زهير هاشم ريالات
New member
• أدعو الباحثين إلى دراسة "البدهيات في القرآن الكريم"، وهو موضوع يحتاج إلى معرفة وتمكُّن من علم البلاغة وأسرارها .
• إن استقراء الأحداث وتاريخ أمتنا يؤكد أنها مرت بحالة أسوأ مما هي عليه الآن، ولكن القرآن كان هو منقذها من كل ذلك .
• الإعجاز العلمي حقيقة قرآنية تنبئ عن واقع القرآن، أما التفسير العلمي فهو واقع المفسِّر وليس القرآن .
• من أراد أن يستلهم نصوص القرآن ودلالاتها فدونه "تفسير ابن كثير"، ومن أراد أن يقتفي ظلاله ويُحَلِّق في آفاقه فدونه "الظلال" لسيد قطب، ومن أراد أن تُبْهِرَه بلاغة القرآن وفصاحته فدونه "التحرير والتنوير" لابن عاشور .
حاوره: زهير ريالات
الأستاذ الدكتور فهد بن عبدالرحمن الرومي.. سعدنا به حين وفد علينا للمشاركة في المؤتمر القرآني الثاني الذي أقامته جمعية المحافظة على القرآن الكريم في شهر شعبان/ آب الماضي، وقد سبقه ذِكْرُه العطر وصِيتُه النديُّ بسنوات -خاصة في الأوساط الجامعية والمجالس العلمية- مُفَسِّراً رائداً ومُتخصِّصاً في الاتجاهات الحديثة في التفسير، وكان لا بد من اغتنام فرصة اللقاء به، فكان هذا اللقاء الذي طوَّفنا فيه حول بعض القضايا التي تهم المتخصصين والمهتمين بتفسير كتاب الله عز وجل..
وُلِدَ ضيفنا في الرياض عام (1371هـ- 1952م)، وفيها درس جميع المراحل التعليمية، وتخرَّج في كلية الشريعة عام (1393هـ- 1973م)، ثم حصل على درجة الماجستير من كلية أصول الدين عام (1400هـ- 1980م)، وكان عنوان الرسالة: (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير)، وهي مطبوعة، ثم حصل على درجة الدكتوراه أيضاً من كلية أصول الدين عام (1405هـ- 1985م)، وكان عنوان الرسالة: (اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر)، وهي مطبوعة في ثلاثة مجلدات.
وفي مجال العمل الوظيفي فقد تقلَّب ضيفنا في عدد من الوظائف التعليمية في وزارة المعارف (وزارة التربية والتعليم)، حيث شارك في عدد من اللجان التعليمية، وفي تأليف عدد من المقررات الدراسية في التعليم العام وتحفيظ القرآن الكريم وتعليم الكبار ومحو الأمية، وشارك في وضع بعض المناهج والمفردات لمقرَّرات الكليات، وفي مناقشة عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه، وتحكيم البحوث المقدمة للنشر أو للترقية، وله مشاركات في الإذاعة والصحافة والتلفزة، كما شارك في العديد من المؤتمرات في عدة دول عربية وإسلامية.
ومن مؤلفاته عدا الرسائل العلمية :
الفرقان: ارتبط اسمكم بما يسمى (بدهيات القرآن)، وأنتم من الداعين إلى دراستها، وقد بدأ الباحثون فعلاً بهذا الأمر، نرجو منكم إعطاءنا تعريفاً بها وبأنواعها مع التمثيل لو تكرمتم.
د. الرومي: تستوقف المتدبر عند تلاوة القرآن بعض النصوص القرآنية، أذكر منها نوعين:
الأول: آيات ظاهرة المعنى لا يخفى معناها على أحد، بل إن وضوح معناها وظهوره معلوم قطعيّاً لا لبس فيه؛ مما يدعو القارئ إلى أن يتساءل عن الحكمة من ظهورها هذا الظهور، وذِكْرِها على هذه الدرجة من الوضوح، ومنها ما يذكر قضية لا يختلف فيها اثنان، بل هي أمر بدهي يدركه الإنسان من فوره وعلى البديهة، خذ مثلاً قوله تعالى: {فخرَّ عليهم السقف من فوقهم} [النحل:26]، وتأمل ما الذي تضيفه جملة {من فوقهم}؛ إذ عُلم أن السقف لا يكون إلا من فوق؟! وقوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام:38]، ومن البدهي أن الطير لا يطير إلا بجناحيه! وقوله سبحانه: {أو كَصَيِّب من السماء} [البقرة:19]، والصَّيِّب لا يكون إلا من السماء! ونحو ذلك فهو كثير.
وقد كتبت في ذلك بحثين مختصرين ليكونا بطاقة دعوة للباحثين لدراسات شاملة وهو موضوع يحتاج إلى معرفة وتمكُّن من علم البلاغة وأسرارها.
والبدهيات في القرآن الكريم أنواع حاولت تقسيمها إلى أقسام ذكرت منها:
1. البدهية الحسابية؛ كقوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} [البقرة:196]، وعشرة نتيجة بدهية لثلاثة وسبعة لا تحتاج إلى إعمال ذهن؛ فما الحكمة من التصريح بها؟!
2. البدهية اللغوية؛ كقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} [الإسراء:1]، والإسراء لا يكون إلا ليلاً، ومع هذا صرَّح بالليل بعدها! وكقوله سبحانه: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [العنكبوت:76]، والعيث: أشد الفساد ويدل عليه!
