الحلقة الأولى:
الحمد لله الذي نوّر بكتابه القلوب، وأنزله في أحسن لفظ وأعجز أسلوب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، خيرة الله من خلقه وخليله، وعلى صحابته الأبرار وآله الأطهار، والتابعين لهم بإحسان.
أحبتي في الله: إن أولى ما عنيت به القرائح والأفهام هو التدبر في كلام المولى العزيز العلام، والفحص عن حقائق التنزيل وأسرار التأويل.
إن أفضل ما عنيت له، وتعنيت أن تهتم بكتاب مولاك سبحانه، وأن تنظر في خطاباته الموجهة لك، فتقرأها كما تقرأ الرسالة توجَّه لك، فهذا هو منهج السلف مع كتاب الله.
ألا وإن من السعادة –والله- أن تعيش مع كتاب الله الكريم، فتتلوه وترتله، وتفهمه وتتدبره، وتتأمل في بلاغته وفصاحته، وترقب بديع إشاراته وعجيب انتقالاته.
وكما أن الله تعالى لا يوصف بحد يُنتهى إليه في الكمال والجلال، فكذا لا نهاية لفهم كلامه سبحانه، يضيق به الوصف والعلم، وإنما يفهم كلٌ بمقدار ما يفتح الله عليه، وكلام الله غير مخلوق، لا تبلغ نهاية فهمه فهومٌ مُحدثةٌ مخلوقة.
أحبتي في الله: سيدور حديثنا حول تدبر كلام الله تعالى، وفهم معانيه، وبالتحديد يتركز الحديث عن دقائق التفسير ولطائف المعاني وحِكم الألفاظ..
يقول الله سبحانه: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" وفي آية أخرى "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا " وقال سبحانه: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر".
كما ذم الله تعالى المعرضين عن تدبره وعقله وفهمه، قال تعالى:"ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل. فأبى أكثر الناس إلا كفورا"، وقال:"وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه..." الحديث.
وقال الحسن البصري –رحمه الله-:"والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيما أُنزلت وما يعني بها ".
وقال الحسن بن علي رضي الله عنه: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدارسونها بالليل وينفذونها بالنهار".
أحبتي في الله: إن فهم كتاب الله وتدبر آياته في المنزلة العالية، ولكن هنالك أقفال تمنع منه، ولهذا قال: "أم على قلوب أقفالها" بعد قوله سبحانه: "أفلا يتدبرون القرآن".
وأعظم هذه الأقفال هو التكذيب بالدين، أي التكذيب بيوم القيامة، وبما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – من عند الله، فهذا القفل يستحيل معه عقل وفهم، كما قال الله سبحانه:"وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً. وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً" فكيف يفقه من أُغلق عليه بالحجاب وبالأكنة وبالوقر؟!
ومن الأقفال:البدعة، وهي تغيير حقيقة الدين، فإنها من أعظم الصوارف عن تدبر القرآن بل من أعظم البواعث لتحريف آياته ومعانيه، ولهذا لا تجد صاحب بدعة في الدين إلا يحرف كتاب الله تعالى ويبدله على حسب معتقده، فهو يمشي على قاعدة ومنهج (اعتقد ثم استدل) أي يجعل الدليل من الكتاب والسنة بحسب الهوى والمذهب.
ومن الأقفال: (الهوى) والولوغ في المعاصي، فهذا ينسلخ من آيات الله، ويحرف معانيه، ويُمنع من الفهم الصحيح والاستقبال الحسن لآيات الله، فإن القرآن كلام الله وهو نور، والمعصية ظلمة، والنور والمعصية لا يجتمعان أبداً.
ومن الأقفال: أن ينكب الشخص على الدنيا، ويجعلها أكبر همه، فهذا يُصرف عن التدبر ولا ريب، قال الإمام سفيان الثوري – رحمه الله -: "لا يجتمع فهم القرآن والاشتغال بالحطام في قلب مؤمن أبداً" انتهى.
والله تعالى من صفاته أنه يغار على دينه، ومن غيرته عل دينه وكتابه أنه لا يعطي مكنون حكمته المعرض عنه وعن كلامه ودينه.
ولهذا نرى أن العالم التقي يفهم ما لا يفهمه غيره، من معاني التنزيل ومن دقائق التفسير، يُفهم ما لا يفهمه الجاهل وما لا يفهمه الفاسق وغير الصالح، قال أهل السنة: إن للتزكية والتقوى أثراً ظاهراً في فهم العلم وفي بركته لاسيما في علم الدين والقرآن.
وهذه البركة في العلم ليست مطلقة يدعيها من شاء ويقول بها ما شاء، بل إن الإنسان كلما كان للشرع أطوع، وللنبي صلى الله عليه وسلم أتبع كان فهمه وعلمه أقرب وأعمق.
فإن سألت: ما هو أفضل الطرق للكشف عن معاني التنزيل ومعرفة أسرار التأويل والوقوف على حقائق الألفاظ؟
فالجواب: أن أحسن ما يُعرف به كلام الله هو كلام الله، وأقرب ما يُفسر به القرآن هو القرآن، فما أجمله الله في آية أوضحه في أخرى، وقد يكون هذا إيضاحاً متصلاً به وقد يكون منفصلاً عنه.
فمن الأول يقول سبحانه: "ويل للمطففين" ثم قال تفسيرا لها: "الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " وكقوله تعالى: "الله الصمد" قال محمد بن كعب القُرضي: "تفسيره" لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد".
ومن البيان المنفصل أنه قال في سورة الفاتحة:"مالك يوم الدين" وبينه في سورة الانفطار بقوله:"وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذٍ لله".
فإن لم يهتد للتفسير في القرآن، فعليك بكلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – فهو أعرف الناس بكلام الله عز وجل، وهو القائم على بيانه كما قال سبحانه:"وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم" قال الإمام الشافعي – رحمه الله: "كل ما حكم به رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فهو مما فهمه من القرآن.
فإن لم تجد في كلام الله ولا كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – تفسيراً، فنقدم كلام أصحاب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم -، فهم أفقه هذه الأمة وأعلمها، وأولى من جهة التنزيل، ومن جهة اللسان، ومن جهة الخشية والتقوى، ومن جهة السماع، ومن بعد الصحابة التابعون.
فإن سألت: فإن لم يوجد تفسيرٌ بالمأثور، لا من الكتاب والسنة ولا من أقوال الصحابة والتابعين، فهل يجوز أن نذكر قولاً في معنى آية أو بيان حكمه أو استخراج لطيفة أو بيان دقائق ذلك بما لم يكن منقولاً بنصه عن السابقين؟
فالجواب عن ذلك: أن الكلام على معاني الآيات على نوعين:
نوع لا يُستغنى فيه عن النقل مثل: أسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، أو تخصيص عموم آية بآية أخرى أو الجزم بمعنى مُعيّن دون غيره مما يحتمله اللفظ.
وأما النوع الثاني: وهو مما يقبل الاجتهاد الصحيح من غير الأمور المذكورة فلا يُشترط فيه أن يكون منصوصاً عليه في الشرع، فهو باب واسع، ورزق سائغ للمتأهلين من ذوي العلم إلى يوم الدين، قال بعض السلف: " للقرآن نزول وتنزل، فالنزول قد انقضى، وأما التنزل فهو باقٍ إلى يوم القيامة.
وفي الحديث الذي رُوي مرفوعاً وموقوفاً والصحيح وقفه: أنه الذكر الحكيم الذي لا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه.
الحلقة الثانية:
في هذه الحلقة نواصل الحديث عن التدبر لكلام الله تعالى، ونُبيّن أقسام الناس منه، وكيف نتعرف على الأقوال الصحيحة في معاني الآيات وحِكَم التفسير ودقائقه.
قال الله تعالى في سورة الفرقان: "وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً" قال أهل التفسير: "والهجر للقرآن على مراتب أربع: هجر للإيمان به، وهجر للفهم والتدبر، وهجرٌ للقراءة والترتيل، وهجر للعمل انتهى.
والناس على أقسام أربعة من كتاب الله تعالى:
فمن الناس من يتلو كلام الله حق تلاوته ويتدبره ويعمل به، فهؤلاء هم السعداء حقاً - جعلنا الله منهم – وهؤلاء هم المؤمنون حقا، الذين يتلونه حق تلاوته.
ومن الناس من لا يؤمن به أصلا ولا يلتفت إليه، فلم يقرأه وينظر إليه، وإن قرأه وتفهمه فمن غير إيمان وتصديق ولو أُعجب به كما قال المشرك الجاهلي الأول: سجدت لفصاحته، وكما قال أحد أرباب الشعر الحديث: إنما أُؤمن من القرآن ببلاغته وفصاحته.
فهؤلاء قد توعدهم الله بأشد الوعيد، وبشّرهم بالذلة والعذاب يوم الدين، و قبل ذلك بشرهم الله بالخزي والضنك في الدنيا، قال الله سبحانه: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا" أي في الدنيا
"ونحشره يوم القيامة أعمى".
ومن الناس:من يؤمن بالقرآن، ولكنه لا يتلوه ولا يقرأه إلا نذرا يسيرا، وهذا –والله- هجر عظيم للقرآن، وخذلان عظيم.
