مرهف
New member
- إنضم
- 27/04/2003
- المشاركات
- 511
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
- الإقامة
- ـ سوريا
- الموقع الالكتروني
- www.kantakji.org
لماذا لم يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآيات الكونية في القرآن 1/ 2
د. مرهف عبد الجبار سقا
بسم الله الرحمن الرحيم
د. مرهف عبد الجبار سقا
بسم الله الرحمن الرحيم
فإن للعلم سطوة ونشوة تبعث صاحبها على سبق قلم، أو زلة لسان متعجل؛ يكون عاقبتها غير محمودة، وإن سمْت العلم في العلماء الربانيين يجلله أدب وتواضع وإنزال الآخرين منازلهم، أقول هذا وقد لفت انتباهي أثناء قراءة بعض كتابات الإعجاز العلمي في القرآن حماسة مؤلفيها في إظهار ما لديهم من علوم مختلفة ويحاولون الاستدلال عليها من القرآن، أنهم يقومون بطرح سؤال افتراضي على لسان سائل ما؛ إما صراحة أو ضمناً؛ مفاد هذا السؤال هو: لماذا لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات الكونية في القرآن الكريم..!!؟.
قد يكون السؤال في أصله مشروعاً وجديراً بالدراسة والنظر، ولكن عندما يطرح في سياق يناسبه، أما وأن يطرح في أثناء بحث أو كتاب شحن بإيراد جزئيات علمية قد لا يحتاجها التفسير فهذا أمر غريب، بل إن جوابه أشد غرابة وأعظم استنكاراً، وذلك عندما تقرأ لبعضهم يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين للصحابة ذلك لأن عقولهم لن تتصور هذه الاكتشافات.
وقد يدلل بعض هؤلاء لكلامهم هذا بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (خاطبوا الناس بما يعقلون أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله).
ونجد آخرين يقولون: ربما أنه صلى الله عليه وسلم لو حدثهم بها لكان ذلك سببا في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، بل وصل الأمر عند بعضهم إلى القول أن الرسول أحجم عن ذلك خوف التكذيب!!.
والمشكلة أولاً هي في طرح هذا السؤال الافتراضي، ثم في جوابه ثانياً، أما افتراض هذا السؤال فإنه يدل على قلة بضاعة طارحه بقضايا التفسير وعلوم القرآن، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم – كما هو معلوم – لم يفسر للصحابة كل القرآن وإنما كان يفسر من القرآن ما أشكل عليهم وما سألوا عنه، وما دعت الحاجة إلى بيانه وتفسيره، أما هذا السؤال المفترض فإنه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر كل القرآن وترك بيان هذه الآيات الكونية فقط، فلزم منه أن ذهب بعضهم كما سلف إلى تعليل ترك تفسير هذه الآيات خوفاً من التكذيب أو لعدم استيعاب الصحابة وتصورهم لهذه المعلومات والاكتشافات؛ فكان طرح مثل هذا السؤال داخل في الوسائل التي يجب منعها لأنها مفضية إلى مفسدة، وأي مفسدة أعظم من اتهام الصحابة في عقولهم ونسبة الخوف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بيان القرآن بسبب تكذيب المشركين والمنافقين وهو المأمور بتبليغ ما أنزل إليه!!.
وأما أثر علي رضي الله عنه (حدثوا الناس بما يعقلون أتريدون أن يكذب الله ورسوله) الموقوف عليه كما أورده البخاري في( باب من خص قوما بعلم دون قوم كراهية أن لا يفهموه) فإنه قاعدة عامة في أدب الحديث والتعليم؛ لا تنطبق على كل كلام وحال، ولذلك أورد البخاري تحت هذا الأثر والباب حديث أَنَس بْن مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ يَا مُعَاذ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ يَا مُعَاذُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلاَثًا ، قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.
فأنت تجد في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كره لمعاذ أن يحدث الناس بهذا الحديث كي لا يتكلوا عليه ويتركوا العمل، ولكن خصه وخص بعض الصحابة به لعلمه صلى الله عليه وسلم بأمانة سرهم وصفاء روحهم، وقد فهم معاذ أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم ليس نهي تحريم فحدث به عند موته كما في الحديث.
كما أن الاستدلال بأثر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لتعليل عدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لتفسير القضايا التي يبحثها بعض الكاتبين في الإعجاز العلمي وأنها مما لا يعقله الصحابة في ذلك الوقت، مستحيل في حقهم جميعاً رضي الله عنهم وهم الذين صدقوا وعقلوا أبعد من ذلك كما سيأتي.
إن محل تطبيق هذا الأثر ليس في أمور العقائد وتصحيح التصورات التي تبني عقلية المسلم وعقيدته وشخصيته، كما أنه ليس محلها في بيان الأحكام الشرعية، وإنما محلها في المتشابه، أي: فيما يشتبه عليهم فهمه كما قال ابن حجر وتبعه بذلك العيني في شرح البخاري، أو يكون محلها في الأمور الغيبية المستقبلية التي قد يخشى من ذكرها افتتان بعض ضعاف النفوس والعقول فيؤدي لإزهاق النفس، كما صح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (حفظت عن النبي وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم)، ولذلك كان ابن عباس يخفي أشياء لا يحدثها لعامة الناس وكان يحدث بها أهل العلم كما ذكر ذلك الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة، وكان هذا ما يفعله ابن مسعود رضي الله عنه كما في مقدمة صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: (ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
ويؤيد هذا أننا لو استعرضنا مواقف مشهورة وبدهية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لوجدنا أنه صلى الله عليه وسلم حدث الناس في مكة برحلة الإسراء والمعراج في ليلة واحدة، وكانت الدعوة الإسلامية في مراحلها الأولى، ، وكان صلى الله عليه وسلم يبشر المسلمين في غزوة الخندق بفتح الروم وفارس وبلاد الشام واليمن، ولم يخَفِ النبي صلى الله عليه وسلم تكذيب المشركين وتصفيقهم واستهزاءهم في مكة، ولم يحفل باستهزاء المنافقين وتشكيكهم في المدينة، وهاتين الحادثتين يستحيل للعقل المجرد تصديقها بمقاييس العادة.
كما فصل القرآن بعض القضايا الكونية المتعلقة بخلق الإنسان من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم خلق العظم ثم كسا العظم لحماً سبحانه، وكل هذه من الغيبيات على الصحابة ومن بعدهم وهي أعجب من كروية الأرض والثقوب السوداء ، كما ذكر القرآن غير ذلك مما لا يدركه العقل وقتها وصدق به المسلمون، كذكره انفجار النجوم وتكوير الشمس وانشقاق السماء، وأن اللبن يخرج من بين فرث ودم وكان مما لا يتصوره المسلمون ولا غيرهم.
لقد كان من الواجب على هؤلاء – بدلاً من طرح فرضيات وتصورات لا واقع لها - أن يبحثوا عن الحكمة في ترك كثير من الآيات الكونية بلا تفسير، وأن يدرسوا مقاصد القرآن في عرض هذه الآيات الكونية في سياقها، وهذا ما سنتعرض له بإذن الله تعالى في مقالنا القادم إن فسح الله في العمر وأمد بالتوفيق، والله أعلم.
قال الله تعالى : ((ولا تقف ما ليس ل كبه علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً)) [الإسراء: ].