أثناء تطواف الواحد منا في كتب التفسير؛ يصدفه بعض اللطائف والنكت متفرقة هنا وهناك. واصطيادها وتقييدها مما يعين على الاستفادة منها؛ حتى لا تضيع وسط هذا الكم الكبير مما نقرأ ونسمع.
ولأن زكاة العلم في نشره؛ أحببت أن أشارك إخواني وأخواتي في كنوز عثرت عليها وأنا أعيش مع كتب التفسير؛ ولا يظنن أحد أن صفة (الإيثار) هي التي دفعتني لهذا الأمر؛ فبضاعتي العلمية مزجاة؛ إنما هو (الطمع) في استثارة علمائنا أعضاء الملتقى ليخرجوا لنا بضاعتهم التي في رحالهم؛ فأوفوا لنا الكيل وتصدقوا علينا إن الله يجزي المتصدقين!!!
والآن مع اللطيفة الأولى
[align=center]التطور التاريخي للكلمة[/align]
يتميز الشهاب الخفاجي -في حاشيته على تفسير البيضاوي- بوقوفه على التطور التاريخي للكلمة، وبيان التدرج في استعمالها عبر الفترات التي مرَّت بها اللغة العربية. والأمثلة على بيانه لأصل المفردة وتطورها في الاستعمال كثيرة اخترت منها المثالين التاليين:
المثال الأول: كلامه عن أصل الوضع اللغوي لكلمة: (الكتاب) وتطور معناها. قال الشهاب - في تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]-: قال الراغب (أي في كتابه "المفردات"): "الكَتْبُ: ضم أديم إلى أديم بالخياطة، يقال: (كتبت السقاء). وفي المتعارف: ضم الحروف بعضها إلى بعض، والأصل في الكتابة: النظم بالخط. وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ، لكن قد يستعار كل واحد للآخر؛ ولذا سُمِّي (كتاب الله) وإن لم يكن كتاباً..." وحاصله أن أصل حقيقته في اللغة: مطلق الضم، ثم خُصَّ بفرد منه وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض في الخط، وصار حقيقة فيه لغة أيضاً، ثم شاع في عرف اللغة إطلاقه على الخط والصحيفة المكتوب فيها، فلا يسمى قبل الكتابة كتاباً.
المثال الثاني: قال تعالى: {وَابْتَلُواْ اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِكَاحَ فِإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]. توقف الشهاب عند كلمة: {آنَستُمْ} وتكلم عن معنى الإيناس فقال: أصل معنى الإيناس: النظر من بُعد مع وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه مما يُؤنس به، ثم عمَّ في كلامهم. قال الشاعر:
آنستْ نبأةً وأفزعها القناص عصراً وقد دنا الإمساء
أي: أحست أو أبصرت... ثم استعير للتبين؛ أي: علم الشيء بيّناً؛ إذ الرُّشْد مما يُعلم ولا يُبصر.
اللطيفة الثانية
إسناد الإرادة في قصة موسى والخَضِر عليهما السلام
في قصة موسى والخَضِر عليهما السلام التي جاءت في سورة الكهف(*)؛ نرى أن الخضر عَلَّلَ خَرْقَه للسفينة بقوله: {فأردتُ أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً}[الآية:79]، وعلل قَتْلَه للغلام بقوله: {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاةً وأقرب رُحماً}[الآية:81]، وعلل إقامته لجدار اليتيمين بقوله: {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما}[الآية:82].
في الآيات السابقة نرى إسنادَ الخضر الإرادةَ أولاً إلى نفسه: {فأردتُ}، وثانياً إلى الله وإلى نفسه: {فأردنا}، وثالثاً إلى الله وحده: {فأراد ربك}! ونحن نعلم أنه ما من لفظ -بل ما من حرف- في القرآن يمكن أن يقوم غيره مقامه. فما سر هذا التغاير في الإسناد؟! هذا ما حاول المفسرون الإجابة عنه، وقد اخترتُ بعض أقوالهم مما ذكره الآلوسي رحمه الله في تفسيره "روح المعاني"..
قال رحمه الله ما مختصره: قيل: ولعل إسناد الإرادة أولاً إلى ضمير المتكلم وحده أنه الفاعل المباشر للتعييب، وثانياً إلى ضمير المتكلم ومعه غيره؛ لأن إهلاك الغلام بمباشرته وفعله، وتبديل غيره موقوف عليه وهو محض فعل الله وقدرته. وثالثاً إلى الله تعالى وحده؛ لأنه لا مدخل له عليه السلام في بلوغ الغلامين.
