا يقوم على أساسٍ، ونحن لا نعرف عن طريق العلم التجريبي شيئاً في الكون قد قام على غير أساسٍ، من أول الذرة إلى السموات.. فلكل قوانينها العظيمة المتقنة، التي تاهت في أسرارها أعظم العقول" "لو كنتم تعلمون"(3).‏

إن القرآن الكريم رسالةُ السماء الأخيرة إلى الأرض، ارتضت أن يكون الإسلام دين الحياة، لا ينفصل عنها، ولا يتصادم معها، وإنما يتفاعل بها، ويحتضن كل جديدٍ، ما دامت غايته إصلاح البشرية، وسعادتها في ظلّ المبادئ والقيم التي ارتضاها خالق الخلق لتسيير الكون.‏

ولقد اقتضت الحكمة الإلهية ألا تتكشّف حقائقُ الوجود للناس دفعةً واحدةً، وإنما على مراحل. ممّا يوجب على الباحث التدقيق في كتاب الله المسطور، وكتابه المنظور. لأن من يظن أنه قد وصل إلى الحقيقة، لابدّ لـه من عرضها على ما جاء في كتاب الله.. فأهل اللغة يعلمون جيداً مقدارَ ما تحمله اللفظة، أو العبارة من أوجهٍ، وعلى ذلك قيل: إن معظم نصوص القرآن الكريم (ظنية الدلالة) تحتمل أكثر من معنى وإن كان قطعي الثبوت.‏

إن العلوم الكونية، ومنها علوم الطب والصحة. لا تدخل ـ بصورةٍ مباشرةٍ في مهمات الرسالة السماوية ـ مع ورود إشارات لها في القرآن الكريم ـ لذا كان على الإنسان تطوير هذه العلوم، والارتقاء بها لتتماشى مع التوجيه القرآن غير المباشر، الذي يطلب من المرء الحفاظَ على جسده وصحته، ففي الآية القرآنية (وقرآن الفجر. إن قرآن الفجر كان مشهودا(.(الإسراء ـ 78) دعوةٌ للنهوض من النوم لتأدية صلاة الفجر، على الرغم ممّا في هذه الدعوة من تعكيرٍ للنوم، وحرمانٍ للجسم من أخذ كفايته من الراحة والسكينة، ولقد أثبتت الدراسات الطبية مقدار ما في النهوض المبكّر من فوائد صحية للجسم، لأن النوم المتواصل من شأنه أن يعرّض صاحبه للإصابة بأمراض القلب، وقد علّلت الدراسات ذلك بأن ثمّة مادة دهنيةً مذابةً في الدم تترسّب في جدران الشرايين التاجية القلبية، تعطّل وظيفة الشرايين في التغذية، وتُفقدها قابليات المرونة المطاطية، فلا تصلح لضخ كمياتٍ مناسبة من الدم اللازمة لتغذية أنسجة القلب العضلية، وينتج عن ذلك تضيّقٌ لمجرى الشرايين. لذلك تنبّه كثيرٌ من العلماء والمفكرين في الغرب إلى هذه المسألة التي نبّه إليها الإسلام، فحرصوا على النهوض من النوم بعد أربع ساعات، لإجراء بعض الحركات الرياضية، لمدة ربع ساعة، للحفاظ على طراوة الشرايين القلبية، ووقايتها بالحركة من الترسّبات الدهنية.‏

ولو عدنا إلى القرآن الكريم لوجدنا أنه قد "سبق الطب الحديث في اكتشاف هذه الظاهرة، والإشارة إليها، ووضع التدابير الصحية الرائعة عندما أوصى بالنهوض إلى صلاة التهجّد في الثلث الأخير من الليل ثمّ انتظار صلاة الفجر..."(4) فحقق بذلك الفائدة الصحية، مع العبادة في النهوض إلى الصلاة، التي يتوجّه فيها المؤذن بالنداء الخالد: "الصلاة خيرٌ من النوم" وكأنه يثيرنا بالرياضة، ويغرينا بالعبادة، ويذكّرنا بأن العبادة رياضة، والرياضةَ صحةٌ وحياة، وإن الإنسان المعاصر ليستشعر أهمية هذه الرياضة الصباحية التي أكّدت الحقائق الطبية الحديثة نجاعتها وجدواها، ومن ثمّ الانطلاق للعمل في البكور بعد الصلاة فقال الرسول ( [باكروا الغدوَ ـ أي الصباح ـ في طلب الرزق، فإن الغدو بركةٌ ونجاح] وقال أيضاً: "اللهم بارك لأمتي في بكورها "ورُويَ عن السيدة فاطمة رضي الله عنها أنها قالت" مرَّ بي رسول الله وأنا مضطجعة، فحرّكني، ثمّ قال: يا بُنية قومي اشهدي رزقَ ربك، ولا تكوني من الغافلين، فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس".‏

إن من ملامح الإعجاز البياني في القرآن الكريم مواكبة النصّ القرآني للمكتشفات العلمية، ومطابقته للظواهر المكتشفة، من ذلك مثلاً ما ورد في (سورة الطارق ـ 11) من قوله تعالى‏

(والسماء ذاتِ الرجع، والأرض ذات الصدع( إذ فسّر المفسرون الأوائل" رجعَ السماء" بأنه المطر. أمّا اليوم فقد أصبحنا نعرف للسماء صوراً أخرى كثيرةً للرجع، منها رجع الموجات الكهرومغنطيسية التي تنقل لنا موجات المذياع والتلفاز واللاسلكي وغيره، وأيضاً رجع الغلاف الجوي للأشعة الكونية، والأشعة الشمسية، لحماية الأرض والأحياء من تلك الأشعة القاتلة.‏

وأما "صدع الأرض" فقد فسّروها في القديم بتصدّع التربة عن البذرة، لتخرج منها النبتة، أمّا اليوم، فقد بتنا نعرف صدوعاً أخرى للأرض، ربما كانت أهمَّ من تلك الصدوع التي يخرج أنه المطر. أنا اليوم فقد أصبحنا نعرف للسماء صوراً أخرى كثيرةً للرجع، منهامنها النبات، ألا وهي تلك الصدوع العميقة، التي تمتدّ في قيعان المحيطات والبحار، وتتفتّق عن براكينَ وحممٍ عظيمةٍ من باطن الأرض، لتحمي الكرةَ الأرضية من انفجارٍ، لو لم تكن فيها تلك الصدوع.‏

