للقراءة والنقد: دراسة بعنوان: من إعجاز القرآن إلى العجز العلمي

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع مرهف
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

مرهف

New member
إنضم
27/04/2003
المشاركات
511
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
ـ سوريا
الموقع الالكتروني
www.kantakji.org
السلام عليكم ورحمة الله
لقد وقعت هذه المقالة بين يدي من فترة، وقرأتها وكنت أتهيأ لتعليق عليها، ولكن كثرة الأشغال أخرتني في ذلك، فرأيت أن يقرأها الأخوة ويبدوا رأيهم في هذه الدراسة آخذين بالاعتبار المساق والتوجه الفكري لها، والمقصد من طرحها، فمن أهم فوائد قراءة مثل هذه الدراسات: معرفة النمط الفكري لمثل الكاتب لهذه الدراسة وكيفية الاسقاطات والحكم على المقاصد وممارسة العربدة الفكرية ووضع العصا في العجلات لإحداث إرباك في مسيرة التصحيح العلمي.

من إعجاز القرآن... إلى العجز العلميّ
بقلم: العادل خضر
2010/03/09

يقول محيي الدّين بن عربي: "لمّا شاء الحقّ سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى الّتي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها، وإن شئت قلت أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر كلّه لكونه متّصفا بالوجود، ويظهر به سرّه إليه، فإنّ رؤية الشّيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة (…) اقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصّورة"(1). فالأسماء الحسنى قبل تجلّيها، وقبل أن يشاء "الحقّ" أن يرى أعيانها كانت منزّهة وغير متجسّدة في شيء. فهي موجودة بالقوّة معدومة بالفعل. ولمّا تجلّت وتعيّنت في مرآة العالم صارت الأسماء عينا وأعيانا، قد تجلّى سرّها في أمر آخر غير نفسها. وهي بهذا التّغيّر تحقّق غيريّتها المطلقة بالانتقال من موقع الهو هو Le même إلى موقع الغير L’autrui. ويمكن هاهنا أن نتساءل: ألا ينسف هذا الانتقال مفهوم الدّليل لمّا أصبح هذا العالم بما فيه من أشياء هو الله ذاته بعد أن انتقلت أسماؤه من موقع الهو هو إلى موقع الغير، فانقلبت بذلك الانتقال من حال الأسماء الحسنى إلى حال الأعيان، أي الأسماء وقد تعيّنت في شيء؟ أم ينبغي أن نحافظ على مفهوم الدّليل فنعتبر هذه الأشياء صورا للأسماء الحسنى وقد تعيّنت في مرآة العالم؟ وحينئذ كيف السّبيل إلى معرفته والعلم به؟ يقول ابن عربي: "ثمّ لتعلم أنّه لمّا كان الأمر على ما قلناه من ظهوره بصورته، أحالنا الله تعالى في العلم به على النّظر في الحادث، وذكر أنّه أرانا آياته فيه، فاستدللنا بنا عليه. فما وصفناه بوصف إلاّ كنّا نحن ذلك الوصف إلاّ الوجوب الخاصّ الذّاتيّ. فلمّا علمناه بنا ومنّا نسبْنا إليه كلّ ما نسبناه إلينا. وبذلك وردت الإخبارات الإلهيّة على ألسنة التّراجم إلينا. فوصف نفسه لنا بنا: فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا، وإذا شهدنا شهِد نفسه"(2). فالكون بما فيه من الأشياء الّتي تؤثّثه والكائنات والموجودات والمخلوقات الّتي تعمّره هي أعيان "الأسماء الحسنى" وقد تجلّت في مرآة العالم.

ولهذه "الأسماء الحسنى" مرادف آخر عند المتكلّمين هي "كلمات الله". وقد ورد ذكرها في بعض الآيات نذكر منها:
*وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهْوَ السَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (الأنعام،6،الآية115).
*وَلَوْ أَنَّ مَا فِي اَلأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَاَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (لقمان،31،الآية27).

*قُلْ لَوْ كَانَ اَلْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفَدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثُلِهِ مَدَدًا " (الكهف،18،الآية 109).

تتجلّى لنا في هذه الآيات المختارة بعض السّمات الّتي يمكن أن نحدّ بها كلمات الله، نقتصر على سمتين منها، هما:
* سمة اللاّتبدّلl’irrévocabilité . فكلام الله فوريّ من صنف الأفعال الإنجازيّة لأنّها تحدث ما تقوله وتخلق ما تتلفّظ به. فهو كلام ينشئ الواقع إبّان القول. ولأجل ذلك كان كلاما محتوما غير حادث قديما مكتوبا منذ الأزل.

* سمة اللاّتناهي، وهي سمة شائعة في معظم الثّقافات الّتي عرفت الكتاب، ويستعار لها صورة الكتابة البشريّة المنحطّة الزّائلة لإظهارها. وقد فسّر فخر الدّين الرّازي لفظ "الكلمات" الواردة في الآية 27 من سورة لقمان بأنّها داخلة في باب العجائب. ووجه التّأويل أنّ العجائب تكون بقول الله "كُنْ" و"كُنْ" كلمة، وإطلاق اسم السّبب على المسبّب جائز، آية ذلك أنّ الله سمّى المسيح كلمة لأنّه كان أمرا عجيبا وصنعا غريبا لوجوده من غير أب. ولمّا كان كلام الله عجيبا معجزا لا يقدر أحد على الإتيان بمثله ثمّ كانت عجائب الله لا نهاية لها، دخل في تلك العجائب كلامه (3).