ومن الناس من يؤمن بالقرآن ويتلوه، ولكن من غير تدبر وفقه في معانيه، ومن غير اعتبار وخشية، ومن كان هذا ديدنه، وهو لم يتلُ كتاب الله حق تلاوته، وفعله أشبه بفعل اليهود، الذين ذمهم الله بقوله: "لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وإن هم إلا يظنون" قال أهل التفسير: "أي يتلونه تلاوة مُجرّدة، عن الفهم والعمل.
أحبتي في الله: لقد تعددت صور تقصيرنا في تلاوة كتاب الله، فمنا مَن يقرأ القرآن وكأنه يقرأ كلام بشرٍ مثله، ومنا من يقرأ وكأن المخاطب أحداً غيره، وبعضنا يقرأ القرآن وهو ساهٍ لاهٍ غافل القلب، وأصبح كثير منا يقرأ القرآن وهمه الوصول إلى آخر السورة أو الجزء.
كان سلفنا – رضوان الله عليهم أجمعين – آية واحدة تُمرضهم، وآية واحدة تقض مضاجعهم، أما نحن فيُقرأ علينا كتاب ربنا من أوله إلى آخره، من فاتحته لخاتمته، فلا يُحرك في القلوب ساكناً.
التفكر في كتاب الله، باب مفتوح بين العبد وبين ربه، ما لم يقفله العبد بفعله، قال الحسن البصري – رحمه الله -: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الزكاة، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم وإلاّ فاعلموا أن الباب مُغلق".
التفكر براءة من النفاق، وفكاك من أسر الهوى، وجسر يصل به العبد مولاه، وما أعده الله من النعيم المقيم.
التفكر لكلام الله أشرف ما يخطر بالبال، وأطهر ما يصل إلى القلب، وأسمى ما يتعلق به العقل الواعي.
يُحيي نفوس الناس ويكشف عنها العناء.
هنالك من الناس من يذكرون الله، ولكنهم لا يفهمون معنى الذِكر، فتصبح قلوبهم بعيدة من استشعار جلال الله، وقدره حق قدره.
فإن سألتْ: كيف نصل إلى فهم بلاغة القرآن، ومعرفة حِكَمه؟ وكيف نصل إلى معرفة الدقائق في التفسير، واللطائف في التأويل؟
فالجواب: قال العلماء: إن مآخذ التفسير خمسة: القرآن ثم السنة ثم أقوال الصحابة والسلف المأخذ الخامس التفسير بالمقتضى من معنى الكلام، والمقتضى من قوة الشرع، أي ما يُفهم من اللغة ومن الشرع بلطيف الدلالة، ودقيق المعنى، وما ينقدح في النفس عند سماع الآية مُستنداً على الدليل.
قالوا: وهذا النوع هو الذي دعا به النبي – صلى الله عليه وآله وسلم –لابن عباس–رضي الله عنه – بقوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وهو الذي عناه علي بن أبي طالب –رضي الله عنه– بقوله: (إلا فهما يؤتيه الله تعالى رجلا في كتابه) عندما سُئل: هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – بشيء؟
فإن قلتَ: ما علامة صحة التفسير بالرأي والاجتهاد، وصواب الحِكَم والدقائق واللطائف المُستنبطة من الآيات، وكيف نُميّز ما يصح منها وما لا يصح؟
فالجواب: لابد لهذا من شروط خمسة:
أولها: الموافقة للسان العربي، فإن كان التفسير لم يشهد له اللسان العربي، فهو تفسير باطل؛ لأن القرآن نزل بلسان العرب، وعلى أساليب بلاغتهم ووصفه الله بذلك، في قوله تعالى: "لسانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي، وهذا لسانٌ عربي مُبين".
ومن هنا نعرف بطلان القول: بأنه يوجد في القرآن أسرار لا يعرفها إلا أشخاص بأعيانهم، يُزعم أنهم من الخواص، أو أنهم من الأولياء، يقولون في القرآن بهواهم وأذواقهم.
ويُعرف كذلك بطلان الاعتماد على التفسير المبني على كل ما يُخالف لسان العرب ولم يكن معهودا عندهم، مثل حساب الجُمل، ومثل الرمز الذي لا يرتبط بلغة صحيحة،كقول بعضهم: "المر" معناها: أنا الله الرحمن الرحيم.
الشرط الثاني: أن يكون للتفسير شاهد من الشرع يدل عليه، فإن كان مخالفاً للشرع يُعد مردودا على صاحبه، وإن من قواعد التفسير المعلومة: أن من شرط صحة التفسير بالرأي والاجتهاد، ألا يُخالف التفسير بالمأثور.
فإذا قلنا في الآية: الحكمة كذا وكذا، أو المقصد منها كذا، ولم يشهد لهذا نص أو قاعدة عامة أو خاصة فلا يُقبل هذا القول.
الشرط الثالث: ألا يُخالف التفسير تفسير جمع علماء السلف، ولا يُضاد منهجهم في فهم الذين، فهم أعلم هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن مُلزمون باتباع منهجهم، ونحن نقول في كل صلاة: "اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم" والمنعم عليهم من هذه الأمة هم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – والصحابة بشهادة الله تعالى لهم.
ولو فُسر لفظٌ أو آيةٌ من القرآن بما يُخالف تفسير الصحابة وهديهم، لرددنا هذا التفسير، فلو قال قائل في قوله تعالى: "واذكر اسم ربك" أي قل: الله، الله، الله تعبداً وتقرباً إلى الله، لحكمنا أن هذا التفسير باطل؛ لمخالفته الصريحة لفهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – والصحابة، فلم يؤثر عنهم ذكراً مُفرداً.
الشرط الرابع: إذا كان التفسير لم يُنقل عن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولم تدل عليه اللغة صراحة، فإننا نذكر هذا التفسير غير جازمين بأنه مراد الله، فلا نقول: مراد الله كذا إلا باليقين، لكن نقول: من الفوائد كذا؛ لأن هذا مقتضى التدبر والتفكر والاجتهاد، أما مقام الجزم فهو مقام النقل والنص.
الشرط الخامس: أن يكون المتكلم في معنى الآية عالماً أو ينقل عن العلماء. صحيحٌ أن كل شخص له أن يتدبر ويتفكر في كلام الله، بل هو مأمور بذلك ؛ لأن الله تعالى قد أمر بذلك أمراً عاماً، لم يستثنِ منه أحداً، وهذا بلا شك من خصائص كلام الله المعجز، أن يفهمه كل شخص بقدر ما آتاه الله، فهذا مقام التدبر.
وأما مقام البيان للغير، والتفسير لكلام الله للناس، فهذا لابد فيه من أن يعلمه الشخص علماً صحيحاً ثابتاً باتفاق العلماء.
وقد ذكر العلماء أنه يجب على المتكلم في الآيات، أن يكون عالماً بأسباب النزول، وعارفاً بالناسخ والمنسوخ، وإلا وقع في الغلط. ذكر ابن تيمية – رحمه الله – في المنهاج وغيره: "أن عليًّا –رضي الله عنه– رأى رجلاً يقص في المسجد، وكأنه يتطرق لمعاني القرآن فقال له: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: إذاً أنت أبو اعرفوني، أي تريد الشهرة.
الحلقة الثالثة:
في هذه الحلقة نتناول الحديث عن الاستعاذة، أي الاستعاذة من الشيطان، وهي قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو قولك: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فأنت إذا قلت بأحد القولين فقد أصبت ؛ لصحة وروده في السنة، وإن قلت هذا مرة وهذا مرة، فهذا أحسن ؛ لأن التنويع في صيغ الذكر المشروع من كمال اقتدائك بفعل رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -.
لنسأل: هل الاستعاذة آية أم ليست آية من القرآن؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ليست آية بالاتفاق، لكن الله تعالى أمرنا إذا أردنا أن نقرأ القرآن أن نستعيذ، قال تعالى: "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" أي إذا أردت أن تقرأ القرآن، كما قال تعالى: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" أي: إذا أردتم القيام للصلاة.
وبما أن لفظ الاستعاذة ليست آية، فلا يصح لك أن تقول: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بل تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم تقرأ. أو تقول: قال الله تعالى، وتقرأ الآية مُباشرة، أما إذا قلت: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأنت نسبت إلى الله كلاماً لم يقله.
ومُلحظٌ آخر: إن هذا المعنى لا يصح، أي لا يصح أن تنسب الاستعاذة لله عز وجل، يعني أن الله لا يستعيذ من الشيطان الرجيم، ولا من غيره من المخلوقات، فالله هو ذو القوة المتين، والذي يستعيذ هو العبد الفقير، أما القوي القادر فلا يستعيذ، فلا يصح نسب الاستعاذة إلى الله تعالى بحال.
قال أهل اللغة:عاذ به يعوذ، أي لاذ به ولجأ إليه واعتصم، وعُذتُ بفلان واستعذتُ به أي: لجأت إليه.
وأعوذ بالله: أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو أن يصدني عن فِعل ما أُمرتُ به، ويحضني على ما نُهيت عنه.
والشيطان هو إبليس؛ لأن (أل) هنا للعهد، أي ذلك المعهود لديكم، والشيطان مأخوذ من شَطَن أي بَعُد عن رحمة الله، والرجيم هو المرجوم، وهو المُبعد المهان الذليل، وهذا هو أصدق وصف يستحق أن يوصف به الشيطان، الذي عصى الله تعالى وخالف أمره عناداً واستكباراً.
