محمد بن إبراهيم الحمد
New member
[align=justify]
[align=center]لطائف من سيرة العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور – رحمه الله -[/align]
هو العلامة الشيخ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، ولد في ضاحية المرسى في تونس سنة 1296هـ وقيل 1297هـ بقصر جده للأم الصدر الوزير محمد العزيز بو عتور.
وقد شب في أحضان أسرة علمية، ونشأ بين أحضان والد يأمل أن يكون على مثال جده في العلم والنبوغ والعبقرية، وفي رعاية جده لأمه الوزير الذي يحرص على أن يكون خليفة في العلم والسلطان والجاه.
تلقى العلم كأبناء جيله، حيث حفظ القرآن، واتجه إلى حفظ المتون السائدة في وقته، ولما بلغ الرابعة عشرة التحق بجامع الزيتونة سنة 1310، وشرع ينهل من معينه في تعطش وحب للمعرفة، ثم برز ونبغ في شتى العلوم سواء في علوم الشريعة، أو اللغة، أو الآداب أو غيرها، بل والطب، وإتقان الفرنسية؛ فكان آية في ذلك كله.
له مؤلفات عديدة في شتى الفنون، منها تفسيره المسمى بالتحرير والتنوير، ومقاصد الشريعة، وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، وكشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، وردٌّ على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، وأصول التقدم في الإسلام، وأصول الإنشاء والخطابة، وأليس الصبح بقريب، وغيرها كثير كثير سواء كان مطبوعاً أو محفوظاً.
وكان ذا عقل جبار وذا تدفُّق وتدفُّع في العلم؛ فكأنه إذا كتب في أي فنٍّ أو موضوع - يغرف من بحر، وينحت من صخر؛ فإذا رأيت عنوان الموضوع الذي يريد الكتابة فيه قلت: ماذا سيقول؟ فإذا قرأت ما تحته رأيت العجب العجاب، لهذا فإنك تحتاج وأنت تقرأ له أن تُحضر ذهنك، ولا تتشاغل عنه.
وكان ذا أسلوب محكم النسج، شديد الأسر، يذكر بأرباب البيان الأوائل.
وكان إذا كتب استجمع مواهبه العلمية، واللغوية، والأدبية، والاجتماعية، والتاريخية، والتربوية وغيرها لخدمة غرضه الذي يرمي إليه.
ولهذا فلا غرو أن تجد في كتاباته عن أي موضوع: القصة، والحادثة التاريخية، والنكتة البلاغية، والمسألة النحوية، والأبيات الشعرية، والمقاصد الشعرية، والمناقشة الحرة، والترجيح والموازنة.
كل ذلك بأدب عالٍ، وأسلوب راق، ونفس مستريض؛ فتشعر إذا قرأت له أن هذا البحث كتبه مجموعة من المتخصيصين في فنون شتى.
توفي - رحمه الله - يوم الأحد 13 رجب 1393هـ.
وقد تولى مناصب علمية وإدارية بارزة كالتدريس، والقضاء، والإفتاء، وعضويات المجامع العلمية، وغيرها.
أولياته: اعتنى الأوَّلون بالتصنيف بالأوائل, مثل أبي هلال العسكري, والجراعي, والسيوطي, وللشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أوّليات تستحقّ الوقوف عندها, والإشارة إليها, وهي مظهر من مظاهر تميّز المترجم - رحمه الله - وهذا ما تيسَّر لديّ جمعه؛ من ذلك أنّه:
1- أوّل مَن فسَّر القرآن كاملاً في إفريقيّة, وذلك في كتابه العظيم (التحرير والتنوير)؛ وإفريقيّة اسم يشمل البلاد التونسية وما حولها, وتحديداً ما بين برقة وطنجة, وقد يطلقها البعض على القيروان كونها كانت مقرّ الإمارة, وقد سبقه إلى ذلك يحيى بن سلاّم القيرواني (ت200هـ -815م) , الذي صنَّف كتاب (التصاريف) وهو تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرَّفت معانيه, أي: في الوجوه والنظائر, غير أنَّ التفسير الكامل للقرآن الكريم كان على يد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور, فقد ادّخر الله هذا الفضل له؛ ليتوِّجهُ به, وقد أخبر بذلك السيد الحبيب الجلولي, ابن أخت الشيخ محمد الطاهر, أحد وجهاء الحاضرة التونسية, الحافظين لتراثها وتاريخها.
2- وهو أوّل مَنْ جمع بين منصب شيخ الإسلام المالكي, وشيخ الجامع الأعظم (الزيتونة).
3- وهو أوَّل مَنْ سُمِّي شيخاً للجامع الأعظم سنة (1351هـ - 1932م) ليتولَّى الإصلاحات العلمية والتعليمية, فكان أوّل شيخ لإدارة التعليم بجامع الزيتونة عوضاً عن النظارة [1] التي كانت هي المسيّرة للتعليم به.
4- وأوَّل مَنْ لُقِّبَ بشيخ الإسلام, وهو لقب تفخيمي تداولته الرئاسة الشرعية الحنفية بتونس منذ القرن العاشر الهجري, ولم يكن لدى المالكية بتونس هذا اللقب.
وقد أُطلق على رئيس المجلس الشرعي الأعلى للمالكية بصفة رسمية عليه.
5- وهو أوَّل مَنَََْ تقلَّد جائزة الدولة التقديرية للدولة التونسية ونال وسام الاستحقاق الثقافي سنة (1968م), وهو أعلى وسام ثقافي قررت الدولة التونسية إسناده إلى كلّ مفكر امتاز بإنتاجه الوافر ومؤلفاته العميقة الأبحاث, ودعوته الإصلاحية ذات الأثر البعيد المدى في مختلف الأوساط الفكرية.
وحصل على جائزة رئيس الجمهورية في الإسلاميات عامي (1972م - 1973م).
6- وهو أوَّل مَنْ أحيا التصنيف في مقاصد الشريعة في عصرنا الحالي بعد العزّ بن عبدالسلام (ت 660هـ) والشاطبي (790هـ).
7- وهو أوَّل مَن أدخل إصلاحات تعليميّة وتنظيميّة في الجامع الزيتوني في إطار منظومة تربوية فكرية, صاغها في كتابه: (أليس الصبح بقريب) الذي ألفه في بواكير حياته، والذي يدل على عقلية تربوية فذة، والذي كان شاهداً على الإصلاح التربوي والتعليمي الشرعي المنشود.
فأضاف إلى الدراسة موادّ جديدة كالكيمياء والفيزياء والجبر وغيرها, وأكثر من دروس الصرف, ومن دروس أدب اللغة, وشَرَع بنفسه في تدريس ديوان الحماسة, ولعلّه أول من درّس ذلك في الزيتونة.
أخلاقه وشمائله: كان الشيخ – رحمه الله – تزينه أخلاق رضية، وتواضع جم، فلم يكن على سعة اطلاعه وغزارة معارفه مغروراً كشأن بعض الأدعياء ممن لم يبلغ مستواه.
كان مترفعاً عن صغائر الأمور، إن نظرت إليه – كما يقول مترجموه - لم تقل إلا إنه رجل من النبلاء جمع بين النبل في الحسب والنسب، والنبل في العلم والأخلاق حتى قال فيه الشيخ محمد الخضر حسين: (ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم).
اشتهر –رحمه الله – بالصبر، وقوة الاحتمال، وعلو الهمة، والاعتزاز بالنفس، والصمود أمام الكوارث، والترفع عن الدنايا، تراه في كتاباته عفيف القلم،ً حلو المحاضرة، طيب المعاشرة مع تلاميذه حتى إنك لا تجد بين كتاباته رداً على أحد ممن وقف ضده موقف الخصم، بل أسبغ على كتاباته طابع العلم الذي يجب أن يُبَلِّغه، لا مظهر الردود التي تضيع أوقات طالب العلم، وتقود إلى الأحقاد والتعصب.