وقيل: إن الأول شر؛ فلا يليق إسناده إليه سبحانه وإن كان هو الفاعل جل وعلا، والثالث خير؛ فأفرد إسناده إلى الله عز وجل. والثاني ممتزج خيره -وهو تبديله بخير منه- وشره -وهو القتل-؛ فأسند إلى الله تعالى وإلى نفسه نظراً لهما.
والذي يخطر ببال العبد الفقير -أي الآلوسي- أنه روعي في الجواب حال الاعتراض وما تضمَّنه وأشار إليه؛ فلما كان الاعتراض الأول بناء على أن لام {لِتُغْرِقَ} [الآية:71] للتعليل متضمناً إسناد إرادة الإغراق إلى الخضر عليه السلام، وكان الإنكار فيه دون الإنكار فيما يليه -بناء على ما اختاره المحققون من أن {نُكْراً} [الآية:74 ] أبلغ من {إمْراً} [الآية:71]- ناسب أن يشرح بإسناد إرادة التعييب إلى نفسه المشير إلى نفي إرادة الإغراق عنها التي يشير كلام موسى عليه السلام إليها، وأن لا يأتي بما يدل على التعظيم أو ضم أحد معه في الإرادة لعدم تعظيم أمر الإنكار المحوج لأنْ يُقَابَل بما يدل على تعظيم إرادة خلاف ما حسبه عليه السلام وأنكره.
ولما كان الاعتراض الثاني في غاية المبالغة والإنكار ناسب أن يشير إلى أن ما اعتُرض عليه وبولغ في إنكاره قد أريد به أمر عظيم ولو لم يقع لم يؤمَن من وقوع خطب جسيم؛ فلذا أسند الخشية والإرادة إلى ضمير المعظِّم نفسه أو المتكلم ومعه غيره؛ فإن في إسناد الإرادة إلى ذلك تعظيماً لأمرها، وفي تعظيمه تعظيم أمر المراد، وكذا في إسناد الخشية إلى ذلك تعظيم أمرها، وفي تعظيمه تعظيم أمر المخشي.
ولما كان الاعتراض الثالث هينا جداً؛ حيث كان بلفظ لا تصلُّب فيه ولا إزعاج في ظاهره وخافيه، ومع هذا لم يكن على نفس الفعل؛ بل على عدم أخذ الأجرة عليه للاستعانة بها على إقامة جدار البدن وإزالة ما أصابه من الوهن؛ فناسب أن يلين في جوابه المقام ولا ينسب لنفسه -استقلالاً أو مشاركةً- شيئاً ما من الأفعال؛ فلذا أسند الإرادة إلى الرب سبحانه، ولم يكتف بذلك حتى أضافه إلى ضميره عليه السلام، ولا ينافي ذلك ترك النكير والعتاب؛ لأنه متعلق بمجموع ما كان أولاً من ذلك الجناب، هذا والله تعالى أعلم بحقيقة أسرار الكتاب، وهو سبحانه الموفق للصواب.
هامش:
(*) ثبت في الصحيحين أن العبد الصالح الذي جاء ذكره في هذه القصة هو الخضر عليه السلام. انظر: صحيح البخاري، بَاب (مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى فِي البَحْرِ إِلَى الخَضِرِ) وبَاب (حَدِيثِ الخَضِرِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلام)، وانظر أيضاً: صحيح مسلم، بَاب (مِنْ فَضَائِلِ الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلام).
[align=center]{وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا}[/align]قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ وَاتبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذيِنَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175-176].
قال ابن القيم رحمه الله: فشبَّه سبحانه مَن آتاه كتابه وعلَّمه العلمَ الذي منعه غيرَه، فترك العمل به واتَّبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق، بالكلب الذي هو مِن أخبث الحيوانات، وأوضعها قدراً، وأخسِّها نفساً، وهمَّته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً!
