أبو عبد المعز
Active member
- إنضم
- 20/04/2003
- المشاركات
- 588
- مستوى التفاعل
- 25
- النقاط
- 28
[align=center]لقط الجوهر من سورة الكوثر[/align]
بسم الله الرحمن الرحيم.
هذه محاولة لبيان وجه من معجزة سورة الكوثر، وميزته أنه يمكن التأكد منه على نحو قريب من الملموس، وسبيلنا اليه : الاشتغال بلغة النحو الواصفة، والاستناد إلى المقولات والمفاهيم المتداولة عند أهل النحو....
ورهاننا المأمول : إثبات دعوى مفادها : أن من وجوه إعجاز سورة الكوثر- التي لا سبيل إلى الاحاطة بها كلها- وجها لغويا ،لم يفصل فيه حسب علمي، وهو استيعاب سورة الكوثر لجل أبواب اللغة العربية التي يذكرها أهل هذا الشأن في مصنفاتهم.....فيتأتى التحدي والمعاجزة بهذه السورة لأنه ليس في طاقة الأنسان أن يضمن كل ما سأذكر في مساحة ضيقة جدا لا تتعدى عشر كلمات وهو عدد كلمات السورة الشريفة.
هذا وقد قسمت كلامي إلى شقين:
-استعرضت في الشق الأول الخطوط العريضة لمناهج المفسرين عندما اشتغلوا بتفسير سورة الكوثر.....مع إيراد نماذج تمثيلية من أقوالهم والتعليق عليها.
-بينت في الشق الثاني اشتمال السورة على كثير من ابواب النحو مما يصعب عادة أن تجتمع في حيز لغوي محدود جدا...
فعسى أن يوفقني الله لخدمة كتابه العزيز.
المفسرون وسورة الكوثر:
اتخذ المفسرون مسلكين مختلفين:
1-طائفة من المفسرين تمسكوا بالحياد المنهجي فلم يروا ضرورة لتغيير منهجهم العام في التفسير وهم يشتغلون بسورة الكوثر ....ومن هؤلاء أئمة كبار:كالطبري والبغوي وابن كثير وآخرين من القديم والحديث.
2-طائفة أخرى اعتبرت تميز الموضوع الجزئي فاستجابت منهجيا بتميز مماثل:فقدرت أن سورة الكوثر هي أصغر سورة في القرآن العظيم ومن ثم فالمناسبة مواتية لاختبار إعجاز القرآن محليا والرد على الطاعنين خاصة وقد تناقل المفسرون أن مسيلمة الكذاب قد عارض هذه السورة بالضبط فلا بد من تسفيه محاولته وإثبات أن سورة الكوثر تعلو ولا يعلى عليها.
وباستقراء ما سطره هؤلاء الأئمة ظهرت ثلاثة توجهات أساسية لإثبات إعجاز سورة الكوثر:
أ-إعجاز السورة داخلي وذاتي،أعني أن تأمل السورة لذاتها وتدبر مفرداتها كافيان لبيان مظاهر الاعجاز.
ب-إعجاز السورة باعتبار غيرها من السور،ومدار هذا التوجه على افتراض علاقات ما بين سورة الكوثر وأخواتها داخل سياق مصغر، تحديدا :سورة الماعون المرتبة في المصحف قبلها وسورة الكافرون المرتبة بعدها ....وطمح بعض المفسرين إلى تأكيد فرضية علاقات مطردة في السياق الموسع، والمقصود هنا المفسر فخر الدين الرازي رحمه الله.
ج-إعجاز السورة باعتبار الواقع الخارجي،ومدار هذا التوجه على تاكيد العلاقة بين سورة الكوثر وأحداث تاريخية معينة وهو المعروف ب"الاخبار بالمغيبات".
هذه التوجهات قد تلحظ مجتمعة عند مفسر واحد، وقد تلحظ متفرقة.....وهذه نماذج تمثيلية لها:
نموذج للتوجه الأول: تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل:
قال ابن عادل -رحمه الله-:
(قال أهل العلم: قد احتوت هذه السورة على كونها أقصر سورة في القرآن على معان بليغة، وأساليب بديعة، منها: دلالة استهلال السورة على أنه - تعالى - أعطاه كثيراً من كثير.
ومنها: إسناد الفعل للمتكلم المعظم نفسه، ومنها: إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه كـ " أتَى أمْرُ اللهِ ".
ومنها: تأكيد الجملة بـ " إنَّ ".
ومنها: بناء الفعل على الاسم ليفيد بالإسناد مرتين، ومنها: الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرةِ، ومنها حذف الموصوف بالكوثر؛ لأن في حذفه من فرط الإبهام ما ليس في إثباته.
ومنها: تعريفه بـ " أل " الجنسية الدالة على الاستغراق، ومنها: فاء التعقيب الدالة على التسبب كما تقدم في " الأنعام " سبب الشكر والعبادة.
ومنها: التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى.
ومنها: أن الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي هي الصلاة وأفضلها كالأمر بالنَّحر.
ومنها: حذف متعلق " انْحَرْ " إذ التقدير: فصلِّ لربِّك وانحر له.
ومنها: مراعاة السجع، فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلُّف.
ومنها: قوله تعالى: { لِرَبِّكَ } في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربِّي، والمصلح بنعمه، فلا يلتمس كلَّ خير إلا منه.
ومنها: الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى: { لِرَبِّكَ }.
ومنها: جعل الأمر بترك الاحتمال للاستئناف, وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ, ولم يسمه ليشمل كلَّ من اتصف - والعياذ بالله - بهذه الصفة القبيحة, وإن كان المراد به شخصاً معيناً, لَعَيَّنَه الله تعالى.
ومنها: التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة، على أنه لم يتصف إلا بمجرد قيام الصفةِ به، من غير أن يؤثر في من شنأه شيئاً - ألبتة - لأن من شنأ شخصاً، قد يؤثر فيه شنؤه.
ومنها تأكيد الجملة بـ " إنَّ " المؤذنة بتأكيد الخبر، ولذلك يتلقى بها القسم، وتقدير القسم يصلح هاهنا.
ومنها: الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا " هُوَ " فصلاً، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد إذ يصير الإسناد مرتين.
ومنها: تعريف الأبتر بـ " أل " المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة، كأنه قيل: الكامل في هذه الصفة.)انتهى.
تعليق:
هذا النص المنقول بطوله يوضح ما ذكرته من البحث عن إعجاز السورة من الداخل...وملخصه :سعة السورة لمعان كثيرة بليغة مع صغرها....لقد جمع ابن عادل هنا ملاحظات أسلوبية وبلاغية ونحوية "عادية" جدا يمكن رصدها في باقي القرآن بل في أي كلام لبلغاء العرب أنفسهم...لكن مقصود المفسرين أن الملاحظات العادية قد تكوثرت و اجتمعت بصورة غير عادية في سورة الكوثر وهذا هو مناط الاعجاز.
نموذج للتوجه الثاني: تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي.