3. البدهية في الأمر المعتاد؛ كقوله تعالى: {من كان في المهد صبيّاً} [مريم:29]، فقوله: {في المهد} يدل على الطفولة والصبا؛ فما فائدة ذِكْر {صبيّاً} بعدها؟! وكقوله سبحانه: {أمواتٌ غير أحياء} [النحل:21]، وقوله: {لَتُبَيِّنُنَّه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران:187]، وقوله: {وما كنت لديهم إذ يُلقون أقلامهم أيهم يكفُل مريم} [آل عمران:44]، ومعلوم قطعاً أنه لم يكن لديهم، ولم يَدَّعِ أحدٌ ذلك؛ فما الحكمة من نفيه؟! وكقوله: {ذلكم قولكم بأفواهكم} [الأحزاب:4]، ومعلوم أن القول لا يكون إلا بالأفواه.
النوع الثاني: مما يوقف المتدبرَ القيودُ التي نراها في بعض الأحكام الشرعية، والتي يُعلم عدم الأخذ بها أو إعمالها؛ مما يدعو المتدبر إلى السؤال عن الحكمة من ذِكْرها ما دامت مهملة أو عديمة الأثر في الحكم، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {ولا تُكْرِهوا فتياتكم على البِغاء إن أردن تحصُّنا} [النور:33]، ومعلوم أن إكراهها لا يجوز سواء أرادت التحصُّن أم لم ترد! وكقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء:31]، ومعلوم أن قتل الأولاد لا يصح خشي الإملاق أو لم يخشه! وكقوله: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} [النساء:23]، والربيبة: هي بنت الزوجة. ومعلوم أنها تحرم على زوج أمها سواءً كانت في حِجْره أم لم تكن! وكقوله سبحانه: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} [النساء:101]، ومعلوم أن قَصْرَ الصلاة في السفر غير مشروط بالخوف؛ إذ هو جائز مع الخوف والأمن! ويدخل تحت هذا النوع أكثر من عشرين نوعاً مما يطول ذِكْره. وهذه الوجوه عند تأملها تكشف أوجهاً بلاغيه جديدة؛ مما يكشف عن أن وجوه الإعجاز في القرآن متجددة.
وهذا النوع من المباحث الأصولية في باب المنطوق والمفهوم، ومن المباحث التفسيرية والبلاغية والعقائدية، وفيه مباحث ومسائل عديدة تتسع لعدة رسائل في كل علم.
الفرقان: ظهر في العصر الحديث العديد من المدارس التفسيرية كان من أشهرها مدرسة محمد عبده. وقد انقسم الناس في الحكم على هذه المدرسة بين مادح وقادح. ما رأيكم بهذه المدرسة، وهل كان لها دور في تجديد الفكر الإسلامي بشكل عام، وعلم التفسير بشكل خاص؟
د. الرومي: هذا سؤال تحتاج إجابته إلى مجلدات.. ذكرتُ في مقدمة رسالتي (منهج المدرسة العقلية الحديثة) أن وضع الأمة الإسلامية يُحَتِّم على علمائها وحكمائها تلمُّس علاجها بعد تشخيص دائها. وأن استقراء الأحداث وتاريخ هذه الأمة يؤكد أنها مرت بحالة أسوأ من حالها؛ فنزل القرآن وأخرجها بل وأنقذها من أدنى درجات الجاهلية إلى أن صارت خير أمة أُخرجت للناس. وصارت صاحبة السيف والقلم، واتسعت فتوحاتها حتى بلغت مشارق الأرض ومغاربها؛ فما بالها تنحط في هذا العصر إلى هذه الدرجة من التفكُّك والتحلل؟!
لا شك أن هذا يرجع إلى الاختلاف في طريقة قراءة القرآن وتلقيه، أصبحنا في هذا العصر نقرأ القران لمجرد التعبد بتلاوته ونيل الأجر والثواب الذي وُعِدْنا به؛ الحرف بعشر حسنات، لا يتجاوز ذلك إلا من شاء الله وهم قليل!
من مِنّا -إلا من شاء الله- يشعر بأن ما يقرؤه من قرآن إنما هو تكليف يُناط بعاتقه، وعليه أن يُحوِّله إلى قرآن مرئي يسير به ويعمل به؟! لقد كان الجيل الأول يشعر بهذا المعنى؛ فلم يكن أحدهم يتجاوز عشر آيات حتى يتعلم ما فيها من العلم والعمل، وكان أحدهم يقرأ القرآن وهو يشعر أن الله يخاطبه ويناجيه؛ فكان تحت هذا الشعور يتحول إلى طاقة قرآنية يهون تحتها كل عبء، ويتحطم دونها كل عائق؛ فتحول الجيل إلى جيل قرآني فريد، كيف لا ورسوله قدَّم النموذج الأكمل للتخلُّق بالقرآن حين قالت زوجته عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن".
إن قراءة القرآن الصحيحة تحتاج إلى أن نزيل هذا الركام من المعاني التي تعوق انقداح شرارة الطاقة وتُقيِّدها، وقد حاولت بعض المدارس التفسيرية ذلك إلا أن بعضها يخرج من ركام ويهيل ركاماً آخر.. نجد بعض هذه المدارس تُحذِّر من رواية (الإسرائيليات) وتُشنِّع على قائلها، ثم نجدها تغرق في النقل من التوراة والإنجيل مباشرة، ومنهم من أغرق التفسير بالمباحث الفقهية أو البلاغية أو التفسير العلمي!