يقول فيه صديقه في الطلب الشيخ محمد الخضر حسين: (شب الأستاذ على ذكاء فائق، وألمعية وقادة، فلم يلبث أن ظهر نبوغه بين أهل العلم).
ويقول فيه: (وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارة العلم، وقوة النظر صفاء الذوق، وسعة الاطلاع في آداب اللغة، وأذكر أنه كان يوماً في ناحية من جامع الزيتونة ومعه أديبان من خيرة أدبائنا، وكنتُ أقرأ درساً في ناحية أخرى من الجامع، فبعث إلي بورقة بها هذان البيتان:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
تألقتِ الآدابُ كالبدر في السَّحَرْ = وقد لفظ البحران موجُهما الدرر
فما لي أرى منطيقها الآن غائباً = وفي مجمع البحرين لا يُفقد (الخضر)[/poem]وقد وصف ابن عاشور نفسه بقوله: (ولا آنَسُ برفقة ولا حديثٍ أُنْسي بمسامرة الأساتيذ والإخوان في دقائق العلم ورقائق الأدب, ولا حُبِّبَ إليِّ شيء ما حُبّبت إلىّ الخلوة إلى الكتاب والقرطاس متنكّباً كلَّ ما يجري من مشاغل تكاليف الحياة الخاصة, ولا أعباء الأمانات العامة التي حُمِّلتُها فاحتملتُها في القضاء وإدارة التعليم حالت بيني وبين أنسي في دروس تضيء منها بروق البحث الذكي, والفهم الصائب بيني وبين أبنائي الذين ما كانوا إلاَّ قرَّة عين وعدّة فخر, ومنهم اليوم علماء بارزون, أو في مطالعة تحارير أخلص فيها نجيّاً إلى الماضي من العلماء والأدباء الذين خلَّفوا لنا آثارهم الجليلة ميادين فسيحة ركضنا فيها الأفهام والأقلام مرامي بعيدة سدَّدنا إليها صائب المهام).
ووصفه أحدهم فقال: رأيتُ فيه شيخاً مهيباً يمثّل امتداداً للسلف الصالح في سمته, ودخل في عقده العاشر ولم تنل منه السنون شيئاً..
قامة سمهرية خفيفة اللحم, وعقلية شابة ثرية بحصيلتها, وقلب حافظ أصاب من علوم القدماء والمحدثين, ولسان لافظ يقدر على الخوض في كلّ شيء من المعارف, وذهن متفتّح يشقّق الحديث روافد مع وقار يزيّنه, وفضل يبيّنه, وأخلاق وشمائل حسنة تهش للأضياف وترحّب بالوارد, وتعطي في عمق لمن يريد الاغتراف من بحر كثرت مياهه, وقد ازدحمت العلوم فيه.
ووصفه الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة فقال: (كان فريداً مع تقدّم السنّ في حضور واستحضار ما يسأل عنه من مسائل؛ أذكر أنّني طلبتُ منه ذات يوم من شهر أوت (أغسطس - آب ) (1963م) بعد أن جلستُ إليه في زيارتي له بعد العصر عن وجه إعراب خفي عليّ, فإذا الإمام - رحمة الله عليه - يفيض في بيان ذلك، ويشرح الوجوه المختلفة، فيستشهد بما أوردهُ ابن هشام في (المغني) وفي (التصريح), وكأنه يقرأ في كتاب, وكذلك كان شأنه في كلِّ ما يُسأل عنه من قضايا العلم اللغوي أو الشرعي, كان خزانة علم تتنقل يجد لديه كل طالب بغيته, أعانه على حصول ذلك وبلوغ المرتبة العالية العجيبة في اشتغاله المتواصل بالمراجعة والتدريس والتحقيق والتأليف, مع صحة ذهن, وجودة طبع, وقوة عارضة, وطلاقة لسان.
والشيخ صبور على المحن, فلم يشكُ من أحد؛ رغم الحملات التي أُثير ضدّه؛ ولم أعثر في نقده العلمي على ما يمسُّ الذوق أو يخدش الكرامة, عفّ اللسان, كريم, مُحِبٌ لأهل العلم ولطلبته ولمن كان أهلاً للمحبة.
وكان في مناقشاته العلمية لا يجرح أحداً ولا يحطّ من قدره, فإذا لاحظ تهافتاً في الفكر لمَّح إلى ذلك تلميحاً؛ ولم أجد في خصوماته الفكرية ما يمسّ شخصية أحد قطّ, ورغم الحملات التي شُنَّت ضده في فتوى التجنّس وغيرها لم ينزل عن المستوى الخلقي الذي يتصف به العلماء, بل لم يُشِرْ إلى خصومه, ولم يشكُ منهم قط.
وأما عاداته ومعاملاته؛ فكان الشيخ كثير الإحسان إلى مساعديه من المستكتبين والعملة, ومن عاداته عدم تناول وجبة العشاء, فإذا حضر مأدبة تظاهر بالأكل مجاملةً).
قال داغر: (امتاز إلى جانب علمه ودأبه ومعرفته الواسعة وتحرره الفكري, بالتواضع والنفس الخيرّة والعقل الراجح والتدبير القويم).
يقول فيه الدكتور محمد الحبيب بلخوجة: (هو نمطٌ فريد من الأشياخ لم نعرف مثله بين معاصريه أو طلابه أو من كان في درجتهم من أهل العلم, إذ كان انكبابه على الدرس متميّزاً, واشتغاله بالمطالعة غير منقطع, مع عناية دائمة مستمرة بالتدوين والكتابة, وتقديم ما يحتاج إليه الناس من معارف وعلوم, وأذواق وآداب, وملاحظات وتأملات؛ فلا بدع إذا اطّرَدتْ جهودُه واستمرّ عطاؤه في مختلف مجالات الدرس والثقافة, في حقول المعرفة الشرعية الدينية, وفي الدراسات اللغوية, وفي معالجة أوضاع التعليم في الزيتونة, والعمل على إصلاحها, مع ذبّه عن الإسلام أصوله وآدابه, وتطلعه كل يوم إلى مزيدٍ من المعرفة بكلّ ما يمكن أن يقع تحت يده من كتب فريدة, ومخطوطات ومصنفات في شتّى العلوم والفنون.
وقد وهبه الله متانة علمٍ, وسعة ثقافة, وعمق نظر, وقدرة لا تفتر على التدوين والنشر, وملكات نقدية يتضح أثرها في طريقة الجمع بين الأصول والتعريفات, وما يلحق بها من ابتداعات وتصرفات, وهكذا صدرت مقالاته تحقيقاته وبحوثه وتآليفه متدفقة متوالية من غير انقطاع أو ضعف, فَنُشِر ما نُشِرَ, وبقي الكثير منها محفوظاً بخزانة آل عاشور ينتظر من يتولى نشره وطبعه وتحقيقه).
ومن لطائف ذكائه ما ذكره تلميذه أبو الحسن بن شعبان الأديب الشاعر حيث حكى عن نفسه أنه كان يحضر دروس العلامة الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في (الموطأ) وهو إذ ذاك شيخ الزيتونة, وشيخ الإسلام المالكي حوالي عام(1933م), وفي ذات مرة ناقش الشيخ ابن عاشور في مدلول لفظة لغوية, والشيخ ابن عاشور متمكِّن في مادة اللغة, متثبت في نقله, مع سمو ذوق وقدرة على الترجيح بين الأقوال, في أسلوب علمي وحُسن عرض, ولما طالت المناقشة أراد المترجم أن يفحم الشيخ ابن عاشور؛ فاخترع لوقته شاهداً شعرياً على صحّة زعمه, فأجابه الشيخ ابن عاشور بديهةً ومن الوزن والرويّ نفسه:
يروون من الشعر ما لا يوجد
ففغر فاه مبهوتاً من شدة ذكاء الشيخ وسرعة بديهته.