اختار فخر الدين رحمه الله أن يبحث عن لطائف السورة باستعراض السياق الضيق فقال:
(فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة، فذكر في مقابلة البخل قوله: { إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ } أي إنا أعطيناك الكثير، فأعط أنت الكثير ولا تبخل، وذكر في مقابلة: { ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـٰتِهِمْ سَاهُونَ } قوله: { فَصَلِّ } أي دم على الصلاة، وذكر في مقابلة: { ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ } قوله: { لِرَبّكِ } أي ائت بالصلاة لرضا ربك، لا لمراءاة الناس، وذكر في مقابلة: { وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ } قوله: { وَٱنْحَرْ } وأراد به التصدق بلحم الأضاحي، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة، ثم ختم السورة بقوله: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دناه أثر ولا خبر، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل، وفي الآخرة الثواب الجزيل.)انتهى
ثم ذكر بعد ذلك في ما سماه الوجه الثاني من التناسب أمورا موغلة في المنهج الإشاري والتأويل الصوفي المفرط-حتى قلت لعل هذا القسم من التفسير مما زاده من كمل تفسيره-
ثم شرع -رحمه الله-في بيان التناسب معتبرا السياق الموسع منطلقا في ذلك من فرضية مفادها أن السور الممتدة من سورة الضحى إلى نهاية المصحف الشريف مرورا بسورة الكوثر ينتظمها نسق ثلاثي مطرد توضحه عباراته التالية:
(اعلم أن فيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها من السور. أما أنها كالتتمة لما قبلها من السور، فلأن الله تعالى جعل سورة وَٱلضُّحَىٰ في مدح محمد عليه الصلاة والسلام وتفصيل أحواله، فذكر في أول السورة ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته أولها: قوله: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } ،الضحى:4] وثالثها: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } ثم ختم هذه السورة بذكر ثلاثة أحوال من أحواله عليه السلام فيما يتعلق بالدنيا وهي قوله:
{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَىٰ وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ }[الضحى:6-8] ثم ذكر في سورة: { أَلَمْ نَشْرَحْ } أنه شرفه بثلاثة أشياء أولها: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } وثانيها: { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ٱلَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ } ، وثالثها: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }.
ثم إنه تعالى شرفه في سورة: التين بثلاثة أنواع من التشريف أولها: أنه أقسم ببلده وهو قوله: { وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } ، وثانيها: أنه أخبر عن خلاص أمته عن النار وهو قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } ، وثالثها: وصولهم إلى الثواب وهو قوله: { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ }.
ثم شرفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع من التشريفات أولها: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } أي اقرأ القرآن على الحق مستعيناً باسم ربك وثانيها: أنه قهر خصمه بقوله: { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } ، وثالثها: أنه خصه بالقربة التامة وهو: { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب }.
وشرفه في سورة القدر بليلة القدر التي لها ثلاثة أنواع من الفضيلة أولها: كونها: خَيْرًا مّن أَلْفِ شَهْرٍ، وثانيها: نزول: ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا وثالثها: كونها: سَلاَماً حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ.
وشرفه في سورة: لَمْ يَكُنِ بأن شرف أمته بثلاثة تشريفات أولها: أنهم: خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ وثانيها: أن جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّـٰتُ، وثالثها: رضا الله عنهم.
وشرفه في سورة إذا زلزلت بثلاث تشريفات: أولها: قوله: { يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا } وذلك يقتضي أن الأرض تشهد يوم القيامة لأمته بالطاعة والعبودية والثاني: قوله: { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَـٰلَهُمْ } وذلك يدل على أنه تعرض عليهم طاعاتهم فيحصل لهم الفرح والسرور، وثالثها: قوله: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } ومعرفة الله لا شك أنها أعظم من كل عظيم فلا بد وأن يصلوا إلى ثوابها ثم شرفه في سورة العاديات بأن أقسم بخيل الغزاة من أمته فوصف تلك الخيل بصفات ثلاث: { وَٱلْعَـٰدِيَـٰتِ ضَبْحاً فَٱلمُورِيَـٰتِ قَدْحاً فَٱلْمُغِيرٰتِ صُبْحاً }.
ثم شرف أمته في سورة القارعة بأمور ثلاثة أولها: فمن ثقلت موازينه وثانيها: أنهم في عيشة راضية وثالثها: أنهم يرون أعداءهم في نار حامية.
(........)انتهى.وسرد ثلاثيات أخرى على النسق نفسه.
ليس يهمنا هنا مدى صحة هذه الانساق الثلاثية بقدر ما يهمنا توضيح المسار المنهجي....مع الإشارة إلى أن هذا النسق على فرض كونه إعجازيا فهو غير خاص بسورة الكوثر وإنما هو متعلق بترتيب المصحف أو بقسم منه .
نموذج للتوجه الثالث: تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي.
بدأ برهان الدين- رحمه الله-تفسير السورة بداية"طبيعية" على قاعدة منهجه في كشف المناسبة وأوجه الارتباط بين السابق واللاحق مكثرا من عبارته العتيدة"ولما....."-حتى اقترح بعضهم أن يسمي تفسيره بتفسير" ولما"-ثم خطر للمفسر خاطر غريب جدا هو أن يربط دلالة "إن شانئك هو الابتر" باحداث تاريخية معينة معتمدا على أعداد وإحصائيات فجاء بشيء شبيه بما ابتدعه الحروفيون من السحرة والصوفية، وهذا-كما ترى- عجيب من هذا الإمام الذي لاحقته المصائب بسبب عدائه الشديد للصوفية.فتأمل.
ولا أجد تعليلا ل"شذوذ" برهان الدين عند تفسيره لسورة الكوثر عن نهجه العام السليم من الشطحات غالبا إلا ايمانه أن سورة الكوثر معجزة ولم يكفه ما ذكره العلماء من قبله فبحث عن الخارق الذي تخضع له الأذقان فأتى بالعجائب.