وهكذا نجد أن اللفظ القرآني، لاسيما ما يتعلّق منه بالظواهر الكونية، قابلٌ لتجديد فهمه على مرّ العصور، وفقاً لما يكتشفه العلم من حقائق جديدة"(5).‏

ـ ولكن. كيف يتم النظر إلى اللمحة العلمية القرآنية؟‏

إن ما يُطلق عليه التفسير العلمي للقرآن بدعوى (العلمية) لونٌ من ألوان الاجتهاد، لتفسير القرآن بالعلم، بغية تأكيد العظمة الحقيقية للإعجاز المفحم في القرآن الكريم، إضافة إلى أنه كتاب عقيدة وتشريع محكم الآيات، متسق الصياغة، مطّرد الدلالة، لا تناقض فيه ولا اضطراب، ولا اختلاف، لأنه من عند الله (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً(.(النساء ـ 82).‏

ولقد ظهرت النزعة (العلمية) منذ قرون. إذ أُخضعت الكثير من الآيات القرآنية لبعض معارف العلم الطبيعي المستحدثة، وقد انطلق أصحابها من فحوى الآية القرآنية: (ما فرطنا في الكتاب من شيء‍(.(الأنعام ـ 38) واستوحوا منها احتواء القرآن على جميع العلوم والمعارف جملةً وتفصيلاً، ولم يكتفوا باحتوائه على أصول وضوابط عامة (كليات) يعمل الناس وفق هديها، وإنما تركوا فيها الباب مفتوحاً للمجتهدين والمشتغلين بالعلوم، يدرسون تفاصيلها وفق مقتضيات الزمان الذي يعيشون فيه، والمكان الذي يسعون فوقه.‏

لقد ابتدأت نزعة التفسير العلمية منذ العصر العباسي حين ظهرت محاولات للتوفيق بين القرآن وما جدَّ في العصر من علوم، اهتمّ بها كثيرون، من بينهم "الغزالي" الذي قال في كتابه (إحياء علوم الدين) إن "القرآن يحوي سبعةً وسبعين ألف علم ومائتي علم. إذ كل كلمةٍ علمٌ ثمّ يتضاعف ذلك إلى أربعة أضعاف. إذ لكل كلمة ظاهرٌ وباطن، وحدٌّ ومطلع" ثمّ يقول: "إن كل ما أشكل فهمه على النظّار، واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات في القرآن إليه، رموزٌ ودلالات عليه، يختصّ أهل الفهم بإدراكها".‏

وظهرت مثل هذه المحاولات لدى "الفخر الرازي" ضمن تفسيره للقرآن، ثمّ تعدّدت بعد ذلك الكتب المستقلة التي تناولت الظواهر العلمية، التي استدلّ بها أصحابها على النصوص القرآنية، في الوقت الذي اندفع فيه أصحاب هذه النزعة باتجاه الثقافة الأجنبية التي هبّت على الأمة الإسلامية، فظهرت نزعات فلسفية صوفية في التفسير، متأثرة بالثقافتين الهندية واليونانية، منذ منتصف القرن الثاني الهجري، وعرف الناس التفسير الصوفي النظري، والتفسير الإشاري الفيضي. لكنّ عدداً من الفقهاء رأوا فيها خروجاً عن العقيدة السليمة.‏

إن من المسلّم به علمياً وجود فروق بين كل من الفرضية والنظرية والقانون "فالقانون علاقة محددة تربط برباط الضرورة بين الظواهر أو بين عناصرها. أمّا النظرية، فإنها صياغة (عمومية) لتفسير أسباب الظواهر، وكيفية حدوثها، في حين أن الفرضية تفسير أولي للظواهر، يقوم على التخمين والمعقولية، ولو لم يمكن إثباته. فالنظرية والفرضية كلتاهما إذن قابلةٌ للتعدّد، وقابلةٌ للتغيير أيضاً، ومن ثمّ فإن في تفسير القرآن بهما تعويضاً له هو أيضاً قابلاً للتعدّد والتبديل"(6). وهذا مستحيل!.‏

لقد وقف أحد العلماء المعاصرين عند الآية القرآنية (إن الله فالق الحب والنوى. يخرج الحيّ من الميت، ومخرج الميت من الحيّ(.(الأنعام ـ 95) وأعمل الفكر في المعنيين الظاهر والباطن اللذين أشار إليهما (الغزالي) في إحياء علوم الدين، فوجد أن المعنى الظاهر يتجلّى في هيمنة القدرة الإلهية على مصير الحبة الجافة، والنواة الساكنة، فيهب كليهما الحياة، وتنشقّ كلّ منهما عن جنين أو بادرةٍ صغيرةٍ فيها حياةٌ بعد سكون، فنراها وقد ارتفع ساقها إلى الشمس والهواء، واتجه جذرها إلى الأرض باحثاً عن عناصر الغذاء.‏

هذا المعنى الظاهر، مع صلاحه لإثارة مكامن الفكر عند الإنسان العادي، وتوضيح عظمة الله فيما خلق، وبيان كيف أن الحبة، أو النواة تنفلق، وتنشقّ عن شجرةٍ كبيرة، فإن المعنى الباطن الذي يراه رجل العلم في قوله تعالى: (فالق الحب والنوى( يقوم على نظرياتٍ وقوانين وعلوم فيزيائية وكيميائية وبيولوجية تملأ الصفحات الطويلة من الكتب، ويمكن لنا إيجازها بشيء من التبسيط، بالقول: "إن لكل شيءٍ في الكون مركزاً أو نواةً، ولا يقتصر هذا على نظرتنا القاصرة في نواة البلح أو نواة أي ثمرة أخرى، ولكننا نرى فيها صوراً رائعة نستطيع أن ننهل من مواردها الكثير. ثمّ إذا بنا في النهاية نرى وحدانية الخالق تتجلّى لنا في وحده خلقه، من أصغر الأشياء إلى أكبرها.‏

