لماذا اختلفت فاصلة آيتي البقرة {واستعينوا بالصبر والصلاة ..}

د محمد الجبالي

Well-known member
إنضم
24/12/2014
المشاركات
400
مستوى التفاعل
48
النقاط
28
الإقامة
مصر
لماذا اختلفت الفاصلة في آيتي البقرة:

  • {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}
  • {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}
والجواب:
إذا وقعت عينك على آيتين في كتاب الله تشابهتا في ألفاظهما، سواء كان التشابه تاما، أو غير تام، فلا تقل إن المعنى في هذي هو نفسه في تلك، لا ، فالمعنى فيهما ليس سواء، إنما المعنى في كل منهما يحدده السياق الذي درجت فيه كل آية على حِدَة.
فلو تأملنا الآيتين موضع البحث سنجد أن المخاطبين في الأولى غير المخاطبين في الثانية، وسنجد سياق الأولى غير سياق الثانية، فجاءت فاصلة كل آية منهما بما يناسب المخاطبين فيها وحالهم.

توجيه السامرائي:
ولقد فَطِنَ العلامة فاضل السامرائي في توجيهه لآيات المتشابه اللفظي إلى أثر السياق في بيان وتحديد المعنى المقصود لكل آية، ولعل السامرائي أكثر علماء توجيه المتشابه اللفظي اعتمادا على السياق في توجيه الآيات التي تشابه لفظها، وقد قام بتوجيه هاتين الآيتين واعتمد على السياق في بيان سبب اختلاف الفاصلة في كل منهما، وقد وُفِّقَ توفيقا في بيان سبب هذا الاختلاف من حيث المعاني اعتمادا على السياق.
لكن السامرائي وإن أحسن بيان سبب الاختلاف، إلا أنه غَفِلَ عن الغرض البلاغي لكل فاصلة في الآيتين كما سيأتي.
ولنستعرض أولا توجيه السامرائي للآيتين قال: "فقد أعاد الضمير في الآية الأولى على الصلاة وختم الآية بالكلام عليها. وختم الكلام في الآية الثانية على الصبر، وذلك أن الكلام في الآية الأولى على الصلاة فقد تقدم ذكر الصلاة والمطالبة بها. قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة واركعوا مَعَ الراكعين} [البقرة: 43].
بخلاف قوله تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [البقرة: 153] فقد ختم الآية بالكلام على الصبر وذلك لأن الكلام عليه والسياق يقتضيه، فقد قال تعالى بعد هذه الآية: {.. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصابرين * الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 154-156] .
فلمَّا كان السياق في الموطن الأول عن الصلاة، أعاد الضمير عليها وختم الآية بها، ولما كان السياق في الموطن الثاني عن الصبر، ختم الآية بالكلام على الصابرين"[1].

الغرض البلاغي لكل فاصلة:
فاصلة الآية الأولى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}
لقد صدق السامرائي -حفظه الله- وأحسن، لكن يبقى لنا أن نضيف الغرض البلاغي لكل فاصلة في موطنها، وهذا الغرض نستطيع أن نقف عليه، ونستنتجه من خلال السياق الذي اعتمد عليه السامرائي، وباعتبار المخاطبين في كل آية، وباعتبار حال كل منهما في كل آية.
إن المخاطبين في الآية الأولى هم اليهود، وما عُرِفَ عنهم من الغدر، والكيد والمكر، ودوام المخالفة، وقد أشارت الآيات السابقة لبعض خِصال اليهود، وعَرَّضَتْ بهم تَعْرِيضا جَلِيًّا اسمع لربك: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}، فالآية تُعَرِّضُ بهم فهم جاحدون لنعم الله عليهم، ولا يوفون بالعهد، ولا يخشون الله.
ثم كان التعريض بهم أشد وضوحا وجلاء في نهي الله عز وجل لهم: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} فالنهي يوحي أنهم يفعلون هذه المنهيات، وأكد ذلك فعلهم لهذه المنهيات عن عمد {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فَعَرَّضَتْ الآيات بهم تعريضا وتوبيخا.
ثم جاء التوبيخ الشديد لهم جَلِيًّا صريحا، قال عز وجل:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
فلما أمرهم الله عز وجل : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} ختم الآية بقوله {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فقوله: {إلا الْخَاشِعِينَ} تعريض بهم، أي أنتم لستم منهم، لستم من الخاشعين. فكان ذلك تعريضا بهم.
وقد فَطِنَ العلامة الغرناطي رحمه الله لهذا الغرض لكنه لم يَقُلْهُ صراحة بل فَصَّلَه فقال: " قوله تعالى: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " مشير إلى التثاقل عنها والتكاسل الجاريين فى الغالب والأكثر مع ضعف اليقين وقلة الإخلاص وذلك مناسب لحال بنى إسرائيل ممن ذكرت فى الآيات قبل"[2]

