ظن من ظن وبعض الظن من سوء الفطن وليس من حسنها كما يقال أنني راغب عن المدينة، فإن إخواناً لي أعادوا فتح قسم الاستشراق وهو عمل كبير ومبارك ويستحقون عليه الشكر والتقدير، وقد بذلوا جهوداً ضخمة لإقناع المسؤولين في الجامعة وربما في التعليم العالي للموافقة على عودته، وهو نجاح يستحقون عليه كل تشجيع، وقد عرفت إخوتي وزملائي الذين يعملون في القسم وكان للدكتور سعيد الصيني في يوم من الأيام ملاحظات على شروط القبول في القسم أو الاستمرار فيه وهو إتقان لغة أوروبية من اللغات التي كتب بها المستشرقون وفي عهد القسم الأول لم يطبق هذا الشرط فأصبح خريج قسم الاستشراق يظن أنه متخصص في الاستشراق وهو لا يعرف إلاّ ظاهر الأمر، فقد قرأ بعض كتابات المستشرقين باللغة العربية أو وجد أحداً ترجم له بضع صفحات هنا وهناك. وليس هذا فحسب فكثير من خريجي القسم أو أساتذته الآن لم يرو أحداً من المستشرقين بله الحوار معهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن بالطبع.
من لا يحب المدينة والعودة إليها والقرب من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وكم كنت أود أن أكون في هذا القسم لأقدم بعض خبرتي الطويلة في عالم الاستشراق من خلال القراءة في كتاباتهم مباشرة أو الاحتكاك بهم في المؤتمرات والزيارات. وكم حدث الاقتراب من الاستشراق في مؤتمر في كوريا أو اليابان أو ماليزيا أو باكستان أو لبنان أو مصر ناهيك عن مؤتمرات في لندن وبولندا وألمانيا وهولندا والسويد وغيرها.
يا من سألت عن عودتي إلى المدينة المنورة ابحث عن السبب فلو كان ثمة هيئة حقوق إنسان تستمع للدعاوى ضد من يستهين بك ويكذب عليك لرفعت دعوى على جامعة طيبة وعلى مديرها فقد طلب مني سيرتي العلمية وبعثتها وانتظرت وأنا أعرف أنهم يريدون التعاقد معي، صحيح أنني لم أقدم طلباً ولكنهم هم الذين طلبوا، فلو كان لدي عرض آخر وكنت أنتظر عرض المدينة لضاع علي ، والأمر الآخر لماذا تكذبون، ولماذا لا تعتذرون ومن أراد الحقيقة فليسأل الدكتور حسام زمان ومازال بريده الإلكتروني لدي يطلب السيرة العلمية وأما الدكتور الجنبي قال أردنا أن نتعاقد معك ولكن وجدنا أنك متعاقد مع جامعة الملك سعود، لو كنتم صادقين وجادين فنهاية العام قريبة والقسم لم يفتح بعد، على كل حال
إن من يريد أن يدرس الاستشراق أو اهتمام الغربيين بالإسلام فلا يمكنه أن يفعل ذلك من خلال ما ترجم من كتابات جولدزيهر أو شاخت أو غيرهما منذ سبعين أو ثمانين سنة أو من خلال ترجمات مكتبات تجارية، ولا يمكن دراسة الاستشراق على البعد كما لا يمكن تعلم السباحة على السرير.
إن من يريد أن يدرس القوم عليه أن يملك روحاً مغامرة وقدرة على السفر واقتحام الصعاب فليست هذه الدراسة نظرية كما دراسة الجغرافيا والتاريخ مع أن هذه تتطلب رحلات علمية، فهل يفهمون؟
وفقك الله يا أبا غيث .
قلمُك الحادُّ ، وصراحتك هي سبب النفور منك فيما يبدو لي ، ولو قلنا كل ما يدور في أذهاننا ونعرفه عن أحوالنا مع الناس في أعمالنا وأخذنا وعطائنا لما بقي لنا صديق ، ولكننا نتعامل مع حياتنا بسياسة تبقي على الود فيما بيننا ، ونحاول العمل في المساحات الهادئة التي تستثمر فيها الطاقات بعيدا عن المعارك التي تهدر الطاقات فيما لا جدوى من ورائه .
وما دمت قد صرحت بما عندك فإنني أظن أنه لم يمنعهم من التعاقد معك إلا نقدك الحاد لهم في الكتابات التي تنشرها في مثل هذا الموقع وأمثاله، وتقليلك من شأنهم وشأن خبراتهم، والناس لا يحبون وجع الدماغ. وأحسب أنك لو تلطفت معهم وبهم لرأيت من يستقبلك بصدر رحب وأنت صاحب الخبرة الجيدة في الاستشراق وأنت ابن المدينة وابن تلك الكلية، ولكنك لا تفتأ تنتقدهم فلذلك أعرضوا فيما يبدو لي .