ومِن حرصه أنَّه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض؛ يتشمَّم ويستروح حرصاً وشرهاً، ولا يزال يَشُمُّ دبره دون سائر أجزائه، وإذا رميتَ إليه بحجرٍ رجع إليه ليعضه من فرط نهمته. ومِن عجيبِ أمره وحرصه أنَّه إذا رأى ذا هيئةٍ رثةٍ وثيابٍ دنيَّةٍ وحالٍ زرِيَّةٍ؛ نبحه وحمل عليه؛ كأنَّه يتصور مشاركتَه له ومنازعتَه في قُوتِه. وإذا رأى ذا هيئةٍ حسنةٍ وثيابٍ جميلةٍ ورياسةٍ؛ وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه مَن آثر الدنيا وعاجلها على اللهِ والدارِ الآخرةِ -مع وفور علمه- بالكلب في حال لهثه سِرٌّ بديعٌ؛ وهو أنَّ هذا الذي حاله ما ذكره الله -مِن انسلاخه مِن آياته واتباعه هواه- إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة؛ فهو شديد اللهف عليها. ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: "الكلبُ منقطعُ الفؤاد، لا فؤاد له، إنْ تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث؛ فهو مثل الذي يترك الهُدى، لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطعٌ". قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنَّه ليس له فؤادٌ يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها؛ فهذا يلهف على الدنيا مِن قلة صبره عنها،وهذا يلهث مِن قلة صبره عن الماء؛ فالكلب مِن أقل الحيوانات صبراً عن الماء، وإذ عطش أكل الثرى من العطش.
وعلى كلِّ حالٍ فهو مِن أشدِّ الحيوانات لهثاً؛ يلهث قائماً وقاعداً، وماشياً وواقفاً؛ وذلك لشدَّة حرصه، فحرارةُ الحرصِ في كبده توجبُ له دوام اللهث. فهكذا مشبَّهه؛ شدةُ الحرص وحرارةُ الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث؛ فإنْ حَمَلْتَ عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركتَه ولم تعظْه فهو يلهث.
قال مجاهد: "ذلك مثَل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به". وقال ابن عباس: "إنْ تحمل عليه الحكمة لم يحملْها، وإن تتركْه لم يهتدِ إلى خيرٍ؛ كالكلب إنْ كان رابضاً لهث، وإنْ طُرد لهث". وقال الحسن: "هو المنافق لا يثبت على الحقِّ، دُعي أو لم يُدْع، وُعظ أو لم يُوعظ؛ كالكلب يلهث طرداً وتركاً". وقال أبومحمد بن قتيبة: "كلُّ شيءٍ يلهثُ فإنما يلهثُ مِن إعياءٍ أو عطشٍ إلا الكلب؛ فإنَّه يلهث في حالِ الكلال وحالِ الراحة، وحالِ الصحة وحالِ المرض والعطش؛ فَضَرَبَهُ الله مثلاً لمن كذَّب بآياته، وقال: إنْ وعَظْتَه فهو ضالٌّ، وإن ترَكْتَه فهو ضالٌّ؛ كالكلب إنْ طردتَّهُ لهث، وإنْ تركْتَه على حاله لهث. ونظيره قوله سبحانه: {وَإِنْ تَدْعُوهُم إِلى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُم سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُم أَمْ أَنْتُم صَامِتُونَ} [الأعراف:193].
[align=center]التعليل اللغوي[/align]
القارئ في كثير من التفاسير اللغوية يلحظ لجوء أصحابها إلى التعليل أثناء مناقشتهم لبعض المسائل اللغوية بهدف إيضاح المعنى وزيادة الفائدة؛ فنراهم يبيِّنون معنى اللفظة ويذكرون سبب تسميتها بهذا الاسم. ومن هؤلاء المفسرين شهاب الدين الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي المسماة "عناية القاضي وكفاية الراضي". ومن أمثلة تعليلاته اللغوية:
أولاً: تعليل تسمية (الناس) بهذا الاسم: ذكر ذلك عند قوله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين} [البقرة:8]؛ فبيَّن الأقوال في هذه المسألة، وملخص كلامه أن:
1. هذه الكلمة مأخوذة من (أَنِسَ) من (الأُنس) ضد الوحشة؛ لأن الإنسان يأنس بجنسه، واستشهد على ذلك بقول الشاعر:
وما سُمِّي الإنسان إلا لأُنسـه ولا القلب إلا أنه يتقلَّب
2. هذه الكلمة مأخوذة من (آنس) بمعنى: أبصر. فسُمِّي الإنسان بذلك؛ لأنه ظاهر محسوس.
