...إن القرآن كان هو الرقيب على البشرية كيلا تزيغ عن هذه الأسس (عدة الشهور مثلا)، ولازال كذلك. بخلاف ما عاشته قرون قبل نزوله ضلت وأضلت إذ لم يكن لها بيان أو هدى. لقد سمى القرآن ذلك هدى، ولذا جاء في القرآن في معرض الامتنان بعد ذكر أمثال هؤلاء القرون أن القرآن بيان وهدى وموعظة:
{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } (آل عمران 137 - 138). وقوله:
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (النحل 89). فهو تبيان لكل شيء، وهدى حتى لغير المسلمين في باب العلوم الكونية والتجريبية. وكلتا الآيتين جاءتا بعد ذكر الأمم السابقة. ونظيرها في قوله تعالى:
{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (الأَنعام 154). وفي عشر آيات أخر أمثالها، وإن هذه الثلاثيات التي يتوسطها الهدى (الهداية)، وأولها بيان وتفصيل كل شيء، وما جاء في القرآن من بسط تفاصيلها حقًّا
لأكبر دليل يقوض رأي القائلين: "القرآن ليس كتاب علومٍ وكونيات"[5].
ومن الأكيد المُسَلَّمِ به أنه لولا القرآن لكانت البشرية تنظر إلى العلوم التي فُكَّتْ طلاسمها به سحرا وكهانة، وإلى ظواهر الكون أنها آلهة وأرباب، ولا مراصد ولا حساب ولا طب ولا كيمياء. فإن قيل إنها العلوم كانت قبل البعثة ولازالت، رُدَّ عليهم أن ذلك صنيع بقايا الوحي، لكنها مزجت ببضاعة كاسدة من أوهام الناس، فرحم الله البشرية أن ابتعث إليها نبيا رسولاً بالعلم، ورسالةً حُسنى زكية.
لقد صنع القرآن العقل العلمي المحيط بأساسياتٍ في العلوم كافة، وعلى مر السنين أثناء النبوة وبعدها أخذت تلك الأساسياتُ تنحو باتجاهات التفرع والغوص في دقائق المعرفة العلمية حتى ظهرت هامات علمية غيرت التاريخ الحضاري.