د محمد الجبالي
Well-known member
لماذا اختلفت الفاصلة في آيتي البقرة:
إذا وقعت عينك على آيتين في كتاب الله تشابهتا في ألفاظهما، سواء كان التشابه تاما، أو غير تام، فلا تقل إن المعنى في هذي هو نفسه في تلك، لا ، فالمعنى فيهما ليس سواء، إنما المعنى في كل منهما يحدده السياق الذي درجت فيه كل آية على حِدَة.
فلو تأملنا الآيتين موضع البحث سنجد أن المخاطبين في الأولى غير المخاطبين في الثانية، وسنجد سياق الأولى غير سياق الثانية، فجاءت فاصلة كل آية منهما بما يناسب المخاطبين فيها وحالهم.
توجيه السامرائي:
ولقد فَطِنَ العلامة فاضل السامرائي في توجيهه لآيات المتشابه اللفظي إلى أثر السياق في بيان وتحديد المعنى المقصود لكل آية، ولعل السامرائي أكثر علماء توجيه المتشابه اللفظي اعتمادا على السياق في توجيه الآيات التي تشابه لفظها، وقد قام بتوجيه هاتين الآيتين واعتمد على السياق في بيان سبب اختلاف الفاصلة في كل منهما، وقد وُفِّقَ توفيقا في بيان سبب هذا الاختلاف من حيث المعاني اعتمادا على السياق.
لكن السامرائي وإن أحسن بيان سبب الاختلاف، إلا أنه غَفِلَ عن الغرض البلاغي لكل فاصلة في الآيتين كما سيأتي.
ولنستعرض أولا توجيه السامرائي للآيتين قال: "فقد أعاد الضمير في الآية الأولى على الصلاة وختم الآية بالكلام عليها. وختم الكلام في الآية الثانية على الصبر، وذلك أن الكلام في الآية الأولى على الصلاة فقد تقدم ذكر الصلاة والمطالبة بها. قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة واركعوا مَعَ الراكعين} [البقرة: 43].
بخلاف قوله تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [البقرة: 153] فقد ختم الآية بالكلام على الصبر وذلك لأن الكلام عليه والسياق يقتضيه، فقد قال تعالى بعد هذه الآية: {.. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصابرين * الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 154-156] .
فلمَّا كان السياق في الموطن الأول عن الصلاة، أعاد الضمير عليها وختم الآية بها، ولما كان السياق في الموطن الثاني عن الصبر، ختم الآية بالكلام على الصابرين"[1].
الغرض البلاغي لكل فاصلة:
فاصلة الآية الأولى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}
لقد صدق السامرائي -حفظه الله- وأحسن، لكن يبقى لنا أن نضيف الغرض البلاغي لكل فاصلة في موطنها، وهذا الغرض نستطيع أن نقف عليه، ونستنتجه من خلال السياق الذي اعتمد عليه السامرائي، وباعتبار المخاطبين في كل آية، وباعتبار حال كل منهما في كل آية.
إن المخاطبين في الآية الأولى هم اليهود، وما عُرِفَ عنهم من الغدر، والكيد والمكر، ودوام المخالفة، وقد أشارت الآيات السابقة لبعض خِصال اليهود، وعَرَّضَتْ بهم تَعْرِيضا جَلِيًّا اسمع لربك: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}، فالآية تُعَرِّضُ بهم فهم جاحدون لنعم الله عليهم، ولا يوفون بالعهد، ولا يخشون الله.
ثم كان التعريض بهم أشد وضوحا وجلاء في نهي الله عز وجل لهم: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} فالنهي يوحي أنهم يفعلون هذه المنهيات، وأكد ذلك فعلهم لهذه المنهيات عن عمد {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فَعَرَّضَتْ الآيات بهم تعريضا وتوبيخا.
ثم جاء التوبيخ الشديد لهم جَلِيًّا صريحا، قال عز وجل:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
فلما أمرهم الله عز وجل : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} ختم الآية بقوله {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فقوله: {إلا الْخَاشِعِينَ} تعريض بهم، أي أنتم لستم منهم، لستم من الخاشعين. فكان ذلك تعريضا بهم.