يتطابق تأويل فخر الدّين الرّازي تقريبا مع تأويل الجاحظ للآية 109 من سورة الكهف حين يقول: "وقد قال الله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ مَا فِي اَلأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَاَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ". ويعلّق الجاحظ عليها بقوله: "والكلمات في هذا الموضع ليس يريد بها القول والكلام المؤلّف من الحروف، وإنّما يريد النّعم والأعاجيب والصّفات وما أشبه ذلك".(4). ومعنى هذا أنّ الله الّذي يخلق بكلمة "كُنْ"، فيوجد الشّيء بالكلمة، دلّ ذلك على أنّ كلّ الكائنات هي كلمات الله، أو هي الأشياء الّتي انبثقت في الوجود وظهرت بفضل الكلمة الخالقة واهبة الحياة. وحينئذ ليس للإنسان من دور سوى استقراء هذه الأدلّة والاستدلال بعجائب المخلوقات لبلوغ الحكمة الخفيّة من الخلق. ولمّا كان العجب هو حالة من جهل أسباب الظّاهرة، فإنّ اكتشاف السّبب يزيل الجهل ويقلب العجب إلى علم. يقول الجاحظ في هذا الشّأن: "فلا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يريك العقل. وللأمور حكمان: حكم ظاهر للحواسّ وحكم باطن للعقول. والعقل هو الحجّة (…) ولو وقفت على جناح بعوضة وقوف معتبر، وتأمّلته تأمّل متفكّر بعد أن تكون ثاقب النّظر سليم الآلة، غوّاصا على المعاني، لا يعتريك من الخواطر إلاّ على حسب صحّة عقلك، ولا من الشّواغل إلاّ ما زاد في نشاطك، لملأت ممّا توجدك العبرة من غرائبَ الطّوامير الطّوال، والجلود الواسعة الكبار…"(5).

نتبيّن من هذا الشّاهد بعض الأمور، منها أنّ موضوع التّعجّب ليس الموجودات في حدّ ذاتها وإنّما الأسرار الخفيّة الكامنة في الكائنات والمخلوقات. فهي قبل كلّ شيء دليل على حكمة الخالق وعظمة البارئ ووحدانيّته. فقد أصبحت الأشياء موضوعا للمساءلة والاندهاش والتّعجّب والاستغراب لمّا كفّت عن أن تكون مجرّد أشياء منتثرة في العالم ومنخرطة في دورة النّظام الطّبيعيّ، فأضحت دلائل منتصبة يستدلّ بها على وجود دلالة متعالية ومعنى ميتافيزيقيّ. وقد أثّر هذا الانقلاب بدوره في مقياس الأشياء، فلم يعد الإنسان بل الله. كما أثّر في مقولة الحقيقة، إذ صيغت على نحو آخر حين تشكّل الكون بأسره على منوال العلامة، فأضحت الكائنات والموجودات نِصْبَة لا تحمل حقيقتها في شيئيّتها المحض ومادّيّتها الخالصة، وإنّما في علّة وجودها، وهي أن تكون آية لذوي الألباب.

فالأشياء المنتثرة في العالم ليست خرساء، فهي في ذاتها علامات ناطقة تسبّح بحكمة الله المحشوّة فيها. ولكنّها ستظلّ منطوية على حكمتها ما لم تجد الذّاتَ المدرِكَة الّتي تفكّ شفرتها، وتفجّر ما ثوى فيها من غرائب وأعاجيب وعلوم وحكم. وبهذا يكون الكون نصبة لأنّ الله يتجلّى من خلال العلامات ـ الأشياء الّتي كتبت بالقلم الرّبّانيّ على كتاب الطّبيعة. ولكن كيف يمكن للإنسان أن يقرأ هذا الكتاب؟ وكيف يمكنه أن يتواصل مع الله؟

الجواب: بالاستدلال. ذلك أنّ الاستدلال إن كان يتضمّن استقراء متحيّرا للأدلّة المنتثرة في الكون فإنّ هذا الاستقراء ذاته يقلب الطّبيعة إلى كتاب كتبت حروفه بالكلمات الإلهيّة.

بيد أنّ كتاب الطّبيعة في التّصوّر الإسلاميّ لا يكافئه كتاب آخر سوى القرآن ذاته، فكلاهما يحمل في طيّاته آثار القول الإلاهيّ. فاستقراء كتاب الطّبيعة أو قراءة القرآن هما طريقتان في التّعبّد والتّواصل مع الله. ذلك أنّ الكلمة الّتي تخلق وتهب الحياة، والكلام الموحى المنزّل، كلاهما من أصل إلهيّ واحد. فمن يستقرئ كلمات الله المبثوثة في كتاب الطّبيعة أو يقرأ كتاب الله الموحى المنزّل إنّما يقرأ في كتابين قد ترجما آيات الله تارة بالكلمات/الأشياء وطورا بالكلام، أي بلغتين مختلفتين: لغة الأشياء المنتصبة في كتاب الطّبيعة، ولغة القرآن المنزّل بلسان عربيّ مبين.

وكثيرا ما التبست هاتان اللّغتان وتداخلتا بنسيان تمايزهما وانفصالهما واختلافهما الجوهريّ. فلغة الأشياء قد أضحت في العلم الحديث لا تترجم إلاّ بلغة الرّياضيات ولا يعبّر عنها إلاّ في ذلك الوسيط الرّياضيّ، أمّا لغة القرآن فقد ترجمت منذ نزولها في وسيط لغويّ هو العربيّة بما أنّ الوحي الإلاهيّ قد أنزل بلسان عربيّ مبين (6).