بعد أن تبيّن لنا معنى الاستعاذة نقف عند بعض المعاني وبعض الحِكم المستنبطة من الاستعاذة، وهذا ليس من باب التفسير، ولكنه من باب الاعتبار ومن باب التدبير ومن باب تلمس الحِكم.
نبدأ بذكر فوائد الاستعاذة وحِكمها.
قال بعض العلماء: الحكمة في مشروعية الاستعاذة، أنك تطهر لسانك قبل تلاوة كلام الله تعالى، فالإنسان قد كُتب حظه من اللغو والباطل، وربما وقع في معصية صريحة كالكذب والغيبة وقول الزور، فإذا أراد أن يتلو كتاب الله بلسانه وقد تنجس بالمعصية فلابد إذاً أن يُطَهره، كيف يُطهره؟ يكون ذلك بذِكر الله تعالى، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، فالتعوذ إذاً، يُمكن أن يُسمى تطهيراً للسان كما أن التوضؤ تطهير للبدن قبل الشروع في الصلاة.
قال بعض السلف: الحِكمة في الابتداء بالتعوذ قبل القراءة، أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة والنميمة، فأمر الله العبد بالتعوذ ليصير طاهراً، فيقرأ بلسانٍ طاهر كلاماً أنزله رب طيب. انتهى.
ومن الفوائد: أن في التعوذ قبل التلاوة دلالة على فضيلة الفرآن الكريم، فأنت لا تقرأ هذا القرآن إلا بعد أن تستعد لقراءته، وتتعوذ من الشيطان الرجيم، وهكذا كل عمل عظيم تستعد له.
ومنها أيضاً: الإشارة إلى أن التلاوة لكلام الله عبادة محضة لله، لا يُشرك معه غيره، فلهذا يُطرد الشيطان قبل التلاوة فيكون التالي لكلام الله المتعوذ مخلصاً بلسانه وقلبه، أو هكذا ينبغي أن يكون.
ومن الفوائد: أن الاستعاذة توجب على صاحبها أن يكون حاضر القلب، وأن يكون مُصغياً بسمعه للتلاوة، مُتعبداً عن الاشتغال بغير التلاوة.
لماذا؟
لأنك إذا أردت أن تقرأ قلت بلسانك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأنت إذاً أخبرت عن نفسك، أنك مُقبل على كلام الله تعالى، مُبتعداً عن الشيطان، وعن وسوسته، مُستعيناً بالله على ذلك، فتحقيق القول بلسانك أن يوافق ذلك فعلك وعملك، وإلا كنت غير صادق في استعاذتك.
ومن فوائد الاستعاذة: أنه يعلم العبد حاجته إلى مولاه، وعدم غناه عنه ولو لحظة واحدة، فأنت أيها الإنسان لا يُمكن أن تتغلب على شيطانك لوحدك، ولست بمستطيع أن تنجو منه بقدرتك، فلابد إذاً أن تستعين بقدرةٍ أعظم من قدرتك وأعظم من قدرته.
فمن استعان بنفسه على شيطانه فقد قابل بين قدرة مخلوقٍ ومخلوق، وقد يغلب أحدهما، فإن استعان بالله واستجار بقدرته سبحانه، كانت الكفة لصالحه ؛ لأن قدرة الله ومعونته تصبح مع قدرة العبد، وكانت قدرة الشيطان في جهة، ومن كان الله معه فهو الغالب لا محالة.
ويتفرع من هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي أن المؤمنين لا يتمكنون من النصر على أعدائه من أولياء الشيطان، إلا بعد أن يستعينوا بالله وبدينه وكتابه، فتكون قدرة الله وقوته معهم.
وفي الاستعاذة: درس لأصحاب القلوب الحية، وقاعدة نافعة للمصلحين الذين يُريدون أن يسلكوا طريق الدعوة على بصيرة، وأن يُصلحوا ما أفسده غيرهم.
ففي الاستعاذة قبل القراءة بيان أن الإقدام على الطاعات لا يتوافر إلا بعد الفرار من الشيطان وغوايته، وتصفية القلوب وتهيئتها، وهذا من أنجع الوسائل لنجاح الدعوة وحصول الأثر الطيب في النفس.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا وعلمنا منه ما لم نعلم، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.
الحلقة الخامسة
الحديث في هذه الحلقة عن أول آية من فاتحة الكتاب، فاتحة كتاب الإسلام، يقول الله تعالى: "الحمد لله رب العالمين".
ما هو الحمد؟
"الحمد لله" معناه: الشكر لله خالصاً دون سائر ما يُعبد من دونه، و "الحمد لله" هو الثناء على الله بصفات الكمال له، وعظيم الأفعال الصادرة منه سبحانه، "الحمد لله" هو الثناء على الله بالوصف الجميل على وجه التعظيم والتبجيل. قال الجوهري رحمه الله: الحمد نظير الذم، والحمد أعم من الشكر. وقال غيره: الحمد هو المدح والوصف بالجميل، والحمد والمدح أخوان.
فهذه كلمات ثلاث وهي: المدح والشكر والحمد، والكلمة القرآنية هنا هي الحمد، يعني: الكلمة التي اُختيرت في هذا الموضع هي لفظ الحمد، ولهذا حكمة وسرّ، فقول الله: "الحمد لله" لا يُوازيه أي مقولة أخرى، ولا يُغني عنها ولو في المعنى أن نقول الشكر أو المدح أو غيرها. لماذا؟
قال العلماء: الفرق بين الحمد والمدح من وجوه:
الأول: أن المدح قد يحصل للحي وغير الحي، فأنتَ تقول للبستان الأنيق: مدحته. ولا تقول: حمدته ألبته، والحمد أيضا: يتعلق بالإشارة إلى إحسان المحمود عندك، وهذا ما لا يتضمنه لفظ المدح، وثالثاً: أن المدح قد يكون بحق أو بغير حق ولهذا نهي عن كثير منه، بخلاف الحمد فإنه لم يأتِ في الشرع إلا وله معنى لائق ودلالة صحيحة.
وأما الفرق بين الحمد والشكر، فإن معنى الشكر فيه قصور عن معنى الحمد ؛ لأن الشكر لا يكون إلا لأجل إحسان وصل إليكَ أنتَ بشخصك، بخلاف الحمد فهو شكر عام وصل إليكَ أم وصل إلى غيرك، وهذا هو المنطق.
وأيضاً: لم يقل في الآية الكريمة: أحمد الله. وإنما قال: "الحمد لله". لماذا؟ وما الفرق بينهما؟
قالوا: إن عبارة "الحمد لله" أجود، وتدل على معان أعظم؛ لأن القائل لو قال: أحمد الله. لأخبر بذلك عن نفسه فقط، ولفُهم منه أنه قادر على حمده. وأما لو قال: "الحمد لله" ففي هذه العبارة إيضاح أن الله محمود في الأزل وفي الأبد، حمده الحامدون أو لم يحمدوه. ولفظ "الحمد" يُنبئ عن استحقاق الله له سبحانه أي للحمد، بخلاف لفظ (أحمد) فلا تدل على الملكية والاستحقاق.
ونحن إذا تأملنا قول الله تعالى: "الحمد لله". جزمنا أن لفظ الحمد الذي جاء في القرآن هو أكمل العبارات، وهو أفضل الصيغ التي يُمكن أن تُعبر عن الثناء الجميل للمُنعم سبحانه، كيف يكون هذا؟
لنتأمل ونُركز النظر!!
"الحمدُ" جاءت أولاً مُعرفة بألف ولام، وهذه تُسمى (أل) التي لاستغراق الجنس، وهي تدل على معنى كل، ومعنى جميع، يعني: جميع المحامد، وكل المحامد فالحمد لله توازي قولك كل حمد لله. هذه واحدة.
وثانيا: "الحمد لله" جملة اسمية، والجملة الاسمية تدل على الاستمرار والدوام، فلفظ " الحمد " يُنبئ عن استمرار الحمد لله في كل آن وفي كل زمان، وهذا هو عين الصواب وعين الحكمة ؛ فإن مقتضى الحكمة أن يظل الخالق سبحانه محموداً، وأن يظل العبد حامداً شاكراً، قال ابن أبي الصلت:
وثالثاً: قال الله سبحانه: "الحمدُ " بالرفع، ولم يقل: الحمدَ بالنصب، وفرق بين الاثنين، قال سيبويه: أن الذي يرفع الحمد؛ يُخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق، وأن الذي ينصب يُخبر أن الحمد منه وحده لله تعالى.
يتلخص أن لفظ "الحمدُ" دلنا على ثلاثة أشياء في الحمد:- الأول: أن كل حمد لله وليس حمداً دون حمد. الثاني:أن هذا الحمد مستمر لا ينقطع ألبته. الثالث: أن هذا الحمد يجب أن يكون من كل مخلوق.
ننتقل إلى لفظ الجلالة "الله":
قال سبحانه:"الحمد لله" ماذا يعني هذا؟
يعني أن جميع المحامد مستحقة لله وحده، فلا يستحق الحمد حقيقة غير الله. كيف عرفنا هذا من اللفظ؟
(أل) في لفظ (الحمد) تدل على استغراق كل حمد –كما مرّ– واللام في لفظ الجلالة (لله) هي للاختصاص، أي: تُفيد حصر الحمد في ذات الله.