ولئن كانت كتب الشيخ ابن عاشور – رحمه الله – وأبحاثه كثيرة متنوعة فإن أعظمها وأشهرها وأحبها إلى قلبه تفسيره التحرير والتنوير الذي مكث في تأليفه تسعاً وثلاثين سنة؛ حيث بدأ فيه سنة 1341 وانتهى منه عام 1380هـ وختمه بكلمة عظيمة مؤثرة قال فيها: (وإن كلام رب الناس حقيق بأن يُخدم سعياً على الرأس, وما أدّى هذا الحق إلا قلم مفسر يسعى على القرطاس, وإنَّ قلمي استنَّ بشوط فسيح, وكم زُجِرَ عند الكَلالِ والإعياء زجر المنيح, وإذ قد أتى على التمام فقد حقَّ له أنْ يستريح.
وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف, فكانت مدة تأليفه تسعاً وثلاثين سنة وستة أشهر, وهي حقبة لم تَخْلُ من أشغال صارفة, ومؤلفات أخرى أفنانها وارفة, ومنازع بقريحةٍ شاربةٍ طوراً, وطوراً غارفة, وما خلال ذلك من تشتت بال, وتطور أحوال, مما لم تَخْلُ عن الشكاية منه الأجيال, ولا كُفران لله فإن نعمه أوفى, ومكاييل فضله عَلَيَّ لا تُطَفَّفُ ولا تُكْفا.
وأرجو منه تعالى لهذا التفسير أن يُنجد ويغور, وأن ينفع به الخاصة والجمهور, ويجعلني به من الذين يرجون تجارةً لن تبور.
وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسى شرقيّ مدينة تونس, وكَتَبَ محمد الطاهر ابن عاشور)[2].
صداقة ابن عاشور للشيخ محمد الخضر حسين:
لقد انعقدت بين الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ العلامة محمد الخضر حسين -1293-1377هـ - صداقة عظيمة تعد مثالاً رائعاً في صدق المودة، ورعاية الحقوق، ورقة الشعور، وحسن التذمم والوفاء، وحرارة الأشواق ونحو ذلك من المعاني الجميلة؛ فلقد كانا قرينين في طلب العلم بجامع الزيتونة، وبينهما من العمر أربع سنوات حيث ولد الخضر عام 1293 هـ، وولد الطاهر عام 1297هـ.
ولقد تعرفا على بعض في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، واستمرت صداقتهما إلى أن فارق الخضر الدنيا عام 1377 هـ..
وأما الطاهر فعاش إلى عام 1393 هـ حيث عُمِّر سبعاً وتسعين سنة.
ولقد فَرَّق الاستعمار بينهما، حيث حكم على الشيخ الخضر بالإعدام والجلاء، فخرج من تونس عام 1331 هـ وتقلَّب في عدد من البلاد ومات في مصر.
وكان كثيراً ما يكاتب الطاهر، ويرد على كتاباته، ويبعث إليه أشواقه، وتحاياه، وتهانيه إذا ما تقلد منصباً.
وهذه نماذج مختارة مما كان بينهما من مودة ومكاتبات.
1- قصيدة بعنوان (عواطف الصداقة).
بعد هجرة الشيخ الخضر من تونس عام 1331 بعث إليه صديقه محمد الطاهر بن عاشور وهو كبير القضاة بتونس رسالة مصدرة بالأبيات التالية :
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
بَعُدْتَ ونفسي في لقاك تصيدُ = فلم يُغِنِ عنها في الحنان قصيد
وخلَّفت ما بين الجوانح غصة = لها بين أحشاء الضلوع وقود
وأضحتْ أمانيْ القرب منك ضئيلةً = ومرُّ الليالي ضعفها سيزيد
أتذكر إذ ودَّعْتنا صبحَ ليلةٍ = يموج بها أنسٌ لنا وبرودُ
وهل كان ذا رمزاً لتوديع أنسنا = وهل بعد هذا البين سوف يعود
ألم ترَ هذا الدهر كيف تلاعبت = أصابعه بالدر وهو نضيد
إذا ذكروا للود شخصاً محافظاً = تجلى لنا مرآك وهو بعيدُ
إذا قيل: مَنْ للعلم والفكر والتقى = ذكرتُك إيقاناً بأَنْكَ فريد
فقل لليالي: جَدِّدي من نظامنا = فحسبك ما قد كان فهو شديد[/poem]ثم كتب تحت هذه الأبيات: (هذه كلمات جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم، فأبثها على عِلاتها، وهي وإن لم يكن لها رونق البلاغة والفصاحة فإن الود والإخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها).
ولما وصلت تلك الرسالة إلى الشيخ محمد الخضر حسين أجاب بالأبيات التالية:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أينعم لي بالٌ وأنت بعيد = وأسلو بطيف والمنام شريد
إذا أجَّجتْ ذكراك شوقيَ أُخْضِلَتْ = لعمري بدمع المقلتين خدود
بَعُدْتُ وآمادُ الحياة كثيرةٌ = وللأمد الأسمى عليَّ عهود [3]
بعدت بجثماني وروحي رهينةٌ = لديك وللودِّ الصميم قيود
عرفتُك إذ زرتُ الوزير وقد حنا = عليَّ بإقبال وأنت شهيد [4]
فكان غروبُ الشمس فجْرَ صداقةٍ = لها بين أحناء الضلوع خلود
لقيت الودادَ الحرَّ من قلب ماجدٍ = وأصدق من يُصْفي الوداد مجيد
ألم تَرْمِ للإصلاح عن قوس نافذٍ = درى كيف يُرعى طارفٌ وتليدُ
وقمتَ على الآداب تحمي قديمها = مخافةَ أن يطغى عليه جديد
أتذكر إذ كنا نباكر معهداً = حُميَّاه عِلْمٌ والسقاة أسود [5]
أتذكر إذ كنا قرينين عندما = يحين صدورٌ أو يحين ورود
فأين ليالينا وأسمارها التي = تُبلُّ بها عند الظماء كبودُ
ليالٍ قضيناها بتونسَ ليتها = تعود وجيش الغاصبين طريد[/poem]2- وهذه مقطوعة عنوانها (الوفاء بعهد الصداقة)، وقد قالها الشيخ الخضر عندما سأله بعض الأدباء: كيف كانت صلتكم بالشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس؛ فأجابه بهذه الأبيات:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أحببتُه ملءَ الفؤاد وإنما = أحببت من ملأ الودادُ فؤادَهُ
فظفرتُ منه بصاحبٍ إن يدرِ ما = أشكوه جافى ما شكوتُ رقادَه
ودريت منه كما درى مني فتىً = عرف الوفاء نجاده ووهادَه [6] [/poem]3- وهذه مقطوعة عنوانها (برقية الشوق)، قالها الشيخ محمد الخضر أثناء رجوعه من الآستانة إلى تونس سنة 1330 هـ، وقد مرت به الباخرة بالقرب من شاطئ (المرسى) حيث كان يقيم صديقه العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
قلبي يحيِّيك إذ مرت سفينتنا = تُجاه واديك والأمواج تلتطم
تحيةً أبرق الشوق الشديد بها = في سلكِ ودٍّ بأقصى الروح ينتظم[/poem] 4- وهذه قصيدة عنوانها (تهنئة بالقضاء) قالها وهو في دمشق؛ لتهنئة صديقه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عند ولايته القضاء بتونس:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
بَسَط الهناءُ على القلوب جناحا = فأعاد مسودَّ الحياة صباحا
إيهِ محيا الدهر إنك مؤنسٌ = ما افتر ثغرك باسماً وضَّاحا
وتعُدُّ ما أوحشْتَنا في غابر = خالاً بوجنتِك المضيئة لاحا
لولا سواد الليل ما ابتهج الفتى = إن آنس المصباح والإصباحا
يا طاهر الهمم احتمتْ بك خُطَّةٌ = تبغي هدىً ومروءةً وسماحا
سحبت رداء الفخر واثقة بما = لك من فؤاد يعشق الإصلاحا
ستشد بالحزم الحكيمِ إزارها = والحزم أنفس ما يكون وشاحا