هذا التّداخل نجده في بعض نظريّات الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن (ولا فرق جوهريّ بينها). وهي تفسّر الإعجاز تفسيرا يخالف نظريّات الإعجاز اللّغويّة البيانيّة، ولكنّه قريب من نظريّة أوستين Austin في أفعال الكلام، إذ هو صورتها التّيولوجيّة. فإن كان كلام الله معجزا لا يُحَاكى فلأنّه من جنس الكلام الّذي يصنع أشياء العالم بالكلمات. فكلام الله فعل خلق، والكون بأسره هو عمل قول. فالله لا يتكلّم لكي لا يصنع شيئا لأنّ كلّ كلماته فعل ما دام يفعل ما يقول. وكلّ ما قام به "الإعجازيّون" المسلمون هو أنّهم اقتصروا على وصف آثار الكلام الإلهيّ المخلّفة في اللّغة القرآنيّة دون أن يتمكّنوا من كشف أسرار الحرف الرّبّانيّ الّذي به كان الخلق (7).
***
لقد برزت منذ عقود نظريّات جديدة في الإعجاز القرآني تشهد على هذا التّداخل بين لغة الأشياء ولغة الكلمات، وبين كتاب الطّبيعة وكتاب الله الموحى المقدّس، القرآن الكريم، لعلّ أبرزها ما اشتهر بتسمية الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن. وهي تسمية تُضمر تصوّرا كلّيّا إلهيّا للعالم panthéiste يضحي الله موجودا في كلّ ما خلق، فتكون أشياء العالم بذلك آيات تشهد على حكمته. فالكون تجلّ لأسمائه ولكلماته، بل هو (الله) كامن في قلب الأشياء لأنّه أوْدعها حكمته. غير أنّ هذا التّصوّر الإلهي الكلّي للعالم قد تحوّر قليلا في نظريّة الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن. فإذا كانت حكمة الله في التّصوّر القديم كامنة في أشياء العالم فإنّ العلم في نطاق نظريّة الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن ليس وسيلة لبلوغ تلك الحكمة. ذلك أنّ غاية هذه النّظريّة ليست بلوغ الحكمة الإلهيّة المودعة في الأشياء بالعلم، وإنّما تفسير كلام الله المودع في كتابه المقدّس بالعلم. فهي تترجم كلام الله أو تؤوّله وتفسّره بالقول العلميّ الحديث. وهي لا تنظر في "كلمات الله" الّتي نشأ بها كتاب الطّبيعة لأنّ العلوم الحديثة قد افتكّت من مؤسّسات الدّين منذ غاليلي سلطة النّظر إلى العالم والأشياء بإعادة تحديد طرائق النّظر فيها. فـنظريّة الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن لا تريد تفسير العالم مادّيّا، ولا هي تفسّر العالم بأشيائه وموجوداته انطلاقا من المادّة على غرار العلوم الطّبيعيّة، وإنّما هي نظريّة تأويليّة تستند إلى المصادرة التّالية المستمدّة من القرآن وهي "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ" (الأنعام، الآية38). فكلّ شيء في العالم قد سطّر في الكتاب. وكلّ ما يكتشفه العلم قد وجد سلفا في الكتاب. وهاهنا يتجلّى التّداخل بين كتاب الطّبيعة الّذي يترجم العلم الحديث "مفرداته" و"عباراته" بلغة الرّياضيات والفيزياء… وكتاب الله، القرآن المنزّل الموحى. فكتاب الطّبيعة يترجم "كلمات الله" بلغة الأشياء، بينما القرآن يترجم "كلام الله" بلسان عربيّ مبين. أمّا نظريّة الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن فهي لا تفسّر "كلمات الله" ببيان نشأة الأشياء وتكوّن الموجودات وتخلّق المخلوقات، وإنّما هي تؤوّل "كلام الله" بلغة العلم الحديث. وهي بهذا الإجراء ليست نظريّة في العلم لأنّ مرجع العلم كتاب الطّبيعة، ولا هي بنظريّة في التّفسير لأنّ مرجع التّفسير كتاب الله، القرآن الكريم، وإنّما هي شكل حديث من علم الكلام الإسلاميّ، وأسلوب جديد في إجراء قياس المتكلّمين المعروف بـ"الاستدلال بالشّاهد على الغائب". فما الّذي أنجزته نظريّة الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن في خطابها وبخطابها؟
***​
إن كان المقصود من الكتاب كتاب الطّبيعة لمّا شبّه غاليلي الطّبيعة بكتاب كُتب بلغة رياضيّة ليس على العالِم إلاّ أن يقرأها، فإنّ هذا الكتاب لم يفرّط في شيء.