3. مِن (نَسِيَ) بالقلب؛ لقوله تعالى في آدم: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115]. قال الشاعر:
نسيت وعدك والنسيان مغتفر فاغفر فأول ناس أول الناس
ثانياً: تعليله اشتقاق (المَيْسِر): فعند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الخَمْرِ وَالمَيْسِر} [البقرة:219] ذَكَرَ أن الميسر "مصدر، وفعله: (أيسر) من اليسار؛ لأنه يأخذ ما يأخذه بيسر؛ أي: سهولة، أو الهمزة فيه للسلب؛ لأنه يسلب اليسار".
ثالثاً: بيان سبب تسمية (المسجد الأقصى) بهذا الاسم: ذكره عند قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]. قال البيضاوي في نفسير الآية: "{إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى}: بيت المقدس؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد".
قال الشهاب: "قوله (لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد). وجهٌ لتسميته بـ(الأقصى) بمعنى الأبعد؛ فهو أبعد بالنسبة إلى مَن بالحجاز، وفي "تاريخ القدس" أنه سُمِّي به لأنه أبعد المساجد التي تُزار من المسجد، وقيل: لأنه ليس وراءه موضع عبادة، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث".
[align=center]المناسبة بين سورتي الفيل وقريش[/align]
لماذا لم يكن ترتيب آيات القرآن وسوره حسب النزول أو الموضوعات أو غير ذلك مما يتطرق إليه الاحتمال؟! وللإجابة على هذا السؤال كان علم المناسبات بين الآيات والسور؛ أي: وجوه الاتصال والارتباط بين الآيات والسور. فالقرآن آخذٌ بعضه بِحُجَز بعض، وهو نَظْمٌ بديع من أوله إلى آخره، مرتَّب ترتيباً عجيباً ليس وفق أيٍّ من المعايير التي قد تخطر على البال لأول وهلة. وهو يسهم في الكشف عن بعض مظاهر إعجاز هذا القرآن العظيم (الوجيز في علوم الكتاب العزيز، الدكتور محمد المجالي، ص 195 – 202 بتصرف). ومن الأمثلة عليه: المناسبة بين سورتي الفيل وقريش؛ فالاتصال بين السورتين وثيق حتى كأنهما سورة واحدة! ولذا نعلم السرَّ في مجيء سورة قريش بعد سورة الفيل.
قال صديق حسن خان في "تفسيره": {لإيلاف قريش} [قريش:1] اللام: قيل مُتَعَلِّقة بآخر السورة التي قبلها -أي سورة الفيل-، كأنه قال سبحانه: أهلكت أصحاب الفيل لأجل تألف قريش. قال الفرَّاء: "هذه السورة متصلة بالسورة الأولى؛ لأنه ذكَّر سبحانه أهلَ مكة بعظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: {لإيلاف قريش}؛ أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش". قال الزجاج: "والمعنى: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش؛ أي: أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف".
[align=left]فتح البيان في مقاصد القرآن 7/ 553 – 554 بتصرف[/B[/align]]
[align=center]الحروف المُقَطَّعَة ومقاصد السور[/align]
تأمل سر (الم) كيف اشتملت على هذه الأحرف الثلاثة؛ فالألف إذا بُدئ بها أولاً كانت همزة، وهي أول المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط مخارج الحروف، وهي أشدها اعتماداً على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم. وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف أعني: الحلق واللسان والشفتين... مع تضمنها سراً عجيباً
وهو أن الألف البداية واللام التوسط والميم النهاية؛ فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما. وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق ونهايته وتوسطه -أي التشريع والأوامر-، فتأمل ذلك من البقرة، وآل عمران، والسجدة، والروم.
وتأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف؛ فمن ذلك: سورة (ق)، والسورة مبنية على الكلمات القافية: من ذكر القرآن، وذكر الخلق، وتكرير القول ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين قول العبد، وذكر الرقيب، وذكر السائق والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقديم بالوعيد، وذكر المتقين، وذكر القلب، والقرون، والتنقيب في البلاد، وذكر القيل مرتين، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وبسوق النخل والرزق، وذكر القوم وحقوق الوعيد. وسرٌّ آخر وهو: أن كل معاني هذه السور مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعُلُوّ.