وتذود بالعدل القذى عن حوضها = والعدل أقوى ما يكون سلاحا
في الناس مَنْ ألقى قِلادتها إلى = خَلفٍ فحرَّم ما ابتغى وأباحا
فأدِرْ قضاياها بفكرك إنه = فكرٌ يرد من العويص جماحا
أنسى ولا أنسى إخاءك إذ رمى = صَرْفُ الليالي بالنوى أشباحا
أسلو ولا أسلو علاك ولو أتت = لبنان تهدي نرجساً فياحا
أو لم نكن كالفرقدين تَقَارَنا = والصفو يملأ بيننا أقداحا[/poem]5- وهذه مقطوعة قالها الشيخ محمد الخضر حسين في صديقيه العلامة أحمد تيمور باشا، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، مبيناً عظيم محبته لهما، حيث قالها بعد موت أحمد تيمور، وفي وقت بُعْده عن ابن عاشور:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
تقاسم قلبي صاحبان ودِدْتُ لو = تَمَلَّـتْهما عيناي طول حياتي
وعلَّلت نفسي بالمنى فإذا النوى = تُعِلُّ الحشا طعناً بغير قناةِ
فأحمد في مصر قضى ومحمد = بتونس لا تحظى بـه لحظـاتـي
أعيش وملءُ الصدرِ وحْشَةُ مُتْرَفٍ = رَمَتْهُ يَدُ الأقدارِ في فَلَواتِ [7][/poem]6- وهذه قصيدة عنوانها (مساعي الورى شتى)، قالها مهنئاً صديقه العلامة ابن عاشور عند ولايته التدريس في جامع الزيتونة بتونس سنة 1323هـ
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
مساعي الورى شتى وكلٌّ له مرمى = ومسعى ابن عاشورٍ له الأمد الأسمى
فتى آنس الآداب أول نشئه = ِفكانت له رُوحاً وكان لها جسما
وما أدبُ الإنسانِ إلا عوائد = تخط له في لوح إحساسه رسما
فتى شب في مهد النعيم ولم تنل = زخارفه من عزمه المنتضى ثلما [8]
وفي بهجة الدنيا وخضرة عيشها = غرور لباغي المجد إن لم يفق حزما
وشاد على التحقيق صرح علومه = فما اسطاع أعداء النبوغ له هضما
ومن شد بالتفويض لله أزره = ومد شباك الجد صاد بها النجما
وذي خطة التدريس توطئة لأن = نراه وقسطاس الحقوق به يحمى [9]
رجاءٌ كرأي العين عند أولي الحجا = يوافيه كالمعطوف بالفاء لا ثُمَّا [10]
بلونا حُلى الألفاظ في سلك نطقه = فلم يَلْفِ صافي الذوق في عقدها جشما
وفي الناس مهذار تراه يلوكها = بلهجته لوك المسومة اللجما
بِطانةُ صدري صورت من إخائكم = وجاء بنان الخلدِ يرقمها رقما
وإني أرى باب المداجاة ضيقاً = فلا يسعُ النفس التي كَبُرت همَّا
وإن شِمْت في نسج القريض تخاذلاً = وآنست في مغزى فواصله وصْمَا
فزهرة فكري لا تَطيب عُصارةً = إذا نفث الإيحاش فى أضلعي سمَّا
ألم تر أزهار الربى حينَما نأت = أفانينها كان الذبول لها وسما [11][/poem]
هذه نبذة يسيرة عن سيرة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله – ومن أراد المزيد فليرجع إلى الكتب التي ترجمت له، ومنها: كتاب شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور –حياته وآثاره، تأليف د. بلقاسم الغالي.
وكتاب محمد الطاهر بن عاشور: علامة الفقه وأصوله والتفسير وعلومه، تأليف إياد خالد الطباع، وكتاب الصداقة بين العلماء لكاتب هذه السطور.
وقد كتبت هذه النبذة استجابة لطلب رواد منتدى ملتقى أهل التفسير الكرام؛ فآمل أن تحوز على رضاهم وقبولهم.
ومن الطريف أنني لما هممت بكتابة هذه اللطائف رأيت الشيخ العلامة ابن عاشور في المنام، وذلك يوم السبت 19 رمضان 1426هـ حيث رأيته وهو يقرأ في مجمع في كتابة حررها، وهي مكتوبة في صحف كبيرة أمامه.
ولما انتهى سلمت عليه، وأخبرته بمحبتي له، ودعائي له، وذكرت له أننا نترَّوى كلامه، ونحفظ بعض أشعاره، وقلت له بعضها ومن ذلك أبياته التي بعثها إلى الخضر والتي مضى ذكرها والتي يقول في مطلعها:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
بعدت ونفسي في لقاك تصيد = فلم يغن عنها في الحنان قصيد[/poem]ففرح، وكان بجانبه سائل يسأل مالاً، فأقبل علي وقال لمن معه أعطوه – يعنيني – موعاً بعد العصر.
ثم ركب في سيارته، ولم أعرف ممن معه إلا رجلاً اسمه سليمان الغنيم.
فقلت: لعل ذلك سلامة وغنم لنا جميعاً وللشيخ.
رحم الله ابن عاشور، ورفع منزلته، وجزاه خير الجزاء على ما قدم، وتجاوز عنه بلطفه وكرمه.
وجزى القائمين على هذا الملتقى ورواده خير الجزاء على حسن طرحهم، وسمو أدبهم.
[align=center]الزلفي
21/9/1426هـ[/align]
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- النظارة: هي الهيئة المشرفة على التعليم.
[2] - تفسير التحرير والتنوير 30/636-637.
[3] - يعني بالأمد الأسمى: خدمة الدين، والقيام بالدعوة، ومحاربة الاستعمار.
[4] - الوزير: هو محمد العزيز بو عتَّور (1240 - 1325) جد ابن عاشور، من كبار رجال السياسة والعلم في تونس، والبيت إشارة إلى أول لقاء بين الخضر وابن عاشور.
[5] - نباكر: نأتي مبكرين، والمعهد: جامع الزيتونة، والحميا: شدة الغضب وأوله، ويعني به هنا: النشاط، ويريد بالسقاة: أساتذة المعهد وما كان لهم من مهابة وإجلال في قلوب المتعلمين.
[6] - النجاد : ما ارتفع من الأرض ، والوهاد : ما انخفض منها.
[7] - معنى البيت يقول: إن حالي في بعدي عن هذين الصاحبين كحال رجل عاش في نعيم، ثم تحول عنه إلى صحراء جرداء لا نعيم فيها ولا خِصَب؛ فماذا ستكون حاله؟ إنها حال بؤس وشقاء، ولو أنه عاش في أول أمره في شظف عيش لهان عليه الأمر؛ فحال هذا المترف الذي تقلب في النعيم ثم تحول عنه إلى الشقاء كحالي مع صاحبيَّ؛ فبينما أنا أعيش في أنس وسرور ونعيم بسبب قربي منهما، وأُنْسي بهما إذا بي بعيد عنهما، حزين لفراقهما.
وهذا تشبيه بديع رائع.
[8] - يعني أن ابن عاشور عاش في بيت غنى وعزٍّ، ولم يثلم ذلك من عزيمته، ولم ينل من همته، وهذا دليل كمال ومروءة.
[9] - يعني أن توليه للتدريس مؤذنة لأن يتولى القضاء.
[10] - يعني أن هذا الرجاء قريب كالمعطوف بأداة العطف (الفاء) التي تفيد التعقيب لا بـ (ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي.
[11] - معنى الأبيات الثلاثة الأخيرة يقول: إذا لحظت في أبياتي هذه ضعفاً فلا تلمني؛ فالفرقة لها أثرها على القريحة.[/align]
[align=center]لطائف من سيرة العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور – رحمه الله -[/align]
هو العلامة الشيخ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، ولد في ضاحية المرسى في تونس سنة 1296هـ وقيل 1297هـ بقصر جده للأم الصدر الوزير محمد العزيز بو عتور.