فاصلة الآية الثانية: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
إن الخطاب في الآية للمؤمنين، إنهم مؤمنون على استقامة وتُقًى، فالأمر في الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} وإن كان تكليفا إلا أنه توجيه لهم وإرشاد لما ينفعهم في دنياهم، ويرفع درجاتهم في أخراهم.
ثم جاءت الفاصلة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} تعليلا للأمر بالاستعانة بالصبر، وبيانا أن النتيجة المحتومة للاستعانة بالصبر والصلاة هي معية الله، ويبقى هناك غرض بلاغي واضح جَلِيٌّ للفاصلة {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ألا وهو الترغيب في الاستعانة بهذين الأمرين الصبر والصلاة. قال الشوكاني رحمه الله: "فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال، وإن كانت كالجبال"[3].

وخلاصة ما تقدم مما أردنا إضافته لتوجيه هاتين الآيتين:

  • أن الفاصلة في الآية الأولى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} الغرض منها التعريض باليهود والتوبيخ لما جُلِبُوا عليه من سوء الخصال ودوام المخالفة.
  • أما الفاصلة في الآية الثانية: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} فالغرض منها ترغيب المؤمنين في الصبر والصلاة وتربيتهم عليهما.
والله أعلم
د. محمد الجبالي



[1] السامرائي، فاضل السامرائي، أسرار التعبير القرآني، ص231، ط4، 2006م، دار ابن عمار، عمان.

[2] الغرناطي، أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي، ملاك التأويل القاطع لذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، ج1، ص32، ط1، تحقيق: عبد الغني محمد علي الفاسي، دار الكتب العلمية، بيروت.

[3] الشوكاني، محمد بن علي بن محمد، فتح القديرالجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، ج1، ص297.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين أما بعد الاستاذ الفاضل محمد الجبالي في الآية الأولى الخطاب للمؤمنين وليس لليهود فكيف يأمرهم بالصلاة وهم لم يدخلوا الاسلام والتذكير بالخشوع إنما للمؤمنين لكي يخشعوا ويشعروا بفوائد الصلاة وليس تعريض باليهود فكيف يعرض بهم وهم لم يصلوا صلاة الاسلام ...وأرجو أن توضح هل هناك مفسر أعتبر أن الخطاب لليهود وجزاكم الله خيرا.
 
إليك هذه النقول وللأسف ضاق بي الوقت عن آتيك بالمزيد:

فتح القدير (1/ 90، بترقيم الشاملة آليا)
واختلف المفسرون في رجوع الضمير في قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } فقيل : إنه راجع إلى الصلاة ........ وقيل : رجع إلى جميع الأمور التي نهى عنها بنو إسرائيل .

الكشاف (1/ 86، بترقيم الشاملة آليا)
الضمير للصلاة أو للاستعانة . ويجوز أن يكون لجميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله : { اذكروا نِعْمَتِيَ } إلى { واستعينوا }"


تفسير النيسابوري (1/ 211، بترقيم الشاملة آليا)
ولما أمرهم الله تعالى بالإيمان وترك الإضلال وبالتزام الشرائع وموافقة القول للفعل وكان ذلك شاقاً عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه ، عالج الله تعالى هذا المرض بقوله { واستعينوا بالصبر والصلاة } فكأنه قيل : واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر أي حبس النفس عن اللذات ، فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها . ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك كمل الأمر ، لأن المشتغل بالصلاة مشتغل بذكر لطفه وقهره ، فإذا تذكر لطفه مال إلى الطاعة ، وإذا تذكر قهره انتهى عن المعصية