قال رحمه الله:
(ثم إن هذه السورة عشر كلمات في الكتابة إشارة إلى أن تمام بتر شانئه يكون مع تمام السنة العاشرة من الهجرة، وكذا كان، لم تمض السنة الحادية عشر من الهجرة وفي جزيرة العرب إلا من يرى أشرف أحواله بذل نفسه وماله في حبه، وإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت اثنتا عشرة، وفي السنة الثانية عشرة من النبوة بايعه صلى الله عليه وسلم الأنصار على منابذة الكفار، وإذا أضيف إلى العشرة الضمائر البارزة الخمسة كانت خمس عشرة، فتكون إشارة إنه صلى الله عليه وسلم عند تمام السنة الخامسة عشر من نبوته يبسط يده العالية لبتر أعدائه وكذا كان في وقعة بدر الرفيعة القدر، ففي ضمائر الاستتار كانت البيعة وهي مستترة، وفي الضمائر البارزة كانت بدر وهي مشتهرة، وإذا أضيف إلى ذلك الضميران المستتران كانت سبع عشرة، وفي السنة السابعة عشرة من نبوته كانت غزوة بدر الموعد، وفى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالوعد في الإتيان إلى بدر للقاء قريش للقتال ومقارعة الأبطال، فآذنهم الله فلم يأتوا، وإنما اعتبر ما بعد الهجرة من أحوال النبوة عندما عدت الكلمات الخطية العشر لكونها أقوى أحوال النبوة كما أن الكلمات الخطية أقوى من الضمائر وإن اشترك الكل في اسم الكلمات، فلذلك أخذ تمام البتر للشانىء وهو ما كان في السنة الحادية عشرة من هلاك أهل الردة وثبات العرب في صفة الإسلام، ولما ضمت الضمائر البارزة الخمسة - التي هي أقرب من المستترة - إلى الكلمات الخطية وأضعف من الكلمات الخطية اعتبر من أول السورة لمناسبة ما كان من ضعف الحال فيما كان قبل الهجرة، فوازى ذلك السنة الثانية من الهجرة التي كانت فيها غزوة بدر الكبرى، وهي وإن كانت من العظم على أمر بالغ جداً لكنها كانت على وجه مخالف للقياس، فإن حال الصحابة رضي الله عنهم كان فيها في غاية الضعف، ولكونها أول ما وقع فيه النصر من الغزوات لم تكن نفوس المخالفين مذعنة لأن ما بعدها يكون مثلها، فإذا ضم إلى ذلك الضميران المستتران - وهما أضعف من البارز - انطبق العدد على سنة غزوة بدر الموعد في سنة أربع، وهي وإن كانت قوية لكون قريش ضعفوا عن اللقاء لكن كان حالها أضعف من بدر التي وقع فيها القتال وأستر، وكون كلماتها الخطية والاصطلاحية التي هي أبعاض الكلمات الخطية سبع عشرة مؤذن بأن الأمر في { فصلِّ } مصوب بالذات بالقصد الأول إلى الصلوات الخمس التي هي سبع عشرة ركعة، وأن من ثابر عليها كان مصلياً خارجاً من عهدة الأمر، فإذا قصدت في السفر بما اقتضته صفة التربية بالإحسان نقصت بقدر عدة الضمائر سوى الذي وفى الأمر بها لأن الأمر الناشىء عن مظهر العظمة لا يليق فيه التخفيف بنفسه كلمة الأمر، وإذا أضفنا إليها كلمات البسملة الأربعة كان لها أسرار كبرى من جهة أخرى، وذلك أن الكلمات الخطية تكون أربع عشرة إشارة إلى أن ابتداء البتر للأضداد يكون بالقوة القريبة من الفعل بالتهييء له في السنة الرابعة عشرة من النبوة، وذلك عام الهجرة، فإذا أضفنا إليها الضمائر البارزة التي هي أقرب إلى الكلمات الخطية وهي خمسة كانت تسع عشرة، وفي السنة التاسعة عشرة من النبوة وهي السادسة من الهجرة كان الفتح المبين على الشانئين الذي أنزل الله فيه سورة الفتح، فإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت إحدى وعشرين وهي سنة ثمان من الهجرة سنة الفتح الأكبر الذي عم العلم فيه بأن الشانىء هو الأبتر، وإذا اعتبرت حروفها المتلفظ بها كانت أربعة وأربعين حرفاً، فإذا ناظرتها بالسنين من أول حين النبوة كان آخرها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة، وهي سنة البتر الأعظم لشانئه الأكبر الذي مزق كتابه، وكان مالكاً لبلاد اليمن، وهو قدر كبير من بلاد العرب وكذا لغيرهم مما قارب بلاده، وكانت قريش تجعله من عدادهم كما مضى بيانه في سورة الروم وهو كسرى ملك الفرس، ففيها كان انقراض ملكهم بقتل آخر ملوكهم يزدجرد، كما أنك إذا اعتبرت كلماتها الخطية مع الضمائر البارزة التي هي كلمات اصطلاحية دون ما استتر - فإن وجوب استتاره منع من عده - كانت تسع عشرة كلمة، فإن اعتبرت بها ما بعد الهجرة وازت وقت موت قيصر طاغية الروم في سنة تسع عشرة من الهجرة أهلكه الله، وقد تجهز إلى قتال العرب بالإسكندرية بنفسه، وأمر ألا يتخلف عنه أحد من الروم فكسر الله بموته شوكة الروم، واستأسدت العرب عند ذلك، فكانت الأحرف مشيرة إلى بتر الشانىء من الفرس، والكلمات مشيرة إلى بتر الشانىء من الروم والفرس أولى بإشارة الأحرف لأنهم ليسوا بذوي علم، والروم بالكلمات لأنهم أهل علم، والكلمات أقرب إلى العلم، وإذا اعتبرت أحرف البسملة اللفظية كانت ثمانية عشر حرفاً، فإذا جعلتها سنين من أول النبوة كان آخرها سنة خمس من الهجرة، وفيها كانت غزوة الأحزاب....)
انتهى كلام البقاعي-غفر الله له ورفع درجاته- ولا يحتاج إلى تعليق.
-----------
بعد هذا الاستعراض ننتقل إلى إظهر الوجه الإعجازي لسورة الكوثر الذي وعدنا به ومنهجنا شبيه بالتوجه الأول الذي مثلنا له بما نقله ابن عادل مقتنعين أن الاعجاز ذاتي في سورة الكوثر ولربما اعتمدنا على إحصاءات لكلمات أو ضمائر كما فعل برهان الدين لكن بعيدين كل البعد عن منهجه في استنطاق الأرقام لتخبر عن غيب الأيام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.بسم الله الرحمن الرحيم.
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (3)
نبدأ بملاحظات عابرة تتعلق بتناسبات صوتية وحرفية الهدف منها إشعار القاريء أن سورة الكوثر تخفي خلف كلماتها العشر أمورا كثيرة وكثيرة جدا:
-كلمات السورة استنادا إلى الخط والرسم عشر:
{إِنَّا- أَعْطَيْنَاكَ- الْكَوْثَرَ- فَصَلِّ- لِرَبِّكَ- وَانْحَرْ-إِنَّ- شَانِئَكَ- هُوَ- الْأَبْتَرُ}
-الآية الأولى نسيج حرفي مكون من حروف عشر-بدون اعتبار المكرر منها-:
ا-ن-ع-ط-ي-ك-ل-و-ث-ر.
-الآية الثانية هي أيضا مبنية من عشر حروف-بدون اعتبار المكرر دائما-:
ص-ل-ر-ب-ك-و-ا-ن-ح.
-الآية الأخيرة –كما قد يتوقع القاريء-كاختيها أعني العدد نفسه باعتبار نوع الحرف لا أفراده :
ا-ن-ش-ك-ه-و-ل-ب-ت-ر.
ولعل إشارة أخرى تقلل من فرضية الصدفة وهي أن عدد الحروف التي لم تستعمل إلا مرة واحدة عشرة أيضا وهي:
ع-ط-ي-ث-ف-ص-ح-ش-ه-ت.
فلنقف عند هذا الحد دون أن نبني على ما ذكرنا شيئا فهذا المنهج لا يستهوينا في الحقيقة.
الجمل في سورة الكوثر:
لأهل اللغة تقسيمات كثيرة لأنواع الجملة في اللسان العربي لكن المثير للدهشة أن سورة الكوثر الكريمة قادرة على إعطاء مثال عن كل نوع ،وتزداد الدهشة أكثر عندما ندخل في الحسبان أن عدد جمل السورة أربعة فقط.ولكنها "الكوثر": اسما ومسمى.
1-تنقسم الجمل عند أهل اللسان –عند أهل البيان منهم خاصة-إلى نوعين:
جمل خبرية وجمل انشائية.
وإذا تدبرت سورة الكوثر وجدت فيها النوعين معا:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ.
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.
جملتان خبريتان.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ.
وَانْحَرْ.
جملتان إنشائيتان طلبيتان .
2-تتعاقب الجمل في الكلام العربي وفق نظام الوصل والفصل وقد افرد علماء المعاني هذا النظام بمبحث خاص سموه باب الوصل والفصل واعتبروه أم البلاغة وقلبها....ويعنينا هنا أن سورة الكوثر قادرة على إعطاء مثالين للمفهومين:
فجملة"انحر" معطوفة بالواوعلى جارتها" فَصَلِّ لِرَبِّكَ."وهذا الوصل.