فللذرة نواةٌ تتوسّطها، وتسيطر على شخصيتها لأنها هي الأساس وقد تنشطر النواة، أو تنفلق ثمّ تلتحم، ومن الخطأ القول إن الإنسان هو الذي قام بشطر نواة الذرّة ليستخرج منها الطاقة الذرية، ولكن هذه العملية موجودةٌ قبل ظهور الإنسان على الأرض بملايين السنين، وهو الأساس الذي تقوم عليه حياة الشمس منذ الأزل، فحياة الشمس تعتمد على عملية الانفلاق والالتحام بنوى ذراتها، وهو ما يعبّر عنه بالطاقة النووية الشمسية، ولو توقّفت، لانتهت الحياة" ولا لزوم للدخول في التفاصيل المعقّدة، ولكن لابدّ أيضاً من التساؤل. هل "الحب والنوى" القرآني هو "النوى النووية" عند علماء الذرة؟(7).‏

يجيب العلم بأنه لا يمكن التأكيد والجزم، ولكن يكفي القول: إن كثيراً من الآيات القرآنية قد جاءت مكتفية بالإشارة والتلميح من دون الإسهاب والتوضيح. ذلك أن القرآن ـ كما قلنا ـ كناب عقيدةٍ سماويةٍ في المقام الأول، وليس من المعقول أن يتعرّض لجميع الأسرار العلمية.. والمثير في المسألة أن (النوى) رأى المفسّرون فيها أنها تخاطب العرب الأوائل في جزيرتهم، لأن القرآن نزل على أعراب ليس لهم معرفة أو دراية بغير ما يحيط بهم من نخل ورمل وإبلٍ ومرعى، وسوى ذلك من الموجودات الطبيعية التي عرفتها الصحراء والواحات، و"نوى التمر" تناسب تفكيرهم.‏

كما أن (النوى) والنواة، تناسب تفكير الإنسان في القرن العشرين وما بعده، فلقد تركت الآية دون تحديد، ومع ذلك فإن الإنسان يستطيع أن يحدّد معناها بقدر ما يحمل من فكر علمي، والآية القرآنية (فالق الحب والنوى) ستظلّ كغيرها في كتاب الله تناسب الإنسان العادي، والمزارع، والفقيه، ورجل العلم. ينهل كل منهم من أسرارها على حسب وعيه وتفكيره، لأن سرّ الإعجاز القرآني صلاحيته لكل مستويات التفكير الإنساني، في كل مكان ولكل زمان.‏

لقد توقّف أحد المفسرين المعاصرين عند الآية الكريمة (أولم يرَ الذين كفروا أن السموات والأرض، كانتا رتقاً ففتقناهما(.(الأنبياء ـ 30) ونظر إليها نظرةً علميةً، فرأى فيها "إحدى الفرضيات البشرية التي تبحث في أصل الكون، وتزعم أنه بدأ في صورة غازٍ وأتربةٍ، ودخانٍ يملأ الفضاء، وينتشر فيه، ثمّ راح يتكدس في بؤراتٍ تحت تأثير الدوامات والجاذبية، ليكوّن الأجرام السماوية في الكواكب التي نراها، وهذا يعني أن الأرض والسماء كانتا متصلتين ثمّ فصل الله بينهما"(8) وفي ذلك تمحّلٌ لا مسوغٌ لـه، يضع النصّ القرآني تحت رحمة الفرضية، أو يُخضع الفرضية لفحوى النصّ الكريم، وهذا من شأنه أن يوقع الإنسان في مغالطاتٍ، نجد مثلها لدى من يقف عند الآيات التي تحفل بألفاظ الشمس والقمر والنجوم والجبال والمعادن، فيقرّر أن القرآن الكريم يتحدّث عن علم الفلك والجيولوجيا، كما يقرر عندما يتعرّض لذكر السحاب والمطر والرياح أن القرآن يتحدّث عن علوم الرصد الجوي والهندسة الزراعية، وعلم الحيوان، والتغذية وأنظمة الري، وقد علّق أحد المفسرين على آيات سورة الغاشية (17 ـ 20): (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت( قائلاً: "وهذه هي علوم الأحياء والفلك والجغرافيا كما نعرفها الآن"(9).‏

ووجد بعضهم أن مشاهد يوم القيامة في القرآن الكريم التي تتعطّل فيها النواميس، وتبدو الجبال من شدّة الهول (تمر مرَّ السحاب(.(النمل ـ 88) هذه المشاهد هي دليل على النظرية التي تثبت كروية الأرض ودورانها، وأن قوله تعالى: (الذي رفع السمواتِ بغير عمدٍ ترونها(.(الرعد ـ 2) يفيد بأن قوى الطرد المركزي، وقوى الجاذبية، هي الأعمدة التي ترفع السماء فوقنا، وهذا تفسير للنصّ يصرفه عن الدلالة المباشرة.‏

وربط العلماء بين الحركة الفلكية، وما ورد عن (القمر) الذي ذُكر في القرآن الكريم أكثر من ثلاثين مرةً، واستدلّوا من المفسّرين على عناية التنزيل بهذا الكوكب الرائع، الذي خصّه الله بسورةٍ في كتابه العزيز، وقد كرّر القسم به (كلا والقمر(.(المدثر ـ 32) و(القمر إذا اتسق(.(الانشقاق ـ 18) أي أن الله تعالى ينبّه عباده دائماً بأنه يذكر في القسم أنواعَ مخلوقاته، المتضمنة للمنافع العظيمة، حتّى يتأمّل المكلّف فيها، ويشكره عليها، لأن الشيء الذي يقسم الله به يحصل له وقع في القلب، فتكون الدواعي إلى تأمّله وتدبّره أقوى.‏

ولم يقتصر حديث القرآن عن هذا الجرم السماوي على التذكير بنعمة الله، أو الحضّ على التفكير والتدبّر، وإنما قدّم كثيراً من الإشارات والرموز واللمحات التي تهدي إلى أضواء من العلم والمعرفة فيما يتعلّق بنظام الكون وأسراره، ففي قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياءً، والقمر نوراً، وقدّره منازل، لتعلموا عدد السنين والحساب(.(يونس ـ 5) تحدّثت النظرية العلمية عن سرعة الضوء، وانتشار النور، مؤكّدة أن الضوء أقوى من النور وأبلغ منه، وأثبتت النظرية أن الآية نسبت الضياء إلى الشمس، في حين نسبت النور إلى القمر، لأن الشمس أقوى من القمر، وقال أهل التفسير: "إن الضوء ما كان بالذات كالشمس والنار، وأما النور فيكون بالعَرَض والاكتساب من غيره".‏