تفسير أبي السعود (1/ 128، بترقيم الشاملة آليا)
{ واستعينوا بالصبر والصلاة } متصلٌ بما قبله كأنهم لما كُلفوا ما فيه من مشقةٌ من ترك الرياسةِ والإعراضِ عن المال عولجوا بذلك والمعنى استعينوا على حوائجكم بانتظار النُّجْحِ والفرَج توكلاً على الله تعالى أو بالصوم الذي هو الصبرُ عن المفطِرات لما فيه من كسر الشهوةِ وتصفيةِ النفس والتوسل بالصلاة والالتجاءِ إليها فإنها جامعةٌ لأنواع العبادات النفسانية والبدنية ..... { وَإِنَّهَا } أي الاستعانةَ بهما أو الصلاة وتخصيصَها بردِّ الضمير إليها لعِظم شأنِها واشتمالِها على ضروبٍ من الصبر..... أو جُملةِ ما أُمروا بها ونُهوا عنها



تفسير البحر المحيط (1/ 235، بترقيم الشاملة آليا)
ولا يبعد أن يكون الخطاب أولاً لبني إسرائيل ، ثم يقع بعد الخطاب للمؤمنين ، والذي يظهر أن ذلك كله خطاب لبني إسرائيل ، لأن صرف الخطاب إلى غيرهم لغير موجب ، ثم يخرج عن نظم الفصاحة .

نظم الدرر للبقاعي (1/ 84، بترقيم الشاملة آليا)
ولما أنكر عليهم اتباع الهوى أرشدهم إلى دوائه بأعظم أخلاق النفس وأجل أعمال البدن فقال عاطفاً على ما مضى من الأوامر . وقال الحرالي : فكأنهم إنما حملهم على مخالفة حكم العقل ما تعودت به أنفسهم من الرياسة والتقدم فلِما في ذلك عليهم من المشقة أن يصيروا أتباعاً للعرب بعد ما كانوا يرون أن جميع الأرض تبع لهم نسق بخطابهم في ذلك الأمر بالاستعانة بالصبر الذي يُكره أنفسهم على أن تصير تابعة بعد أن كانت متبوعة فقال تعالى - انتهى . { واستعينوا } أي على إظهار الحق والانقياد له وهو معنى ما مضى من الأوامر والنواهي { بالصبر }



تفسير الرازي (2/ 74، بترقيم الشاملة آليا)
والأقرب أن المخاطبين هم بنو إسرائيل لأن صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك النظم . فإن قيل : كيف يؤمرون بالصبر والصلاة مع كونهم منكرين لهما؟ قلنا : لا نسلم كونهم منكرين لهما . وذلك لأن كل أحد يعلم أن الصبر على ما يجب الصبر عليه حسن وأن الصلاة التي هي تواضع للخالق والاشتغال بذكر الله تعالى يسلي عن محن الدنيا وآفاتها ، إنما الاختلاف في الكيفية ، فإن صلاة اليهود واقعة على كيفية وصلاة المسلمين على كيفية أخرى . وإذا كان متعلق الأمر هو الماهية التي هي القدر المشترك زال الإشكال المذكور وعلى هذا نقول : إنه تعالى لما أمرهم بالإيمان وبترك الإضلال وبالتزام الشرائع وهي الصلاة والزكاة؛ وكان ذلك شاقاً عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه لا جرم عالج الله تعالى هذا المرض فقال : { واستعينوا بالصبر والصلاة } .

أما بعد:
وبعد أن تنتهي من قراءة هذه النقول تأمل هذه الآيات وأين وقعت الآية موضع البحث وعلى من يعود الخطاب، فإني قد فعلت ذلك ووجدت أن الخطاب في الآية لليهود، ولا شك يدخل فيه المؤمنون، لكن سياق الآيات قبل وبعد قائم لليهود:
قال الله تعالى:
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) } [البقرة: 40 - 48]
 
عودة
أعلى