والناس - وأنا منهم - لا يحبون النقد اللاذع ، واللوم والتوبيخ المستمر ، ولو فعلت ذلك وهو فيما يبدو لي بحق لنفر مني الناس ، ولم يبق في الملتقى إلا أنا ، ولكننا نتعامل مع الناس بلطف كما نحب أن يعاملونا به ، ولم يخب هذا الأسلوب يوما ، وهذا فيما أعتقد هو الرفق الذي أمرنا به . وليس نفور الناس من الصراحة عيبا فيهم ، ولكنه طبيعة في النفوس ، ولو كتبت نقدا جارحا لكم يا دكتور مازن لنفرت مني نفورا شديدا ، وتجنبت لقائي ، وأعرضت عن صحبتي ، وأنا في ذلك أزعم أنني إنما أنصحك وأصارحك ، والصراحة راحة كما يقولون . في حين أنها قد تكون همَّاً وغمَّاً .
مع احترامي وتقديري لوجهة نظرك أيها الأخ العزيز لكن الأمر ليس كما صوّرته كنت متحمساً للعودة إلى المدينة ولم أبد أي وجهة نظر تجاه قسم الاستشراق ومن يعمل فيه، ولم أكن يوماً عنيفاً ولا قاسياً مع أحد منهم، ولكن أن يُطلب مني إرسال سيرتي العلمية ويعدوني بالعمل ثم يتجاهلون الأمر كلياً على الرغم من سؤالي وتعقيبي من بعيد طبعاً، حتى علمت أن السبب هو إبداء وجهة نظري فيمن انتقد الجامعة ومن رد عليه، وهو موضوع لا علاقة له بالتخصص. لا أنكر أن فيّ بعض الحدّة والجلافة (كسبتها بالمعاشرة مع طبع قديم) ولكن ليس الأمر في جامعة طيبة كما قلت. وعلى أي حال مادمت قد ذكرت ما ذكرت فلو كان الأمر بيدي لسحبت الدكتوراه من كل من أخذها بغير حق وبخاصة في تخصصي الاستشراق، أليس فاضحاً أن يزعم زاعم أنه متخصص في الاستشراق وهو لم يقرأ سوى الذين ماتوا منذ قرن أو يزيد. أليس كارثة ألاّ يعرف متخصص في الاستشراق كيف يدرس هذا التخصص فلم يزر جامعاتهم ولم يجلس مع الأساتذة أو الطلاب. صحيح أن الأقسام العلمية أقرت ولكن أتعرف من كان رئيس قسم الاستشراق ذات يوم متخصص في التاريخ السعودي الحديث ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالاستشراق. على كل حال قالت الضفدع قولاً رددته الحكماء، في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟
حكم قارئ مستهلك أو زبون دائم للبضاعة الثقافية المتعلقة بالحضارة الإسلامية
حكم قارئ مستهلك أو زبون دائم للبضاعة الثقافية المتعلقة بالحضارة الإسلامية
الحضارة الغربية -والاستشراق جزء منها- هي التي حفظت تراث العالم من الضياع ومنه تراثنا العربي الإسلامي ولأننا مزجنا بين الغرب الثقافي والغرب السياسي سحبنا حكمنا على سياسييه المعتدين سحبناه على مثقفيه النزيهين والمبرزين والجاهلين على السواء. وهذا الحكم قد أضر بنا كثيراً.
شيء جميل أن يوجد قسم للاستشراق أو مركز له ولكن الأنفع للأمة أن يُنشأ مركز لترجمة كتب المستشرقين وفق خطة علمية تُختار بعناية وبتعليقات وهوامش تبين أي خطأ في اقتباس أو حكم. فهذا هو الطريق الوحيد الصواب المثري للغة والفكر والعلم، لا أن نقوم بشتم وسب وتشويه واختزال . فالاستشراق كما قال جاك بيرك مجيبًا على سؤال هل ظلم الاستشراقُ الإسلام؟ قال: "بالتأكيد الاستشراق بدأ منحازا وبدوافع غير علمية شأن معظم العلوم الإنسانية ثم أخذ يتجه نحو الموضوعية ببطء". وحين قيل له إن بعض الدكاترة المسلمين يقولون إن على المستشرقين أن لا يكتبوا إطلاقا عن الإسلام! قال "هذه مهزلة! التراث الإسلامي ليس في جزيرة معلقة بل هو ملك لكل الإنسانية. أنتبادل السيارات ولا نتبادل الأفكار؟ اركب على بغلك واصنع أنت سيارة عظيمة من تراثك العظيم!!!"