وإذا أردت زيادة إيضاحِ هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة (ص) من الخصومات المتعددة؛ فأولها خصومة الكفار مع النبي، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانياً في شأن بنيه وحلفه ليغوينَّهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم.
فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير (ص)، وبسورة (ق) غير حرفها؟! وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف. والله أعلم.
[align=left](بدائع الفوائد لابن القيم 3/ 173-174بتصرف واختصار)[/align]
أعجبتني هذه اللطائف، وخصوصا الفائدتان المنقولتان عن الشهاب الخفاجي في حاشيته، إذ استهوتني فكرتهما جدا، أقصد التطور التاريخي للكلمة، وأصول معاني الكلمات، فهي جامعة لعلم كثير يفيد في اللغة والتفسير وغيرهما، فهل قام أحد بجمع هذه المادة واستقرائها عنده، أو عند غيره من العلماء؟
الأخ العبادي
أحمد الله عز وجل أن نالت هذه اللطائف إعجابك، وبخصوص ما يتعلق بالشهاب الخفاجي -وإن كان في إبداء رأيي تعد على علمائنا الذين نشرف بالتتلمذ عليهم عن طريق هذا الملتقى، ولكن هذه إحدى إيجابيات ملتقانا المبارك؛ أن يدلي كل واحد بما عنده والنتيجة هذا العلم الغزير الذي احتوته هذه الموسوعة القرآنية (ملتقانا) حتى غدا قبلة أهل التفسير والباحثين عن أشرف العلوم أسأل الله أن يجزي القائمين عليه جنة عرضها السماوات والأرض-.
وبعد هذه الجملة المعترضة الطويــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلة أقول: هذه اللطائف استفدتها بعد صحبة للشهاب استمرت لسنتين؛ فقد كان موضوعي الذي قدمته لرسالة الماجستير، وعندي من هذه اللطائف الكثير وإن كانت بحاجة إلى ترتيب وتنسيق، وأظن أن كل من كتب في منهج مفسر ما لا بد أن يضمن رسالته مثل هذه الأمور التي هي بالأساس أمثلة على قاعدة مطردة في منهج المفسر. ولذا أدعو الإخوة الأعضاء الذين قدموا رسائل علمية في مناهج المفسرين إلى إظهارها لعل إخواننا في الملتقى ينتفعون بها جزى الله الجميع كل خير
أشكرك أخي الكريم على الإحالة إلى رسالتك القيمة، فقد قرأت للتو تعريفك بها في منتدى الرسائل الجامعية.
وبهذا تكون أنت أولى من أوجه له سؤالي السابق:
هل قام أحد الباحثين بجمع هذه النكت اللغوية ودراستها؟
وهل هي من الكثرة بحيث تستحق الإفراد بمؤلَف؟ أم أنها إشارات عابرة متباعدة من المؤلِف؟
أعانك الله على إثقالي...
يمكنك الرجوع إلى الكتب والرسائل التالية:
- النكلاوي، فريد، (1981 م) البيان عند الشهاب الخفاجي في كتابه عناية القاضي وكفاية الراضي، مطبة الأمانة، القاهرة.
- هاشم، هاشم محمد، (1406 هـ - 1986 م) الالتفات في حاشية الشهاب، مطبعة الأمانة، القاهرة.
- القضاة، حاتم، (1997 م) الشهاب الخفاجي نحويًّا، رسالة ماجستير، جامعة مؤتة، الأردن.
- الشهاب الخفاجي وجهوده في البلاغة والنقد، القاهرة، جامعة الأزهر - كلية اللغة العربية، 1984 (رسالة دكتوراه).
- شهاب الدين الخفاجي وجهوده في اللغة، الباحث السعودي عبد الرزاق بن فراج بن دخيل الصاعديّ، 1412(الماجستير).
الأخ مصطفى سعيد حفظه الله
جزاكم الله خيرا على هذه الملاحظة، وما نقلته كان اختصاراً لكلام الآلوسي، وربما كان اختصاراً مخلاً. وأنقل هنا كلامه كاملاً لعل الفكرة تتضح أكثر.