أمّا إن كان المقصود من الكتاب هو كتاب الله ذاته فإنّ أصحاب نظريّة الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن يرون رأيا آخر، وهو أنّ هذا الكتاب هو القرآن. وخطّتهم تتمثّل في الجمع بين خطاب العلم الحديث والخطاب القرآنيّ الدّينيّ. وهذا الجمع قائم على المطابقة كأن يكون القول العلميّ (أ) مطابقا للقول القرآنيّ (ب). ف(أ) = (ب). وفي هذه المعادلة يبدو القول القرآنيّ هو موضوع التّفسير، كأن يبحث أصحاب نظريّة التّفسير العلمي للقرآن "عن معاني الآية أو الحديث في ضوء ما ترجّحت صحّته من نظريات العلوم الكونيّة"، أو يقف أنصار إعجاز القرآن العلميّ على براهين علميّة تثبت الإعجاز القرآنيّ ببيان علميّة القرآن، والبرهنة على أنّ العلم في القرآن سبق كلّ علم حديث (8). فإذا ما أثبتوا بالتّأويل أنّ النّظريّة (س) موجودة سلفا في القرآن بدليل أنّ الآية (ز) هي النّظريّة (س)، أصبحت (ز) هي (س) دون فوارق تذكر ولا حدود مانعة. فالحدود المانعة من الاختلاط بين القول العلميّ والقول القرآني تزول تماما عند أصحاب نظريّة الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن. ولنا على هذا الخلط بين القولين أمثلة كثيرة نقتصر على واحد فقط. ففي مقالة "عقيدتنا الإيمان بالحداثة والتّقدّم والتّساؤل في نور الله" أوّل الأستاذ محمّد الطّالبي الآية الثّالثة من سورة القارعة على هذا النّحو: "الحمد لربّ العالمين، الّذي من بين العالمين اختار لنا هذا العالم الّذي منذ 15 مليار سنة خلت، فجّرته، بقوله "كُنْ" القارعة الكبرى (Big Bang)، "وما أدراك ما القارعة" …" (9). ففي هذا المثال، يبدو الخطاب العلميّ هو الموضوع الّذي يبحث له معتنقو نظريّة الإعجاز العلميّ عن معقوليّته في الخطاب القرآنيّ. فالقول العلمي (س)، وهو نظريّة (Big Bang) العلميّة المفسِّرة لنشأة الكون لا يمكن أن تفهم في هذا التّأويل إلاّ بالقول القرآنيّ (ز)، وهو "وما أدراك ما القارعة"، الآية الّتي تصوّر نهاية العالم. فهي صورة قياميّةapocalyptique ، وهي صورة تفسّر بداية الكون بـنهايته. فهل (Big Bang) هو القارعة؟

لنترك الجواب معلّقا. فما يعنينا من نظريّة الإعجاز العلميّ للقرآن أو نظريّة التّفسير العلمي للقرآن ليس بيان تهافتهما المنطقيّ، ولا سذاجتهما العلميّة، وإنّما بيان استحالة لقاء القول العلميّ الحديث والقول القرآنيّ. فبين القولين قطيعة جوهريّة لا ننزّلها على المستوى الزّماني بين قول قديم وقول حديث فحسب، وإنّما على المستوى التّأويليّ أيضا. فإذا اعتبرنا التّأويل هو تصريف قول في قول، أي ترجمة قول بقول آخر استحالت ترجمة القول العلميّ بالقول القرآنيّ ولا آيات القرآن بلغة العلم. وذلك لأسباب عديدة أبرزها أنّ لغة العلم اليوم هي لغة تقنية اصطناعيّة غير طبيعيّة لا يمكن أن تترجم في لغة التّداول اليوميّ، ولا في اللّغة الشّعريّة الأدبيّة الّتي اعتمدها القرآن في نقل الآيات البيّنات. والسّبب أنّ النّظريّة العلميّة الحديثة لا تصف العالم، وإنّما تعبّر عنه بواسطة طرائق رياضيّة. ففي سنة 1929، قبيل الثّورة الذّريّة الموسومة بانشطار الذّرّة والأمل في غزو الفضاء الكونيّ، طالب ماكس بلانك Max Planck أن تكون النّتائج المتحصّل عليها بواسطة عمليات رياضيّة مترجمة في لغة عالم الحواسّ حتّى تكون ذات فائدة. غير أنّه خلال العقود الّتي انقضت، ومنذ أن سجّلت تلك الكلمات، أضحت هذه التّرجمة غير ممكنة كلّما ازدادت المسافة الفاصلة بين عيان العالم الفيزيائيّ وعالم الحواسّ، وأضحى فقدان الصّلة بينهما واقعا لا يمكن إنكاره، وحقيقة لا ريب فيها. ولا يعني ذلك أنّ نتائج العلم الجديد لا يمكن استخدامها في الاستعمالات العمليّة واليوميّة، وإنّما يعني أنّ هذه النّظريات غير متّصلة بعالم الحواسّ، وهي لأجل ذلك تتحدّى كلّ وصف في اللّغة البشريّة. فقد أجبرنا العلم الحديث على التّخلّي عن اللّغة العادية، لغة التّداول اليوميّ، لأنّ الكون المعاين في بعديه اللاّمتناهي في الكبر واللاّمتناهي في الصّغر قد انفلت عن الإدراك الإنسانيّ. فالمعطيات الّتي تعتني بها المباحث الفيزيائيّة الحديثة تبدو كرسائل عجيبة آتية من العالم الواقعيّ. فهي ليست ظواهر لأنّها لا تتجلّى لنا، ولا نلاقيها في أيّ مكان، ولا تعترضنا أبدا في العالم اليوميّ، ولا حتّى في المختبر. فالمعطيات الفيزيائيّة الطّبيعيّة تنجم من عالم واقعيّ أشدّ واقعيّة من العالم الّذي نعيش فيه، ولها وجود فيزيائيّ تماما كوجود الشّفرة البيولوجيّة الّتي لا تبرز أمامنا أبدا. فالعالم الفيزيائيّ لا يحيط به الحسّ لأنّه انسحب تماما من مجال الحواسّ البشريّة وتجارب الحسّ المشترك (10).