بوصفي قارئا مستهلكاً أحكم على الأعمال بنتائجها ومردودها فأنا أكثر سعادة أن يوجد مركز ترجمة جِدّي وبميزانية جيدة في أي كلية او قسم أكثر من سعادتي بوجود أقسام تغازل الموضوعات وتنشر "بحوثا" تفخر بها بين البدو وأشباه الأميين... فهذه أمور هي خارج التاريخ.
والسبب في تقصيرنا هو عدم شيوع فكرة " أن النجاح إما عالمي أو ليس بنجاح"
كل بحث تكتبه فيجب أن يكون صالحا للنشر في أي مجلة محكمة مختصة سواء كانت في اليابان أو في الصين أو في أمريكا أو أوربا!
وليست اللغة بعائق لأن أي بحث يمكن ترجمته ونشره .
واختلافنا مع المستشرقين أو غير المسلمين الذين يكتبون في موضوعات إسلامية لا يجب أن يكون في طريقة الاستفادة من المصادر وعرض المادة العلمية والأمانة في العزو، فهذه قواعد عالمية مشاعة لا يُختلف عليها، وإنما في تأويل الأفكار ووضعها في أسيقتها وروحها التاريخية، فهذا هو ما يجب أن نتميز فيه. لا أن ننغلق على أنفسنا ونخادع أنفسنا والذين آمنوا كما نفعل اليوم.
لم يعد الاستشراق كما كان من قبل بل أصبحت أقسام اللغة العربية والدراسات الشرقية والإسلامية في الجامعات الغربية المحترمة أقساما علمية تطبق قواعد التعليم العالمية الموحدة.
حين حضرت مؤتمر المستشرقين الألمان في ماربورغ العام الماضي ظننت أنه كالمؤتمرات القديمة حين كان الاستشراق كيانا موحدا وبحثت عن أساطين الاستشراق الكبار كيوسف فان اس وغيره فقال لي الأساتذة الألمان "إنه لا يحضر مثل هذه الأمور"!! ، وحين حضرت البحوث وجدتها لشباب ناشيء لا ترقى إلى مستوى ما نظنه عن عمالقة الاستشراق.
تبين لي أن هذا المؤتمر كان مجرد حنين الى ذكريات الفيلولوجيين العظام وكبار المستشرقين.
لكني استفدت من عضوية دافو DAVO وهي الجمعية الألمانية للدراسات الشرق أوسطية فوجدتهم في الاجتماع يقيمون أعمالهم في السنة الماضية من حيث عدد البحوث المحكمة ومن حيث القيمة العلمية للأعمال. كانوا يناقشون ذلك كما يناقش رياضيون كيف يحصلون على المرتبة الأولى وأخذ الجائزة بين العالم. كانوا في غاية الموضوعية و"قيمة الأفعال بنتائجها لديهم" وأنت باحث جيد بدليل بحوثك فقط. لا توجد ثقافة الحَبْر البَحْر وعضو هيئة كبار العلما ،والحجة القائم المنتظر أبداً.
فاضطررت لرؤية الأساتذة الكبار أن أتجشم عناء السفر إلى مدنهم لأنهم لم يحضروا المؤتمر.
الخلاصة الدليل على أن الدراسات القرآنية في جامعات المملكة ومصر وكل العالم الإسلامي مقصرة هو أن يقوم رجل مسيحي قدراته متواضعة في فهم مصطلحات المستشرقين وفي علوم القرآن بترجمة كتاب نولدكه عن تاريخ القرآن ترجمة دون المستوى بكثير وهذا الكتاب هو المرجع العالمي لكل دارسي القرآن في العالم؟!!!
وأن يظل كتاب جوزيف فان اس عن الفكر الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى غير مترجم الى الآن!
لا شك أن هذا دليل فاضح على أن جامعات المملكة ومصر وجميع العالم الإسلامي هي مؤسسات دون المستوى بلا مقارنة.
حكمي على أي جامعة او قسم يكون من وجود مركز الترجمة التابع له ومن برنامجه للكتب التي ينتوي ترجمتها ومن منتوجه السنوي، ولذلك يكون حكمي سلبيا جدا على الجامعات والمؤسسات العلمية بوصفي قارئا مستهلكاً
نكون على الخطوة الأولى نحو النهوض حين نشيع فكرة "أن النجاح إما عالمي أو ليس بنجاح" مثلما يؤمن بذلك اليابانيون والصينيون والأمريكيون وشعوب أوربا.