وهي منقطعة عن الجملة اللاحقة إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.وهذا الفصل.
3-يقسم أهل النحو الجملة العربية إلى قسمين:
جمل اسمية وجمل فعلية.
وقد اشتملت السورة الكريمة على النوعين كما لا يخفى على أحد .والجمل التي ذكرناها عن الخبر والانشاء تمثل باعتبار آخر الاسمية والفعلية.
استطراد:
القسمة ثنائية عند الجمهور فالجمل عندهم إما فعلية وإما اسمية...وقد حاول بعض النحاة قديما وحديثا أن يزيد قسما ثالثا ولكن هذه الزيادة لم تكن مقنعة:
فالزمخشري اقترح نوعا ثالثا هي الجملة الشرطية لكنها لم يرتضها غيره.قال ابن هشام في المغني:
وزاد الزمخشري وغيره الجملة الشرطية والصواب أنها من قبيل الفعلية.
وابن هشام نفسه اقترح في المغني نوعا ثالثا هو الجملة الظرفية لكنها لم تلق قبولا حسنا من الدسوقي، فقال في حاشيته على المغني:
(قوله :إلى اسمية وفعلية وظرفية)هذا تقسيم أصلي للجملة ولكن في الحقيقة أن الظرفية ترجع لما قبلها من الاسمية والفعلية لأنك إما أن تقدر عامل الظرف كائن أو استقر.
والصواب مع الجمهور لأن النوعين الجديدين يمكن إرجاعهما إلى النوعين الأصلين وتقيل الأقسام مطلوب كما هو معلوم.
فصح عندنا أن نقول إن سورة الكوثر احتوت نوعيا كل العربية.
4-يقسم أهل اللغة الجملة باعتبار بنيتها إلى قسمين:بسيطة ومركبة وقد يعتمدون اصطلاحا مغايرا- قريبا وليس مرادفا-
فيقولون:جملة صغيرة وكبيرة.قال في المغني:
الكبرى هي الاسمية التي خبرها جملة نحو" زيد قام أبوه" و"زيد أبوه قائم"
والصغرى هي المبنية على المبتدأ كالجملة المخبر بها في المثالين.
ولك أن تعجب من سورة الكوثر فهي لم تقدم مثالا عن كل نوع فقط بل قدمت مثالا ثالثا لجملة تحتمل النوعين بحسب وجهة النظر:
- إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ:جملة مركبة أو كبرى ف أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ جملة صغيرة في محل رفع خبر للجملة الأصلية.
- فَصَلِّ لِرَبِّكَ.جملة تامة صغيرة فيها اسناد واحد.
أما جملة: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.....فهي من المرونة بحيث تضعها حيث شئت:فلو اعتبرت "هو"ضمير فصل و"الأبتر" خبرا عن الشانيء فالجملة بسيطة لا محالة .ولو اعتبرت "هو"مبتدأ و"الأبتر" خبره ومجموعهما خبرا للشانيء فالجملة كبرى ضرورة.فلله در هذه السورة.
الضمائر في سورة الكوثر:
استوعبت سورة الكوثر كل أنواع الضمير في اللغة العربية دون أن تغفل الأحوال الإعرابية المختلفة وهذا من العجب العجاب لأننا نضع نصب أعيننا دائما أن عدد مفرداتها لا تتجاوز عدد أصابع الإنسان،وتفصيله:
1-الضمائر بارزة ومستترة:
فمن بارز الضمائر في السورة ما ظهر في فعل "أعطيناك".
ومن مستتره ما كمن في فعل "صل "أو" انحر".
2-الضمائر متصلة ومنفصلة:
ولك في جملة "أعطيناك" مثال على المتصل من الضمائر.
ولك في جملة هو الأبتر مثال آخر على الضمير المنفصل.
3-الضمائر في إحالتها على عناصر الخطاب تنقسم إلى ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب.
ولا تحتاج إلى غير سورة الكوثر للتمثيل:
-فضمير المتكلم حاضر في" أعطينا"
-وضمير المخاطب في" أعطيناك" و" ربك" و"شانئك" صريحا،و في"صل" و"انحر"مقدرا.
-وضمير الغائب في "هو" صريحا وفي شانيء مقدرا، فتأمل هذه التناسبات اللطيفة.
4-باعتبار مقولة العدد :
جاء في السورة ضمير المفرد وضمير الجماعة.وقد اجتمعا في كلمة "أعطيناك"
استطراد:
قد يقال إن مقولة العدد في اللسان العربي ذات تمفصل ثلاثي وليس ثنائيا..فأين ضمير المثنى في سورة الكوثر؟
جوابه من وجهين:
-ليس من شرطنا أن تحتوي السورة على كل أبواب النحو لتحصل المعجزة -فمقولة التأنيث مثلا لا حضور لها في السورة-بل يكفي أن تتعدد الأنواع والتقاسيم بصورة غير عادية ،وما ذكرناه كاف إن شاء الله.
-"المثنى" في اللغة العربية باب قلق لا ينضبط ...وكثيرا ما يعبر العرب بصيغة الجمع عنه، فيكون الجمع بديلا عن المثنى كما في كثير من اللغات الحالية.
وفي القرآن المبين أمثلة كثيرة منها:
{إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (4) سورة التحريم
صدر الآية مثنى وليس كذلك عجزها.
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } (19) سورة الحـج
رجع ضمير الجمع على مثنى.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } (38) سورة المائدة
حصلت المطابقة في المضاف إليه وما هي بحاصلة في المضاف.
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (9) سورة الحجرات
حصلت المطابقة في "بينهما" لكن بعد أن قال "اقتتلوا".
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (11) سورة فصلت
فالحال صيغة جمع وصاحبها مثنى.....
خلاصة القاعدة أنك إذا عبرت عن المثنى بصيغة الجمع فتعبيرك صحيح.
5-الضمائر باعتبار محلها من الإعراب:
جاءت الضمائر في السورة متنوعة بحسب المحل الإعرابي:
-ضمير فى محل رفع: (أعطيناك) الضمير الأول فيها فاعل مرفوع.
-ضمير في محل نصب: (أعطيناك) الضمير الثاني فيها مفعول به منصوب.
-ضمير في محل جر: ربك الكاف فيها مضاف إليه مجرور.
ومن لطائف السورة في هذا السياق أن الكلمات الدالة على الرب عز وجل ثلاث هي:
-اسم إن.
-فاعل أعطى.
-الرب.
وجاءت على التوالي:
منصوب
مرفوع
مجرور.
وعلى نفس الترتيب الإعرابي جاءت الكلمات التي تدل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
"كاف" أعطيناك منصوبة
"صل"الضمير المستتر مرفوع.
"كاف" ربك مجرور.
الأفعال في السورة:
لم يأت في السورة من الأفعال إلا ثلاثة: "أعطى"-"صلى"-"نحر".
لكنها على قلتها مثلت من المقولات الصرفية والتركيبية عددا كبيرا:
1-الفعل الصحيح:نحر
2-الفعل المعتل:أعطى.
3-الفعل المضعف:صلى.
4-الفعل المجرد:نحر.
5-الفعل المزيد: أعطى.
6-الفعل اللازم:صلى.
7-الفعل المتعدي إلى مفعول واحد:نحر.
8-الفعل المتعدي إلى أكثر من مفعول:أعطى.
فلله درها من سورة....
والله أسال أن يعفو عما كان من خطأ أو تقصير......وصلى الله على محمد صاحب الحوض والكوثر وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
بسم الله الرحمن الرحيم.