إنّ ما ورد في آيات القرآن من ذكر لعناصر الطّبيعة، كالسّماء والأرض والشمس والقمر والنّجوم، والجبال والأنهار، والماء والنّار، وأشجار ونبات وحيوان، وغير ذلك من الكائنات والموجودات، لا يبيح لنا الحديث عنها بوصفها دلائل على ما في القرآن من علوم شتّى، لأنّ الطّبيعة والعلم شيئان مختلفان تماما (11). فقد كانت الطّبيعة موجودة منذ الأزل، أمّا العلم فهو قبل كلّ شيء خطاب. فالفيزياء مثلا ليست الطّبيعة وإنّما هي خطاب يقول شيئا متميّزا عن الطّبيعة. فالحديث عن الطّبيعة أو القسم ببعض عناصرها لا يحوّلها إلى خطاب فيزيائيّ، أو خطاب علم في الفيزياء، لأنّ هذا الخطاب يقتضي فهما مخصوصا للواقع الفيزيائيّ. وهو يشترط ليتحقّق عزوفا عن رؤية العالم على نحو متأنسن. فمعجزة العلم الحديث أنّه تمكّن من أن يتطهّر من كلّ عنصر إنسيّ لمّا بدأ إنسان العلم يشتغل في مختبره، وشرع في التّواصل مع العالم في لغة رياضيّة. بل يمكن أن نقول: إنّ من مظاهر نجاح العلم الحديث قدرته على التّخلّص من كلّ المشاغل ذات الصّبغة الإنسيّة أو المحكومة بضرب من التّمركز الإنسيّ (12).

إنّ الآيات القرآنيّة الّتي تدعو الإنسان إلى النّظر في العالم والتّأمّل في آياته إنّما هي آيات محكومة برؤية أنطولوجيّة لاهوتيّة للعالم لم تتخلّص من تمركزها الإنسيّ مادام الّذي يتولّى النّظر إلى العالم، ودُعيَ إلى النّظر فيه وتعقّله هو الإنسان ذاته. وهذه الرّؤية الأنطولوجيّة اللاّهوتيّة للعالم هي رؤية ما قبل علميّة مناقضة تماما للفهم العلميّ الحديث. فالكون الجديد في تصوّر إروين سكرودينغر Erwin Schroedinger ليس مبذولا لنا عمليّا فحسب، وإنّما هو لا يمكن التّفكير فيه. ذلك أنّه بأيّ طريقة فكّرنا فيه كان زائفا. قد لا يكون عبثيّا مثل دائرة مثلّثة، ولكنّه أكثر عبثيّة من أسد مجنّح (13). والسّؤال الّذي نطرحه: ما الّذي يمكن للإنسان أن يصنعه بهذا الّذي لم يعد بمقدوره أن يفهمه أو أن يتواصل معه، أو أن يعبّر عنه بلغة اليوميّ البشريّة؟ ***

إذا استثنينا العلماء الّذين يدركون المفارقات المحرجة الّتي يمكن أن تنجرّ عن فهم الفيزياء الكوانطيّة من زاوية نظر أنطولوجيّة، فإنّ المحاولات الّتي سعت إلى ترجمة اللّغة العلميّة في لغة الحسّ المشترك لم تمثّلها نظريّة الإعجاز العلميّ للقرآن أو نظريّة التّفسير العلمي للقرآن فحسب. ففي الولايات المتّحدة الأمريكيّة برز نوع جديد من الكتّاب عرف بتسمية "الثّقافة الثّالثة" La “third culture” (14). ولا تمثّل كتاباتهم حقلا منسجما، فلا شيء يوحّد بينهم سوى شبه عائليّ. ولعلّ ما يفسّر نجاحهم هو احتلالهم لموقع المثقّف العموميّ الّذي كان يمثّله في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي الأستاذ الجامعيّ المهتمّ بالعلوم الإنسانيّة، والمنشغل بقضايا الصّالح العامّ والجمهور. وما أن خبا وهج الالتزام السّياسيّ بقضايا الواقع الاجتماعيّ المباشر، وانزوى الأستاذ الجامعيّ في حرمه الأكاديميّ حتّى حلّ محلّه صنف جديد من المثقّف العموميّ صار يفترض فيه العلم، هو ما يسمى بـ"الثّقافة الثّالثة". وهو صنف من الكتّاب قد جعل موضوع كتاباته ترجمة لغة العلماء في لغة التّداول اليوميّ. وقد بدأت المشاكل تنجم من محاولتهم البحث عن فهم للفيزياء الكوانطيّة من زاوية نظر أنطولوجيّة. فالعلماء أنفسهم متأرجحون بين البحث عن وسائل للخروج من هذا المأزق، أو تعليق السّؤال الأنطولوجيّ، إذ لا فائدة ترجى من الفهم، مادامت الفيزياء الكوانطيّة تشتغل، فما ينبغي الانشغال به هو الحسابات. والسّؤال الّذي يطرح هو: هل يمكن بالفعل التّخلّي عن المسألة الأنطولوجيّة والاقتصار على الاشتغال الجيّد بالحسابات العلميّة وأقيستها؟ أمّا ترجمة الاكتشافات العلميّة في لغة التّداول الجارية فتمثّل مأزقا من نوع آخر. فمن الممكن أن نؤكّد أنّ هذه المشاكل لا تنجم إلاّ حين نبحث عن ترجمة نتائج الفيزياء الكوانطيّة في لغة الحسّ المشترك وعباراته الّتي نستعملها عند الحديث عن الواقع. إنّ رتشارد فينمان Richard Feynman نفسه قد أكّد في تصريح له شهير أنْ "لا أحد يفهم الفيزياء الكوانطيّة" مشيرا بذلك إلى أنّه قد بات من غير الممكن ترجمة صرح العلم النّظري الرّياضي في اللّغة وباللّغة الّتي نستعملها في الحياة اليوميّة عند الحديث عن الواقع (15).

