د محمد الجبالي
Well-known member
لماذا تبدلت همزة [أنَّ] من الفتح في {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ} إلى الكسر بعدها في {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}، رغم أنَّ السياق واحد، ورغم عطف الثانية على الأولى في قول الله عز وجل:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176]؟!
لقد بحثتُ طويلا في كتب التفسير لعلي أجد مَن التَفَتَ إلى هذه النُّكْتَة في الآية، فلم أجد، فاجتهدتُ برأيي مُعْتَمِدًا في تأويلي لانقلاب همزة [أنَّ] على النحو، ومعاني الآيات، ثم البلاغة.
بدايةً لكي نقف على الجواب الدقيق لهذا السؤال يجب أن نعود إلى الآيات السابقة حتى نقف على المقصود بالإشارة [ذلك] ومن هم المقصودون في اسم الموصول [الذين] قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 174، 175]
إن الآيات تتحدث عن اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم الثابتة في كتبهم، فكتموها، وأنكروها، وبَدَّلُوا كلام الله، فاستحقوا غضب الله، واستحقوا عذابه الأليم.
ثم جاءت الآية موضع السؤال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
وهنا ثلاث مسائل:
الأولى: ما التأويل النحوي لانقلاب همزة [أنَّ] من الفتح إلى الكسر[إنَّ]؟
الثانية: ما التأويل المعنوي لهذا الانقلاب؟
الثالثة: ما الأثر البلاغي والنفسي لانقلاب الهمزة من الفتح إلى الكسر؟
أما المسألة الأولى: ما التأويل النحوي لانقلاب همزة [أنَّ] من الفتح إلى الكسر[إنَّ]؟
لقد فُتِحَت همزة [أنَّ] في {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ} لأنها واسمها وخبرها في محل جر بالباء، وهذا أحد مواضع وجوب فتح همزة [أنَّ][1]،
أما [إن] في {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} فإن الجملة حالية ومن مواضع كسر همزة [إنَّ] تصدرها للجملة الحالية.
وقد رأى ابن عاشور رحمه الله أن الواو عاطفة فقال: "وقوله :{وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} تذييل ولكنه عطف بالواو لأنه يتضمن تكملة وصف الذين اشتروا الضلالة بالهدى ووعيدَهم ، والمرادُ بالذين اختلفوا عين المراد من قوله: {الذين يكتمون}، و{الذين اشتروا}، فالموصولات كلها على نسق واحد"
ولا أنكر على ابن عاشور رحمه الله رأيه من أن الموصولات كلها نسق واحد تعود على أناس بعينهم هم اليهود، لكني أختلف معه في قوله الواو عاطفة، فإني أرى أنها حالية، وهي تشبه الواو في قول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5]، وسيأتي بيان سبب اختياري كون الواو للحال وليس للعطف.
أما المسألة الثانية: ما التأويل المعنوي لهذا الانقلاب؟
إن هذا السؤال يثير سؤالا آخر، وهو: هل ستصح الجملة ويستقيم المعنى إذا فُتِحَت همزة [إنَّ] الثانية بدلا مِن كسرها؟
والجواب نعم، يصح، ويستقيم المعنى، والتقدير سيكون: [وأنَّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد]، لكن هذا التقدير يخرج الجملة من الحالية إلى تأويل (أنَّ ومَعْمُولَيْها) في محل جر معطوف على المؤَوَّل من [أنَّ] الأولى ومَعْمُولَيْها.
فإن قلتم: وهل ينال ذلك من المعنى؟
قلت: نعم؛ إذ إن جملة [إنَّ] الثانية ستكون متعلقة بالإشارة [ذلك] وتابعة لجملة [أنَّ] الأولى، وسيكون المعنى كالتالي: إنهم استحقوا العذاب الأليم الواقع بهم لأن الله أنزل عليهم الكتاب بالحق فكتموه وبَدَّلُوه، ولأنهم في خلاف شديد، وفي عداوة فيما بينهم شديدة.