قال الآلوسي: "فلذا أسند الخشية والإرادة إلى ضمير المعظم نفسه أو المتكلم ومعه غيره؛ فإن في إسناد الإرادة إلى ذلك تعظيماً لأمرها، وفي تعظيمه تعظيم أمر المراد، وكذا في إسناد الخشية إلى ذلك تعظيم أمرها، وفي تعظيمه تعظيم أمر المخشي. وربما يقال بناء على إرادة الضم منا: إن في ذلك الإسناد إشارة إلى أن ما يخشى وما يراد قد بلغ من العظم إلى أن يشارك موسى عليه السلام في الخشية منه".
[align=center]إعمال اللفظ في كل واحد من مفهوميه[/align]
بين الشهاب الخفاجي معنى هذه العبارة أثناء كلامه عن استعمال كلمة (السجود) بالمعنيين الحقيقي والمجازي معاً في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ منَ النَّاسِ} [الحج:18]؛ حيث ذكر أن إعمال اللفظ يعني: «جعله دالاً على معنييه الحقيقيين، أو الحقيقي والمجازي، على القول بجواز استعمال المشترك في معنييه، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه».
ودلالة اللفظ على معنييه الحقيقيين يكون عند استعمال المشترك في معنييه، وقد أشار الشهاب إلى هذه المسألة في بعض المواضع من «حاشيته» كما في المثال التالي:
قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]. قال البيضاوي: «{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة».
قال الشهاب: «الولي ضد العدو؛ فهو المحب، ومحبة العباد طاعتهم، ومحبته لهم إكرامه ... وعلى الأول يكون (فعيل) بمعنى (فاعل)، وعلى الثاني بمعنى (مفعول)؛ فهو مشترك؛ فتفسير المصنف رحمه الله له بهما إما بناء على جواز استعمال المشترك في معنييه، وإما باستعماله في أحدهما وإرادة الآخر؛ لأنه لازم له، كما قيل: ما جزاء من يُحِب إلا أن يُحَب».
وأما دلالة اللفظ على معنييه الحقيقي والمجازي فهو استعماله في حقيقته ومجازه كما في المثال التالي: قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} [التوبة:74]. قال البيضاوي -في بيان سبب نزول هذه الآية-: «روي أنه صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين، فقال الجُلاَس بن سويد: لئن كان ما يقول محمد لإخواننا حقاً؛ لَنَحْنُ شرّ من الحمير، فبلغ رسول الله؛ فاستحضره فحلف بالله ما قاله فنزلت؛ فتاب الجلاس وحسنت توبته».
قال الشهاب -بعد أن خرّج الحديث وأعطى تعريفاً مختصراً بالجُلاَس وضبط اسمه-: «إسناد الحلف في الآية للجميع مع صدوره عن الجلاس وحده؛ لأنهم رضوا به واتفقوا عليه، فهو من إسناد الفعل إلى سببه، أو جعل الكل لرضاهم به كأنهم فعلوه، إذ لولا رضاهم ما باشره، ولا حاجة إلى عموم المجاز لأن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز في المجاز العقلي وليس محلاً للخلاف».
وهكذا نرى الشهاب يجمع بين الحقيقة والمجاز، ويرى جواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ولعله يقصر ذلك على المجاز العقلي فقط، كما رأينا هنا عندما قيّد الجواز بالمجاز العقلي، وهذا القيد ذكره الشهاب أيضاً في موضع سابق عندما تكلم عن مسألة (التوسع في الظروف) فقال: «الجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز الحكمي [المجاز الحكمي هو نفسه المجاز العقلي، وسمي حكمياً؛ لأن المجاز ليس في ذوات الكلم وأنفس الألفاظ، ولكن في أحكام أجريت عليها. انظر: معجم المصطلحات البلاغية وتطورها ص598] ليس محل الخلاف» [حاشية الشهاب (1/100)]. وقال أيضاً -أثناء كلامه عن قضية نسبة الفعل الواحد إلى فاعلين مختلفين باعتبارين مختلفين أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً-: «والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز العقلي سائغ شائع». [حاشية الشهاب (3/183)].