ورغم أنّ نظريّة الإعجاز العلميّ للقرآن أو نظريّة التّفسير العلمي للقرآن تشبه "الثّقافة الثّالثة" في محاولتها ترجمة الاكتشافات العلميّة بلغة التّداول اليوميّ، وصياغة تلك المحاولة في خطاب دينيّ، هو خطاب التّفسير القرآنيّ، إلاّ أنّ سياقها الثّقافي مختلف اختلافا جذريّا عن سياق "الثّقافة الثّالثة" وأهدافها ورهاناتها. فخطاب الإعجاز العلميّ للقرآن أو خطاب التّفسير العلمي للقرآن إنّما هو امتداد للخطابات المأزومة النّاتجة من "صدمة الحداثة". فمنذ حملة نابليون بونابرت العسكريّة والعلميّة على مصر سنة 1798 ظلّ الفكر العربي الإسلاميّ موسوما بهذا اللّقاء الصّادم العنيف مع الواقع الجديد. وهو واقع قد تشخّص في صورة الآخر الأجنبيّ (الأوروبيّ)، هذا الأجنبيّ الّذي فرض نفسه بقسوة طلقات المدافع وقساوة رصاص المطابع، وحمل المفكّرين العرب والمسلمين المعاصرين على أن يعيدوا التّفكير ويراجعوا طرائقهم المعهودة في التّفكير. ومن آثار هذه الصّدمة عجز هذا الفكر العربي الإسلاميّ على تسمية هذا الواقع الجديد كما كان يسمّى في الكون الرّمزيّ الّذي سبق حملة نابليون. فـ"صدمة الحداثة" هي بالضّبط استحالة استخدام الإمكانات السّرديّة والرّمزيّة المتوفّرة سابقا لترميز الواقع الجديد وتسمية "الحداثة" بأسمائها. وليس الإعجاز العلميّ للقرآن أو التّفسير العلمي للقرآن سوى شكل من أشكال الخطاب الّذي يشهد على هذا اللّقاء الصّادم العنيف المباشر بـ"الحداثة" دون وساطة رمزيّة تخفّف من وقع تلك الصّدمة (16). ذلك أنّ واقع "الحداثة" الجديد الّذي فرضه الأجنبيّ (الأوروبيّ) بأنظمته وتقنيته هو الواقع عينه الّذي أعاد العلم الحديث تشييده على نحو جذريّ، بعد أن تخلّص من كلّ علاقة طبيعيّة بالحقيقة، ومن كلّ نزعة إنسيّة أو ذاتيّة، دون أن يحفل بالأهداف الأخلاقيّة أو الجماعيّة الّتي يفترض أن تحدّ من اندفاع المعرفة العلمية وجموحها.

ولمّا كان العجز عن تسمية الحداثة بأسمائها من جنس العجز العلميّ، الّذي أعرب عنه الجبرتي ومن أتى بعده من مفكّري النّهضة، لمّا اصطدموا بظاهرة عجيبة لا عهد لهم بها هي "التّقنية"، أفلا يكون الإعجاز العلميّ للقرآن أو التّفسير العلمي للقرآن بوصفه ضربا من الخطابات المأزومة شكلا جديدا من "الدّهشة اللاّهوتيّة" الّتي أعربت عنها كتابات "مثقّفين من أصول إسلاميّة مثل الأفغاني ومحمد عبده وراهنا طه عبد الرّحمن" (17)؟

إنّ استمرار "الدّهشة اللاّهوتيّة" إلى يومنا هذا في خطابات المثقّفين الإسلاميّين أمر فيه نظر، لأنّ ما وصف على أنّه "دهشة لاهوتيّة" يمكن أن يؤوّل على أنّه صراع خطابات لا نزاع تآويل. ولمّا كانت الخطابات في تصوّر جاك لاكان Jacques Lacan أربعة أصناف (18)، هي في الآن نفسه أربعة مواقع يتّخذها العون المتكلّم، ويتضمّن كلّ واحد منها صيغة مخصوصة من الذّاتيّة، نقتصر في هذا المقام على اثنتين منها. ففي خطاب السّيّد discours du Maître، تلتزم الذّات كلّيّا بخطابها. فالسّيّد هو كلامه، بحيث أنّ لقوله قوّة إنجازيّة أو نجاعة رمزيّة مباشرة. وأنموذج هذا الخطاب هو الخطاب السّياسيّ أو الدّينيّ. أمّا خطاب الجامعة (العلم) فهو خطاب غير ملتزم لأنّه يمثّل موقع المعاين الّذي يتوارى خلف خطابه باسم العلم المحايد والقوانين الموضوعيّة. وعلى أساس هذا التّعريف المعتصر المختزل، لا ننظر إلى النّهضة بوصفها خطابا عاجزا عن فهم "الحداثة" و"التّقنيّة"، وإنّما ننظر إليها (أي النّهضة) بوصفها عجزا عن الانتقال من خطاب السّيّد الّذي يمثّله (الميراث الكلامي اللاّهوتيّ الدّينيّ…) إلى خطاب الجامعة (العلم) الّذي مثّلته حملة نابليون بونابرت بتقنياتها الحربيّة ومؤسّساتها العلميّة الحديثة. فالنّهضة هي هذا العجز عن الانتقال من خطاب إلى خطاب: من خطاب السّيّد إلى خطاب الجامعة (العلم) الّذي اكتسح كلّ المؤسّسات في الأزمنة الحديثة رغم ما عرفه في أحداث ماي 68 من أزمة حادّة.