هذه محاولة لبيان وجه من معجزة سورة الكوثر، وميزته أنه يمكن التأكد منه على نحو قريب من الملموس، وسبيلنا اليه : الاشتغال بلغة النحو الواصفة، والاستناد إلى المقولات والمفاهيم المتداولة عند أهل النحو....
ورهاننا المأمول : إثبات دعوى مفادها : أن من وجوه إعجاز سورة الكوثر- التي لا سبيل إلى الاحاطة بها كلها- وجها لغويا ،لم يفصل فيه حسب علمي، وهو استيعاب سورة الكوثر لجل أبواب اللغة العربية التي يذكرها أهل هذا الشأن في مصنفاتهم.....فيتأتى التحدي والمعاجزة بهذه السورة لأنه ليس في طاقة الأنسان أن يضمن كل ما سأذكر في مساحة ضيقة جدا لا تتعدى عشر كلمات وهو عدد كلمات السورة الشريفة.
هذا وقد قسمت كلامي إلى شقين:
-استعرضت في الشق الأول الخطوط العريضة لمناهج المفسرين عندما اشتغلوا بتفسير سورة الكوثر.....مع إيراد نماذج تمثيلية من أقوالهم والتعليق عليها.
-بينت في الشق الثاني اشتمال السورة على كثير من ابواب النحو مما يصعب عادة أن تجتمع في حيز لغوي محدود جدا...
فعسى أن يوفقني الله لخدمة كتابه العزيز.
المفسرون وسورة الكوثر:
اتخذ المفسرون مسلكين مختلفين:
1-طائفة من المفسرين تمسكوا بالحياد المنهجي فلم يروا ضرورة لتغيير منهجهم العام في التفسير وهم يشتغلون بسورة الكوثر ....ومن هؤلاء أئمة كبار:كالطبري والبغوي وابن كثير وآخرين من القديم والحديث.
2-طائفة أخرى اعتبرت تميز الموضوع الجزئي فاستجابت منهجيا بتميز مماثل:فقدرت أن سورة الكوثر هي أصغر سورة في القرآن العظيم ومن ثم فالمناسبة مواتية لاختبار إعجاز القرآن محليا والرد على الطاعنين خاصة وقد تناقل المفسرون أن مسيلمة الكذاب قد عارض هذه السورة بالضبط فلا بد من تسفيه محاولته وإثبات أن سورة الكوثر تعلو ولا يعلى عليها.
وباستقراء ما سطره هؤلاء الأئمة ظهرت ثلاثة توجهات أساسية لإثبات إعجاز سورة الكوثر:
أ-إعجاز السورة داخلي وذاتي،أعني أن تأمل السورة لذاتها وتدبر مفرداتها كافيان لبيان مظاهر الاعجاز.
ب-إعجاز السورة باعتبار غيرها من السور،ومدار هذا التوجه على افتراض علاقات ما بين سورة الكوثر وأخواتها داخل سياق مصغر، تحديدا :سورة الماعون المرتبة في المصحف قبلها وسورة الكافرون المرتبة بعدها ....وطمح بعض المفسرين إلى تأكيد فرضية علاقات مطردة في السياق الموسع، والمقصود هنا المفسر فخر الدين الرازي رحمه الله.
ج-إعجاز السورة باعتبار الواقع الخارجي،ومدار هذا التوجه على تاكيد العلاقة بين سورة الكوثر وأحداث تاريخية معينة وهو المعروف ب"الاخبار بالمغيبات".
هذه التوجهات قد تلحظ مجتمعة عند مفسر واحد، وقد تلحظ متفرقة.....وهذه نماذج تمثيلية لها:
نموذج للتوجه الأول: تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل:
قال ابن عادل -رحمه الله-:
(قال أهل العلم: قد احتوت هذه السورة على كونها أقصر سورة في القرآن على معان بليغة، وأساليب بديعة، منها: دلالة استهلال السورة على أنه - تعالى - أعطاه كثيراً من كثير.
ومنها: إسناد الفعل للمتكلم المعظم نفسه، ومنها: إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه كـ " أتَى أمْرُ اللهِ ".
ومنها: تأكيد الجملة بـ " إنَّ ".
ومنها: بناء الفعل على الاسم ليفيد بالإسناد مرتين، ومنها: الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرةِ، ومنها حذف الموصوف بالكوثر؛ لأن في حذفه من فرط الإبهام ما ليس في إثباته.
ومنها: تعريفه بـ " أل " الجنسية الدالة على الاستغراق، ومنها: فاء التعقيب الدالة على التسبب كما تقدم في " الأنعام " سبب الشكر والعبادة.
ومنها: التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى.
ومنها: أن الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي هي الصلاة وأفضلها كالأمر بالنَّحر.
ومنها: حذف متعلق " انْحَرْ " إذ التقدير: فصلِّ لربِّك وانحر له.
ومنها: مراعاة السجع، فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلُّف.
ومنها: قوله تعالى: { لِرَبِّكَ } في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربِّي، والمصلح بنعمه، فلا يلتمس كلَّ خير إلا منه.
ومنها: الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى: { لِرَبِّكَ }.
ومنها: جعل الأمر بترك الاحتمال للاستئناف, وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ, ولم يسمه ليشمل كلَّ من اتصف - والعياذ بالله - بهذه الصفة القبيحة, وإن كان المراد به شخصاً معيناً, لَعَيَّنَه الله تعالى.
ومنها: التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة، على أنه لم يتصف إلا بمجرد قيام الصفةِ به، من غير أن يؤثر في من شنأه شيئاً - ألبتة - لأن من شنأ شخصاً، قد يؤثر فيه شنؤه.
ومنها تأكيد الجملة بـ " إنَّ " المؤذنة بتأكيد الخبر، ولذلك يتلقى بها القسم، وتقدير القسم يصلح هاهنا.
ومنها: الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا " هُوَ " فصلاً، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد إذ يصير الإسناد مرتين.
ومنها: تعريف الأبتر بـ " أل " المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة، كأنه قيل: الكامل في هذه الصفة.)انتهى.
تعليق:
هذا النص المنقول بطوله يوضح ما ذكرته من البحث عن إعجاز السورة من الداخل...وملخصه :سعة السورة لمعان كثيرة بليغة مع صغرها....لقد جمع ابن عادل هنا ملاحظات أسلوبية وبلاغية ونحوية "عادية" جدا يمكن رصدها في باقي القرآن بل في أي كلام لبلغاء العرب أنفسهم...لكن مقصود المفسرين أن الملاحظات العادية قد تكوثرت و اجتمعت بصورة غير عادية في سورة الكوثر وهذا هو مناط الاعجاز.
نموذج للتوجه الثاني: تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي.