وهذه المدرسة (مدرسة محمد عبده) كغيرها من المدارس لها إيجابيات ولها سلبيات؛ فمن مدح نظر إلى الإيجابيات، ومن ذمَّ نظر إلى السلبيات، ونحن هنا نتحدث عن المنهج لا عن الأفراد.
كما أن للمدرسة أثر ظاهر في تجديد الفكر الإسلامي بشكل عام والتفسير بشكل خاص، إلا أن التجديد ينبغي أن يلتزم بضوابط، وأن يُحدَّ له حدٌّ، وإلا خرج إلى التغيير والتبديل، وهذا وذاك هو ما حدث من بعض تلاميذ هذه المدرسة.
الفرقان: من اتجاهات التفسير التي ظهرت في العصر الحديث: الاتجاه العلمي؛ أي تفسير القرآن تفسيراً علميّاً وفق معطيات العلم الحديث. ما رأيكم فيه، وما الشروط التي يجب الأخذ بها حتى يكون مقبولاً، وما الفرق بين مصطلحي الإعجاز العلمي والتفسير العلمي؟
د. الرومي: مخاطبة الناس بما يعرفون أصل من أصول الدعوة، ويتسع نطاق المعرفة هذا ليشمل اللغة التي بها يتكلمون، والعلوم التي يدركون، والأعراف والعادات والعقائد التي يعتقدون؛ ولذا جاء القرآن بلسان عربي مبين، ودعاهم إلى النظر إلى الإبل كيف خُلقت؟! ولم يدعهم إلى النظر إلى الفيلة والزرافات وإن كانت الدعوة عامة.
لذا فإن على الداعية أن يخاطب كل قوم بلسانهم ومداركهم ومعارفهم، والعصر الحديث عصر نهضة علمية واختراعات واكتشافات صناعية وطبية وفلكية وغير ذلك؛ ومن ثَمَّ على دعاة العصر ومفسري القرآن الكريم منهم أن يسلكوا أقرب الطرق الممكنة لإقناع البشرية بهذا القرآن؛ فإذا كانت الاكتشافات العلمية سبيلاً إلى ذلك -وفي القرآن ما يدل عليها- وفي كشف ذلك إظهار لمكانة القرآن ومنزلته؛ فلا ضير في ذلك، بل هو مما ينبغي لنجذب بذلك قلوباً لا تعرف الإيمان، ونُرسِّخ الإيمان في قلوب مؤمنة.
وهذا المسلك مسلك زلق يحتاج إلى أناة ورويَّة؛ فالإنسان فيه لا يتكلم عن حدِّ علمه، بل هو يتكلم -حسب اعتقاد مستمعيه- عن مُقرَّرات قرآنية؛ لذا ينبغي على المفسر أن يُدرك ذلك ويعيه، وليحذر من القول بلا علم، فإنما هي الرواية عن الله، وعليه أن يختار العبارات الدقيقة، ولا يبالغ في تقرير ما لم يثبت.
ولذا وضع العلماء شروطاً للتفسير العلمي وأرى أن من أهمها:
1. أن لا تطغى تلك المباحث على المقصود الأول من القرآن الكريم -وهو الهداية-؛ فتصبح هذه العلوم من الركام الذي يُثقل كاهل الهداية القرآنية، كما أشرت في جواب السؤال السابق.
2. أن يُراعى في ذِكْر هذه المباحث تعميق الشعور الديني للمسلم والدفاع عن العقيدة الإسلامية.
3. أن لا تُذكر هذه المسائل على أنها هي التفسير الذي لا يدلُّ النص القرآني على سواه، بل تُذكر لتوسِّع مدلول النص القرآني، وللاستشهاد بها على وجه لا يُؤثِّر بطلانها فيما بعد على قداسة النص القرآني.
كما ينبغي على المفسر -وهذا مهم- أن يستعلي بالقرآن؛ فلا يستجدي موافقة النظريات العلمية لآياته فيُكَيِّف -إن لم نقل يتلاعب- بالنص القرآني حتى يوافق تلك النظرية أو حتى الحقيقة العلمية أو ما نحسبه حقيقة؛ فالقرآن هو الأصل الذي نحتكم إليه ونرجع، وإعجازه ومكانته لا يتوقف على موافقة نظرية أو مخالفتها، بل هو ثابت قطعاً لا مراء فيه ولا شك، ومن ثم فلسنا بحاجة ضرورة إلى هذا فضلاً عن التكلُّف فيه.
وهذا ما نريده في بيان الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي؛ فالإعجاز العلمي حقيقة قرآنية تنبئ عن واقع القرآن؛ إذ لا يشك مؤمن أن القرآن لم ولن يصادم حقيقة علمية أبداً؛ لأن القرآن الكريم كلام الله العالم بحقائق العلوم، والخالق للكون والعالم بأسراره؛ فلا يمكن أن يخفى عليه شيء من أسراره، ولا يمكن أن يخالف كلامُه علمَه، أما التفسير العلمي فهو واقع المفسِّر وليس القرآن؛ فهو حسب فهم المفسِّر وإدراكه للنص القرآني والنظرية أو الحقيقة العلمية، وقد يصيب وقد يخطئ.