فقول (الحمد لله) يستلزم انحصار أفراد الحمد كلها في اسم الله تعالى؛ لأنه إذا اختص الجنس اختصت الأفراد، ولو فرض أن فرداً من أفراد الحمد استحقه غير الله لتحقق الجنس في ضمنه، ولما صح دخول لام الاختصاص عل لفظ الجلالة.
فإن قيلَ: ألا يستحق غير الله الحمد؟
قلنا: لا يستحق حقيقة الحمد إلا الله وحده، ولا يستحق الحمد حقيقة إلا الله سبحانه، يعني: لا يخلص الحمد لغير الله، ولا يكمل إلا لله. وهذا المعنى لا ينفي أن نشكر مَن أسدى إلينا المعروف، وأن نحمد الناس على جميل صفاتهم وحُسن أفعالهم، ولكن ينبغي أن نتيقظ لمسألة مهمة، وهي غاية في الدقة، وهذه المسألة: أن كل مَن استحق الحمد من البشر فإن الحمد له ناقص، وأن الحمد له موصول بحمد الله ؛ لأننا إن حمدناهم على عمل صالح فإن الذي وفقهم هو الله، وإن حمدناهم على إحسان ومعروف فإن الدافع له هو الثواب من الله، فآل الحمد كله لله.
"الحمد لله" كلمتان خفيفتان في اللسان، قليلتان في الحروف والألفاظ، ولكنهما عظيمتان جداً في المعنى والمضمون، وثقيلتان جداً في الميزان عند الله.
"الحمد لله" افتتح الله بها كتابه العزيز – القرآن الكريم – وهذا الافتتاح له دلالات عظيمة، من دلالاته: الإشارة إلى أن القرآن هو أعظم النعم وأجل الهبات الربانية للبشر؛ ولهذا أوجب أن يُستفتح بالمدح والثناء لله والتحميد والتمجيد لمُنزل القرآن صاحب النعمة.
القرآن هو كلام الله وذكره سبحانه، وهو حبل الله الذي يصل العباد بربهم ؛ فيُذكرهم بفضله وآلائه، و" الحمد لله " هو أول شعور يجيش في قلب الإنسان عند ذكر الله وعند تذكر آلائه ونعمه.
"الحمد لله " €€افتتح الله بها كتابه قولا وثناءً منه سبحانه لنفسه، إذ لا يُمكن أن يبلغ حمده حقيقة إلا نفسه. قال الإمام القرطبي رحمه الله: معنى: "الحمد لله رب العالمين" أي: سبق الحمد مني لنفسي قبل أن يحمدني أحد من العالمين. وقيل: لمّا علم سبحانه عجز عباده عن حمده حَمَدَ نفسه بنفسِه، ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: (لا أُحصي ثناءً عليك). وأنشدوا:
"الحمد لله" افتتح الله بها كتابه، وهذا تنبيه لنا أن نحمده سبحانه بما حمَدَ به نفسه. قال الإمام الطبري رحمه الله: "الحمد لله" ثناء أثنى الله به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يُثنوا عليه، كأنه قال: قولوا الحمد لله، وههنا لطيفة ينبغي أن تستوقفنا، وينبغي أن نشكر الله تعالى ونحمده عليها. هذه الطيفة: أن الله سبحانه من حكمته ورحمته بنا أن جمع لنا غاية الحمد والثناء عليه في كلمتين اثنتين (الحمد لله) ورضي لنا في هذه العبارة المختصرة أن تقوم مقام الشكر له والثناء عليه
كيف لو أوكل الله لنا الحمد؟
لو وقف الواحد منّا أمام عظيم من عظماء الدنيا، لعجز أن يثني عليه بالحق أو بالباطل، ولتكلف من الكلام الطويل ومن العبارات المُنمقة، وربما نظم القصائد ودبج الخطب. فكيف يبلغ الحمد لله وهو ولي كل نعمة وصاحب كل مزية ؟!
"الحمد لله" تعليم من الله لنا أن نستفتح عملنا بالحمد،كلامنا بالحمد،كتبنا بالحمد، خطبنا بالحمد، وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان في جميع أحواله حامدا لله، وفهم المسلمون ذلك قاطبة، ولهذا كل خطبة لم تبتدئ بحمد الله فهي خطبة جذماء عندهم، وقد لقبوا خطبة زياد بن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بـ (البتراء) ؛ لأنه لم يفتتحها بالحمد.
"الحمد لله" ذكر وفكر، عقيدة وشعور وعمل، هي ليست حروف تُلفظ وأقوال تُردد، وهي ليست عقيدة مُكتنزة لا عمل معها، قال بعض السلف في تفسير "الحمد": هو على ثلاثة أوجه:
أولها: إذا أعطاكَ الله شيئاً، تعرف مَن أعطاك. والثاني: أن ترضى بما أعطاك. والثالث: ما دامت قوته في جسدك، ألا تعصيه. فهذه شرائط الحمد.انتهى.
اللهم لكَ الحمد حتى ترضى، ولكَ الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، اللهم لك الحمد مثل ما نقول، ولك الحمد فوق ما نقول، لا نُحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيت على نفسك.
الحلقة السادسة:
الحمد هو الثناء كله لله تعالى وليس لغيره، وهذا الثناء يكون لله تعالى لجليل صفاته وعظيم أفعاله الدائرة بين العبد والفضل، وقد كان موضوع الحلقة السابقة: الكشف عن دلالات كلمة (الحمد لله)، وما تحويه من إشارات ولطائف ودقائق.
وقد خلصنا إلى أن هذه الكلمة العظيمة والآية الكريمة لا يوازيها كلمة في شكر الله، وأن "الحمد لله" هو أفضل ما ينبغي أن يُحمد به الله، وليس لفظ يوازيه في المعنى أبداً، وقد توصلنا إلى ذلك من خلال الدلالة اللغوية والأسلوب البلاغي العربي، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحمد لله تملأ الميزان" فهذا نص في أن هذه الكلمة قد بلغت الغاية في الأجر والثواب حتى ملأت الميزان، وما كانت تكون كذلك إلا لأنها قد بلغت الغاية في الثناء على الله والشكر له، فهذا من دلالة لحن الحديث وفحواه.
وقد روي عن بعض السلف رحمهم الله أنه قد ضاع له مال أو متاع فأقسم بالله تعالى إن وجد ضيعته تلك، أن يحمده بقولٍ لم يُحمد الله بمثله، ثم وجد ضيعته تلك فما كان منه إلا أن قال: الحمد لله، فقال له أصحابه: إنكَ قد قُلتَ إن رد الله لك ضيعتك لتحمدنه بقول لم يُحمد بمثله، وإنك لم تقل سوى: الحمد لله؟!! فقال هذا الرجل – وقد كان فقيهاً رحمه الله – كلمة فيها بلاغة عظيمة وهي حق محض، ماذا قال؟ قال: وهل مثل الحمد لله حمد. ونحن نقول: نعم ليس مثل الحمد لله حمد.
ننتقل إلى تفسير قوله سبحانه: "رب العالمين".
الرب هو: السيد، والرب هو: المُصلح والمُدبر والجابر، يُقال لمن قام بإصلاح شيء وأقامه: هو ربٌ له، والعالمين: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله عز وجل.
ماذا نستفيد من قوله تعالى: "رب العالمين"؟
من فوائد "رب العالمين": أن نُقر لله بالغنى المطلق، وقد فهمنا هذا من لفظ (رب) ودلالاته على ذلك التزام، يعني: لا يكون رباً حتى يكون غنياً، فإذا أضيفت الربوبية للعالمين كان الغنى في غايته التي لا يصل إليها حد.
ومن فوائدها: أن نعلم فقر العبيد إلى الله، وحاجة المخلوقين إلى الخالق، وأنه لا يوجد أحد ينفد عن تصرف الله، وعن ملكه وربوبيته، أو يكون له شيء من الاستقلالية والغنى عن الله ولو لحظة، فإن المربوب لا قيام له إلا بالرب.
ولفظ (العالم) يدل على كل ما سوى الله تعالى، فلو قال: رب العالم لدل على أن كل موجود تحت ربوبية الله، ولكن لفظ (العالمين) أكد في العموم وأعظم في الدلالة على الربوبية لله والعبودية لغيره، بحيث لا يخرج أحد عن هذه الربوبية، وبحيث لا يبقى مجال لمتأول، فيقول مثلا: العالم قد يُعنى به هذا العالم المشهود فينفي هذا التأويل وغيره لفظ "العالمين".
وهذه الفائدة والتي قبلها تتضمن تأسيس توحيد الربوبية، وإبطال مذهب المشركين بالله تعالى في ربوبيته، وهؤلاء كُثر لا كثرهم الله، ومنهم مَن ينسب الخلق إلى الطبيعة، ومنهم مَن ينسب الرزق إلى الأفلاك والنجوم، ومنهم مَن يحيل التصرف في الكون إلى الجن، ومنهم مَن يزعم أن الذي يدير هذا الكون ويتحكم فيه الأولياء والأقطاب، وهؤلاء كلهم مُفترون على الله، ويُبطل مذهبهم كله قول الحق سبحانه: "رب العالمين"
ومن فوائد "رب العالمين": بيان طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوقين، وأن هذه العلاقة قائمة على الإحسان إلى المخلوقين كما هو مُقتضى الربوبية، فالله هو ربهم وهو مُصرف أمورهم والمُحسن لهم على الدوام، ورعايته لهم أعظم من رعاية أقرب الناس لهم كالوالدين وغيرهم.