اختار فخر الدين رحمه الله أن يبحث عن لطائف السورة باستعراض السياق الضيق فقال:
(فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة، فذكر في مقابلة البخل قوله: { إِنَّا أَعْطَيْنَـٰكَ ٱلْكَوْثَرَ } أي إنا أعطيناك الكثير، فأعط أنت الكثير ولا تبخل، وذكر في مقابلة: { ٱلَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـٰتِهِمْ سَاهُونَ } قوله: { فَصَلِّ } أي دم على الصلاة، وذكر في مقابلة: { ٱلَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ } قوله: { لِرَبّكِ } أي ائت بالصلاة لرضا ربك، لا لمراءاة الناس، وذكر في مقابلة: { وَيَمْنَعُونَ ٱلْمَاعُونَ } قوله: { وَٱنْحَرْ } وأراد به التصدق بلحم الأضاحي، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة، ثم ختم السورة بقوله: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دناه أثر ولا خبر، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل، وفي الآخرة الثواب الجزيل.)انتهى
ثم ذكر بعد ذلك في ما سماه الوجه الثاني من التناسب أمورا موغلة في المنهج الإشاري والتأويل الصوفي المفرط-حتى قلت لعل هذا القسم من التفسير مما زاده من كمل تفسيره-
ثم شرع -رحمه الله-في بيان التناسب معتبرا السياق الموسع منطلقا في ذلك من فرضية مفادها أن السور الممتدة من سورة الضحى إلى نهاية المصحف الشريف مرورا بسورة الكوثر ينتظمها نسق ثلاثي مطرد توضحه عباراته التالية:
(اعلم أن فيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها من السور. أما أنها كالتتمة لما قبلها من السور، فلأن الله تعالى جعل سورة وَٱلضُّحَىٰ في مدح محمد عليه الصلاة والسلام وتفصيل أحواله، فذكر في أول السورة ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته أولها: قوله: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } ،الضحى:4] وثالثها: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } ثم ختم هذه السورة بذكر ثلاثة أحوال من أحواله عليه السلام فيما يتعلق بالدنيا وهي قوله:
{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَىٰ وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ }[الضحى:6-8] ثم ذكر في سورة: { أَلَمْ نَشْرَحْ } أنه شرفه بثلاثة أشياء أولها: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } وثانيها: { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ٱلَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ } ، وثالثها: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }.
ثم إنه تعالى شرفه في سورة: التين بثلاثة أنواع من التشريف أولها: أنه أقسم ببلده وهو قوله: { وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } ، وثانيها: أنه أخبر عن خلاص أمته عن النار وهو قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } ، وثالثها: وصولهم إلى الثواب وهو قوله: { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ }.
ثم شرفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع من التشريفات أولها: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } أي اقرأ القرآن على الحق مستعيناً باسم ربك وثانيها: أنه قهر خصمه بقوله: { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } ، وثالثها: أنه خصه بالقربة التامة وهو: { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب }.
وشرفه في سورة القدر بليلة القدر التي لها ثلاثة أنواع من الفضيلة أولها: كونها: خَيْرًا مّن أَلْفِ شَهْرٍ، وثانيها: نزول: ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا وثالثها: كونها: سَلاَماً حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ.
وشرفه في سورة: لَمْ يَكُنِ بأن شرف أمته بثلاثة تشريفات أولها: أنهم: خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ وثانيها: أن جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّـٰتُ، وثالثها: رضا الله عنهم.
وشرفه في سورة إذا زلزلت بثلاث تشريفات: أولها: قوله: { يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا } وذلك يقتضي أن الأرض تشهد يوم القيامة لأمته بالطاعة والعبودية والثاني: قوله: { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لّيُرَوْاْ أَعْمَـٰلَهُمْ } وذلك يدل على أنه تعرض عليهم طاعاتهم فيحصل لهم الفرح والسرور، وثالثها: قوله: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } ومعرفة الله لا شك أنها أعظم من كل عظيم فلا بد وأن يصلوا إلى ثوابها ثم شرفه في سورة العاديات بأن أقسم بخيل الغزاة من أمته فوصف تلك الخيل بصفات ثلاث: { وَٱلْعَـٰدِيَـٰتِ ضَبْحاً فَٱلمُورِيَـٰتِ قَدْحاً فَٱلْمُغِيرٰتِ صُبْحاً }.
ثم شرف أمته في سورة القارعة بأمور ثلاثة أولها: فمن ثقلت موازينه وثانيها: أنهم في عيشة راضية وثالثها: أنهم يرون أعداءهم في نار حامية.
(........)انتهى.وسرد ثلاثيات أخرى على النسق نفسه.
ليس يهمنا هنا مدى صحة هذه الانساق الثلاثية بقدر ما يهمنا توضيح المسار المنهجي....مع الإشارة إلى أن هذا النسق على فرض كونه إعجازيا فهو غير خاص بسورة الكوثر وإنما هو متعلق بترتيب المصحف أو بقسم منه .
نموذج للتوجه الثالث: تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي.
بدأ برهان الدين- رحمه الله-تفسير السورة بداية"طبيعية" على قاعدة منهجه في كشف المناسبة وأوجه الارتباط بين السابق واللاحق مكثرا من عبارته العتيدة"ولما....."-حتى اقترح بعضهم أن يسمي تفسيره بتفسير" ولما"-ثم خطر للمفسر خاطر غريب جدا هو أن يربط دلالة "إن شانئك هو الابتر" باحداث تاريخية معينة معتمدا على أعداد وإحصائيات فجاء بشيء شبيه بما ابتدعه الحروفيون من السحرة والصوفية، وهذا-كما ترى- عجيب من هذا الإمام الذي لاحقته المصائب بسبب عدائه الشديد للصوفية.فتأمل.
ولا أجد تعليلا ل"شذوذ" برهان الدين عند تفسيره لسورة الكوثر عن نهجه العام السليم من الشطحات غالبا إلا ايمانه أن سورة الكوثر معجزة ولم يكفه ما ذكره العلماء من قبله فبحث عن الخارق الذي تخضع له الأذقان فأتى بالعجائب.