وقد ذكرت الآية أن الله قدّر القمر (منازل) أي مقادير معيّنة مخصوصة، فجعل له أماكن للنزول، أو قدّر سيره في فلكه، وللقمر ثمانية وعشرون منزلاً، ينزل كل ليلة في واحد منها، بنظام دائب لا يضطرب، وهو يحتجب عن الرؤية ليلةً أو ليلتين كل شهر، فيغيب ليلةً واحدةً إذا كان الشهر القمري تسعةً وعشرين يوماً، ويغيب ليلتين إذا كان الشهر ثلاثين "وثبت بالعلم أن القمر جسمٌ كرويٌ مظلمٌ، ولكن أشعة الشمس تضيء نصفه المقابل لها، ويتغيّر الجسم المستضيئ من القمر، من يومٍ لآخر في الحجم والشكل، منذ أول يوم حتّى نهاية الشهر القمري.‏

وتتوافق النظرية العلمية مع كلام الله الأزلي، في الحكمة في تقدير الله منازل القمر، التي تتجلّى في ضبط التوقيت الزمني لكل من اليوم والشهر والسنة والدهر، ومن وراء هذا الضبط، تكمن العبرة القرآنية، والحكمة الإلهية التي تهدف من جملة ما تهدف إلى تنظيم حياة البشر من عباداتٍ ومعاملاتٍ مدنيةٍ واقتصادية.‏

لقد أثبت العلم أن ضوء الشمس ذاتي، وأن نور القمر مستمدٌ منها لقوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً، وقمراً منيراً(.(الفرقان ـ 61) والمراد بالسراج هنا الشمس بدليل قوله تعالى: (وجعل القمر فيهن نوراً، وجعل الشمس سراجاً(.(نوح ـ 71) أي إنه ضوءٌ منبعثٌ من ذات الشيء، وهذا ينطبق على الطاقة الحرارية المضيئة في الشمس، وأما القمر فهو نورٌ أو منير، أي ينير بوساطة الإشعاع الشمسي المنبعث من طاقتها التي تسقط على القمر فتنيره، وكأن كلمتي السراج والنور تشيران إلى أن الشمس هي مصدر الطاقة الحرارية، وهذا ما يقرره العلم"(10).‏

ورأى علماء الفلك في الشمس والقمر أن قول الله فيهما: (كلّ يجري لأجلٍ مسمى(.(الرعد ـ 2) يتفق مع وظيفتيهما في النظرية العلمية في مدار حساب الأيام، لأن الله (يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل(.(لقمان ـ 29) وهذا يعني أن الله ينقص من زمن الليل بقدر ما يزيد من النهار، وينقص من زمن النهار بقدر ما يزيد في زمن الليل (وسخر الشمس والقمر(.(فاطر ـ 13) (العنكبوت ـ 61) لمصلحة البشر، وأخضعهما لنظام دقيق بديع، حيث يجري كل منهما في فلك معين لا يحيد عنه، ويستمرّ ذلك حتّى يرث الله الأرض ومن عليها.‏

واللمحات العلمية القرآنية، التي يعارض كثيرون في تحميلها خواصّ النظريات العلمية، لا تعدم وجود أناس يتبنّون رؤيتها بما يتلاءم مع معطيات العلم الحديث، ورأى بعضهم أن قوله تعالى:‏

(يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلقٍ في ظلماتٍٍ ثلاث( يخالف ما جاء في تفسير القرطبي عن الظلمات الثلاث التي حددها في ظلمة المشيمة والرحم، وبطن الأم، بينما رأوا أن النظرية العلمية الحديثة تتفق مع تفسير أبي عبيدة (معمَر بن المثنى) الذي حدّدها بظلمة بطن الأم، وظلمة الرحم، وظلمة صلب الرجل (الخصية) ورأى أحد المشتغلين بعلم الأجنّة أن في قوله تعالى (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً( دليلاً على نشأة الإنسان في بطن أمه عند التقاء البويضة الناضجة المنطلقة من مبيض الأم، بالنطفة الذكَرية المنطلقة من صلب الرجل، حيث يشكّل الاثنان مشيماً يدعى طبياً (الزيجوت) أو (البويضة الملقحة) ويتمّ هذا الالتحام في العادة في الثلث الأخير من النفير، ممثلاً بداية النشأة. تبدأ بعدها حوادث الانقسام الخلوي بقصد التكاثر والتخصّص، فتتشكّل المشيمة من هذه الخلايا وتدعى (المرحلة التويتية) التي تصل إلى جسم الرحم بعد أسبوع من التخلّق، فتجده متأهباً ببطانته لاستقبالها، وضمّها بين حناياه، فتنغرس فيه، وتتابع الانقسام الخلوي، وتخصّص هذه الخلايا في تشكيل الأعضاء والحواس للجنين، حتّى يكتمل خلقه، وحواسه وعيشه، في المرحلة التالية، بعد خروجه من الرحم، مصداقاً لقوله تعالى (قل هو الذي أنشأكم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون(.(الملك ـ 23) وبذلك تكون الظلمة الأولى، ثمّ تتبعها ظلمة المبيض الثانية، فظلمة الصلب الثالثة، ولكل واحدة من الظلمات الثلاث شرحٌ وقف عنده علماء الطب والتشريح، وقد علّق أحد العلماء على (الظلمة) القرآنية، التي خلقها الله (البصير) معللاً الحكمة من الظلمة تعليلاً علمياً، ووجد في ذلك قدرةً إلهية، لأن الخلايا الابتدائية لا تعيش في النور.‏