وفي هذا إبطال لمذهب فلاسفة اليونان، وفلاسفة الغرب الذين تخبطوا في إثبات ربوبية الله، فمنهم مَن يُنكر الربوبية بالكلية، وأمثلهم طريقة كأرسطو يزعم أن الله تعالى بعد أن خلق الخلق لم يعد يعتني به، ويُفكر فيه، فهو أعظم من ذلك، فهو عندهم - عياذاً بالله - لا يُفكر إلا في نفسه، وهذا كذب يرده النقل، ويرده الواقع المشاهد المحسوس.
من فوائدها: إبطال أساطير فلاسفة الإغريق الوثنية التي يرونها عن الرب سبحانه، وأنه بزعمهم - تنزه وتعالى عما يقولون - يطارد عباده ويتربص بهم الدوائر ويُدبر لهم المكائد والحيل في قصص غريبة وافتراءات عجيبة منكرة.
فهذا كله مما يعتقده أهل الأوثان القدماء، وقد تلقفه عنهم –للأسف- أهل الكتاب ونقلوه وسطروه في الكتاب المُقدس، وخصوصاً العهد القديم (التوراة) وقد نعى الله عليهم صنيعهم هذا، قال تعالى:"قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" [المائدة: 77].
وبهذا البيان القرآني "رب العالمين" تنتفي أيضاً صفة الصراع بين الخالق والمخلوق، كما يصور ذلك فلاسفة الغرب، ويبنون عليه مناهجهم في التفكير وفي التصور، ويُرى على ذلك أثره في إنتاجهم الأدبي، من شعر وقصص وتمثيل.
وللأسف الشديد قد تلقف كثيراً من هذه التصورات الفاسدة بعض أبناء المسلمين، وانحرفوا بها في تفكيرهم وفي مُعتقدهم، وفي سلوكهم وأخلاقهم، وفي علمهم وأدبهم وفنونهم، وبنوا على ذلك فكرة الصراع في الحياة، فمرة بين الخالق والمخلوق، ومرة بين الدنيا والدين، ومرة بين الحاكم والمحكوم، ومرة بين الرجل والمرأة، وهذه هي نقطة الانطلاق في فكر القوم (دعاة التغريب).
فهذا كله خرافة، يردها دين الإسلام، ويُبطلها قول الحق سبحانه: "رب العالمين"، والعقل والواقع المحسوس دليل صادق على ذلك، وشاهد على أنه سبحانه رب العالم ومُدبرهم ومالكهم وراعيهم، كما يحس بذلك مَن له أدنى شعور من الإنسانية، فضلا عمن يعرف نور الوحي والقرآن، قال بعض العلماء: سمي العالم عالما ؛ لأنه علامة على وجود الخالق سبحانه.
سؤال: ما المُناسبة بين "الحمد" وبين ما بعده "الله" و "رب العالمين"؟
نقول: إن الحمد لله هو الثناء، والثناء على شيء لا يكون إلا لأحد سببين: إما لصفة عظيمة في المحمود تستحق الحمد، وإما لإحسان من ذلك المحمود لغيره يستحق عليه الشكر والثناء، ونحن إذا تأملنا لفظ "الله" و "رب العالمين" وجدنا أنها تشتمل على كلا الأمرين؛ تشتمل على الوصف بالجميل، وعلى الإحسان إلى الغير.
فالله هو: الإله، وهو أكبر أسماء الله وأجمعها، وينبئ هذا الاسم العظيم عن كل صفة كمال وكل صفة جلال وجمال، فبهذا يستحق الحمد من هذا الوجه.
ولفظ "رب العالمين" هو يقتضي الحمد كذلك ؛ لأن الربوبية تشمل على كل إحسان وعلى كل فضل ونعمة وصلت إلى الناس، فكأنه قال: "الحمد لله"؛ لأنه الإله المُتصف بالصفات العظيمة، "والحمد لله"؛ لأنه رب العالمين المُحسن إليهم في كل حين.
وقوله: "الحمد لله رب العالمين" فيه تقرير عقيدة الإسلام.
تضمنت هذه الآية تقرير التوحيد بنوعيه:- الخبري، والعملي. فالتوحيد إما أن يختص بالعمل والعبادة، وهذا يُسمى توحيد الألوهية أو توحيد العبادة، وإما أن يختص بالعلم والاعتقاد، وهذا يتضمن الإيمان بالربوبية وبالأسماء والصفات.
كيف دلت الآية على نوعي التوحيد؟
قوله تعالى: "الحمد لله" هذه دلتنا على توحيد العبادة وتوحيد الألوهية، وهذه الدلالة من وجهين ومن طريقين: الأول: أنها أثبتت صفات الإله لله وحده بقوله تعالى: "لله"، فهذا اللفظ يدل على إثبات الألوهية له سبحانه، وإبطال ألوهية ما سواه، والألوهية تتضمن أول ما تتضمن: استحقاق العبادة له وحده دون سواه.
الطريق الآخر نستفيده من لفظ "الحمد لله"، يعني: أن الحمد الخالص الذي هو عبادة وقُربة، وهو الحمد المطلق، لا يكون إلا لله تعالى، يعني: أن صرف العبادة لا يكون إلا لله، فإن الفرد يدل على الجنس، لأنه إذا كان الحمد لا يكون إلا لله، فكذلك الدعاء والاستغاثة وبقية العبادات.
وأما قوله سبحانه: "رب العالمين"، فهذا فيه إثبات للتوحيد الخبري، المبني على الاعتقاد، وفيه الوصف له سبحانه بالربوبية التي تشمل صفات الخلق والرزق والتدبير وغيرها.
وعند التفصيل نقول: "رب العالمين" دلنا على توحيد الربوبية، ولفظ "الرحمن الرحيم" دلنا على توحيد الأسماء والصفات، "والحمد لله" دلنا على توحيد العبادة كما تقدم، وبهذا يحصل التنبيه على أنواع التوحيد الثلاثة في هذه الآية العظيمة.
ومن الاعتبار بذلك، أن يعي المسلم حقيقة التوحيد، وأن يستشعر أهميته وعظمته، ويُقدمه في جميع أحواله، كما قدمه الله تعالى بالذكر في ابتداء كتابه وبنى عليه دينه.
ويتأكد هذا المعنى بالنسبة إلى الداعية إلى دين الإسلام، فإنه يدعو إلى دين الله تعالى مُقتفياً هدى كتاب الله تعالى، وهاهو كتاب الله قد ابتدأ دعوته للخلق بذكر التوحيد والتنويه بشأنه وتثبيته في القلوب وذلك في أول سوره وأول آياته.
اللهم وفقنا للعمل بكتابك، واقتفاء سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
الحلقة السابعة:
الكلام في هذه الحلقة عن الآية الثانية، قوله سبحانه: "الرحمن الرحيم".
لفظ هذه الآية الكريمة هي جزء من البسملة، وقد سبق الحديث عنها بشيء من التفصيل فلمَ الإعادة؟
هذا وقد جرت عادة المُصنفين وعادة المُفسرين أن يقولوا في مثل هذا المقام: قد سبق تفسير قوله تعالى: "الرحمن الرحيم" عند تفسير البسملة، أو يقولون: قد تقدم الكلام على معاني هذه الآية بما يُغني عن التكرار وعن الإعادة.
ونحن إن أردنا التحقيق وأردنا التدقيق، وإن أردنا كمال النظر قي كلام الله ومقام التدبر، فإننا نجزم أن إعادة الألفاظ - لا سيما في كلام الله - لا يُغني بعضها عن بعض، وليس هو من باب مُجرد التكرار أو لا يحسن أن يُعاد ولا يفيد.
إن الكلمة الواحدة في القرآن تكون في عدة مواضع، ويكون في كل موضع منها دلالات وإشارات ومعاني ليست في غيرها من المواضع، وهذا شيء طبعي وأمر منطقي ! لماذا؟
لأن الكلمة مُجردة لها دلالة، وإن أُضيفت فلها دلالة أُخرى، وإن جاءت في سياقٍ زادت دلالتها ومضمونها بحسب السياق والسباق لها. أيضاً لو نظرنا إلى قائل هذه الكلمة سنفهم دلالةً غير التي نفهمها من كلام غيره والقرآن كلام وهو القائل له سبحانه.
نقرأ قول الله سبحانه: "الرحمن الرحيم".
ِنتدبر الآية الكريمة:
على أي شيء يدل الاسمان الكريمان؟ ما المُناسبة بين هذه الآية والتي قبلها؟
"الرحمن الرحيم" اسمان لله يدلان على صفة الرحمة له تعالى، هذه الصفة لله تعالى صفة عظيمة جداً، ومن عظمها أنها عمت الخلق ووسعت كل شيء، وأنها عمت الدنيا والآخرة، بل إنها غلبت بعض صفات الله الأخرى وسبقتها كما يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ورحمتي سبقت غضبي، وقد قرنها الله بصفة العلم له سبحانه، وهي الصفة التي لا يحدها شيء. قال سبحانه في مُحكم التنزيل: "وسعت كل شيء رحمة وعلماً". [غافر: 7] .
