لماذا قرن الله بين فتق الرتق، وجعل الحياة من الماء؟

إنضم
08/02/2024
المشاركات
23
مستوى التفاعل
4
النقاط
3
العمر
51
الإقامة
مصر، المنصورة
لماذا قرن الله بين فتق الرتق وجعل الحياة من الماء؟

عندما فسر الطبري قول الله (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، نقل أربعة أقوال عن السلف لتفسير فتق الرتق، وهي بنفس ترتيب الطبري كالآتي:

١. الفصل بين السماوات والأرض بالهواء

٢. كانت السماوات سماء واحدة ففتقها الله سبع سماوات، والأرض واحدة ففتقها الله سبع أرضين

٣. كانت السماء رتقً لا تمطر ففتقها الله بالمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ففتقها الله بالنبات

٤. الليل كان قبل النهار، ففتق الله النهار.

ثم رجح الطبري القول الثالث، وفيه أن السماء كانت رتقاً لا تمطر، ففتقها الله بالمطر، والأرض رتقاً لا تنبت ففتقها الله بالنبات، واستدل لهذا الترجيح بسياق الآية (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، فجعل من الماء دليلاً على المطر والإنبات.

■ هل أصاب الطبري في ترجيحه؟

أظن والله أعلم أن الطبري لم يحالفه التوفيق في هذا الترجيح، لأنه ظن الماء في الآية يشير للمطر فقط، ومعلوم أن الماء في القرآن لا يشير للمطر فقط، وإنما يشير أيضاً للماء الخارج من الأرض كما في آية (والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها)، وكما يشير للماء تحت العرش (وكان عرشه على الماء)، ولا يُستبعد أن هذا الماء دخل في تركيب عالمنا وذلك لقول النبي لمن سأله عن خلق كل شيء، فقال (كل شيء خُلِق من الماء)، وهذا يدل على أن الماء قديم في عالمنا، ونلاحظ أن الله بعد ذكر فتق الرتق لم يقل أنه خلق الماء، ولكن قال بجعل الحياة من الماء، مما يدل على خروج الماء في مراحل فتق الرتق، والله تعالى أعلى وأعلم.

المهم أن الماء المذكور في سياق آية فتق الرتق ليس بالضرورة أن يكون ماء المطر فقط، وبالتالي فترجيح الطبري يبتعد بنا عن الفهم الشامل لآية فتق الرتق. والطبري فيما أعلم عندما يفسر الآيات الكونية فغالباً يرجح المعنى المُشاهد بالعيون، ويبتعد عن المعنى الذي لا تشاهده العيون، فمثلا عندما فسر (البحر المسجور)، كان أمامه معنيان، المملوء ماء، والمشتعل نار، فرجح المملوء ماء لأنه شاهده، ورفض المشتعل نار لأنه لم يره، ولكن في زماننا نرى النار في ماء البحار، فكان الجمع بين معاني مسجور أفضل للحصول على فهم شامل، ومن المعلوم أن الجمع بين معاني الآية أولى من الترجيح طالما أمكن الجمع.

ولذا أرى أن الجمع بين معاني فتق الرتق الأربعة التي ذكرها الطبري في تفسيره أولى من الترجيح، وهذا ما فعله ابن عاشور في التحرير والتنوير، فقال: (والظّاهِرُ أنَّ الآيَةَ تَشْمَلُ جَمِيعَ ما يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعانِي الرَّتْقِ والفَتْقِ؛ إذْ لا مانِعَ مِنِ اعْتِبارِ مَعْنًى عامٍّ يَجْمَعُها جَمِيعًا، فَتَكُونُ الآيَةُ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلى عِبْرَةٍ تَعُمُّ كُلَّ النّاسِ وعَلى عِبْرَةٍ خاصَّةٍ بِأهْلِ النَّظَرِ والعِلْمِ، فَتَكُونُ مِن مُعْجِزاتِ القُرْآنِ العِلْمِيَّةِ).
.
وما يجعل الجمع بين معاني فتق الرتق أولى من الترجيح، أن كلمة السماوات في الآية عامة فتحتمل السماوات الكونية السبعة التي تبدأ بالسماء الدنيا، وتحتمل أيضاً سماوات الغلاف الجوي. والماء بعد فتق الرتق عام، فيحتمل كل ماء موجود في الكون قبل وبعد خلق الأرض، سواء مطر أو غيره. وهذا الفهم العام يجعلنا نُحسن فهم الفتق بشكل أوسع، فمن وجهة نظري فتق الرتق ليس مجرد عملية لحظية تشبه الإنفجار السريع أو الفصل السريع بين طبقتين، كما قد يظن البعض، فالفتق آلية ضخمة ربما استمرت طوال أيام الخلق الستة، حتى أتم الله خلق السماوات والأرض على الشكل الذي نعرفه اليوم، فبدأ فتق الرتق بفصل أجزاء الرتق المتراكمة بعضها على بعض، بحيث تمايزت السماء الكونية، وظهرت الأرض في يومين، ثم استمر الفتق في السماء المبنية فرفع الله سمكها إلى سبع سماوات، وأغطش ليلها، وأخرج ضحاها، واستمر أيضاً في الأرض فظهر غلافها الجوي، وأصبح لها نهار بعد أن كانت لا تعرف إلا الليل، وأمطرت سماء الأرض الجوية، وأنبتت الأرض، والله تعالى أعلى وأعلم.