وقد شب في أحضان أسرة علمية، ونشأ بين أحضان والد يأمل أن يكون على مثال جده في العلم والنبوغ والعبقرية، وفي رعاية جده لأمه الوزير الذي يحرص على أن يكون خليفة في العلم والسلطان والجاه.
تلقى العلم كأبناء جيله، حيث حفظ القرآن، واتجه إلى حفظ المتون السائدة في وقته، ولما بلغ الرابعة عشرة التحق بجامع الزيتونة سنة 1310، وشرع ينهل من معينه في تعطش وحب للمعرفة، ثم برز ونبغ في شتى العلوم سواء في علوم الشريعة، أو اللغة، أو الآداب أو غيرها، بل والطب، وإتقان الفرنسية؛ فكان آية في ذلك كله.
له مؤلفات عديدة في شتى الفنون، منها تفسيره المسمى بالتحرير والتنوير، ومقاصد الشريعة، وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، وكشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، وردٌّ على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، وأصول التقدم في الإسلام، وأصول الإنشاء والخطابة، وأليس الصبح بقريب، وغيرها كثير كثير سواء كان مطبوعاً أو محفوظاً.
وكان ذا عقل جبار وذا تدفُّق وتدفُّع في العلم؛ فكأنه إذا كتب في أي فنٍّ أو موضوع - يغرف من بحر، وينحت من صخر؛ فإذا رأيت عنوان الموضوع الذي يريد الكتابة فيه قلت: ماذا سيقول؟ فإذا قرأت ما تحته رأيت العجب العجاب، لهذا فإنك تحتاج وأنت تقرأ له أن تُحضر ذهنك، ولا تتشاغل عنه.
وكان ذا أسلوب محكم النسج، شديد الأسر، يذكر بأرباب البيان الأوائل.
وكان إذا كتب استجمع مواهبه العلمية، واللغوية، والأدبية، والاجتماعية، والتاريخية، والتربوية وغيرها لخدمة غرضه الذي يرمي إليه.
ولهذا فلا غرو أن تجد في كتاباته عن أي موضوع: القصة، والحادثة التاريخية، والنكتة البلاغية، والمسألة النحوية، والأبيات الشعرية، والمقاصد الشعرية، والمناقشة الحرة، والترجيح والموازنة.
كل ذلك بأدب عالٍ، وأسلوب راق، ونفس مستريض؛ فتشعر إذا قرأت له أن هذا البحث كتبه مجموعة من المتخصيصين في فنون شتى.
توفي - رحمه الله - يوم الأحد 13 رجب 1393هـ.
وقد تولى مناصب علمية وإدارية بارزة كالتدريس، والقضاء، والإفتاء، وعضويات المجامع العلمية، وغيرها.
أولياته: اعتنى الأوَّلون بالتصنيف بالأوائل, مثل أبي هلال العسكري, والجراعي, والسيوطي, وللشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أوّليات تستحقّ الوقوف عندها, والإشارة إليها, وهي مظهر من مظاهر تميّز المترجم - رحمه الله - وهذا ما تيسَّر لديّ جمعه؛ من ذلك أنّه:
1- أوّل مَن فسَّر القرآن كاملاً في إفريقيّة, وذلك في كتابه العظيم (التحرير والتنوير)؛ وإفريقيّة اسم يشمل البلاد التونسية وما حولها, وتحديداً ما بين برقة وطنجة, وقد يطلقها البعض على القيروان كونها كانت مقرّ الإمارة, وقد سبقه إلى ذلك يحيى بن سلاّم القيرواني (ت200هـ -815م) , الذي صنَّف كتاب (التصاريف) وهو تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرَّفت معانيه, أي: في الوجوه والنظائر, غير أنَّ التفسير الكامل للقرآن الكريم كان على يد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور, فقد ادّخر الله هذا الفضل له؛ ليتوِّجهُ به, وقد أخبر بذلك السيد الحبيب الجلولي, ابن أخت الشيخ محمد الطاهر, أحد وجهاء الحاضرة التونسية, الحافظين لتراثها وتاريخها.
2- وهو أوّل مَنْ جمع بين منصب شيخ الإسلام المالكي, وشيخ الجامع الأعظم (الزيتونة).
3- وهو أوَّل مَنْ سُمِّي شيخاً للجامع الأعظم سنة (1351هـ - 1932م) ليتولَّى الإصلاحات العلمية والتعليمية, فكان أوّل شيخ لإدارة التعليم بجامع الزيتونة عوضاً عن النظارة [1] التي كانت هي المسيّرة للتعليم به.
4- وأوَّل مَنْ لُقِّبَ بشيخ الإسلام, وهو لقب تفخيمي تداولته الرئاسة الشرعية الحنفية بتونس منذ القرن العاشر الهجري, ولم يكن لدى المالكية بتونس هذا اللقب.
وقد أُطلق على رئيس المجلس الشرعي الأعلى للمالكية بصفة رسمية عليه.
5- وهو أوَّل مَنَََْ تقلَّد جائزة الدولة التقديرية للدولة التونسية ونال وسام الاستحقاق الثقافي سنة (1968م), وهو أعلى وسام ثقافي قررت الدولة التونسية إسناده إلى كلّ مفكر امتاز بإنتاجه الوافر ومؤلفاته العميقة الأبحاث, ودعوته الإصلاحية ذات الأثر البعيد المدى في مختلف الأوساط الفكرية.
وحصل على جائزة رئيس الجمهورية في الإسلاميات عامي (1972م - 1973م).
6- وهو أوَّل مَنْ أحيا التصنيف في مقاصد الشريعة في عصرنا الحالي بعد العزّ بن عبدالسلام (ت 660هـ) والشاطبي (790هـ).
7- وهو أوَّل مَن أدخل إصلاحات تعليميّة وتنظيميّة في الجامع الزيتوني في إطار منظومة تربوية فكرية, صاغها في كتابه: (أليس الصبح بقريب) الذي ألفه في بواكير حياته، والذي يدل على عقلية تربوية فذة، والذي كان شاهداً على الإصلاح التربوي والتعليمي الشرعي المنشود.
فأضاف إلى الدراسة موادّ جديدة كالكيمياء والفيزياء والجبر وغيرها, وأكثر من دروس الصرف, ومن دروس أدب اللغة, وشَرَع بنفسه في تدريس ديوان الحماسة, ولعلّه أول من درّس ذلك في الزيتونة.
أخلاقه وشمائله: كان الشيخ – رحمه الله – تزينه أخلاق رضية، وتواضع جم، فلم يكن على سعة اطلاعه وغزارة معارفه مغروراً كشأن بعض الأدعياء ممن لم يبلغ مستواه.
كان مترفعاً عن صغائر الأمور، إن نظرت إليه – كما يقول مترجموه - لم تقل إلا إنه رجل من النبلاء جمع بين النبل في الحسب والنسب، والنبل في العلم والأخلاق حتى قال فيه الشيخ محمد الخضر حسين: (ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم).
اشتهر –رحمه الله – بالصبر، وقوة الاحتمال، وعلو الهمة، والاعتزاز بالنفس، والصمود أمام الكوارث، والترفع عن الدنايا، تراه في كتاباته عفيف القلم،ً حلو المحاضرة، طيب المعاشرة مع تلاميذه حتى إنك لا تجد بين كتاباته رداً على أحد ممن وقف ضده موقف الخصم، بل أسبغ على كتاباته طابع العلم الذي يجب أن يُبَلِّغه، لا مظهر الردود التي تضيع أوقات طالب العلم، وتقود إلى الأحقاد والتعصب.