ولدى الوقوف العلمي أمام الآية الكريمة (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثمّ جعلناه نطفةً في قرار مكين، ثمّ خلقنا النطفة علقةً، فخلقنا العلقة مضغةً، فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحماً، ثمّ أنشأناه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين(.(المؤمنون 12ـ 14) رأى أحد الباحثين، أن نظرية الخلق تتجسّد كاملة في هذه الآيات الكريمة، حيث ثبت بالتحليل المخبري والمراقبة الدقيقة العلمية المتطورة، في النصف الثاني من القرن العشرين، أن أطوار تشكّل الجنين تتمَّ بدقةٍ متناهية حسب معطيات النصّ القرآني.‏

....‏

وفي عالم الحيوان...‏

عندما توقّف العلماء عند قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم(.(الأنعام ـ 38) وجدوا أن عالم الحيوان مماثل للعالم الإنساني، وأثبتت المراقبة للتجربة العلمية أن الإنسان الذي تخصّص بالعلوم العقلية، وابتكر المخترعات التي يقذف بها كل يوم إلى العالم ليجعل الحياة أكثر سعادةً، وأيسر متناولاً، قد سبقه فيها الحيوان إلى الابتكار والاختراع، فالنملة على صغر حجمها تبني مملكتها وفق أصول علميةٍ، وتقنيةٍ متطوّرة، تضاهي أكثر النظريات العلمية حداثةً وتطوّراً، فالنمل الأبيض الذي يعيش في الصحراء الأفريقية، قدّم للعلماء أفكاراً رائعة أثارت دهشتهم، ودفعتهم للبحث عن الوسائل التي تجعل المدنية المعاصرة ترفل بالرفاهية التي يرفل بها النمل في مملكته، هذه المملكة المغلقة التي كيّفها حسب متطلّبات العيش الآمن السعيد، فهي محصنة تحت الأرض بأكثر من مترٍ في العمق، وقد اخترع فيها وسائل خاصّةً تحقّق لها الرطوبة الدائمة التي لا تنقص ولا تزيد عن الدرجتين 98% ـ 99% مهما كان الجو في الخارج جافاً أو بارداً. إذ يعمد النمل إلى حفر خنادق يصنع داخلها ما يشبه الأنابيب التي تتغلغل في جوف الأرض إلى أكثر من أربعين متراً، حتّى تصل إلى مستوى الماء الجوفي، حيث تتبخّر منه الرطوبة، وتنتشر عبر الأنابيب، حتّى تصل إلى ردهات المملكة وغرفها، والشيء المثير في التمديدات أن المسالك التي أُعدّت لهذا الغرض، هي متممات أجهزة التكييف المتطوّرة التي أوجد لها النمل نظاماً فريداً لاستمرار تهوية مملكته الرطبة المغلقة، والتي تحتاج ـ على الدوام ـ إلى الأوكسجين اللازم للتنفس والعيش، فالنمل كالإنسان يأخذ الأوكسجين اللازم للتنفس والعيش، ويطرح ثاني أوكسيد الكربون، ولو أن الغاز المطروح قد اجتمع في المملكة لأدّى إلى اختناق النمل وهلاك جنسه، وقد أثبت العلم أن كل مليوني نملة، تحتاج إلى ربع مليون سنتمتر مكعب من الأوكسجين النقي "لكن الذي حيّر العلماء، وأثار دهشتهم أن هذه الحشرات تحيط ممالكها بأسوار سميكةٍ ومنيعةٍ، ولهذا فمن الصعب تحطيمها بالوسائل التقليدية، لأن مواد بنائها قد اختيرت بحكمة لتصبح صلبةً متينةً ـ مقاومة ـ ولا يستطيع الإنسان أن يهدمها إلا بالديناميت"(11)، وكأن بُناة هذه المملكة قد درسوا خواصّ موادّ البناء، وميكانيكية الرتبة كما يدرسها المهندس المعماري أو المدني، وقد أثبت العلم أن النمل قد عرف شيئاً عن مبادئ الجيولوجيا، أو علم طبقات الأرض، فاستخدم لبناء مملكته طبقةً خاصةً من الطين، تُحمَل من قبل (الشغّالات) حصراً، وهي جماعةٌ من النمل متخصّصةً بجرّ الأثقال وحملها، ثمّ يأتي (البناؤون) ليقوموا بدورهم بتسليح الطين، وذلك بإحضار موادّ بنائية تالفة، يختارونها بكفاءةٍ تخصّصية نادرة، ويخلطونها باللعاب، ويمزجونها بالطين، ثمّ يصبّونها في ما يشبه القوالب الصغيرة التي تناسب عالم النمل، ويبدؤون البناء قطعةً قطعة، تغدو بعدها المملكة صالحة للسكن المريح، ولها من المقاومة صلابة الإسمنت المسلح، تعمّر مئات السنين من دون أن تؤثّر فيها عوامل المناخ. من تعريةٍ أو تمدّد، كما أنها مقاومة للزلازل.‏

ولا تزال أنظمة الرطوبة والتهوية في المملكة تحيّر العلماء وتذهلهم بتصميمها الهندسي البديع، الذي اتّبعت فيه قواعد علمية عالية، كظاهرة البروز الخارجية التي تعدّ بمنزلة (الرئة) التي يتبادل النمل عن طريقها الغازات، إذ توجد في كل بروزٍ ستة أنابيب ضيفةٍ تمتدّ من أعلى المملكة إلى أسفلها، ثمّ تتفرّع تفرعات جانبية أصغر، كما تتفرّع القصيبات الهوائية داخل رئة الإنسان، ويعمل النمل على تغطية فتحات الأنابيب العلوية الخارجية بطبقات رقية جداً. تسمح بتبادل الغازين المطروح والمستورد؛ بأسلوب يتماثل ويتشابه مع الأساليب العلمية الهندسية التي تدرس هذه الأيام في الجامعات، وهذا يعني أن مهندسي مملكة النمل قد صمّموا عماراتهم لمئات السنين بمعايير دقيقةٍ، وبمواصفاتٍ عاليةٍ. بغية الحفاظ على التوازن داخل المملكة بنسبٍ لا يعتريها الخلل أو الخطأ أو الفوضى.‏