قال رحمه الله:
(ثم إن هذه السورة عشر كلمات في الكتابة إشارة إلى أن تمام بتر شانئه يكون مع تمام السنة العاشرة من الهجرة، وكذا كان، لم تمض السنة الحادية عشر من الهجرة وفي جزيرة العرب إلا من يرى أشرف أحواله بذل نفسه وماله في حبه، وإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت اثنتا عشرة، وفي السنة الثانية عشرة من النبوة بايعه صلى الله عليه وسلم الأنصار على منابذة الكفار، وإذا أضيف إلى العشرة الضمائر البارزة الخمسة كانت خمس عشرة، فتكون إشارة إنه صلى الله عليه وسلم عند تمام السنة الخامسة عشر من نبوته يبسط يده العالية لبتر أعدائه وكذا كان في وقعة بدر الرفيعة القدر، ففي ضمائر الاستتار كانت البيعة وهي مستترة، وفي الضمائر البارزة كانت بدر وهي مشتهرة، وإذا أضيف إلى ذلك الضميران المستتران كانت سبع عشرة، وفي السنة السابعة عشرة من نبوته كانت غزوة بدر الموعد، وفى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالوعد في الإتيان إلى بدر للقاء قريش للقتال ومقارعة الأبطال، فآذنهم الله فلم يأتوا، وإنما اعتبر ما بعد الهجرة من أحوال النبوة عندما عدت الكلمات الخطية العشر لكونها أقوى أحوال النبوة كما أن الكلمات الخطية أقوى من الضمائر وإن اشترك الكل في اسم الكلمات، فلذلك أخذ تمام البتر للشانىء وهو ما كان في السنة الحادية عشرة من هلاك أهل الردة وثبات العرب في صفة الإسلام، ولما ضمت الضمائر البارزة الخمسة - التي هي أقرب من المستترة - إلى الكلمات الخطية وأضعف من الكلمات الخطية اعتبر من أول السورة لمناسبة ما كان من ضعف الحال فيما كان قبل الهجرة، فوازى ذلك السنة الثانية من الهجرة التي كانت فيها غزوة بدر الكبرى، وهي وإن كانت من العظم على أمر بالغ جداً لكنها كانت على وجه مخالف للقياس، فإن حال الصحابة رضي الله عنهم كان فيها في غاية الضعف، ولكونها أول ما وقع فيه النصر من الغزوات لم تكن نفوس المخالفين مذعنة لأن ما بعدها يكون مثلها، فإذا ضم إلى ذلك الضميران المستتران - وهما أضعف من البارز - انطبق العدد على سنة غزوة بدر الموعد في سنة أربع، وهي وإن كانت قوية لكون قريش ضعفوا عن اللقاء لكن كان حالها أضعف من بدر التي وقع فيها القتال وأستر، وكون كلماتها الخطية والاصطلاحية التي هي أبعاض الكلمات الخطية سبع عشرة مؤذن بأن الأمر في { فصلِّ } مصوب بالذات بالقصد الأول إلى الصلوات الخمس التي هي سبع عشرة ركعة، وأن من ثابر عليها كان مصلياً خارجاً من عهدة الأمر، فإذا قصدت في السفر بما اقتضته صفة التربية بالإحسان نقصت بقدر عدة الضمائر سوى الذي وفى الأمر بها لأن الأمر الناشىء عن مظهر العظمة لا يليق فيه التخفيف بنفسه كلمة الأمر، وإذا أضفنا إليها كلمات البسملة الأربعة كان لها أسرار كبرى من جهة أخرى، وذلك أن الكلمات الخطية تكون أربع عشرة إشارة إلى أن ابتداء البتر للأضداد يكون بالقوة القريبة من الفعل بالتهييء له في السنة الرابعة عشرة من النبوة، وذلك عام الهجرة، فإذا أضفنا إليها الضمائر البارزة التي هي أقرب إلى الكلمات الخطية وهي خمسة كانت تسع عشرة، وفي السنة التاسعة عشرة من النبوة وهي السادسة من الهجرة كان الفتح المبين على الشانئين الذي أنزل الله فيه سورة الفتح، فإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت إحدى وعشرين وهي سنة ثمان من الهجرة سنة الفتح الأكبر الذي عم العلم فيه بأن الشانىء هو الأبتر، وإذا اعتبرت حروفها المتلفظ بها كانت أربعة وأربعين حرفاً، فإذا ناظرتها بالسنين من أول حين النبوة كان آخرها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة، وهي سنة البتر الأعظم لشانئه الأكبر الذي مزق كتابه، وكان مالكاً لبلاد اليمن، وهو قدر كبير من بلاد العرب وكذا لغيرهم مما قارب بلاده، وكانت قريش تجعله من عدادهم كما مضى بيانه في سورة الروم وهو كسرى ملك الفرس، ففيها كان انقراض ملكهم بقتل آخر ملوكهم يزدجرد، كما أنك إذا اعتبرت كلماتها الخطية مع الضمائر البارزة التي هي كلمات اصطلاحية دون ما استتر - فإن وجوب استتاره منع من عده - كانت تسع عشرة كلمة، فإن اعتبرت بها ما بعد الهجرة وازت وقت موت قيصر طاغية الروم في سنة تسع عشرة من الهجرة أهلكه الله، وقد تجهز إلى قتال العرب بالإسكندرية بنفسه، وأمر ألا يتخلف عنه أحد من الروم فكسر الله بموته شوكة الروم، واستأسدت العرب عند ذلك، فكانت الأحرف مشيرة إلى بتر الشانىء من الفرس، والكلمات مشيرة إلى بتر الشانىء من الروم والفرس أولى بإشارة الأحرف لأنهم ليسوا بذوي علم، والروم بالكلمات لأنهم أهل علم، والكلمات أقرب إلى العلم، وإذا اعتبرت أحرف البسملة اللفظية كانت ثمانية عشر حرفاً، فإذا جعلتها سنين من أول النبوة كان آخرها سنة خمس من الهجرة، وفيها كانت غزوة الأحزاب....)
انتهى كلام البقاعي-غفر الله له ورفع درجاته- ولا يحتاج إلى تعليق.
-----------
بعد هذا الاستعراض ننتقل إلى إظهر الوجه الإعجازي لسورة الكوثر الذي وعدنا به ومنهجنا شبيه بالتوجه الأول الذي مثلنا له بما نقله ابن عادل مقتنعين أن الاعجاز ذاتي في سورة الكوثر ولربما اعتمدنا على إحصاءات لكلمات أو ضمائر كما فعل برهان الدين لكن بعيدين كل البعد عن منهجه في استنطاق الأرقام لتخبر عن غيب الأيام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.بسم الله الرحمن الرحيم.
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (3)
نبدأ بملاحظات عابرة تتعلق بتناسبات صوتية وحرفية الهدف منها إشعار القاريء أن سورة الكوثر تخفي خلف كلماتها العشر أمورا كثيرة وكثيرة جدا:
-كلمات السورة استنادا إلى الخط والرسم عشر:
{إِنَّا- أَعْطَيْنَاكَ- الْكَوْثَرَ- فَصَلِّ- لِرَبِّكَ- وَانْحَرْ-إِنَّ- شَانِئَكَ- هُوَ- الْأَبْتَرُ}
-الآية الأولى نسيج حرفي مكون من حروف عشر-بدون اعتبار المكرر منها-:
ا-ن-ع-ط-ي-ك-ل-و-ث-ر.
-الآية الثانية هي أيضا مبنية من عشر حروف-بدون اعتبار المكرر دائما-:
ص-ل-ر-ب-ك-و-ا-ن-ح.
-الآية الأخيرة –كما قد يتوقع القاريء-كاختيها أعني العدد نفسه باعتبار نوع الحرف لا أفراده :
ا-ن-ش-ك-ه-و-ل-ب-ت-ر.
ولعل إشارة أخرى تقلل من فرضية الصدفة وهي أن عدد الحروف التي لم تستعمل إلا مرة واحدة عشرة أيضا وهي:
ع-ط-ي-ث-ف-ص-ح-ش-ه-ت.
فلنقف عند هذا الحد دون أن نبني على ما ذكرنا شيئا فهذا المنهج لا يستهوينا في الحقيقة.
الجمل في سورة الكوثر:
لأهل اللغة تقسيمات كثيرة لأنواع الجملة في اللسان العربي لكن المثير للدهشة أن سورة الكوثر الكريمة قادرة على إعطاء مثال عن كل نوع ،وتزداد الدهشة أكثر عندما ندخل في الحسبان أن عدد جمل السورة أربعة فقط.ولكنها "الكوثر": اسما ومسمى.
1-تنقسم الجمل عند أهل اللسان –عند أهل البيان منهم خاصة-إلى نوعين:
جمل خبرية وجمل انشائية.
وإذا تدبرت سورة الكوثر وجدت فيها النوعين معا:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ.
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.
جملتان خبريتان.
فَصَلِّ لِرَبِّكَ.
وَانْحَرْ.
جملتان إنشائيتان طلبيتان .
2-تتعاقب الجمل في الكلام العربي وفق نظام الوصل والفصل وقد افرد علماء المعاني هذا النظام بمبحث خاص سموه باب الوصل والفصل واعتبروه أم البلاغة وقلبها....ويعنينا هنا أن سورة الكوثر قادرة على إعطاء مثالين للمفهومين:
فجملة"انحر" معطوفة بالواوعلى جارتها" فَصَلِّ لِرَبِّكَ."وهذا الوصل.