إذا اعتبرنا خطاب الجامعة (العلم)، الّذي كانت حملة نابليون مؤسّسته وتقنيته، حدثا ثوريّا أصاب الرّابط الاجتماعيّ العربيّ الإسلاميّ في الصّميم لمّا كشف تخلّف إدراك العرب المسلمين للعالم على نحو تجلّى في دهشة المثقّفين المسلمين اللاّهوتيّة، فإنّ خطاب السّيد قد جسّمه مثقّفو النّهضة في خطاباتهم المختلفة، الّتي كانت تجتهد في إعادة المياه إلى مجاريها، وذلك بقراءة واقع "الحداثة" الجديد بمفردات تستمدّ مراجعها من الأرشيف الإسلاميّ الكلاسيكيّ لإعادة تأسيس الرّابط الاجتماعيّ الّذي زلزلته صدمة الحداثة. ومن الأمثلة الدّالة على المحاولات الّتي أجراها ممثّلو خطاب السّيّد للهيمنة على خطاب الجامعة (العلم) اعتبار الحداثة عند محمد عبده "ظاهرة دهريّة" وتأويلها بوصفها بدعة(19). وهو بهذا الصّنيع يزجّ بواقعة الحداثة وتجربتها في أفق انتظار قديم لاهوتيّ يستمدّ عباراته من علم الكلام وأصول الدّين.

ألا ينبغي أن نعتبر، من هذا المنظور، الإعجاز العلميّ للقرآن أو التّفسير العلمي للقرآن امتدادا لتلك المحاولات الأولى لترجمة خطاب الجامعة (العلم) في خطاب السّيّد، وتسجيل خطاب المباحث العلميّة واحتواء نتائجها في حدود الأهداف الّتي تضبطها المؤسّسات الدّينيّة؟ ولنا على أشكال الاحتواء نماذج حيّة تمثّلت في بعض ما نشر في "شبكة التّفسير والدّراسات القرآنيّة" حيث اشترط بعض من كتب فيها بعض الشّروط لقبول "الأبحاث في التّفسير والإعجاز العلميّ"، ضبطها كما يلي:

"إنّ كتابة الأبحاث في التّفسير والإعجاز العلميّ غالباً ما تكون على طريقتين:
*أن يخطر للباحث المختصّ بالعلوم الشّرعيّة وبالأخصّ التّفسير وعلوم القرآن سؤالات يثيرها النَّظْم القرآني حول قضايا كونيّة، ففي هذه الحالة من الواجب عليه أن يرجع لأهل التّخصّص في العلم الّذي يريد البحث فيه، وأن يتابع معه أحدث ما قيل في هذا العلم. **أن يكون الباحث مختصًّا في علم من العلوم الكونيّة الأخرى، وقد عرض له أثناء تدبّره لكتاب الله تعالى قضايا تعلّمها من سابق أو مسائل علميّة يتحدّث بها المختصّون في علمه، وقد وجد ملامح ودلالات ذلك في القرآن الكريم. ففي هذه الحالة عليه تسجيل ملاحظاته، ومواطن الاستنتاج الّذي خرج به، ثم يعرض ذلك على أهل التّخصّص الشّرعيّ في التّفسير وأصول الاستنباط، والله أعلم." (20).

لا يحتاج هذا المثال إلى تعليق لأنّه من جنس المحاولات الّتي مافتئت تترجم عجز المؤسّسات الدّينيّة الحديثة عن صدّ الثّورات العلميّة ولقدّمها الّذي لا يعرف التّوقّف، واحتوائها بواسطة قواعد التّفسير القرآنيّ، أي بإضفاء وجه إنسانيّ أو إلهيّ على هذا اللاّمحدود الّذي مافتئ العلم الحديث يوغل في اكتشاف أبعاده الهائلة.

------------
الهوامش:

1- ابن عربي، محيي الدّين: فصوص الحكم. تعليقات أبو العلا عفيفي. دار الكتاب العربي، بيروت ـ لبنان، د.ت، ص.ص48-49
2- ابن عربي، محيي الدّين: فصوص الحكم، م.م، ص53.
3- الرّازي، فخر الدّين: تفسير الفخر الرّازي المشتهر بالتّفسير الكبير ومفاتيح الغيب. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (د.ت)، المجلّد13، الجزء25، ص.ص157-159.
4- الجاحظ، أبو عثمان: كتاب الحيوان. 8 أجزاء، تحقيق وشرح عبد السّلام محمّد هارون، دار الجيل بيروت، 1988، ج1، ص.ص209ـ210.
5- الجاحظ، كتاب الحيوان،ج1،ص207-209.
6- إذا سلّمنا بأنّ لغة الوحي هي لغة الحقيقة والكلمة الإلهيّة، فإنّها لا تصبح وحيا إلاّ إذا استقبلت في وسيط لغويّ فاسد، أو حادث غير قديم على رأي المعتزلة، هو في آخر المطاف، لغة من لغات الشّتات البابليّ بقطع النّظر عن جغرافيّة هذه اللّغة، عبرانيّة سريانيّة عربيّة… وعلى هذا النّحو يكون الملفوظ القرآنيّ تأويلا باللّفظ العربيّ لما رآه الرّسول وسمعه أثناء تجربة الوحي بوصفها نوعا من التّجارب الخاصّة expérience privée .
7- خضر، العادل : الأدب عند العرب. مقاربة وسائطيّة. كلّية الآداب منّوبة – دار سحر للنّشر، تونس ، الطّبعة الأولى، 2004 ، ص38.
8- انظر: ما هو الإعجاز العلميّ؟، موقعwww.eqraa;com/forums بتاريخ 11-4-2004، حيث عرّف صاحب المقال بأنّ "التّفسير العلمي هو الكشف عن معاني الآية أو الحديث في ضوء ما ترجّحت صحّته من نظريات العلوم الكونيّة". "أمّا الإعجاز العلمي فهو إخبار القرآن الكريم، أو السّنّة النّبويّة بحقيقة أثبتها العلم التّجريبي أخيرا، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشريّة في زمن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم." والإبراز إبرازنا.
9- الطّالبي، محمّد: ليطمئنّ قلبي. سيراس للنّشر، تونس2007، ص.ص29-30.
10- لقد أضحت مقولات كالسّببيّة والحتميّة… ملازمة للدّماغ البشريّ، ولا يمكن تطبيقها إلاّ على تجارب الحسّ المشترك عند البشر، ويستحيل إجراؤها على العالم الفيزيائيّ المحكوم بقوانين أخرى كالتّمدّد اللاّنهائي والصّدفة… انظر في هذا الشّأن: Arendt, Hannah: ( 1968-1994) La crise de la culture. Huit exercices de pensée politique. Traduit de l’anglais sous la direction de Patrick Lévy, folio-essais, p346.
11- انظر: Lacan, Jacques : (2006) D’un Autre à l’autre. Le séminaire (1968-1969) livre XVI. Texte établi par Jacqyes-Alain Miller. Éditions du Seuil, Paris, p.p32-33.
12- انظر: Arendt, Hannah: La crise de la culture, op.cit, p341.
13- انظر: Arendt, Hannah: La crise de la culture, op.cit, p342.
14- يشمل اهتمام "الثّقافة الثّالثة" قطاعا واسعا من المجالات المعرفيّة كالفيزياء الكوانطيّة والكسمولوجيا والعلوم العرفانيّة والعلوم العصبيّة ونظريّة الفوضى ونظريّة التّطوّر ونظرية الأنظمة، ويعتني هؤلاء الكتّاب بتأثير الرّقمنة الاجتماعيّ والعرفانيّ في حياتنا اليوميّة، وهم يجتهدون في تطوير نظريّة شكليّة وكونيّة للأنساق المنظّمة ذاتيّا، وإمكان تجريبها على الأجهزة الحيّة والتّنظيمات الاجتماعيّة. وليس هؤلاء الكتّاب علماء، وإنّما هم يحترفون الكتابة في مواضيع علميّة تتّجه إلى جمهور عظيم. وقد لاقوا نجاحا منقطع النّظير تجاوز جاذبيّة كتّاب الدّراسات الثّقافيّةcultural studies .
15- انظر: فقرة “La third culture comme idéologie”من كتاب: Žižek, Slavoj: (2007) Vous avez dit totalitarisme? Cinq interventions sur les (més)usages d’une notion. Traduit de l’anglais par Delphine Moreau et Jérôme Vidal. Éditions Amesterdam, Paris, p.p209-217.
16- يرى (المسكيني، فتحي:الهويّة والزّمان. تأويلات فينومينولوجيّة لمسألة »النّحن«، دار الطّليعة، بيروت، الطّبعة الأولى، 2001، ص56.) أنّه "علينا أن نقرّ نهائيّا بأنّ واقعة الحداثة قد شكّلت صدمة روحيّة جذريّة لجهاز التّفكير الّذي توفّره الملّة، فَقَدَ بمقتضاها كلّ فعاليته التّقليديّة".
17- المسكيني، فتحي:الهويّة والزّمان، م.م، ص56.
18- نقتصر في هذا المقام الضّيّق على ذكر أسماء هذه الخطابات دون ذكر قواعد كتابتها وقراءتها وتفسيرها، وهي خطاب السّيّد discours du Maître، وخطاب الجامعةdiscours de l’Université ، وخطاب الهستيريdiscours de l’Hystérique ، وخطاب المحلّلdiscours de l’Analyste . انظر تفصيلها في: Lacan, Jacques : (1991-2006) L’envers de la psychanalyse. Le séminaire (1969-1970) livre XVII. Texte établi par Jacqyes-Alain Miller. Éditions du Seuil, Paris.
19- المسكيني، فتحي:الهويّة والزّمان، م.م، ص56.
20- د. مرهف عبد الجبار سقا: أبحاث الإعجاز والتّفسير العلميّ في القرآن الكريم ذات طابع جماعيّ، شبكة التّفسير والدّراسات القرآنيّة، www.tafsir.net.


----------
* الدراسة عن موقع الأوان الألكتروني.
 
عودة
أعلى