ذَكَرَ العلماء أن أحسن طرق التفسير أن يُفَسَّرَ القرآنُ بالقرآن؛ فما أُجْمِلَ في موضع فقد فُسِّرَ في موضع آخر. ثم تفسير القرآن بالسنة، ثم بأقوال الصحابة والتابعين، ثم بالاجتهاد. وبالنسبة لكيفية (تفسير القرآن بالقرآن) فقد بَيَّن العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي -في مقدمة تفسيره (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)- أنواعاً كثيرة لذلك منها:
1. تفسير اللفظ بلفظ أشهر منه وأوضح، كقوله تعالى في حجارة قوم لوط: (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) [الحجر: 74]. فإنه بيّن أن المراد بالسجيل: الطين، وذلك في قوله تعالى: (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين . لنرسل عليهم حجارة من طين) [الذاريات: 32-33].
2. بيان الإجمال الواقع بسبب إبهام. ومن أمثلته قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات) [البقرة: 37]؛ فقد أبهمها هنا وذكرها في قوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف:23].
3. بيان الإجمال الواقع بسب اشتراك (وهو أن يكون للفظ الواحد أكثر من معنى). ومن أمثلته قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) [البقرة: 7]؛ فإن الواو في: (وعلى سمعهم) و(وعلى أبصارهم) محتملة للعطف على ما قبلها وللاستئناف. ولكنه تعالى بيّن -في قوله: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة) [الجاثية: 3]- أن قوله: (على سمعهم) معطوف على (على قلوبهم)، وأن قوله (وعلى أبصارهم غشاوة) جملة مُسْتَأْنَفَة مبتدأ وخبر؛ فيكون الختم على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار.
4. أن يُذكَر وقوعُ شيء، ثم يُذكر في محل آخر كيفيةُ وقوعه، كقوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده) [البقرة: 51]؛ فإنه لم يبين هنا كيفية الوعد بها: هل كانت مجتمعة أو مُفَرَّقة؟ فبيّنها في قوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) [الأعراف: 142].
5. أن يُذكَر أمرٌ أو نهي في موضع، ثم يُبَيَّن في موضع آخر هل حصل الامتثال أو لا؟ ومثاله: (وقلنا لهم لا تعدوا في السبت) [النساء: 154]؛ فقد بيَّن أنهم لم يمتثلوا بقوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) [البقرة:65].
6. أن يُحيل تعالى إلى شيء ذكر في آية أخرى. ومن أمثلته: (وعلى الذين هادوا حرَّمنا ما قصصنا عليك) (النمل: 118]. والمراد به ما قصَّ عليه في قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرَّمنا كل ذي ظُفُر...) [الأنعام: 146].
[align=center]تفسير القرآن بالقرآن[/align]
ذَكَرَ العلماء أن أحسن طرق التفسير أن يُفَسَّرَ القرآنُ بالقرآن؛ فما أُجْمِلَ في موضع فقد فُسِّرَ في موضع آخر. ثم تفسير القرآن بالسنة، ثم بأقوال الصحابة والتابعين، ثم بالاجتهاد. وبالنسبة لكيفية (تفسير القرآن بالقرآن) فقد بَيَّن العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي -في مقدمة تفسيره (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)- أنواعاً كثيرة لذلك منها:
1. تفسير اللفظ بلفظ أشهر منه وأوضح، كقوله تعالى في حجارة قوم لوط: (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) [الحجر: 74]. فإنه بيّن أن المراد بالسجيل: الطين، وذلك في قوله تعالى: (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين . لنرسل عليهم حجارة من طين) [الذاريات: 32-33].
2. بيان الإجمال الواقع بسبب إبهام. ومن أمثلته قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات) [البقرة: 37]؛ فقد أبهمها هنا وذكرها في قوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف:23].
3. بيان الإجمال الواقع بسب اشتراك (وهو أن يكون للفظ الواحد أكثر من معنى). ومن أمثلته قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) [البقرة: 7]؛ فإن الواو في: (وعلى سمعهم) و(وعلى أبصارهم) محتملة للعطف على ما قبلها وللاستئناف. ولكنه تعالى بيّن -في قوله: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة) [الجاثية: 3]- أن قوله: (على سمعهم) معطوف على (على قلوبهم)، وأن قوله (وعلى أبصارهم غشاوة) جملة مُسْتَأْنَفَة مبتدأ وخبر؛ فيكون الختم على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار.
4. أن يُذكَر وقوعُ شيء، ثم يُذكر في محل آخر كيفيةُ وقوعه، كقوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده) [البقرة: 51]؛ فإنه لم يبين هنا كيفية الوعد بها: هل كانت مجتمعة أو مُفَرَّقة؟ فبيّنها في قوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة) [الأعراف: 142].