ولذا اقتصر بعض العلماء على الحد الأول؛ حد الإعجاز العلمي في القرآن، ولم ينزل إلى ميدان التفسير مكتفياً بهذه القناعة اليقينية، ولم يقف آخرون عند هذا الحد بل تجاوزوه إلى التفسير العلمي للأهداف التي أشرت إليها أولاً، ولا ضير في ذلك بل هو محمود إذا التُزم بالضوابط والشروط.
الفرقان: العصر الحديث أَطلق عليه بعض العلماء (عصر التفسير الموضوعي)، ودعوا إلى التوجه نحو هذا النوع من التفسير باعتباره يحقق الغاية من تفسير القرآن، وهي إصلاح الواقع على هدي القرآن ومنهجه. أما التفسير التحليلي أو التقليدي الذي يقوم على تفسير القرآن سورة سورة حسب ترتيب المصحف فيرون أنه لا يخدم هذا الهدف، ولا يَصْلُح لهذا العصر. هل توافقونهم هذا الرأي؟
د. الرومي: نزل القرآن الكريم من لدن حكيم عليم، عالم بحاجات البشرية أجمع منذ نزوله إلى يوم القيامة؛ فضمَّنه أوامره ونواهيه وأدلته وبراهينه، وما فيه العلاج كل العلاج والشفاء كل الشفاء. ومن هنا نعلم أن القرآن الكريم يشمل قضايا عديدة ومسائل كثيرة وأموراً لا تحصى عرض لها القرآن إما مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
ولذا أعتقد أنه لا يمكن الإحاطة بموضوعات القرآن وقضاياه؛ لأنها قضايا الكون كله والبشرية أجمع، لكن من الممكن أن تكتب البحوث الكثيرة في ذات الموضوعات، من غير أن نزعم الشمول أو الإحاطة؛ فللتفسير الموضوعي بداية وليس له نهاية.
ولا يمكن أن تدرس قضية من قضايا القرآن الكريم في موضع إلا وتجد تمامَها وكمالَها وأجزاءها في آيات ومواضع أخرى، وهذا التكامل في الدراسة القرآنية إنما يتحقق بالتفسير الموضوعي.
ولا غنى للتفسير الموضوعي عن التفسير التحليلي؛ فهو يقوم عليه ويستند إليه، ولا يمكن الوصول إلى التفسير الموضوعي إلا بعد تجاوز التفسير التحليلي والمرور به والاستفادة منه، ثم الوصول إلى الدراسة الشمولية للموضوع، وهو ما نسميه (التفسير الموضوعي).
الفرقان: قال الزمخشري:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد**وليس فيها لَعَمْرِي مثل كشّاف
رغم ما قد يقال من تحفُّظ على ثنائه على "تفسيره" رحمه الله، إلا أن كلامه يدل على كثرة المصنفات في التفسير. من بين هذا الكم الهائل من كتب التفسير، ما هي التفاسير التي تنصح بقراءتها.. أولاً بالنسبة للمتخصصين في علم التفسير، ثم بالنسبة لغير المتخصصين؟
د. الرومي: جرى كثير من العلماء السابقين على الثناء على مؤلفاتهم وتفرُّدها عن غيرها وتفوقهم على الآخرين وسبقهم لهم أحياناً، وتجاوز كثير منهم ذلك إلى اختيار أسماء لمؤلفاتهم فيها ثناء وإعجاب لا يخفى.. وهذا يرجع لمفاهيم عصورهم؛ فلم يكن ذلك عندهم معيباً.
ولا أستطيع أن أحدد تفسيراً واحداً يصلح لكلِّ الناس؛ فالناس ذوو أمزجة وطبائع مختلفة فهم يختلفون في الأطعمة والأشربة والألبسة والمذاقات فلكلٍّ مذاقه، وفي العلوم كذلك منهم من يميل إلى الفقه ومنهم من يميل إلى التاريخ أو الأدب أو علم البلدان أو غير ذلك.
أما في التفسير فمن أراد أن يستلهم نصوص القرآن ومعانيها ودلالاتها وأحكامها فدونه "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير رحمه الله تعالى، ومن أراد أن يقتفي ظلال النصوص القرآنية ويُحَلِّق في آفاقها ويسير في أجوائها ويستنشق نسيمها فدونه "الظلال" لسيد قطب رحمه الله تعالى، ومن أراد أن تُبْهِرَه بلاغة القرآن وتشده فصاحته وتسلبه لُبَّه دلالات ألفاظه ومعانيه فدونه "التحرير والتنوير" لابن عاشور رحمه الله تعالى.
وفي أول هذه التفاسير الثلاثة -أعني تفسير ابن كثير- متسع للمتخصص وغير المتخصص.
الفرقان: هل من نصيحة تقدمونها لطلبة العلم، وخاصة طلبة التفسير وعلوم القرآن؟
د. الرومي: في القرآن لأهل القرآن غنى عن كل نصيحة إلا أن تكون النصيحة للحثِّ على إدراك هذا المعنى؛ فعليهم أن يثوِّروا القرآن بإعمال الذهن فيه وتدبُّره؛ فإنه كنز لا يفنى، وهو مأدبة الله؛ فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم.
وأستغفر الله مما في قولي من الخطأ والزلل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.[/font][/size]
• إن استقراء الأحداث وتاريخ أمتنا يؤكد أنها مرت بحالة أسوأ مما هي عليه الآن، ولكن القرآن كان هو منقذها من كل ذلك .