جاء السياق القرآني هنا ليدلنا على عظم هذه الصفة، هذا السياق يُبين شمول هذه الصفة ويُبين قوّتها، وأسبقيتها لغيرها، فقال تعالى: "الرحمن الرحيم". كيف هذا؟
أولاً: أن الله تعالى عندما ذكر قوله: "رب العالمين" عقب عليه بقوله: "الرحمن الرحيم".
قال بعض العلماء: هذا التعقيب فيه تحديد، وفيه لفت للأنظار وفيه ترغيب للقلوب.
فيه بيان أن ربوبية الله للعباد ربوبية رحمة وربوبية عطف وإنعام وربوبية إحسان. فكأنه يقول: أنا ربكم جميعاً، أنا المُتصرف في أحوالكم و تصرفي لكم مبني على الرحمة وعلى الإحسان وعلى العطف.
أيضاً: اللفظ الدال على الربوبية لفظ واحد وصفة واحدة (رب)، ولكن اللفظ الذي يدل على الرحمة لفظان (الرحمن) و (الرحيم)، فهذه الزيادة لا شك تدل على معنى، تدل على الغلبة وعلى السبق، قال بعض المُفسرين: الحكمة من تكرير الرحمة كأنه قيل: اذكر أني إله رب مرة، واذكر أني رحمن رحيم مرتين، ليُعلم أن العناية بالرحمة أكثر من سواها.
وأمر ثالث: قرن الله بين اسم الرحمن واسم الرحيم لِيكتمل معنى الرحمة في حقه سبحانه، ولِيدل كل من اللفظين على ما لا يدل عليه الآخر، ليدلان على عموم الرحمة وشمولها وعلى قوتها وأسبقيتها.
أن لفظ (الرحمن) كلفظ شبعان في الوزن، وما كان كذلك فهو يدل على الامتلاء في الصفة، وعلى السعة والزيادة.
ولفظ (الرحيم) أخص في المعنى على الرحمة، لكنه يدل على الفعل وعلى إيصال الرحمة للخلق.
إذاً فبهذا اللفظ وبذاك يكتمل المعنى العظيم من الرحمة، ويدل على كمال الرحمة في ذات الله تعالى، ويدل على كمال الرحمة في فعله وإيصالها للمخلوقين.
وهاهنا لطيفة. لماذا قدم لفظ (الرحمن) على لفظ (الرحيم)؟
قالوا: لأن لفظ (الرحمن) في الدلالة على ذات الله تعالى، فالرحمن لا يُسمى به غير الله بحال من الأحوال، والرحيم قد يُسمى به الله ويُسمى به غيره، ومن قواعد اللغة: أن ما دل على الاتصاف الذاتي فهو أولى بالتقديم.
ننتقل إلى ذكر المُناسبة:
ما المُناسبة بين (الحمد) وبين (الرحمن الرحيم)؟
الحمد هو الثناء بالقول الجميل، وهذا الثناء له سببان: أما الاتصاف بعظيم الصفات، وأما الإحسان إلى الغير، ودل على المعنى الأول لفظ الجلالة (الله)، ودل على المعنى الثاني لفظ (رب العالمين) ولفظ (الرحمن الرحيم)، ولهذا جاء سياق الآيات مُتسقاً ورُبط الحمد بهذه المعاني.
قال سبحانه: "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم" يعني: الحمد لمن كانت هذه صفاته ولمن كانت هذه أفعاله، فالكلام في قوة: الحمد لله ؛ لأنه الإله. والحمد لله؛ لأنه رب العالمين. والحمد لله ؛ لأنه الرحمن. والحمد لله؛ لأنه الرحيم.
ومن المقرر بلا جدال أن الله موصوف بالحمد على جميع أفعاله وجميع صفاته، وهو الذي لا يُحمد على مكروه سواه، وإن كان شيئاً من الصفات يستوجب الحمد فإن الرحمة من أعظم ما يستوجب الشكر والثناء، لماذا؟
لأن الحمد سببه الرئيس هو الإحسان، والإحسان سببه الرئيس هو الرحمة، ولهذا جاء في الحديث (أن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تُصيبه). أي من الرحمة.
وفي الحديث الآخر: أن امرأة وجدت صبياً في السبي، فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها. وفي السياق أيضاً قوله تعالى: "رب العالمين، الرحمن الرحيم" فما المُناسبة بينهما؟ وما الفوائد المُترتبة على ذكر (الرحمن الرحيم) بعد (رب العالمين)؟
قال الإمام القرطبي – رحمه الله -: وصف نفسه تعالى بعد (رب العالمين) بأنه (الرحمن الرحيم)؛ لأنه لما كان في اتصافه بـ (رب العالمين) ترهيب، قرنه بـ (الرحمن الرحيم) لما تضمنه من الترغيب، لِيجمع في صفاته بين الرهبة منه والترغيب إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع، كما قال تعالى: "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم" وقال: "غافرِ الذنب وقابلِ التوب شديدِ العقاب ذي الطول".
نختم الحديث عن "الرحمن الرحيم" بالتنبيه على أعظم ما دلت عليه وبيان المقصد الأول لها على أي شيء؟ دلت على إثبات صفة الرحمة لله تعالى، هذه الصفة العظيمة يجب أن نؤمن بها على الحقيقة ومن غير تشبيه لها بصفات المخلوقين، ومن غير تحريف أو تعطيل عن معناها الحقيقي، وهذه قاعدة جليلة تجري على جميع آيات الصفات.
من الخطأ الكبير أن نُنكر هذه الصفة أو نفهمها كما نفهم الصفات التي يتصف بها المخلوقون، فبذلك نحدث بالتشبيه بين الخالق والمخلوق، هذا التشبيه لا يُقره عقل ولا دين.
ولهذا التشبيه تجد بعض الناس يعترض على أقدار الله، ويستنكر بعض أفعاله سبحانه، ويظن أنها خالية من الرحمة.
بعض الناس إن قُلتَ له: إن فلاناً قدر الله له بكذا من مرض أو حادث، تجده يبادرك بالكلام: فلان والله مسكين، فلان والله ما يستاهل ما أصابه.
وبعض الناس يتساءل مُنكراً على الله تعالى – عياذاً بالله – لماذا لم يحصل كذا وكذا؟ لماذا لا يُعطي الله المسلمين كما يعطي الكافرين؟
وهذا كله والله من الشيطان، وكله من الجهل، وأساسه تشبيه صفة الخالق بالمخلوق، ورحمة الله برحمة البشر، وسببه عدم التسليم له سبحانه.
اللهم ارحمنا برحمتك، وجنبنا الزلل وألهمنا الرشد ووفقنا إلى كل خير.
الحلقة الثامنة:
حديثنا في هذه الحلقة عن قول الحق سبحانه وتعالى: "مالك يوم الدين".
هذه الآية الكريمة تتكون من ثلاث كلمات: "مالكْ" و "يومْ" و "الدينْ". والتفسير لألفاظ القرآن والكشف عن معانيها، لابد فيه من النظر إلى ثلاثة أمور: إلى اللفظ بمفرده، وإلى اللفظ مُركباً مع غيره، وإلى الجملة كاملة، والأمر الثالث: أن ننظر إلى ارتباط الآية أو الجملة بما قبلها و بما بعدها، وأن نتأمل في الدلالات المحيطة باللّفظ، والإشارات التي تُفهم من السياق.
ولنبدأ بذكر معاني الآية كلمة كلمة:
"مالك" فيها قراءتان سبعيتان، قراءة عاصم والكسائي "مالك" بالألف، اسم فاعل من المِلك، كقوله سبحانه: "مالِك المُلك" [آل عمران:26]. وقرأ الباقون السبعة "مَلِكْ "، كقوله سبحانه: "المَلِكُ القدوسُ" [الحشر:23]. و "مالك" مأخوذة من المِلْك، ومَلِك مأخوذة من المُلك، والمالك هو المتصرف بالأعيان المملوكة كيف شاء وبما شاء، والمَلِك هو الذي يأمر وينهى فيُطاع.
وقد طوّل أهل التفسير الكلام على ترجيح أحد القراءتين، وأشهر ما قيل:
إن المَلِك أبلغ في الدلالة على الملكية ؛ لأن أمره نافذ على المالك في ملكه.
وقيل: لفظ (المالك)أبلغ ؛ لأنه يكون مالكٌ للناس وغيرهم، والمَلِك لا يكون إلا على الناس، فلا يُقال: ملكٌ على البهائم وعلى الحجارة!
ومن أوجه الترجيح اللطيفة أن (مالك) أكثر حروفاً من (مَلِك) والزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، وأيضاً قيل: أنها تدل على الزيادة في الأجر فإن لقارئ:(مالك) عشر حسنات زيادة على مَن قرأ (ملك).
فإن قيل: هل يصح الترجيح بين القراءات، وكلها كلام الله؟
فالجواب: أن الترجيح إن كان على وجه التنقيص من القراءة الأخرى، فهذا لاشك حرام، ولا يستحله مسلم عالم ذاكر لما يقول.
وأما إن قُصد المُقارنة بين لفظ (مالك) و (ملك)، وأن نُبيّن ما يتضمنه كل منهما من مزية، فهذا لا بأس به.