وقد فَطِنَ العلامة الغرناطي رحمه الله لهذا الغرض لكنه لم يَقُلْهُ صراحة بل فَصَّلَه فقال: " قوله تعالى: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " مشير إلى التثاقل عنها والتكاسل الجاريين فى الغالب والأكثر مع ضعف اليقين وقلة الإخلاص وذلك مناسب لحال بنى إسرائيل ممن ذكرت فى الآيات قبل"[2]
فاصلة الآية الثانية: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
إن الخطاب في الآية للمؤمنين، إنهم مؤمنون على استقامة وتُقًى، فالأمر في الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} وإن كان تكليفا إلا أنه توجيه لهم وإرشاد لما ينفعهم في دنياهم، ويرفع درجاتهم في أخراهم.
ثم جاءت الفاصلة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} تعليلا للأمر بالاستعانة بالصبر، وبيانا أن النتيجة المحتومة للاستعانة بالصبر والصلاة هي معية الله، ويبقى هناك غرض بلاغي واضح جَلِيٌّ للفاصلة {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ألا وهو الترغيب في الاستعانة بهذين الأمرين الصبر والصلاة. قال الشوكاني رحمه الله: "فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال، وإن كانت كالجبال"[3].
وخلاصة ما تقدم مما أردنا إضافته لتوجيه هاتين الآيتين:
د. محمد الجبالي
[1] السامرائي، فاضل السامرائي، أسرار التعبير القرآني، ص231، ط4، 2006م، دار ابن عمار، عمان.
[2] الغرناطي، أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي، ملاك التأويل القاطع لذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، ج1، ص32، ط1، تحقيق: عبد الغني محمد علي الفاسي، دار الكتب العلمية، بيروت.
[3] الشوكاني، محمد بن علي بن محمد، فتح القديرالجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، ج1، ص297.
- {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}
إذا وقعت عينك على آيتين في كتاب الله تشابهتا في ألفاظهما، سواء كان التشابه تاما، أو غير تام، فلا تقل إن المعنى في هذي هو نفسه في تلك، لا ، فالمعنى فيهما ليس سواء، إنما المعنى في كل منهما يحدده السياق الذي درجت فيه كل آية على حِدَة.
فلو تأملنا الآيتين موضع البحث سنجد أن المخاطبين في الأولى غير المخاطبين في الثانية، وسنجد سياق الأولى غير سياق الثانية، فجاءت فاصلة كل آية منهما بما يناسب المخاطبين فيها وحالهم.
توجيه السامرائي:
ولقد فَطِنَ العلامة فاضل السامرائي في توجيهه لآيات المتشابه اللفظي إلى أثر السياق في بيان وتحديد المعنى المقصود لكل آية، ولعل السامرائي أكثر علماء توجيه المتشابه اللفظي اعتمادا على السياق في توجيه الآيات التي تشابه لفظها، وقد قام بتوجيه هاتين الآيتين واعتمد على السياق في بيان سبب اختلاف الفاصلة في كل منهما، وقد وُفِّقَ توفيقا في بيان سبب هذا الاختلاف من حيث المعاني اعتمادا على السياق.
لكن السامرائي وإن أحسن بيان سبب الاختلاف، إلا أنه غَفِلَ عن الغرض البلاغي لكل فاصلة في الآيتين كما سيأتي.
ولنستعرض أولا توجيه السامرائي للآيتين قال: "فقد أعاد الضمير في الآية الأولى على الصلاة وختم الآية بالكلام عليها. وختم الكلام في الآية الثانية على الصبر، وذلك أن الكلام في الآية الأولى على الصلاة فقد تقدم ذكر الصلاة والمطالبة بها. قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة واركعوا مَعَ الراكعين} [البقرة: 43].
بخلاف قوله تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [البقرة: 153] فقد ختم الآية بالكلام على الصبر وذلك لأن الكلام عليه والسياق يقتضيه، فقد قال تعالى بعد هذه الآية: {.. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات وَبَشِّرِ الصابرين * الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 154-156] .