وإن المعنى في {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} لم يُقْصَد به التعليل الذي استدعاه حرف الباء الذي لحق بـ [أنَّ] في: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ}، وإنما المقصود بالآية بيان الحال، بيان ما عليه اليهود من اختلاف وشقاق وعداوة. فسِياق الكلام على الحال يغرس في نفس السامع أحقيتهم بالعذاب، ويدفعه حالهم هذا على مقتهم والسخط عليهم والرضا بما قضى الله عز وجل فيهم.
المسألة الثالثة: ما الأثر البلاغي والنفسي لانقلاب الهمزة [أن] من الفتح إلى الكسر[إن]؟
- إن أول الآثار التي تنتج عن اختلاف الحركة، وتَبَدُّل الهمزة من الفتح [أنَّ] إلى الكسر [إنَّ] هو جذب انتباه السامع والقارئ، وإثارة الذهن وتوجيهه إلى أنَّ هناك شيئا جديدا مختلفا عما سبق.
- والثاني من هذه الآثار هو ما يتعلق بقوة الأداء في كل مِن [أنَّ] المفتوحة الهمزة و[إنَّ] المكسورة الهمزة، حيث إنَّ [إنَّ] المكسورة الهمزة أكثر استعمالا وتداولا في الكلام رسما ونطقا، أضف إلى ذلك أنَّ [إنَّ] تستقل بنفسها وجملتها على عكس [أنَّ] المفتوحة الهمزة فإنها لابد لها من كلام سابق تعتمد عليه حتى تُفْتَحَ همزتها.
إني لم أجد مِنْ أهل اللغة مَنْ وَازَنَ بين [إنَّ] ، و[أنَّ] من حيث قوة الأداء، ولا مِن حيث أَيُّهما أَدَلُّ وأقوى في التأكيد، لكن السببين السابقين اللذين سُقْتُهما يشهدان لـ [إنَّ] المكسورة الهمزة أنها أقوى في الأداء وأَدَلُّ على قوة التأكيد من [أنَّ] المفتوحة الهمزة.
والله أعلم
د. محمد الجبالي
[1] يجب فتح همزة [أن] إذا صح تأويلها ومعموليها فاعلا أو نائب فاعل، مفعولا به أو خبرا أو مبتدأ أو موضع المجرور بحرف جر.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176]؟!
لقد بحثتُ طويلا في كتب التفسير لعلي أجد مَن التَفَتَ إلى هذه النُّكْتَة في الآية، فلم أجد، فاجتهدتُ برأيي مُعْتَمِدًا في تأويلي لانقلاب همزة [أنَّ] على النحو، ومعاني الآيات، ثم البلاغة.
بدايةً لكي نقف على الجواب الدقيق لهذا السؤال يجب أن نعود إلى الآيات السابقة حتى نقف على المقصود بالإشارة [ذلك] ومن هم المقصودون في اسم الموصول [الذين] قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 174، 175]
إن الآيات تتحدث عن اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم الثابتة في كتبهم، فكتموها، وأنكروها، وبَدَّلُوا كلام الله، فاستحقوا غضب الله، واستحقوا عذابه الأليم.
ثم جاءت الآية موضع السؤال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
وهنا ثلاث مسائل:
الأولى: ما التأويل النحوي لانقلاب همزة [أنَّ] من الفتح إلى الكسر[إنَّ]؟
الثانية: ما التأويل المعنوي لهذا الانقلاب؟
الثالثة: ما الأثر البلاغي والنفسي لانقلاب الهمزة من الفتح إلى الكسر؟
أما المسألة الأولى: ما التأويل النحوي لانقلاب همزة [أنَّ] من الفتح إلى الكسر[إنَّ]؟
لقد فُتِحَت همزة [أنَّ] في {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ} لأنها واسمها وخبرها في محل جر بالباء، وهذا أحد مواضع وجوب فتح همزة [أنَّ][1]،
أما [إن] في {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} فإن الجملة حالية ومن مواضع كسر همزة [إنَّ] تصدرها للجملة الحالية.