• الإعجاز العلمي حقيقة قرآنية تنبئ عن واقع القرآن، أما التفسير العلمي فهو واقع المفسِّر وليس القرآن .
• من أراد أن يستلهم نصوص القرآن ودلالاتها فدونه "تفسير ابن كثير"، ومن أراد أن يقتفي ظلاله ويُحَلِّق في آفاقه فدونه "الظلال" لسيد قطب، ومن أراد أن تُبْهِرَه بلاغة القرآن وفصاحته فدونه "التحرير والتنوير" لابن عاشور .
حاوره: زهير ريالات
الأستاذ الدكتور فهد بن عبدالرحمن الرومي.. سعدنا به حين وفد علينا للمشاركة في المؤتمر القرآني الثاني الذي أقامته جمعية المحافظة على القرآن الكريم في شهر شعبان/ آب الماضي، وقد سبقه ذِكْرُه العطر وصِيتُه النديُّ بسنوات -خاصة في الأوساط الجامعية والمجالس العلمية- مُفَسِّراً رائداً ومُتخصِّصاً في الاتجاهات الحديثة في التفسير، وكان لا بد من اغتنام فرصة اللقاء به، فكان هذا اللقاء الذي طوَّفنا فيه حول بعض القضايا التي تهم المتخصصين والمهتمين بتفسير كتاب الله عز وجل..
وُلِدَ ضيفنا في الرياض عام (1371هـ- 1952م)، وفيها درس جميع المراحل التعليمية، وتخرَّج في كلية الشريعة عام (1393هـ- 1973م)، ثم حصل على درجة الماجستير من كلية أصول الدين عام (1400هـ- 1980م)، وكان عنوان الرسالة: (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير)، وهي مطبوعة، ثم حصل على درجة الدكتوراه أيضاً من كلية أصول الدين عام (1405هـ- 1985م)، وكان عنوان الرسالة: (اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر)، وهي مطبوعة في ثلاثة مجلدات.
وفي مجال العمل الوظيفي فقد تقلَّب ضيفنا في عدد من الوظائف التعليمية في وزارة المعارف (وزارة التربية والتعليم)، حيث شارك في عدد من اللجان التعليمية، وفي تأليف عدد من المقررات الدراسية في التعليم العام وتحفيظ القرآن الكريم وتعليم الكبار ومحو الأمية، وشارك في وضع بعض المناهج والمفردات لمقرَّرات الكليات، وفي مناقشة عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه، وتحكيم البحوث المقدمة للنشر أو للترقية، وله مشاركات في الإذاعة والصحافة والتلفزة، كما شارك في العديد من المؤتمرات في عدة دول عربية وإسلامية.
ومن مؤلفاته عدا الرسائل العلمية :
خصائص القرآن الكريم.
دراسات في علوم القرآن الكريم.
بحوث في أصول التفسير ومناهجه.
الصلاة في القرآن الكريم.
قصة عقيدة.
البدهيات في القرآن الكريم (دراسة نظرية).
البدهيات في الحزب الأول من القرآن الكريم (دراسة استقرائية) .
التفسير الفقهي في القيروان.
منهج المدرسة الأندلسية في التفسير.
وجوه التحدي والإعجاز في الأحرف الهجائية المقطعة.
مسألة خلق القرآن وموقف علماء القيروان منها.
قول الصحابي في التفسير الأندلسي.
تطبيق الحدود الشرعية وأثره على الأمن.
تحريف المصطلحات القرآنية في القرن الرابع عشر.
الفرقان: ارتبط اسمكم بما يسمى (بدهيات القرآن)، وأنتم من الداعين إلى دراستها، وقد بدأ الباحثون فعلاً بهذا الأمر، نرجو منكم إعطاءنا تعريفاً بها وبأنواعها مع التمثيل لو تكرمتم.
د. الرومي: تستوقف المتدبر عند تلاوة القرآن بعض النصوص القرآنية، أذكر منها نوعين:
الأول: آيات ظاهرة المعنى لا يخفى معناها على أحد، بل إن وضوح معناها وظهوره معلوم قطعيّاً لا لبس فيه؛ مما يدعو القارئ إلى أن يتساءل عن الحكمة من ظهورها هذا الظهور، وذِكْرِها على هذه الدرجة من الوضوح، ومنها ما يذكر قضية لا يختلف فيها اثنان، بل هي أمر بدهي يدركه الإنسان من فوره وعلى البديهة، خذ مثلاً قوله تعالى: {فخرَّ عليهم السقف من فوقهم} [النحل:26]، وتأمل ما الذي تضيفه جملة {من فوقهم}؛ إذ عُلم أن السقف لا يكون إلا من فوق؟! وقوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام:38]، ومن البدهي أن الطير لا يطير إلا بجناحيه! وقوله سبحانه: {أو كَصَيِّب من السماء} [البقرة:19]، والصَّيِّب لا يكون إلا من السماء! ونحو ذلك فهو كثير.
وقد كتبت في ذلك بحثين مختصرين ليكونا بطاقة دعوة للباحثين لدراسات شاملة وهو موضوع يحتاج إلى معرفة وتمكُّن من علم البلاغة وأسرارها.
والبدهيات في القرآن الكريم أنواع حاولت تقسيمها إلى أقسام ذكرت منها:
1. البدهية الحسابية؛ كقوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} [البقرة:196]، وعشرة نتيجة بدهية لثلاثة وسبعة لا تحتاج إلى إعمال ذهن؛ فما الحكمة من التصريح بها؟!