فإن قيل: ما الفائدة من وجود القراءتين، من جهة اللفظ والبلاغة؟
فالجواب: إن القراءتين للكلمة القرآنية بمثابة الآيتين، وهذه قاعدة ولعله من كمال بلاغة القرآن أن يجيء في الموضع الواحد بالكلمتين، فتُقرأ هذه مرة وهذه مرة، وبذلك تكتمل الدلالة على ملكية الله تعالى لذلك اليوم العظيم. قال الإمام القرطبي – رحمه الله –: إن وُصِفَ الله سبحانه بأنه (مَلِك) كان ذلك من صفات ذاته، وإن وُصِفَ بأنه (مالك) كان ذلك من صفات فعله.
ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جامع الترمذي أنه يقرأ بـ (ملك) ويقرأ بـ (مالك)، قال العلماء: ومن كمال الاقتداء به صلى الله عليه وسلم أن نفعل ذلك فنقرأ بهذه تارة وبتلك تارة ؛ لكن بشرط أن لا يحصل به التشويش على العامة والتشكيك لهم في كلام الله تعالى.
جاء بعد لفظ (مالك) لفظ (يوم). فما هو اليوم؟
اليوم يُطلق في لغة العرب على الجزء من الزمن. واليوم في الشرع: هو ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والأيام عند الله يقدرها بما شاء سبحانه، فيوم عند ربك بألف سنة، ويوم بخمسين ألف سنة وهكذا.. لكن ما هو اليوم الحقيقي؟ إن اليوم الحقيقي، وإن اليوم الحق هو يوم القيامة، كما قال سبحانه:"ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا" وقال: "اليوم تُجزى كل نفس ما كسبت".
وأما لفظ (الدين) فهو يدل على الجزاء ؛ لأن الله تعالى يدين الناس على أعمالهم،، ويوم الدين هو يوم القيامة ومبدأ الآخرة.
وقوله تعالى: "مالك يوم الدين" فيها فوائد جمة، فمن فوائدها: إثبات القدرة العظيمة لله عز وجل، وأنه يُعيد الخلق كما بدأه.
ومن فوائدها: تخويف الناس من يوم القيامة.
ومن فوائدها: إثبات العدل لله سبحانه، فإنه قال: "يوم الدين". ولم يقل: يوم الحساب ؛ لأن لفظ الدين أدل على إثبات المُجازاة بالعدل.
ومن فوائدها: إظهار العجز التام للناس، وإثبات العبودية المحضة لجميع الخلق، ففي يوم الدين لا حرية لأحد، ولا إرادة لأحد، ولا ملك لأحد، ولا تصرف لأحد، إلا لله الواحد الأحد.
وإن قيل: لما قال سبحانه: "مالك يوم الدين" وهو سبحانه مالك لجميع الأيام؟
فهذا له أجوبة:
من أجوبته: أن التخصيص لا يعني الحصر، يعني تخصيصنا لشيء بالذكر لا ينفي غيره، فلو قلنا: فلان يملك كذا من الإبل، فهذا لا يعني أنه لا يملك غيرها.
وقد تقرر أن الله تعالى مالكٌ لجميع الأيام، ومالكٌ لجميع الأوقات، مالك للدنيا والآخرة، وفي سياق الآيات إثبات الملكية التامة لله، وهذا حاصل بقوله تعالى: "رب العالمين"، فالعالمين كل ما سوى الله تعالى، وهو عام في الدنيا والآخرة.
ومن الأجوبة البديعة: أن يوم الدين يوم لا يُنازع الله في ملكيته أحد، في الدنيا كانوا يُنازعونه في الملك ولو بالكذب، أما في الآخرة وفي يوم القيامة فلا يجرأ أحد أن يُنازع الله في شيء ولو بالكذب، لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار. لمَن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار.
في الدنيا هنالك ملك مجازي، وهنالك حرية وتصرف من المخلوقين، وهنالك أسباب ومُسببات، أما يوم القيامة، فإن الله تعالى يتصرف لوحده لا أحد يتصرف غيره، والله يملك لوحده لا أحد يملك غيره، والله يُجازي لوحده لا يُنازعه أحد، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا حقيقة ولا مجازاً.
قوله: "يوم الدين" إثبات لهول يوم الدين وتعظيم ليوم القيامة، فإن الله مالكٌ ليوم الدين ولغيره ولكن خصه بالذكر لتعظيمه ولعظمته، ميّزه لهوله وميّزه لجلالته وأهميته.
وهذا التميُّز فيه إظهار عظمة الخالق ، أيضاً فيه إظهار عظيم الملك لله. فنحن مثلاً إن أردنا فإننا ننسب الملك إلى شخص فننسب إليه أعظم الأشياء وأفضلها. لو أننا نعلم شخصاً من الناس يملك الذهب العظيم الخالص، ويملك بإزائه شيئاً حقيراً كخزف أو قش، فنحن نقول: فلان مالك الذهب. ولا نقول: مالك الخزف. فإن الخزف أمام الذهب لا شيء، والدنيا أمام الآخرة لا شيء، ولهذا قال: "مالك يوم الدين".
بقي الحديث عن المُناسبة بين الآيات:
لننظر في ارتباط الآية بما قبلها، ارتباط "مالك يوم الدين" بـ "الحمد لله".
بينهما تناسب، لو تأملنا لوجدنا أن الكلام في قوة: الحمد لله لأنه مالك يوم الدين. لماذا؟
يوم الدين يُقيم الله تعالى فيه العدل، يوم الدين يقتص فيه المظلوم من الظالم حتى الشاة العجماء، العدل والإنصاف لا يكون إلا في يوم الدين، لا يكون في الدنيا عدل تام حتى لو نُفذ الشرع، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنني أقضي بما أسمع).
أيضاً يوم الدين هو الذي يصلح أهل الدنيا، كيف هذا؟
لولا يوم الدين لرأينا غير الذي نراه، يوم الدين يجعلنا نستقيم فلا ننحرف، يجعلنا لا نظلم، لا نسرق، لا نغتاب، لا نقتل.
وهاهنا لطيفة دقيقة: أن الله ذكر في أول السورة خمسة أسماء له: الله، الرب، الرحمن، الرحيم، الملك أو المالك. لماذا؟ أو ما الفائدة؟
قال في التفسير الكبير: السبب فيه كأنه يقول: خلقتك أولاً، فأنا إله. ثم ربيتك بوجوه النعم، فأنا رب. ثم عصيتَ فسترتُ عليكَ، فأنا رحمن. ثم تُبتَ فغفرت لك، فأنا رحيم. ثم لابد من إيصال الجزاء إليكَ، فأنا مالك يوم الدين.
وقال تعالى: "الرحمن الرحيم" ثم قال: "مالك يوم الدين". فما فائدة التعقيب هنا؟
قال العلماء: لمّا بيّن الرحمة المُضاعفة، فكأنه قال: لا تغتروا بذلك، فإني مالك يوم الدين، فهذا جمع بين الترغيب والترهيب، وقدم (الرحمن) على (مالك) ؛ لأن الرحمة سبقت في علم الله غضبه وعقوبته.
الحلقة التاسعة:
يقول المولى سبحانه وتعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين".
هذه الآية هي الآية الرابعة من سورة الفاتحة سبقتها ثلاث آيات، وستتلوها ثلاث آيات أو اثنتان، وقد جعل الله تعالى الفاتحة نصفين، وجعل هذه الآية نصفين. فالآيات الثلاث الأول كلها ثناء على المولى سبحانه وتمجيد، والآيات الثلاث الأخيرة كلها دعاء من العبد إلى ربه ومولاه.
وأما هذه الآية فهي نصفان نصفها للرب، ونصفها للعبد، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين. قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
"إياك نعبد" أي لك يا ربنا نُصلي ونسجد ونحفد ولا نعبد سواك ولا نتوجه إلى غيرك. معناها: نُخلص العبادة لك ونُخلص التوحيد لك، ولا نُشرك معك غيرك، معناها: أنت المُستحق للعبادة وحدك.
و " إياك نستعين " أي نستمد العون منك في جميع الأمور ولا نستعين بأحد سواك، ولا نطلب العون إلا منك. معناها: نُعلن لك عجزنا وضعفنا، ونُعلن براءتنا من كل حول ومن كل قوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذه الآية دلتنا على أساس ديننا، دلتنا على لب شريعتنا، ودلتنا على سر وجودنا.
هذه الآية بمثابة قولنا: لا إله إلا الله، هي توازي كلمة التوحيد في المعنى، تتضمن إثبات العبادة لله وحده، وتتضمن نفي العبادة عما سواه سبحانه، وهذا المعنى هو أساس الدين وسر الوجود، وهذا المعنى هو الغاية التي أُنزل القرآن لأجلها.
ولهذا جاء عن بعض السلف تعظيم هذه الآية، روي عن بعضهم: أن معاني القرآن الكريم تعود إلى هذه الآية. وقال بعضهم: "إياك نعبد وإياك نستعين" سر القرآن.
هذه الآية الكريمة مع قصر ألفاظها قد حوت المعاني العظيمة، وقد حوت البلاغة العجيبة، عجائب هذه الآية لا تقضى.
نذكر منها ما يتسع له المقام:
هذه الآية جاءت بصيغة موجزة، ولكن بأسلوب بليغ جداً، ومن بلاغتها أنها تدل على حصر العبادة في عبادة الله، وعلى اختصاص التوحيد به سبحانه ونفي الشريك عنه.
