لفتة من ابن الأثير حول تدبر معاني الآيات وفائدة ذلك في الصنعة الأدبية

إنضم
13/01/2006
المشاركات
245
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
قال رحمه الله في المثل السائر (ج1/127) : " واعلم أن المتصدي لحل معاني القرآن يحتاج إلى كثرة الدرس، فإنه كلما ديم على درسه ظهر من معانيه ما لم يظهر من قبل، وهذا شيء جربته وخبرته، فإني كنت آخذ سورة من السور وأتلوها، وكلما مر بي معنى أثبته في ورقة مفردة، حتى انتهي إلى آخرها، ثم آخذ في حل تلك المعاني التي أثبتها واحداً بعد واحد، ولا أقنع بذلك حتى أعاود تلاوة تلك السورة، وأفعل ما فعلته أولاً، وكلما صقلتها التلاوة مرة بعد مرة ظهر في كل مرة من المعاني ما لم يظهر لي في المرة التي قبلها. وسأورد في هذا الموضع سورة من السور، ثم أردفها بآيات أخرى من سور متفرقة، حتى يتبين لك أيها المتعلم ما فعلته فتحذو حذوه، وقد بدأت بالسورة أولاً، وهي سورة يوسف عليه السلام لأنها قصة مفردة برأسها، وفيها معان كثيرة.
الأول: ما ذكرته في دعاء كتاب من الكتب، وهو: وصل كتاب الحضرة السامية أحسن الله أثرها، وأعلى خطرها، وقضى من العلياء وطرها، وأظهر على يدها آيات المكارم وسورها، وأسجد لها كواكب السيادة وشمسها وقمرها. وهذا أول معنى في السورة، وقد نقلته عن قصة المنام إلى الدعاء.
ثم أبرزت هذا المعنى في صورة أخرى، وهو:أكرم النعم ما كان فيها ذكرى للعابدين، وتقدمه" إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين" فهذه النعمة هي التي تأتي بتيسير العسير، وتجلو ظلمة الخطب بالصباح المنير، فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها، إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير. ثم تصرفت في هذا المعنى فأخرجته في معرض آخر، وهو فصل من جملة تقليد يكتب من ديوان الخلافة لبعض الوزراء، فقلت:
وقد علمه أمير المؤمنين فأدنى مجلسه من سمائه، وآنسه على وحدة الانفراد بحفل نعمائه، وذلك مقام لا تستطيع الجدود أن ترقى إلى رتبته، ولا الآمال تطوف حول كعبته، ولا الشفاه أن تتشرف بتقبيل تربته، فليزد إعجاباً بما نالته مواطئ أقدامه، ولينظر إلى سجود الكواكب له في يقظته لا في منامه. ومن ذلك ما ذكرته في ذم بخيل، وهو:
لم أر كمواهب فلان ملأت أملي بطمع وعودها، وفرغت يدي من نيل وجودها فلم أحظ إلا بلامع سرابها، وكانت كدم القميص في كذابها. ومن ذلك ما ذكرته في تزكية إنسان مما رمي به، وهو: لم ترم بذنب إلا نابت البراءة له مناب الشهود، وجيء من أهلها بشهادة القميص المقدود..." أ.هـ.​
 
بارك الله فيك يا أخي الكريم على هذا الاختيار من كلام ابن الأثير .
وابن الأثير الجزري صاحب (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) من الكتاب المتميزين ، وفي قراءة كتابه هذا والنسج على منواله نفع عظيم للكاتب وطالب العلم ، فقد استطاع بتخلصه من قيود الصنعة المعيقة ، وتوظيفه لحفظه القرآن الكريم - كما هنا- ومعرفته بكثير من الأحاديث النبوية وحفظه لدواوين الشعراء الثلاثة : أبي تمام ، والبحتري ، والمتنبي أن يبلغ مبلغاً كبيراً في تاريخ النثر الأدبي العربي ، وما هذا المقطع الذي نقلته لنا هنا إلا مثالاً لحسن استفادته من القرآن الكريم في الرقي بالكتابة الأدبية .
وأذكر أول مرة طرق سمعي اسم هذا الكتاب عام 1411هـ وأنا في سيارتي متجهاً من أبها إلى النماص ، فسمعت في برنامج إذاعي من إذاعة الرياض بصوت المذيع القدير الأديب عدنان الدبسي رعاه الله كلاماً رائقاً مختاراً من هذا الكتاب ، وحديثاً عنه ، فلم أملك نفسي أن انعطفت بسيارتي بعد أن قطعت أكثر من ثلاثين كيلاً شمال أبها ، لأعود إلى مكتبة الجنوب في أبها وأشتري نسخة من المثل السائر بتحقيق محمد محي الدين عبدالحميد(1) وعدت قافلاً إلى النماص ، وبقيت أيام الأربعاء والخميس والجمعة عاكفاً على قراءة هذا الكتاب حتى أتممته ، وسعدت بها أيما سعادة ، ولا يزال هذا الكتاب من الكتب الأثيرة لدي فرحم الله مؤلفه رحمة واسعة .
ولابن الأثير طريقة بديعة في حل المنظوم من الكلام نثراً بطريقة فصلها في كتابه (حل المنظوم) جديرة بالعناية ، وله كتاب بديع آخر يجدر بالمتأدبين من طلبة العلم والكتاب أن ينظروا فيه نظر الدارس المستفيد ، وهو كتاب (الجامع الكبير) ، وقد طبع في العراق قديماً ، ويقوم الأخ الكريم الدكتور هشام الشرقاوي بتحقيقه على نسخ خطية .


ــــــــــــــــــــ
(1) طبعة عبدالحميد في مجلدين ، وتعليقاته في غاية الفائدة والاختصار ، وقد اشتريت بعدها طبعة الحوفي وزميله ، ولكن طبعة عبدالحميد عندي أحب من هذه الطبعة وإن كانت الطبعة الثانية مذيلة بكتاب ابن أبي الحديد (الفلك الدائر). وقد دارت حول كتاب (المثل السائر) معركة أدبية نافعة ، نتج عنها كتاب ابن أبي الحديد هذا ، وكتاب الصفدي (نصرة الثائر) .
 
بارك الله فيك وجعلني و إياك من المنتفعين النافعين. وانعطافك لأبها لا خسارة فيه !
 
عودة
أعلى