2. البدهية اللغوية؛ كقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} [الإسراء:1]، والإسراء لا يكون إلا ليلاً، ومع هذا صرَّح بالليل بعدها! وكقوله سبحانه: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [العنكبوت:76]، والعيث: أشد الفساد ويدل عليه!
3. البدهية في الأمر المعتاد؛ كقوله تعالى: {من كان في المهد صبيّاً} [مريم:29]، فقوله: {في المهد} يدل على الطفولة والصبا؛ فما فائدة ذِكْر {صبيّاً} بعدها؟! وكقوله سبحانه: {أمواتٌ غير أحياء} [النحل:21]، وقوله: {لَتُبَيِّنُنَّه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران:187]، وقوله: {وما كنت لديهم إذ يُلقون أقلامهم أيهم يكفُل مريم} [آل عمران:44]، ومعلوم قطعاً أنه لم يكن لديهم، ولم يَدَّعِ أحدٌ ذلك؛ فما الحكمة من نفيه؟! وكقوله: {ذلكم قولكم بأفواهكم} [الأحزاب:4]، ومعلوم أن القول لا يكون إلا بالأفواه.
النوع الثاني: مما يوقف المتدبرَ القيودُ التي نراها في بعض الأحكام الشرعية، والتي يُعلم عدم الأخذ بها أو إعمالها؛ مما يدعو المتدبر إلى السؤال عن الحكمة من ذِكْرها ما دامت مهملة أو عديمة الأثر في الحكم، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {ولا تُكْرِهوا فتياتكم على البِغاء إن أردن تحصُّنا} [النور:33]، ومعلوم أن إكراهها لا يجوز سواء أرادت التحصُّن أم لم ترد! وكقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء:31]، ومعلوم أن قتل الأولاد لا يصح خشي الإملاق أو لم يخشه! وكقوله: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} [النساء:23]، والربيبة: هي بنت الزوجة. ومعلوم أنها تحرم على زوج أمها سواءً كانت في حِجْره أم لم تكن! وكقوله سبحانه: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} [النساء:101]، ومعلوم أن قَصْرَ الصلاة في السفر غير مشروط بالخوف؛ إذ هو جائز مع الخوف والأمن! ويدخل تحت هذا النوع أكثر من عشرين نوعاً مما يطول ذِكْره. وهذه الوجوه عند تأملها تكشف أوجهاً بلاغيه جديدة؛ مما يكشف عن أن وجوه الإعجاز في القرآن متجددة.
وهذا النوع من المباحث الأصولية في باب المنطوق والمفهوم، ومن المباحث التفسيرية والبلاغية والعقائدية، وفيه مباحث ومسائل عديدة تتسع لعدة رسائل في كل علم.
الفرقان: ظهر في العصر الحديث العديد من المدارس التفسيرية كان من أشهرها مدرسة محمد عبده. وقد انقسم الناس في الحكم على هذه المدرسة بين مادح وقادح. ما رأيكم بهذه المدرسة، وهل كان لها دور في تجديد الفكر الإسلامي بشكل عام، وعلم التفسير بشكل خاص؟
د. الرومي: هذا سؤال تحتاج إجابته إلى مجلدات.. ذكرتُ في مقدمة رسالتي (منهج المدرسة العقلية الحديثة) أن وضع الأمة الإسلامية يُحَتِّم على علمائها وحكمائها تلمُّس علاجها بعد تشخيص دائها. وأن استقراء الأحداث وتاريخ هذه الأمة يؤكد أنها مرت بحالة أسوأ من حالها؛ فنزل القرآن وأخرجها بل وأنقذها من أدنى درجات الجاهلية إلى أن صارت خير أمة أُخرجت للناس. وصارت صاحبة السيف والقلم، واتسعت فتوحاتها حتى بلغت مشارق الأرض ومغاربها؛ فما بالها تنحط في هذا العصر إلى هذه الدرجة من التفكُّك والتحلل؟!
لا شك أن هذا يرجع إلى الاختلاف في طريقة قراءة القرآن وتلقيه، أصبحنا في هذا العصر نقرأ القران لمجرد التعبد بتلاوته ونيل الأجر والثواب الذي وُعِدْنا به؛ الحرف بعشر حسنات، لا يتجاوز ذلك إلا من شاء الله وهم قليل!
من مِنّا -إلا من شاء الله- يشعر بأن ما يقرؤه من قرآن إنما هو تكليف يُناط بعاتقه، وعليه أن يُحوِّله إلى قرآن مرئي يسير به ويعمل به؟! لقد كان الجيل الأول يشعر بهذا المعنى؛ فلم يكن أحدهم يتجاوز عشر آيات حتى يتعلم ما فيها من العلم والعمل، وكان أحدهم يقرأ القرآن وهو يشعر أن الله يخاطبه ويناجيه؛ فكان تحت هذا الشعور يتحول إلى طاقة قرآنية يهون تحتها كل عبء، ويتحطم دونها كل عائق؛ فتحول الجيل إلى جيل قرآني فريد، كيف لا ورسوله قدَّم النموذج الأكمل للتخلُّق بالقرآن حين قالت زوجته عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن".