يقول فيه صديقه في الطلب الشيخ محمد الخضر حسين: (شب الأستاذ على ذكاء فائق، وألمعية وقادة، فلم يلبث أن ظهر نبوغه بين أهل العلم).
ويقول فيه: (وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارة العلم، وقوة النظر صفاء الذوق، وسعة الاطلاع في آداب اللغة، وأذكر أنه كان يوماً في ناحية من جامع الزيتونة ومعه أديبان من خيرة أدبائنا، وكنتُ أقرأ درساً في ناحية أخرى من الجامع، فبعث إلي بورقة بها هذان البيتان:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
تألقتِ الآدابُ كالبدر في السَّحَرْ = وقد لفظ البحران موجُهما الدرر
فما لي أرى منطيقها الآن غائباً = وفي مجمع البحرين لا يُفقد (الخضر)[/poem]وقد وصف ابن عاشور نفسه بقوله: (ولا آنَسُ برفقة ولا حديثٍ أُنْسي بمسامرة الأساتيذ والإخوان في دقائق العلم ورقائق الأدب, ولا حُبِّبَ إليِّ شيء ما حُبّبت إلىّ الخلوة إلى الكتاب والقرطاس متنكّباً كلَّ ما يجري من مشاغل تكاليف الحياة الخاصة, ولا أعباء الأمانات العامة التي حُمِّلتُها فاحتملتُها في القضاء وإدارة التعليم حالت بيني وبين أنسي في دروس تضيء منها بروق البحث الذكي, والفهم الصائب بيني وبين أبنائي الذين ما كانوا إلاَّ قرَّة عين وعدّة فخر, ومنهم اليوم علماء بارزون, أو في مطالعة تحارير أخلص فيها نجيّاً إلى الماضي من العلماء والأدباء الذين خلَّفوا لنا آثارهم الجليلة ميادين فسيحة ركضنا فيها الأفهام والأقلام مرامي بعيدة سدَّدنا إليها صائب المهام).
ووصفه أحدهم فقال: رأيتُ فيه شيخاً مهيباً يمثّل امتداداً للسلف الصالح في سمته, ودخل في عقده العاشر ولم تنل منه السنون شيئاً..
قامة سمهرية خفيفة اللحم, وعقلية شابة ثرية بحصيلتها, وقلب حافظ أصاب من علوم القدماء والمحدثين, ولسان لافظ يقدر على الخوض في كلّ شيء من المعارف, وذهن متفتّح يشقّق الحديث روافد مع وقار يزيّنه, وفضل يبيّنه, وأخلاق وشمائل حسنة تهش للأضياف وترحّب بالوارد, وتعطي في عمق لمن يريد الاغتراف من بحر كثرت مياهه, وقد ازدحمت العلوم فيه.
ووصفه الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة فقال: (كان فريداً مع تقدّم السنّ في حضور واستحضار ما يسأل عنه من مسائل؛ أذكر أنّني طلبتُ منه ذات يوم من شهر أوت (أغسطس - آب ) (1963م) بعد أن جلستُ إليه في زيارتي له بعد العصر عن وجه إعراب خفي عليّ, فإذا الإمام - رحمة الله عليه - يفيض في بيان ذلك، ويشرح الوجوه المختلفة، فيستشهد بما أوردهُ ابن هشام في (المغني) وفي (التصريح), وكأنه يقرأ في كتاب, وكذلك كان شأنه في كلِّ ما يُسأل عنه من قضايا العلم اللغوي أو الشرعي, كان خزانة علم تتنقل يجد لديه كل طالب بغيته, أعانه على حصول ذلك وبلوغ المرتبة العالية العجيبة في اشتغاله المتواصل بالمراجعة والتدريس والتحقيق والتأليف, مع صحة ذهن, وجودة طبع, وقوة عارضة, وطلاقة لسان.
والشيخ صبور على المحن, فلم يشكُ من أحد؛ رغم الحملات التي أُثير ضدّه؛ ولم أعثر في نقده العلمي على ما يمسُّ الذوق أو يخدش الكرامة, عفّ اللسان, كريم, مُحِبٌ لأهل العلم ولطلبته ولمن كان أهلاً للمحبة.
وكان في مناقشاته العلمية لا يجرح أحداً ولا يحطّ من قدره, فإذا لاحظ تهافتاً في الفكر لمَّح إلى ذلك تلميحاً؛ ولم أجد في خصوماته الفكرية ما يمسّ شخصية أحد قطّ, ورغم الحملات التي شُنَّت ضده في فتوى التجنّس وغيرها لم ينزل عن المستوى الخلقي الذي يتصف به العلماء, بل لم يُشِرْ إلى خصومه, ولم يشكُ منهم قط.
وأما عاداته ومعاملاته؛ فكان الشيخ كثير الإحسان إلى مساعديه من المستكتبين والعملة, ومن عاداته عدم تناول وجبة العشاء, فإذا حضر مأدبة تظاهر بالأكل مجاملةً).
قال داغر: (امتاز إلى جانب علمه ودأبه ومعرفته الواسعة وتحرره الفكري, بالتواضع والنفس الخيرّة والعقل الراجح والتدبير القويم).
يقول فيه الدكتور محمد الحبيب بلخوجة: (هو نمطٌ فريد من الأشياخ لم نعرف مثله بين معاصريه أو طلابه أو من كان في درجتهم من أهل العلم, إذ كان انكبابه على الدرس متميّزاً, واشتغاله بالمطالعة غير منقطع, مع عناية دائمة مستمرة بالتدوين والكتابة, وتقديم ما يحتاج إليه الناس من معارف وعلوم, وأذواق وآداب, وملاحظات وتأملات؛ فلا بدع إذا اطّرَدتْ جهودُه واستمرّ عطاؤه في مختلف مجالات الدرس والثقافة, في حقول المعرفة الشرعية الدينية, وفي الدراسات اللغوية, وفي معالجة أوضاع التعليم في الزيتونة, والعمل على إصلاحها, مع ذبّه عن الإسلام أصوله وآدابه, وتطلعه كل يوم إلى مزيدٍ من المعرفة بكلّ ما يمكن أن يقع تحت يده من كتب فريدة, ومخطوطات ومصنفات في شتّى العلوم والفنون.
وقد وهبه الله متانة علمٍ, وسعة ثقافة, وعمق نظر, وقدرة لا تفتر على التدوين والنشر, وملكات نقدية يتضح أثرها في طريقة الجمع بين الأصول والتعريفات, وما يلحق بها من ابتداعات وتصرفات, وهكذا صدرت مقالاته تحقيقاته وبحوثه وتآليفه متدفقة متوالية من غير انقطاع أو ضعف, فَنُشِر ما نُشِرَ, وبقي الكثير منها محفوظاً بخزانة آل عاشور ينتظر من يتولى نشره وطبعه وتحقيقه).
ومن لطائف ذكائه ما ذكره تلميذه أبو الحسن بن شعبان الأديب الشاعر حيث حكى عن نفسه أنه كان يحضر دروس العلامة الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في (الموطأ) وهو إذ ذاك شيخ الزيتونة, وشيخ الإسلام المالكي حوالي عام(1933م), وفي ذات مرة ناقش الشيخ ابن عاشور في مدلول لفظة لغوية, والشيخ ابن عاشور متمكِّن في مادة اللغة, متثبت في نقله, مع سمو ذوق وقدرة على الترجيح بين الأقوال, في أسلوب علمي وحُسن عرض, ولما طالت المناقشة أراد المترجم أن يفحم الشيخ ابن عاشور؛ فاخترع لوقته شاهداً شعرياً على صحّة زعمه, فأجابه الشيخ ابن عاشور بديهةً ومن الوزن والرويّ نفسه:
يروون من الشعر ما لا يوجد
ففغر فاه مبهوتاً من شدة ذكاء الشيخ وسرعة بديهته.