وقد رأى ابن عاشور رحمه الله أن الواو عاطفة فقال: "وقوله :{وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} تذييل ولكنه عطف بالواو لأنه يتضمن تكملة وصف الذين اشتروا الضلالة بالهدى ووعيدَهم ، والمرادُ بالذين اختلفوا عين المراد من قوله: {الذين يكتمون}، و{الذين اشتروا}، فالموصولات كلها على نسق واحد"
ولا أنكر على ابن عاشور رحمه الله رأيه من أن الموصولات كلها نسق واحد تعود على أناس بعينهم هم اليهود، لكني أختلف معه في قوله الواو عاطفة، فإني أرى أنها حالية، وهي تشبه الواو في قول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5]، وسيأتي بيان سبب اختياري كون الواو للحال وليس للعطف.
أما المسألة الثانية: ما التأويل المعنوي لهذا الانقلاب؟
إن هذا السؤال يثير سؤالا آخر، وهو: هل ستصح الجملة ويستقيم المعنى إذا فُتِحَت همزة [إنَّ] الثانية بدلا مِن كسرها؟
والجواب نعم، يصح، ويستقيم المعنى، والتقدير سيكون: [وأنَّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد]، لكن هذا التقدير يخرج الجملة من الحالية إلى تأويل (أنَّ ومَعْمُولَيْها) في محل جر معطوف على المؤَوَّل من [أنَّ] الأولى ومَعْمُولَيْها.
فإن قلتم: وهل ينال ذلك من المعنى؟
قلت: نعم؛ إذ إن جملة [إنَّ] الثانية ستكون متعلقة بالإشارة [ذلك] وتابعة لجملة [أنَّ] الأولى، وسيكون المعنى كالتالي: إنهم استحقوا العذاب الأليم الواقع بهم لأن الله أنزل عليهم الكتاب بالحق فكتموه وبَدَّلُوه، ولأنهم في خلاف شديد، وفي عداوة فيما بينهم شديدة.
وإن المعنى في {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} لم يُقْصَد به التعليل الذي استدعاه حرف الباء الذي لحق بـ [أنَّ] في: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ}، وإنما المقصود بالآية بيان الحال، بيان ما عليه اليهود من اختلاف وشقاق وعداوة. فسِياق الكلام على الحال يغرس في نفس السامع أحقيتهم بالعذاب، ويدفعه حالهم هذا على مقتهم والسخط عليهم والرضا بما قضى الله عز وجل فيهم.
المسألة الثالثة: ما الأثر البلاغي والنفسي لانقلاب الهمزة [أن] من الفتح إلى الكسر[إن]؟
- إن أول الآثار التي تنتج عن اختلاف الحركة، وتَبَدُّل الهمزة من الفتح [أنَّ] إلى الكسر [إنَّ] هو جذب انتباه السامع والقارئ، وإثارة الذهن وتوجيهه إلى أنَّ هناك شيئا جديدا مختلفا عما سبق.
- والثاني من هذه الآثار هو ما يتعلق بقوة الأداء في كل مِن [أنَّ] المفتوحة الهمزة و[إنَّ] المكسورة الهمزة، حيث إنَّ [إنَّ] المكسورة الهمزة أكثر استعمالا وتداولا في الكلام رسما ونطقا، أضف إلى ذلك أنَّ [إنَّ] تستقل بنفسها وجملتها على عكس [أنَّ] المفتوحة الهمزة فإنها لابد لها من كلام سابق تعتمد عليه حتى تُفْتَحَ همزتها.
إني لم أجد مِنْ أهل اللغة مَنْ وَازَنَ بين [إنَّ] ، و[أنَّ] من حيث قوة الأداء، ولا مِن حيث أَيُّهما أَدَلُّ وأقوى في التأكيد، لكن السببين السابقين اللذين سُقْتُهما يشهدان لـ [إنَّ] المكسورة الهمزة أنها أقوى في الأداء وأَدَلُّ على قوة التأكيد من [أنَّ] المفتوحة الهمزة.
والله أعلم
د. محمد الجبالي
[1] يجب فتح همزة [أن] إذا صح تأويلها ومعموليها فاعلا أو نائب فاعل، مفعولا به أو خبرا أو مبتدأ أو موضع المجرور بحرف جر.