والشيء الذي أثار دهشة العلماء أيضاً في تصميم بيوت المملكة، كيفية اهتداء النمل إلى حمايتها من عوامل المناخ، بحيث لا تؤثّر عليها الأمطار، فقد صمم النملُ لكل بيت سقيفةً تسيل المياه من فوقها، ولا تتسرّب إلى داخل البيت حتّى لا تختلّ موازين الرطوبة، ودرجات الحرارة، وأنظمة التهوية، ومعايير مخازن الحبوب، وقد لا نستغرب إذا علمنا أن موقع المملكة يُختار أيضاً بعنايةٍ فائقة، بحيث يكون بمنأى عن مسالك تيارات الرياح، وبعيداً عن مجاري السيول التي يمكن أن يصيب ضررُها مساكن الإنسان، ولكنه لا يستطيع التأثير على بيوت النمل.‏

وهنا لابدّ من الإشارة إلى أن قوة البيت وصلابته، ودقة تصميمه قد تجلّت في مواقف النمل من النبي سليمان عليه السلام حينما خاطبت نملةٌ قومها (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمانُ وجنودهُ(.(النمل ـ 18) هذا الموقف الذي يؤكد تحصين المملكة، وقد أدركت النملة عندما يكون قومها في الداخل فإنها تأمن معهم من بطش الجيش الجرار، وأن الجيش الجرار الذي يمرّ فوقها لا يؤثر على بيوتها، فلا تخشى من أن تهدم البيوت فوقها. لأنها تعلم جيّداً مدى إمكانية مقاومة البناء الذي تدخله بأمان، وتعيش فيه بغير خوف.‏

إن أبعاد هذه المملكة التي تكاد تكون مملكةً سحرية، على الرغم من واقعيتها، لا تزال تثير التساؤلات، فكيف اهتدت النملة إلى كل ذلك؟.‏

قد يجيب أحدنا بأنها الغريزة، لكنّ آخر قد يردّ بأن الغريزة لفظٌ بديلٌ لجهلنا الإنساني بما هو كائن، وما كان، وما سيكون، فالتكنولوجية النملية البدائية التي صممت طراز بنائها العمراني الفريد، وتكيّفت داخل مملكتها مع وسائل العيش برفاهية منقطعة النظير قياساً إلى رفاهية البشر، جديرة بأن تثير في العقل البشري حوافز التفكر والتدبّر، وتدفع صاحبه للبحث الجاد، والاستنباط المجدي للوصول إلى ابتكاراتٍ من شأنها أن تخدم البحث العلمي، ثمّ إنها حقيقةٌ علمية، فالمملكة عالم حيٌ متوازن، لا يتعطّل، ولا يفسد، ولا يحتاج إلى قطع غيار مستوردة، ولا إلى أعمال متخصّصين في الخارج، كما لا يحتاج إلى عملات صعبة، أو سوقٍ سوداء، وليس فيه وساطات ولا هدر، ولا غشٌّ ولا تزوير، ولا رشوة ولا تآمر، ولا اقتتال على منصب، أو تنافس على موقع مسؤولية.‏

ولكن: هل مملكة النمل هي الوحيدة المتقنة الصنع بين بيوت الحيوان؟ أم أن ثمّة بيوتاً أخرى جيدة الإتقان. محكمة النسج. يرفل فيها الحيوان بالحياة الملائمة؟.‏

أجل. هناك بيوت النحل التي جعلت الخلية مملكةً كاملة بنظامها العجيب المدهش، وهناك بيوت العنكبوت، التي مثّل لها الخالق بحال من اتخذ من دونه ولياً في الآية الكريمة (مثل الذين اتخذوا من دونه الله أولياء، كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهنَ البيوت لبيتُ العنكبوت لو كانوا يعلمون(.(العنكبوت ـ 41) وقد كشف العلم الحديث متانة خيوط العنكبوت قياساً إلى مثيلها من خيوط الحرير، فأين هو الوهن ما دامت الخيوط قويةً متناسقة النسج؟.‏

لقد ردّت الدراسات (الوهن) في هذا البيت إلى خللٍ في نظام الأسرة العنكبوتية، وليس إلى بيت السكن، لأن العلاقات في هذا البيت متفكّكة، متقطعة الأواصر والصلات، ووقف الباحثون عند المفردة القرآنية (اتخذت) حيث أُلحقت تاء التأنيث بالفعل اتخذ، ممّا يدلّ على أن الأنثى هي التي صنعت البيت، وليس الذكر، وهذا يشير إلى قوة الأنثى وضعف ذكرها، وتلك حقيقة بيولوجية لم تكن معروفةً من قبل.. وقد أثبتت الدراسات تربّع الأنثى على عرش بيتها العنكبوتي، وإحكام سطوتها على من يدخله، حيث تعيش فيه طاغية قاتلةً لا يعرف عالمُ الحيوان مثيلاً لها في البطش والإرهاب".‏

فلماذا يقول جلّ شأنه: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت(؟ ولماذا يختم بعبارة "لو كانوا يعلمون"؟ لابدّ أن هناك سراً، والواقع أن هناك سرّاً بيولوجياً كشف العلم عنه فيما كشف لنا مؤخراً، فالحقيقة أن بيت العنكبوت هو أبعد البيوت عن صفة البيت بما يلزم من أمانٍ وسكينة وطمأنينة.‏

فالعنكبوت الأنثى تقتل ذَكَرها بعد أن يُلقّحها ثمّ تأكله.‏

ولهذا ـ يتنبّه الذكر إلى مصيره ـ فيعمد ـ غالباً ـ إلى الفرار بجلده بعد أن يلقّح أنثاه، ولا يحاول أن يضع قدمه في بيتها ثانيةً.‏

وتغزل أنثى العنكبوت بيتها ليكون فخاً وكميناً ومقتلاً لكل حشرة صغيرة، تفكّر في الاقتراب منه.‏

وكل من يدخل البيت من زوار وضيوف يُقتل ويُلتهم.‏

إنه ليس بيتاً إذن، بل مسلخ، ومذبحةٌ يخيّم عليها الخوف والتربّص.‏

وإنه لأوهن البيوت، لمن يحاول أن يتخذ منه ملجأً، و"الوهن ـ هنا ـ كلمة عربيةٌ تعبّر عن غاية الجهد والمشقة والمعاناة، وهذا من شأن من يلجأ لغير الله ليتخذ منه ملاذاً ومعيناً"(12). وصدق الله، إذ قرر بأن (أوهن البيوت لبيت العنكبوت( بيتٌ لا يقوم على الحبّ والتعاون والتفاهم، وإنما هو بيت متفكك واهنٌ يقوم على البطش والفتك والهلاك.‏