إن قراءة القرآن الصحيحة تحتاج إلى أن نزيل هذا الركام من المعاني التي تعوق انقداح شرارة الطاقة وتُقيِّدها، وقد حاولت بعض المدارس التفسيرية ذلك إلا أن بعضها يخرج من ركام ويهيل ركاماً آخر.. نجد بعض هذه المدارس تُحذِّر من رواية (الإسرائيليات) وتُشنِّع على قائلها، ثم نجدها تغرق في النقل من التوراة والإنجيل مباشرة، ومنهم من أغرق التفسير بالمباحث الفقهية أو البلاغية أو التفسير العلمي!
وهذه المدرسة (مدرسة محمد عبده) كغيرها من المدارس لها إيجابيات ولها سلبيات؛ فمن مدح نظر إلى الإيجابيات، ومن ذمَّ نظر إلى السلبيات، ونحن هنا نتحدث عن المنهج لا عن الأفراد.
كما أن للمدرسة أثر ظاهر في تجديد الفكر الإسلامي بشكل عام والتفسير بشكل خاص، إلا أن التجديد ينبغي أن يلتزم بضوابط، وأن يُحدَّ له حدٌّ، وإلا خرج إلى التغيير والتبديل، وهذا وذاك هو ما حدث من بعض تلاميذ هذه المدرسة.
الفرقان: من اتجاهات التفسير التي ظهرت في العصر الحديث: الاتجاه العلمي؛ أي تفسير القرآن تفسيراً علميّاً وفق معطيات العلم الحديث. ما رأيكم فيه، وما الشروط التي يجب الأخذ بها حتى يكون مقبولاً، وما الفرق بين مصطلحي الإعجاز العلمي والتفسير العلمي؟
د. الرومي: مخاطبة الناس بما يعرفون أصل من أصول الدعوة، ويتسع نطاق المعرفة هذا ليشمل اللغة التي بها يتكلمون، والعلوم التي يدركون، والأعراف والعادات والعقائد التي يعتقدون؛ ولذا جاء القرآن بلسان عربي مبين، ودعاهم إلى النظر إلى الإبل كيف خُلقت؟! ولم يدعهم إلى النظر إلى الفيلة والزرافات وإن كانت الدعوة عامة.
لذا فإن على الداعية أن يخاطب كل قوم بلسانهم ومداركهم ومعارفهم، والعصر الحديث عصر نهضة علمية واختراعات واكتشافات صناعية وطبية وفلكية وغير ذلك؛ ومن ثَمَّ على دعاة العصر ومفسري القرآن الكريم منهم أن يسلكوا أقرب الطرق الممكنة لإقناع البشرية بهذا القرآن؛ فإذا كانت الاكتشافات العلمية سبيلاً إلى ذلك -وفي القرآن ما يدل عليها- وفي كشف ذلك إظهار لمكانة القرآن ومنزلته؛ فلا ضير في ذلك، بل هو مما ينبغي لنجذب بذلك قلوباً لا تعرف الإيمان، ونُرسِّخ الإيمان في قلوب مؤمنة.
وهذا المسلك مسلك زلق يحتاج إلى أناة ورويَّة؛ فالإنسان فيه لا يتكلم عن حدِّ علمه، بل هو يتكلم -حسب اعتقاد مستمعيه- عن مُقرَّرات قرآنية؛ لذا ينبغي على المفسر أن يُدرك ذلك ويعيه، وليحذر من القول بلا علم، فإنما هي الرواية عن الله، وعليه أن يختار العبارات الدقيقة، ولا يبالغ في تقرير ما لم يثبت.
ولذا وضع العلماء شروطاً للتفسير العلمي وأرى أن من أهمها:
1. أن لا تطغى تلك المباحث على المقصود الأول من القرآن الكريم -وهو الهداية-؛ فتصبح هذه العلوم من الركام الذي يُثقل كاهل الهداية القرآنية، كما أشرت في جواب السؤال السابق.
2. أن يُراعى في ذِكْر هذه المباحث تعميق الشعور الديني للمسلم والدفاع عن العقيدة الإسلامية.
3. أن لا تُذكر هذه المسائل على أنها هي التفسير الذي لا يدلُّ النص القرآني على سواه، بل تُذكر لتوسِّع مدلول النص القرآني، وللاستشهاد بها على وجه لا يُؤثِّر بطلانها فيما بعد على قداسة النص القرآني.
كما ينبغي على المفسر -وهذا مهم- أن يستعلي بالقرآن؛ فلا يستجدي موافقة النظريات العلمية لآياته فيُكَيِّف -إن لم نقل يتلاعب- بالنص القرآني حتى يوافق تلك النظرية أو حتى الحقيقة العلمية أو ما نحسبه حقيقة؛ فالقرآن هو الأصل الذي نحتكم إليه ونرجع، وإعجازه ومكانته لا يتوقف على موافقة نظرية أو مخالفتها، بل هو ثابت قطعاً لا مراء فيه ولا شك، ومن ثم فلسنا بحاجة ضرورة إلى هذا فضلاً عن التكلُّف فيه.
وهذا ما نريده في بيان الفرق بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي؛ فالإعجاز العلمي حقيقة قرآنية تنبئ عن واقع القرآن؛ إذ لا يشك مؤمن أن القرآن لم ولن يصادم حقيقة علمية أبداً؛ لأن القرآن الكريم كلام الله العالم بحقائق العلوم، والخالق للكون والعالم بأسراره؛ فلا يمكن أن يخفى عليه شيء من أسراره، ولا يمكن أن يخالف كلامُه علمَه، أما التفسير العلمي فهو واقع المفسِّر وليس القرآن؛ فهو حسب فهم المفسِّر وإدراكه للنص القرآني والنظرية أو الحقيقة العلمية، وقد يصيب وقد يخطئ.