■ لماذا قرن الله فتق الرتق بالماء والحياة؟

من وجهة نظري القاصرة أرى أن الربط بين فتق الرتق، وجعل الحياة من الماء هو بلا شك إثبات لقدم الماء الذي نشأ من هذا الرتق، وبالتالي إثبات لقدم الحياة، فأينما وجد الماء كانت الحياة، فالحياة لم تبدأ على أرضنا كما قد نتوهم، ولكن بدأت في السماوات، قال تعالى (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة)، فذكر الله خلق السماوات قبل الأرض، وحتى في آية فتق الرتق قدم الله ذكر السماوات على الأرض، ولذا أرى أن فتق الرتق نتج عنه خلق السماوات الكونية أولاً، ثم ظهور الأرض خلال يومين، قال الله (قل أأنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين)، وطالما خلق السماوات سبق خلق الأرض، فلا مانع عقلا من ظهور الماء والحياة قبل ظهور الأرض، فتكون هناك حياة مبثوثة في السماوات أقدم من الحياة على الأرض، ولا حياة بدون الماء.

علمياً وجود الماء في الكون أقدم بكثير من الأرض، بل وموجود بكميات كبيرة جداً منذ بداية الكون، فهناك مجرات نشأت بعد الإنفحار الكبير بحوالي نصف مليار سنة وبها الكثير من الماء (1 - 6)، وحاليا جاري إكتشاف مجرتين نشأتا بعد حوالي ٣٠٠ مليون سنة من الإنفجار الكبير، وبهما عنصر الأكسجين، وهو أحد عنصريّ الماء، بما يجعل إحتمالية وجود الماء، والحياة بعد فتق الرتق ممكنة، ولعل العلم يكتشف قريباً شيئاً من الحياة التي بثها الله في السماوات.

وحتى الحياة على الأرض يبدو أنها قد نشأت مُبكراً جداً قبل تكون الغلاف الجوي ونشأة المطر، حيث رصد العلم آثار للكائنات الدقيقة في صخور بعمر 3.7 مليار سنة (7)، وصخور بعمر 4.2 مليار سنة ( 8)، أي بعد 300 مليون سنة من ظهور الأرض، والتي ظهرت علميا منذ 4.5 مليار سنة. بما يعني أن الحياة نشأت بعد ظهور الأرض بفترة صغيرة، وقبل نشأة الغلاف الجوي والمطر، وطالما هناك حياة، فلابد من وجود الماء، والعلم الحديث بدأ يعترف بأن الأرض ولدت وفيها الماء، والذي أخذته من المجموعة الشمسية قبل أن تتفصل عنها (9)، ومنطقياً أن نفكر أن رتق المجموعة الشمسية حصل على الماء من رتق المجرة، وهكذا إلى أن نصل إلى الرتق الأول، أو الرتق الأكبر، رتق السماوات والأرض.

وعليه فذكر القرآن لجعل الحياة من الماء بعد فتق الرتق ليس من قبيل الصدفة، ولكنه وحي من رب عليم، ومن أصدق من الله قيلا.

اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك، وما كان من خطأ أو سهوٍ، أو زلل، أو نسيان، فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.

د. محمود عبدالله نجا
كلية طب، جامعة المنصورة، مصر

■ المراجع

1. Water could have been abundant in first billion years after the Big Bang

2. Did Earth have water even before the Big Bang? Here's what the new data has to say

3. Water was plentiful in the early universe

4. Water Detected in Ancient, Distant Galaxy From The Beginnings of The Universe

5. The Early Universe Was a Vast Liquid Ocean, Scientists Say

6. The First Water in the Universe

7. Early Life on Earth – Animal Origins

8. Scientists believe they may have found Earth’s oldest life — 4.2 billion years old

9.Origin of water on Earth
 
عودة
أعلى