....‏

وفي الإنسان أيضاً...‏

يقول الله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنه الحق(.(فصلت ـ 53) وبالإشارة إلى الأنفس، ينبّه القرآن الكريم إلى الأسرار التي يختزنها الجسم الإنساني، والتي سيكتشفها أهل العلم في المستقبل و"سين الاستقبال" في لفظ "نريهم" دليل على ذلك، كما أن لفظ "آياتنا" يشير ـ كما قال بعضهم ـ إلى "عجائب خلق الله، وجمعت كلمتا "الآفاق والأنفس" علوم الكون وعلوم الطب وفيزيولوجية الجسم البشري".‏

ومن الآيات التي وقفت عند وظائف أعضاء الجسم، والحكمة من خلقها على هذه الشاكلة، قوله تعالى: (ألم نجعل لـه عينين، ولساناً وشفتين(.(البلد ـ 8 و9) وقد وجد علماء العصر الحديث أن التركيز على العينين، وربطهما باللسان والشفتين، جوهر الحكمة الإلهية، "لأن النظر بعينٍ واحدةٍ يرى منها الإنسان الأشياء في صورةٍ تختلف عمّا يراها عليه في كلتا العينين، والنظر بكلتا العينين يُعطي الأشياء تجسيماً وروعةً ووضوحاً لا يحققه النظر بعين واحدةٍ. واشتراك العينين معاً في رؤية الأشياء، يشكّل جهازاً خاصاً، ومهماً في الرؤية، ويوضّح هذه الحقيقة عدم استعمال العينين في آن واحدٍ بالنظر إلى الأشياء بالناظور فإنك ستحرم من كثير من روعة النظر المجسم وهيبة المنظر، وجمال المنظورات، وتناسق أجزائها وألوانها. قال "عينين" ولم يقل "أذنين" لأن الإنسان إذا ما فقد السمع بإحدى أذنيه استطاع أن يسمع بإذنٍ واحدة من دون أن يؤثّر ذلك في عملية السمع، أو يحدث خللاً أو اضطراباً، أو تغييراً في سماع الموجات الصوتية، والنبرات والنغمات، وتحسس درجاتها، أو اتجاهاتها، أو أنواعها، أو التلذّذ والتمتع بها.‏

أمّا قوله تعالى: (ولساناً وشفتين( فإن الجهاز الذي يصنع الكلام البشري بقدرة الله ليس اللسان وحده، لأن جهاز صنع الكلام يتركّب من عضوين رئيسيين هما "اللسان والشفتان" لأن الكلام يتكوّن من كلماتٍ، والكلمة تتركّب من حروف، وإن كل حرف يصنعه بقدرة الله، إما اللسان، وإما الشفتان، فإنْ نطقَ الإنسانُ بكلمة (زارَ) تحرّك اللسان وحده، ليصنع هذه الحروف الثلاثة، ويستطيع أن ينطق بها لو كان الناطق لا يملك شفتين. أمّا إذا أراد أن ينطق لفظ (باب) فإن الشفتين وحدهما ستتحرّكان لتصنعا هذه الحروف، من دون أن يشترك اللسان في صناعتها، ويستطيع الناطق أن يتلفّظ بها ولو كان لا يملك لساناً، فجهاز صناعة أصوات الحروف لتشكيل الكلمة، وتركيب الجملة المفيدة بعد ذلك، هما اللسان والشفتان، ولكل منهما وظيفة مستقلة في تركيب أصوات الحروف الخاصة بكل منهما على انفرادٍ، ولا يشترك أحدهما في وظيفة الآخر، أو يتدخّل في واجب صاحبه، بل ولا يستطيع أحدهما أن يصنع حرفاً واحداً هو ليس من اختصاصه، فاللسان مجرّداً من الشفتين عاجزٌ عن لفظ كلمة (باب) والشفتان وحدهما من دون اللسان عاجزتان عن لفظ كلمة (زار).. وهكذا فإن الكلمة المركّبة من حروفٍ متنوعةٍ في كلمة (زُبُر) لا يمكن لفظها إلا باشتراك اللسان والشفتين في صناعتهما في آن واحد، وجنباً إلى جنب، وكل منها يؤازر الآخر، فكلام الإنسان الذي يتكوّن من آلاف الكلمات والجمل والسطور، لا يمكن له أن يتمّ إلا إذا اجتمع اللسان والشفتان معاً، وفي آنٍ واحدٍ، لصناعة أصواتِ حروفها، فيتمتع بروعة اللفظ، ويحسّ بنعمة النطق. أمّا إذا حدث أيّ خللٍ في عضلات اللسان، أو أعصاب الشفتين، فإن الإنسان يفقد نعمة النطق السليم، والكلام العذب.. كما يفقد روعة الرؤية، ويُحرم من بهجة جمال الطبيعة، لو عجزت إحدى العينين عن الرؤية، وقام الإنسان بالنظر بعين واحدة"(13).‏

خاتمة:‏

إن النصّ القرآني حافلٌ باللمحات العلمية التي لا تتعارض معها النظريات العلمية، لكن الحفاوة الكبيرة والمبالغة بالعلم البشري لا تقتضي افتعال صلاتٍ بين النص القرآني والنظرية العلمية، مهما كانت درجة صحة النظرية، لأن الحقائق لا تفسّر إلا بمثلها من الحقائق المماثلة والمسلّمات الثابتة، ولأن منهج القرآن، ومنطقه وأسلوبه في عرض المشاهد الكونية، هو السرد الموجّه "إلى الناس كافةً، على اختلاف ثقافاتهم أو تفاوت وعيهم، وتعدّد تخصّصاتهم، ولما كانت العبرة والعظة والتسليم بقدرة الله هي الأمور المستهدفة من العرض القرآني، فإن ما يطرحه القرآن في هذا الصدد، لا يعدو أن يكون مشاهداتٍ يوميةً يُدركها الجميع، ولا تُخفي عليهم لمحة الإبداع فيها".‏