فلمَّا كان السياق في الموطن الأول عن الصلاة، أعاد الضمير عليها وختم الآية بها، ولما كان السياق في الموطن الثاني عن الصبر، ختم الآية بالكلام على الصابرين"[1].
الغرض البلاغي لكل فاصلة:
فاصلة الآية الأولى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}
لقد صدق السامرائي -حفظه الله- وأحسن، لكن يبقى لنا أن نضيف الغرض البلاغي لكل فاصلة في موطنها، وهذا الغرض نستطيع أن نقف عليه، ونستنتجه من خلال السياق الذي اعتمد عليه السامرائي، وباعتبار المخاطبين في كل آية، وباعتبار حال كل منهما في كل آية.
إن المخاطبين في الآية الأولى هم اليهود، وما عُرِفَ عنهم من الغدر، والكيد والمكر، ودوام المخالفة، وقد أشارت الآيات السابقة لبعض خِصال اليهود، وعَرَّضَتْ بهم تَعْرِيضا جَلِيًّا اسمع لربك: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}، فالآية تُعَرِّضُ بهم فهم جاحدون لنعم الله عليهم، ولا يوفون بالعهد، ولا يخشون الله.
ثم كان التعريض بهم أشد وضوحا وجلاء في نهي الله عز وجل لهم: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} فالنهي يوحي أنهم يفعلون هذه المنهيات، وأكد ذلك فعلهم لهذه المنهيات عن عمد {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فَعَرَّضَتْ الآيات بهم تعريضا وتوبيخا.
ثم جاء التوبيخ الشديد لهم جَلِيًّا صريحا، قال عز وجل:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
فلما أمرهم الله عز وجل : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} ختم الآية بقوله {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فقوله: {إلا الْخَاشِعِينَ} تعريض بهم، أي أنتم لستم منهم، لستم من الخاشعين. فكان ذلك تعريضا بهم.
وقد فَطِنَ العلامة الغرناطي رحمه الله لهذا الغرض لكنه لم يَقُلْهُ صراحة بل فَصَّلَه فقال: " قوله تعالى: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " مشير إلى التثاقل عنها والتكاسل الجاريين فى الغالب والأكثر مع ضعف اليقين وقلة الإخلاص وذلك مناسب لحال بنى إسرائيل ممن ذكرت فى الآيات قبل"[2]
فاصلة الآية الثانية: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
إن الخطاب في الآية للمؤمنين، إنهم مؤمنون على استقامة وتُقًى، فالأمر في الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} وإن كان تكليفا إلا أنه توجيه لهم وإرشاد لما ينفعهم في دنياهم، ويرفع درجاتهم في أخراهم.
ثم جاءت الفاصلة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} تعليلا للأمر بالاستعانة بالصبر، وبيانا أن النتيجة المحتومة للاستعانة بالصبر والصلاة هي معية الله، ويبقى هناك غرض بلاغي واضح جَلِيٌّ للفاصلة {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ألا وهو الترغيب في الاستعانة بهذين الأمرين الصبر والصلاة. قال الشوكاني رحمه الله: "فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال، وإن كانت كالجبال"[3].
وخلاصة ما تقدم مما أردنا إضافته لتوجيه هاتين الآيتين:
- أن الفاصلة في الآية الأولى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)} الغرض منها التعريض باليهود والتوبيخ لما جُلِبُوا عليه من سوء الخصال ودوام المخالفة.
- أما الفاصلة في الآية الثانية: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} فالغرض منها ترغيب المؤمنين في الصبر والصلاة وتربيتهم عليهما.
د. محمد الجبالي
[1] السامرائي، فاضل السامرائي، أسرار التعبير القرآني، ص231، ط4، 2006م، دار ابن عمار، عمان.
[2] الغرناطي، أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي، ملاك التأويل القاطع لذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، ج1، ص32، ط1، تحقيق: عبد الغني محمد علي الفاسي، دار الكتب العلمية، بيروت.
[3] الشوكاني، محمد بن علي بن محمد، فتح القديرالجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، ج1، ص297.