ولذا اقتصر بعض العلماء على الحد الأول؛ حد الإعجاز العلمي في القرآن، ولم ينزل إلى ميدان التفسير مكتفياً بهذه القناعة اليقينية، ولم يقف آخرون عند هذا الحد بل تجاوزوه إلى التفسير العلمي للأهداف التي أشرت إليها أولاً، ولا ضير في ذلك بل هو محمود إذا التُزم بالضوابط والشروط.
الفرقان: العصر الحديث أَطلق عليه بعض العلماء (عصر التفسير الموضوعي)، ودعوا إلى التوجه نحو هذا النوع من التفسير باعتباره يحقق الغاية من تفسير القرآن، وهي إصلاح الواقع على هدي القرآن ومنهجه. أما التفسير التحليلي أو التقليدي الذي يقوم على تفسير القرآن سورة سورة حسب ترتيب المصحف فيرون أنه لا يخدم هذا الهدف، ولا يَصْلُح لهذا العصر. هل توافقونهم هذا الرأي؟
د. الرومي: نزل القرآن الكريم من لدن حكيم عليم، عالم بحاجات البشرية أجمع منذ نزوله إلى يوم القيامة؛ فضمَّنه أوامره ونواهيه وأدلته وبراهينه، وما فيه العلاج كل العلاج والشفاء كل الشفاء. ومن هنا نعلم أن القرآن الكريم يشمل قضايا عديدة ومسائل كثيرة وأموراً لا تحصى عرض لها القرآن إما مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
ولذا أعتقد أنه لا يمكن الإحاطة بموضوعات القرآن وقضاياه؛ لأنها قضايا الكون كله والبشرية أجمع، لكن من الممكن أن تكتب البحوث الكثيرة في ذات الموضوعات، من غير أن نزعم الشمول أو الإحاطة؛ فللتفسير الموضوعي بداية وليس له نهاية.
ولا يمكن أن تدرس قضية من قضايا القرآن الكريم في موضع إلا وتجد تمامَها وكمالَها وأجزاءها في آيات ومواضع أخرى، وهذا التكامل في الدراسة القرآنية إنما يتحقق بالتفسير الموضوعي.
ولا غنى للتفسير الموضوعي عن التفسير التحليلي؛ فهو يقوم عليه ويستند إليه، ولا يمكن الوصول إلى التفسير الموضوعي إلا بعد تجاوز التفسير التحليلي والمرور به والاستفادة منه، ثم الوصول إلى الدراسة الشمولية للموضوع، وهو ما نسميه (التفسير الموضوعي).
الفرقان: قال الزمخشري:
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد**وليس فيها لَعَمْرِي مثل كشّاف
رغم ما قد يقال من تحفُّظ على ثنائه على "تفسيره" رحمه الله، إلا أن كلامه يدل على كثرة المصنفات في التفسير. من بين هذا الكم الهائل من كتب التفسير، ما هي التفاسير التي تنصح بقراءتها.. أولاً بالنسبة للمتخصصين في علم التفسير، ثم بالنسبة لغير المتخصصين؟
د. الرومي: جرى كثير من العلماء السابقين على الثناء على مؤلفاتهم وتفرُّدها عن غيرها وتفوقهم على الآخرين وسبقهم لهم أحياناً، وتجاوز كثير منهم ذلك إلى اختيار أسماء لمؤلفاتهم فيها ثناء وإعجاب لا يخفى.. وهذا يرجع لمفاهيم عصورهم؛ فلم يكن ذلك عندهم معيباً.
ولا أستطيع أن أحدد تفسيراً واحداً يصلح لكلِّ الناس؛ فالناس ذوو أمزجة وطبائع مختلفة فهم يختلفون في الأطعمة والأشربة والألبسة والمذاقات فلكلٍّ مذاقه، وفي العلوم كذلك منهم من يميل إلى الفقه ومنهم من يميل إلى التاريخ أو الأدب أو علم البلدان أو غير ذلك.
أما في التفسير فمن أراد أن يستلهم نصوص القرآن ومعانيها ودلالاتها وأحكامها فدونه "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير رحمه الله تعالى، ومن أراد أن يقتفي ظلال النصوص القرآنية ويُحَلِّق في آفاقها ويسير في أجوائها ويستنشق نسيمها فدونه "الظلال" لسيد قطب رحمه الله تعالى، ومن أراد أن تُبْهِرَه بلاغة القرآن وتشده فصاحته وتسلبه لُبَّه دلالات ألفاظه ومعانيه فدونه "التحرير والتنوير" لابن عاشور رحمه الله تعالى.
وفي أول هذه التفاسير الثلاثة -أعني تفسير ابن كثير- متسع للمتخصص وغير المتخصص.
الفرقان: هل من نصيحة تقدمونها لطلبة العلم، وخاصة طلبة التفسير وعلوم القرآن؟
د. الرومي: في القرآن لأهل القرآن غنى عن كل نصيحة إلا أن تكون النصيحة للحثِّ على إدراك هذا المعنى؛ فعليهم أن يثوِّروا القرآن بإعمال الذهن فيه وتدبُّره؛ فإنه كنز لا يفنى، وهو مأدبة الله؛ فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم.
وأستغفر الله مما في قولي من الخطأ والزلل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.[/font][/size]