لذلك لا يصحّ رفض المنطق الديني، بل يجب الالتزام به، كما أنّ فرض الرؤية الدينية على الاكتشافات العلمية، وحتى النظرية، هو عمل تلفيقي، يؤول إلى تحديد إمكانية العلم، لإخضاعه لمنطقٍ من خارج نطاق العمل المحدّد الذي يسعى إلى تطوير نتائجه، وأبحاثه من خلال التجربة، فلا مسوّغ لفرض التجربة الدينية على التجربة العلمية أو العكس، لأن أيّ فرض يقلّل من حقيقة تلك التجربة، ومعناها، كما أن القيمة الدينية تتحوّل إلى علاقةٍ لا يمكن فهمها إلا من خلال فرض مفهوم علمي عليها. وهذا غير صحيح.‏

أمّا "إذا سرنا في الأرض، ونظرنا في الآفاق، وتحقق لنا بعض ما نقصده من الكشوف العلمية، وتوصلنا إلى تأكيد بعض النظريات أو القوانين التي تفسّر، وتحكم مشاهد الطبيعة التي نراها، ونتعامل معها، فإننا نكون قد وصلنا إلى موضع العظة والعبرة، والتفتنا إلى قدرة الله، ودلائل وحدانيته، أمّا أن يلجأ بعضهم إلى تجاوز هذا الهدف.. ومحاولة ردّ هذه المكتشفات إلى القرآن، والادّعاء بأنها قد وردت فيه بكل خباياها وتفاصيلها، فذلك زعمٌ يستحيل القبول به، ويحرم السكوت عنه" شرعاً.‏

ومن ثمّ "فإن اكتشافنا اللاحق للقوانين التي تحكم هذه الظواهر الكونية لا يضفي شيئاً على مدلولات النص القرآني؛ ذلك لأن العظة في أيّ ظاهرةٍ تتمثّل في وجود الظاهرة ذاتها، وليس في اكتشاف القانون الذي تقوم عليه، وإذا كان ثمّة قيمةٌ وراء اكتشاف القانون العلمي الذي تطّرد على أساس منه العلاقة بين مجموعةٍ من الظواهر، أو تعمل وفقاً له ظاهرةٌ ما. فإنها تكمن في كون هذه الاكتشافات شهادةً مُحدثةً بعظمة العقل البشري وتطوّره، أمّا عظمة خالق الظواهر والقوانين التي تحكمها، فإنها عظمةٌ أزليةٌ كانت قبل وجود هذه الظواهر، وثبتت بوجودها، وقَبِلها العقل البشري، وسلّم بها منذ بدأ الإنسان يلمس هذه الظواهر، ويتعامل معها، حتّى لو لم يُدرك كنهها، أو يفهم القواعد التي تعمل وفقاً لها.‏

والقرآن الكريم اقتصر على توصيف الظواهر، بينما أحال ما يتعلق بتفسيرها أو تقنينها إلى التدبّر والتعقّل، وما يشبه ذلك من القدرات التي أودعها الله في خلقه البشري، وحسبُ المسلم تمسّكه بهذه القاعدة البسيطة، حتّى لا يجهد نفسه في غير نفع، في مطاولة العلم بالقرآن، أو تشويه القرآن بالعلم، أو افتعال التوفيق بين نصوص القرآن الواضحة المباشرة، وبين النظريات العلمية المعقّدة والمتغيّرة"(14).‏

المصادر والمراجع‏
1 ـ القرآن الكريم. تفسير الجلالين.‏
2 ـ القرآن. محاولة لفهم عصري، د. مصطفى محمود، دار الشروق ـ بيروت، بلا تاريخ.‏
3 ـ مجلة الهلال. القاهرة. ديسمبر 1970.‏
4 ـ مجلة حضارة الإسلام، العدد 6 السنة 14، دمشق، أيلول 1973.‏
5 ـ مجلة القافلة، العدد 10، المجلد 50، المملكة العربية السعودية. ديسمبر. يناير 2001.‏
6 ـ مجلة العربي، الكويت، آب 1980.‏
7 ـ مجلة الفيصل، العدد 197، المملكة العربية السعودية ـ الرياض. أيار 1973.‏
الحواشي :
(1) - القرآن. محاولة لفهم عصري. د. مصطفى محمود. ص25. بيروت دار الشرق.‏
(2) - كيف يقرؤون القرآن. فالق الحب والنوى. د. عبد المحسن صالح. مجلة الهلال ص29 ديسمبر 1970. القاهرة.‏
(3) - المرجع السابق.‏
(4) -. استشارات طبية في ضوء الإسلام. د. إبراهيم السامرائي، مجلة حضارة الإسلام. ص90 العدد 6 السنة 14. أيلول 1973 دمشق.‏
(5) - كيف نتعامل مع النصوص الدينية لفهم الاكتشافات العلمية المتتالية. د. أحمد محمد كنعان مجلة القافلة. ص2 العدد 10 مجلد 50 شوال 1422. ديسمبر. يناير 2001.‏
(6) -. بدعة تفسير القرآن بالعلم. د. محمد رضا رجب، مجلة العربي. ص103 آب 1980 وقد استفدنا في هذا الموضوع من بنية بحث الفقرة المذكورة.‏
(7) - للاستزادة. يرجى الرجوع إلى. كيف يقرؤون القرآن، مرجع سابق.‏
(8) - بدعة تفسير القرآن بالعلم. مرجع سابق. ص105.‏
(9) - بدعة تفسير القرآن بالعلم. مرجع سابق. ص105.‏
(10) - القمر في القرآن. د. أحمد الشرباصي. مجلة الهلال. ص12 القاهرة 1973.‏
(11) - وتلك أمم أمثالنا، د. عبد المحسن صالح.. مجلة الهلال. ص18، القاهرة 1972.‏
(12) - القرآن. محاولة لفهم عصري. ص273.‏
(13) - عينين ولساناً وشفتين، د. إبراهيم الراوي. مجلة الفيصل، ص58، العدد 197. أيار 1993.‏
(14) - بدعة تفسير القرآن بالعلم. مرجع سابق. ص103.‏

المصدر :

مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 95 - السنة الرابعة والعشرون - أيلول 2004 - رجب 1425
 
عودة
أعلى