5. أن يُذكَر أمرٌ أو نهي في موضع، ثم يُبَيَّن في موضع آخر هل حصل الامتثال أو لا؟ ومثاله: (وقلنا لهم لا تعدوا في السبت) [النساء: 154]؛ فقد بيَّن أنهم لم يمتثلوا بقوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) [البقرة:65].
6. أن يُحيل تعالى إلى شيء ذكر في آية أخرى. ومن أمثلته: (وعلى الذين هادوا حرَّمنا ما قصصنا عليك) (النمل: 118]. والمراد به ما قصَّ عليه في قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرَّمنا كل ذي ظُفُر...) [الأنعام: 146].
[align=center]لطائف من قوله تعالى:
(إياك نعبد وإياك نستعين) (الفاتحة:5)[/align]
• لماذا انتقل الخطاب في سورة الفاتحة من أسلوب الغائب في قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين) إلى أسلوب المخاطَب في (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)؟!
• لماذا قُدِّم المفعول فقيل: (إياك نعبد) مع أن الأصل تقديم الفعل: (نعبد إياك)؟!
• لماذا كُرِّر الضمير (إياك)؟!
• لماذا قُدِّمت العبادة على الاستعانة؟!
قال المفسرون -رحمهم الله- إجابةً على ذلك:
"لمّا ذَكَر اللهُ تعالى الحقيقَ بالحمد، ووصَفه بصفات عظام تميّز بها من سائر الذوات؛ تعلَّق العلم بمعلوم معيّن فخوطب بذلك، أي: يا من هذا شأنه، نخصُّك بالعبادة والاستعانة؛ ليكون أدلَّ على الاختصاص، وللترقي من البرهان إلى العَيَان. ومن عادة العرب التفنّن في الكلام، والعدول من أسلوب إلى آخر تنشيطاً للسامع، فَتَعْدِل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس، كقوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه...) (فاطر: 9).
وقُدِّم المفعول للتعظيم والاهتمام به، وللدلالة على الحصر (فلا نعبد إلا الله، ولا نستعين إلا بالله)، والتنبيه على أن العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولاً وبالذات، ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه، بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه، ووصلةٌ بينه وبين الحق.
وتكرير الضمير للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة، ولإبراز الاستلذاذ بالمناجاة والخطاب.
وقُدِّمت العبادة لأن تقديمَ الوسيلة قبل طلب الحاجة أقربُ إلى الإجابة، ولأن العبادة من حقوق الله تعالى، والاستعانة من حقوق المستعين، ولأن العبادة واجبة حتماً، والاستعانة تابعة للمستعان فيه".
[align=left](المقتطف من عيون التفاسير (1/ 17-18بتصرف).[/align]
تأمل سر (الم) كيف اشتملت على هذه الأحرف الثلاثة؛ فالألف إذا بُدئ بها أولاً كانت همزة، وهي أول المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط مخارج الحروف، وهي أشدها اعتماداً على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم. وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف أعني: الحلق واللسان والشفتين... مع تضمنها سراً عجيباً
وهو أن الألف البداية واللام التوسط والميم النهاية؛ فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما. وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق ونهايته وتوسطه -أي التشريع والأوامر-، فتأمل ذلك من البقرة، وآل عمران، والسجدة، والروم.
وتأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف؛ فمن ذلك: سورة (ق)، والسورة مبنية على الكلمات القافية: من ذكر القرآن، وذكر الخلق، وتكرير القول ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين قول العبد، وذكر الرقيب، وذكر السائق والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقديم بالوعيد، وذكر المتقين، وذكر القلب، والقرون، والتنقيب في البلاد، وذكر القيل مرتين، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وبسوق النخل والرزق، وذكر القوم وحقوق الوعيد. وسرٌّ آخر وهو: أن كل معاني هذه السور مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعُلُوّ.
وإذا أردت زيادة إيضاحِ هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة (ص) من الخصومات المتعددة؛ فأولها خصومة الكفار مع النبي، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانياً في شأن بنيه وحلفه ليغوينَّهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم.
فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير (ص)، وبسورة (ق) غير حرفها؟! وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف. والله أعلم.
(بدائع التفسير لابن القيم بتصرف واختصار)