ولئن كانت كتب الشيخ ابن عاشور – رحمه الله – وأبحاثه كثيرة متنوعة فإن أعظمها وأشهرها وأحبها إلى قلبه تفسيره التحرير والتنوير الذي مكث في تأليفه تسعاً وثلاثين سنة؛ حيث بدأ فيه سنة 1341 وانتهى منه عام 1380هـ وختمه بكلمة عظيمة مؤثرة قال فيها: (وإن كلام رب الناس حقيق بأن يُخدم سعياً على الرأس, وما أدّى هذا الحق إلا قلم مفسر يسعى على القرطاس, وإنَّ قلمي استنَّ بشوط فسيح, وكم زُجِرَ عند الكَلالِ والإعياء زجر المنيح, وإذ قد أتى على التمام فقد حقَّ له أنْ يستريح.
وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف, فكانت مدة تأليفه تسعاً وثلاثين سنة وستة أشهر, وهي حقبة لم تَخْلُ من أشغال صارفة, ومؤلفات أخرى أفنانها وارفة, ومنازع بقريحةٍ شاربةٍ طوراً, وطوراً غارفة, وما خلال ذلك من تشتت بال, وتطور أحوال, مما لم تَخْلُ عن الشكاية منه الأجيال, ولا كُفران لله فإن نعمه أوفى, ومكاييل فضله عَلَيَّ لا تُطَفَّفُ ولا تُكْفا.
وأرجو منه تعالى لهذا التفسير أن يُنجد ويغور, وأن ينفع به الخاصة والجمهور, ويجعلني به من الذين يرجون تجارةً لن تبور.
وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسى شرقيّ مدينة تونس, وكَتَبَ محمد الطاهر ابن عاشور)[2].
صداقة ابن عاشور للشيخ محمد الخضر حسين:
لقد انعقدت بين الشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ العلامة محمد الخضر حسين -1293-1377هـ - صداقة عظيمة تعد مثالاً رائعاً في صدق المودة، ورعاية الحقوق، ورقة الشعور، وحسن التذمم والوفاء، وحرارة الأشواق ونحو ذلك من المعاني الجميلة؛ فلقد كانا قرينين في طلب العلم بجامع الزيتونة، وبينهما من العمر أربع سنوات حيث ولد الخضر عام 1293 هـ، وولد الطاهر عام 1297هـ.
ولقد تعرفا على بعض في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، واستمرت صداقتهما إلى أن فارق الخضر الدنيا عام 1377 هـ..
وأما الطاهر فعاش إلى عام 1393 هـ حيث عُمِّر سبعاً وتسعين سنة.
ولقد فَرَّق الاستعمار بينهما، حيث حكم على الشيخ الخضر بالإعدام والجلاء، فخرج من تونس عام 1331 هـ وتقلَّب في عدد من البلاد ومات في مصر.
وكان كثيراً ما يكاتب الطاهر، ويرد على كتاباته، ويبعث إليه أشواقه، وتحاياه، وتهانيه إذا ما تقلد منصباً.
وهذه نماذج مختارة مما كان بينهما من مودة ومكاتبات.
1- قصيدة بعنوان (عواطف الصداقة).
بعد هجرة الشيخ الخضر من تونس عام 1331 بعث إليه صديقه محمد الطاهر بن عاشور وهو كبير القضاة بتونس رسالة مصدرة بالأبيات التالية :
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
بَعُدْتَ ونفسي في لقاك تصيدُ = فلم يُغِنِ عنها في الحنان قصيد
وخلَّفت ما بين الجوانح غصة = لها بين أحشاء الضلوع وقود
وأضحتْ أمانيْ القرب منك ضئيلةً = ومرُّ الليالي ضعفها سيزيد
أتذكر إذ ودَّعْتنا صبحَ ليلةٍ = يموج بها أنسٌ لنا وبرودُ
وهل كان ذا رمزاً لتوديع أنسنا = وهل بعد هذا البين سوف يعود
ألم ترَ هذا الدهر كيف تلاعبت = أصابعه بالدر وهو نضيد
إذا ذكروا للود شخصاً محافظاً = تجلى لنا مرآك وهو بعيدُ
إذا قيل: مَنْ للعلم والفكر والتقى = ذكرتُك إيقاناً بأَنْكَ فريد
فقل لليالي: جَدِّدي من نظامنا = فحسبك ما قد كان فهو شديد[/poem]ثم كتب تحت هذه الأبيات: (هذه كلمات جاشت بها النفس الآن عند إرادة الكتابة إليكم، فأبثها على عِلاتها، وهي وإن لم يكن لها رونق البلاغة والفصاحة فإن الود والإخاء والوجدان النفسي يترقرق في أعماقها).
ولما وصلت تلك الرسالة إلى الشيخ محمد الخضر حسين أجاب بالأبيات التالية:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أينعم لي بالٌ وأنت بعيد = وأسلو بطيف والمنام شريد
إذا أجَّجتْ ذكراك شوقيَ أُخْضِلَتْ = لعمري بدمع المقلتين خدود
بَعُدْتُ وآمادُ الحياة كثيرةٌ = وللأمد الأسمى عليَّ عهود [3]
بعدت بجثماني وروحي رهينةٌ = لديك وللودِّ الصميم قيود
عرفتُك إذ زرتُ الوزير وقد حنا = عليَّ بإقبال وأنت شهيد [4]
فكان غروبُ الشمس فجْرَ صداقةٍ = لها بين أحناء الضلوع خلود
لقيت الودادَ الحرَّ من قلب ماجدٍ = وأصدق من يُصْفي الوداد مجيد
ألم تَرْمِ للإصلاح عن قوس نافذٍ = درى كيف يُرعى طارفٌ وتليدُ
وقمتَ على الآداب تحمي قديمها = مخافةَ أن يطغى عليه جديد
أتذكر إذ كنا نباكر معهداً = حُميَّاه عِلْمٌ والسقاة أسود [5]
أتذكر إذ كنا قرينين عندما = يحين صدورٌ أو يحين ورود
فأين ليالينا وأسمارها التي = تُبلُّ بها عند الظماء كبودُ
ليالٍ قضيناها بتونسَ ليتها = تعود وجيش الغاصبين طريد[/poem]2- وهذه مقطوعة عنوانها (الوفاء بعهد الصداقة)، وقد قالها الشيخ الخضر عندما سأله بعض الأدباء: كيف كانت صلتكم بالشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس؛ فأجابه بهذه الأبيات:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أحببتُه ملءَ الفؤاد وإنما = أحببت من ملأ الودادُ فؤادَهُ
فظفرتُ منه بصاحبٍ إن يدرِ ما = أشكوه جافى ما شكوتُ رقادَه
ودريت منه كما درى مني فتىً = عرف الوفاء نجاده ووهادَه [6] [/poem]3- وهذه مقطوعة عنوانها (برقية الشوق)، قالها الشيخ محمد الخضر أثناء رجوعه من الآستانة إلى تونس سنة 1330 هـ، وقد مرت به الباخرة بالقرب من شاطئ (المرسى) حيث كان يقيم صديقه العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
قلبي يحيِّيك إذ مرت سفينتنا = تُجاه واديك والأمواج تلتطم
تحيةً أبرق الشوق الشديد بها = في سلكِ ودٍّ بأقصى الروح ينتظم[/poem] 4- وهذه قصيدة عنوانها (تهنئة بالقضاء) قالها وهو في دمشق؛ لتهنئة صديقه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عند ولايته القضاء بتونس:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
بَسَط الهناءُ على القلوب جناحا = فأعاد مسودَّ الحياة صباحا
إيهِ محيا الدهر إنك مؤنسٌ = ما افتر ثغرك باسماً وضَّاحا
وتعُدُّ ما أوحشْتَنا في غابر = خالاً بوجنتِك المضيئة لاحا
لولا سواد الليل ما ابتهج الفتى = إن آنس المصباح والإصباحا
يا طاهر الهمم احتمتْ بك خُطَّةٌ = تبغي هدىً ومروءةً وسماحا