وهي منقطعة عن الجملة اللاحقة إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.وهذا الفصل.
3-يقسم أهل النحو الجملة العربية إلى قسمين:
جمل اسمية وجمل فعلية.
وقد اشتملت السورة الكريمة على النوعين كما لا يخفى على أحد .والجمل التي ذكرناها عن الخبر والانشاء تمثل باعتبار آخر الاسمية والفعلية.
استطراد:
القسمة ثنائية عند الجمهور فالجمل عندهم إما فعلية وإما اسمية...وقد حاول بعض النحاة قديما وحديثا أن يزيد قسما ثالثا ولكن هذه الزيادة لم تكن مقنعة:
فالزمخشري اقترح نوعا ثالثا هي الجملة الشرطية لكنها لم يرتضها غيره.قال ابن هشام في المغني:
وزاد الزمخشري وغيره الجملة الشرطية والصواب أنها من قبيل الفعلية.
وابن هشام نفسه اقترح في المغني نوعا ثالثا هو الجملة الظرفية لكنها لم تلق قبولا حسنا من الدسوقي، فقال في حاشيته على المغني:
(قوله :إلى اسمية وفعلية وظرفية)هذا تقسيم أصلي للجملة ولكن في الحقيقة أن الظرفية ترجع لما قبلها من الاسمية والفعلية لأنك إما أن تقدر عامل الظرف كائن أو استقر.
والصواب مع الجمهور لأن النوعين الجديدين يمكن إرجاعهما إلى النوعين الأصلين وتقيل الأقسام مطلوب كما هو معلوم.
فصح عندنا أن نقول إن سورة الكوثر احتوت نوعيا كل العربية.
4-يقسم أهل اللغة الجملة باعتبار بنيتها إلى قسمين:بسيطة ومركبة وقد يعتمدون اصطلاحا مغايرا- قريبا وليس مرادفا-
فيقولون:جملة صغيرة وكبيرة.قال في المغني:
الكبرى هي الاسمية التي خبرها جملة نحو" زيد قام أبوه" و"زيد أبوه قائم"
والصغرى هي المبنية على المبتدأ كالجملة المخبر بها في المثالين.
ولك أن تعجب من سورة الكوثر فهي لم تقدم مثالا عن كل نوع فقط بل قدمت مثالا ثالثا لجملة تحتمل النوعين بحسب وجهة النظر:
- إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ:جملة مركبة أو كبرى ف أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ جملة صغيرة في محل رفع خبر للجملة الأصلية.
- فَصَلِّ لِرَبِّكَ.جملة تامة صغيرة فيها اسناد واحد.
أما جملة: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.....فهي من المرونة بحيث تضعها حيث شئت:فلو اعتبرت "هو"ضمير فصل و"الأبتر" خبرا عن الشانيء فالجملة بسيطة لا محالة .ولو اعتبرت "هو"مبتدأ و"الأبتر" خبره ومجموعهما خبرا للشانيء فالجملة كبرى ضرورة.فلله در هذه السورة.
الضمائر في سورة الكوثر:
استوعبت سورة الكوثر كل أنواع الضمير في اللغة العربية دون أن تغفل الأحوال الإعرابية المختلفة وهذا من العجب العجاب لأننا نضع نصب أعيننا دائما أن عدد مفرداتها لا تتجاوز عدد أصابع الإنسان،وتفصيله:
1-الضمائر بارزة ومستترة:
فمن بارز الضمائر في السورة ما ظهر في فعل "أعطيناك".
ومن مستتره ما كمن في فعل "صل "أو" انحر".
2-الضمائر متصلة ومنفصلة:
ولك في جملة "أعطيناك" مثال على المتصل من الضمائر.
ولك في جملة هو الأبتر مثال آخر على الضمير المنفصل.
3-الضمائر في إحالتها على عناصر الخطاب تنقسم إلى ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب.
ولا تحتاج إلى غير سورة الكوثر للتمثيل:
-فضمير المتكلم حاضر في" أعطينا"
-وضمير المخاطب في" أعطيناك" و" ربك" و"شانئك" صريحا،و في"صل" و"انحر"مقدرا.
-وضمير الغائب في "هو" صريحا وفي شانيء مقدرا، فتأمل هذه التناسبات اللطيفة.
4-باعتبار مقولة العدد :
جاء في السورة ضمير المفرد وضمير الجماعة.وقد اجتمعا في كلمة "أعطيناك"
استطراد:
قد يقال إن مقولة العدد في اللسان العربي ذات تمفصل ثلاثي وليس ثنائيا..فأين ضمير المثنى في سورة الكوثر؟
جوابه من وجهين:
-ليس من شرطنا أن تحتوي السورة على كل أبواب النحو لتحصل المعجزة -فمقولة التأنيث مثلا لا حضور لها في السورة-بل يكفي أن تتعدد الأنواع والتقاسيم بصورة غير عادية ،وما ذكرناه كاف إن شاء الله.
-"المثنى" في اللغة العربية باب قلق لا ينضبط ...وكثيرا ما يعبر العرب بصيغة الجمع عنه، فيكون الجمع بديلا عن المثنى كما في كثير من اللغات الحالية.
وفي القرآن المبين أمثلة كثيرة منها:
{إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (4) سورة التحريم
صدر الآية مثنى وليس كذلك عجزها.
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } (19) سورة الحـج
رجع ضمير الجمع على مثنى.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } (38) سورة المائدة
حصلت المطابقة في المضاف إليه وما هي بحاصلة في المضاف.
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (9) سورة الحجرات
حصلت المطابقة في "بينهما" لكن بعد أن قال "اقتتلوا".
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (11) سورة فصلت
فالحال صيغة جمع وصاحبها مثنى.....
خلاصة القاعدة أنك إذا عبرت عن المثنى بصيغة الجمع فتعبيرك صحيح.
5-الضمائر باعتبار محلها من الإعراب:
جاءت الضمائر في السورة متنوعة بحسب المحل الإعرابي:
-ضمير فى محل رفع: (أعطيناك) الضمير الأول فيها فاعل مرفوع.
-ضمير في محل نصب: (أعطيناك) الضمير الثاني فيها مفعول به منصوب.
-ضمير في محل جر: ربك الكاف فيها مضاف إليه مجرور.
ومن لطائف السورة في هذا السياق أن الكلمات الدالة على الرب عز وجل ثلاث هي:
-اسم إن.
-فاعل أعطى.
-الرب.
وجاءت على التوالي:
منصوب
مرفوع
مجرور.
وعلى نفس الترتيب الإعرابي جاءت الكلمات التي تدل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
"كاف" أعطيناك منصوبة
"صل"الضمير المستتر مرفوع.
"كاف" ربك مجرور.
الأفعال في السورة:
لم يأت في السورة من الأفعال إلا ثلاثة: "أعطى"-"صلى"-"نحر".
لكنها على قلتها مثلت من المقولات الصرفية والتركيبية عددا كبيرا:
1-الفعل الصحيح:نحر
2-الفعل المعتل:أعطى.
3-الفعل المضعف:صلى.
4-الفعل المجرد:نحر.
5-الفعل المزيد: أعطى.
6-الفعل اللازم:صلى.
7-الفعل المتعدي إلى مفعول واحد:نحر.
8-الفعل المتعدي إلى أكثر من مفعول:أعطى.
فلله درها من سورة....
والله أسال أن يعفو عما كان من خطأ أو تقصير......وصلى الله على محمد صاحب الحوض والكوثر وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.