سحبت رداء الفخر واثقة بما = لك من فؤاد يعشق الإصلاحا
ستشد بالحزم الحكيمِ إزارها = والحزم أنفس ما يكون وشاحا
وتذود بالعدل القذى عن حوضها = والعدل أقوى ما يكون سلاحا
في الناس مَنْ ألقى قِلادتها إلى = خَلفٍ فحرَّم ما ابتغى وأباحا
فأدِرْ قضاياها بفكرك إنه = فكرٌ يرد من العويص جماحا
أنسى ولا أنسى إخاءك إذ رمى = صَرْفُ الليالي بالنوى أشباحا
أسلو ولا أسلو علاك ولو أتت = لبنان تهدي نرجساً فياحا
أو لم نكن كالفرقدين تَقَارَنا = والصفو يملأ بيننا أقداحا[/poem]5- وهذه مقطوعة قالها الشيخ محمد الخضر حسين في صديقيه العلامة أحمد تيمور باشا، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، مبيناً عظيم محبته لهما، حيث قالها بعد موت أحمد تيمور، وفي وقت بُعْده عن ابن عاشور:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
تقاسم قلبي صاحبان ودِدْتُ لو = تَمَلَّـتْهما عيناي طول حياتي
وعلَّلت نفسي بالمنى فإذا النوى = تُعِلُّ الحشا طعناً بغير قناةِ
فأحمد في مصر قضى ومحمد = بتونس لا تحظى بـه لحظـاتـي
أعيش وملءُ الصدرِ وحْشَةُ مُتْرَفٍ = رَمَتْهُ يَدُ الأقدارِ في فَلَواتِ [7][/poem]6- وهذه قصيدة عنوانها (مساعي الورى شتى)، قالها مهنئاً صديقه العلامة ابن عاشور عند ولايته التدريس في جامع الزيتونة بتونس سنة 1323هـ
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
مساعي الورى شتى وكلٌّ له مرمى = ومسعى ابن عاشورٍ له الأمد الأسمى
فتى آنس الآداب أول نشئه = ِفكانت له رُوحاً وكان لها جسما
وما أدبُ الإنسانِ إلا عوائد = تخط له في لوح إحساسه رسما
فتى شب في مهد النعيم ولم تنل = زخارفه من عزمه المنتضى ثلما [8]
وفي بهجة الدنيا وخضرة عيشها = غرور لباغي المجد إن لم يفق حزما
وشاد على التحقيق صرح علومه = فما اسطاع أعداء النبوغ له هضما
ومن شد بالتفويض لله أزره = ومد شباك الجد صاد بها النجما
وذي خطة التدريس توطئة لأن = نراه وقسطاس الحقوق به يحمى [9]
رجاءٌ كرأي العين عند أولي الحجا = يوافيه كالمعطوف بالفاء لا ثُمَّا [10]
بلونا حُلى الألفاظ في سلك نطقه = فلم يَلْفِ صافي الذوق في عقدها جشما
وفي الناس مهذار تراه يلوكها = بلهجته لوك المسومة اللجما
بِطانةُ صدري صورت من إخائكم = وجاء بنان الخلدِ يرقمها رقما
وإني أرى باب المداجاة ضيقاً = فلا يسعُ النفس التي كَبُرت همَّا
وإن شِمْت في نسج القريض تخاذلاً = وآنست في مغزى فواصله وصْمَا
فزهرة فكري لا تَطيب عُصارةً = إذا نفث الإيحاش فى أضلعي سمَّا
ألم تر أزهار الربى حينَما نأت = أفانينها كان الذبول لها وسما [11][/poem]
هذه نبذة يسيرة عن سيرة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله – ومن أراد المزيد فليرجع إلى الكتب التي ترجمت له، ومنها: كتاب شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور –حياته وآثاره، تأليف د. بلقاسم الغالي.
وكتاب محمد الطاهر بن عاشور: علامة الفقه وأصوله والتفسير وعلومه، تأليف إياد خالد الطباع، وكتاب الصداقة بين العلماء لكاتب هذه السطور.
وقد كتبت هذه النبذة استجابة لطلب رواد منتدى ملتقى أهل التفسير الكرام؛ فآمل أن تحوز على رضاهم وقبولهم.
ومن الطريف أنني لما هممت بكتابة هذه اللطائف رأيت الشيخ العلامة ابن عاشور في المنام، وذلك يوم السبت 19 رمضان 1426هـ حيث رأيته وهو يقرأ في مجمع في كتابة حررها، وهي مكتوبة في صحف كبيرة أمامه.
ولما انتهى سلمت عليه، وأخبرته بمحبتي له، ودعائي له، وذكرت له أننا نترَّوى كلامه، ونحفظ بعض أشعاره، وقلت له بعضها ومن ذلك أبياته التي بعثها إلى الخضر والتي مضى ذكرها والتي يقول في مطلعها:
[poem=font="Simplified Arabic,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
بعدت ونفسي في لقاك تصيد = فلم يغن عنها في الحنان قصيد[/poem]ففرح، وكان بجانبه سائل يسأل مالاً، فأقبل علي وقال لمن معه أعطوه – يعنيني – موعاً بعد العصر.
ثم ركب في سيارته، ولم أعرف ممن معه إلا رجلاً اسمه سليمان الغنيم.
فقلت: لعل ذلك سلامة وغنم لنا جميعاً وللشيخ.
رحم الله ابن عاشور، ورفع منزلته، وجزاه خير الجزاء على ما قدم، وتجاوز عنه بلطفه وكرمه.
وجزى القائمين على هذا الملتقى ورواده خير الجزاء على حسن طرحهم، وسمو أدبهم.
[align=center]الزلفي
21/9/1426هـ[/align]
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- النظارة: هي الهيئة المشرفة على التعليم.
[2] - تفسير التحرير والتنوير 30/636-637.
[3] - يعني بالأمد الأسمى: خدمة الدين، والقيام بالدعوة، ومحاربة الاستعمار.
[4] - الوزير: هو محمد العزيز بو عتَّور (1240 - 1325) جد ابن عاشور، من كبار رجال السياسة والعلم في تونس، والبيت إشارة إلى أول لقاء بين الخضر وابن عاشور.
[5] - نباكر: نأتي مبكرين، والمعهد: جامع الزيتونة، والحميا: شدة الغضب وأوله، ويعني به هنا: النشاط، ويريد بالسقاة: أساتذة المعهد وما كان لهم من مهابة وإجلال في قلوب المتعلمين.
[6] - النجاد : ما ارتفع من الأرض ، والوهاد : ما انخفض منها.
[7] - معنى البيت يقول: إن حالي في بعدي عن هذين الصاحبين كحال رجل عاش في نعيم، ثم تحول عنه إلى صحراء جرداء لا نعيم فيها ولا خِصَب؛ فماذا ستكون حاله؟ إنها حال بؤس وشقاء، ولو أنه عاش في أول أمره في شظف عيش لهان عليه الأمر؛ فحال هذا المترف الذي تقلب في النعيم ثم تحول عنه إلى الشقاء كحالي مع صاحبيَّ؛ فبينما أنا أعيش في أنس وسرور ونعيم بسبب قربي منهما، وأُنْسي بهما إذا بي بعيد عنهما، حزين لفراقهما.
وهذا تشبيه بديع رائع.
[8] - يعني أن ابن عاشور عاش في بيت غنى وعزٍّ، ولم يثلم ذلك من عزيمته، ولم ينل من همته، وهذا دليل كمال ومروءة.
[9] - يعني أن توليه للتدريس مؤذنة لأن يتولى القضاء.
[10] - يعني أن هذا الرجاء قريب كالمعطوف بأداة العطف (الفاء) التي تفيد التعقيب لا بـ (ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي.
[11] - معنى الأبيات الثلاثة الأخيرة يقول: إذا لحظت في أبياتي هذه ضعفاً فلا تلمني؛ فالفرقة لها أثرها على القريحة.[/align]