قال تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين" تقديم "إياك" هنا يفيد الحصر، ويفيد الاختصاص، قالوا: لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، و"إياك" هنا مفعول به وحقه التأخير، وعامله "نعب " و "نستعين". قال ابن القيم – رحمه الله -: فهو في قوة: لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك.
من فوائد تقديم "إياك" كذلك: العناية والاهتمام، فإن شأن العرب أن تقدم الأهم، قالوا: ولئلا يتقدم ذكر العبد على ذكر الرب سبحانه.
وقال سبحنه: "إياك نعبد وإياك نستعين" ولم يقل: أعبد وأستعين، لماذا؟ يعني ما الفائدة من نون الجمع هنا؟
هذا التعبير القرآني فيه فوائد، وفيه دلالات عظيمة، وفيه إشارات لطيفة.
فيه تنبيه العابد على صلاة الجماعة فيقال له: احضر إلى بيت الله وصلي مع المسلمين. كيف؟ لأنه يقول: نعبد ويقول نستعين. في صلاته، وهذا اللفظ يدل على الجماعة، فلزم منه أن يكون المُصلي في الجماعة، ليكون أصدق وأدق في التعبير.
من فوائد (نون الجمع) تعلم العبد حُسن السؤال من الله، وتعليمه أدب الخطاب بين يدي مولاه، قال بعض المفسرين: كأن العبد يقول: إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث تُستحق أن أذكرها وحدها ؛ لأنها ممزوجة بالذنوب والتقصير، ولكن أخلطها بعبادات جميع العابدين، وأذكر الكل بعبارة واحدة، وأقول: "إياك نعبد" قالوا: وهذا أدعى للقبول.
وقد فرع الفقهاء مسألة: وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة عبيد فإن المُشتري إما أن يقبل الكل أو لا يقبل واحداً منها، وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة بتلك الصفة. بل جاء في الحديث: هم القوم لا يشقى جليسهم.
ومن الفوائد: أن لفظ نعبد بالجمع يدلنا على إثبات علم الغيب لله. لماذا؟ لأن الفاتحة قد فرض الله قراءتها في صلاة الجماعة في الجهر وفي السر، وقد نزلها قبل فرض صلاة الجماعة بهذه الصفة. والصياغة "نعبد" و "نستعين".
ومن الفوائد: أن لفظ "نعبد" بالجمع يدلنا على الاجتماع يدلنا على إيجاب التعاون بين المؤمنين. كيف؟
من وجوه، منها: أن المؤمنين الذين يجتمعون على عبادة الله وهي أعلى المطالب، يجب أن يجتمعوا على غيرها. ومنها: أن المؤمنين الذين يعبدون إلهاً واحداً ويستعينون به حري أن تكون كلمتهم واحدة، وأن يكون رأيهم ووجهتهم واحدة. ومنها: أن العبادة لفظ جامع لكل عمل يُحبه الله ويرضاه، وقد جاء هنا بلفظ الجمع، فدل على التعاون في كل عمل يُحبه الله.
قال تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين" ولم يقل: إياك نستعين وإياك نعبد.
قال العلماء: تقديم العبادة هنا على الاستعانة من باب تقديم الغايات على الوسائل، فالعبادة غاية والاستعانة وسيلة لها، والغاية أحق وأولى بالتقديم.
وقيل: إن العبادة حق لله، والاستعانة حق للعبد، وما كان حق لله فهو أولى بالتقديم.
فإن قيل: لمَ كرر الضمير "إياك" مرتين؟ أي ما فائدة تكرار الضمير؟
قيل جواباً: إن التكرار هنا له فوائد:
من فوائده: العناية بالمعبود وتعظيمه وتقديمه.
ومن فوائده: تأكيد الاختصاص والحصر، ليتأكد أن العبادة والاستعانة لا تكون إلا لمن دل عليه ضمير إياك وهو الله سبحانه وتعالى.
ومن فوائده: ليحصل شيء من التفريق بين العبادة والاستعانة، فالعبادة لا تكون إلا لله، والاستعانة قد تكون بالمخلوق فيما يقدر عليه، وقد قال الله سبحانه: "وتعاونوا على البر والتقو ".
هذه الآية وردت بأسلوب الحاضر، والآيات التي قبلها كلها بأسلوب الغائب "الحمد لله" غيب" رب العالمين "غيب" الرحمن الرجيم "غيب" مالك يوم الدين "غيب" إياك نعبد وإياك نستعين " حاضر. انتقل الخطاب من الغيب إلى الحضور. ومن الغياب إلى الشهود. لماذا؟
أولاً: التنقل في أسلوب الخطاب له فائدة عامة، وهذه الفائدة: هي لفت الأنظار وتنبيه السامع وحضه على مزيد التركيز والعناية، يعني أن هذه الجملة وهذا المعنى عظيم فتنبه عنه وأصغ له سمعك.
لماذا قال: "إياك نعبد" بأسلوب الحاضر؟
"إياك نعبد وإياك نستعين" سؤال ودعاء والتجاء إلى الله، وما كان كذلك فالأليق فيه المُشافهة والمُخاطبة المُباشرة، والآيات قبلها هي ثناء ومدح وتمجيد، والأليق في شأن الثناء هو خطاب الغيبة لا الحضور.
ومن اللطائف: أن يقال: مقام العبادة هو مقام الحضور بين يدي المولى، وهو ميدان المُراقبة لله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". فناسب لأجل هذا أن يأتي بأسلوب الحضور والشهود.
الحلقة العاشرة:
الحديث في هذه الحلقة عن قول الحق سبحانه وتعالى: "اهدنا الصراط المُستقيم".
لنتدبر الآية ونقف عند ألفاظ الآية كلمة كلمة. اهدنا. الصراط. المُستقيم. ونعرض القول في معانيها ودلالاتها الإجمالية، ونقف على الفوائد منها.
"اهدنا" فعل أمر بمعنى دلنا، والأمر هنا بمعنى الدعاء. لماذا؟ لأن الأمر إن جاء من الأدنى إلى الأعلى، ومن الأقل إلى الأعظم فهو يدل على الدعاء وعلى الترجي.
الفاعل هنا ضمير مستتر تقديره (أنت) أي يا ربنا اهدنا. و (نا) في "اهدنا" ضمير متصل في محل نصب مفعول أول، والصراط مفعول ثانِ.
قال العلماء: الهداية في اللغة: هي الدلالة إلى الخير، والهداية في الشرع قسمان: هداية بيان وإرشاد وتوضيح، وهداية توفيق وإلهام وقبول. هداية البيان هي التعريف بالحق وهذه الهداية مُثبتة للخالق ومُثبتة للمخلوق، وهداية الإلهام والتوفيق وهذه لا تكون إلا للخالق سبحانه، ولا يقدر عليها إلا الله سبحانه، حتى نبيه صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليها "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء".
الهداية في هذه الآية بمعنى: ألهمنا دينك الحق، ووفقنا للعمل به، ودلنا دلالة التوفيق ودلالة العمل والإلهام. لماذا؟
قال بعض العلماء: لأن الهداية إذا كانت مُتعدية بإلى فهي للدلالة وللبيان وللإرشاد فقط كما قال الله:" وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم". وإن كانت مُتعدية بنفسها فهذه تكون الإلهام والتوفيق والعمل. والهداية هنا مُتعدية بنفسها.
الهداية هي الدلالة بلطف، وهي الدلالة إلى الخير، والتخصيص هنا فيه نكتة. والنكتة هي: اختصاص الدلالة بالدلالة إلى الخير ؛ لأن التلطف يُناسب مَن أُريد به الخير.
وقال سبحانه: " اهدنا " بصيغة الجمع. لماذا؟ لأن الذي يدعو به يدعو به في الصلاة، وقد تكون الصلاة جهرية، واللائق بالإمام أن يدعو له ولغيره، وهذا فيه إثبات علمه سبحانه بالغيب، وإثبات رحمته بالخلق.
وقيل: إن الدعاء للمؤمنين حسن في كل حال، ولكن هذا من حقوق الأخوة الإيمانية، وجاءت بلفظ الآية.
وقيل: إن الدعاء بصفة الجمع؛ لأنه هو أقرب إلى القبول. والكل جائز والكل معنى صحيح.
قال سبحانه: " اهدنا الصراط " فما هو الصراط؟
الصراط هو الطريق الذي لا اعوجاج فيه، قال الإمام الطبري – رحمه الله -: وهذا المعنى مُتفق عليه.
والصراط هنا هو دين الإسلام، فإن الله يقول: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم. ديناً قيماً" [الأنعام: 161]، فقوله: "ديناً قيماً" تفسير لقوله: "صراط مستقيم" وهكذا هنا، والقرآن يُفسر بعضه بعضاً.
وقد اتفقت كلمة العلماء على تفسير الصراط بهذا المعنى، ولكن اختلفت تعبيراتهم، قال بعضهم: الصراط هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: هو القرآن. وقال بعضهم: هو طريق العبودية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ما معناه: هذا الاختلاف تنوع في العبارة، واختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وإلا فإن المعنى والمُسمى واحد.
وروي عن بعض السلف أنه قال: الصراط هو الحج. وهذا التفسير لا يُقصد به التعيين ولكن يُقصد به التمثيل. فمثاله: لو سأل رجل من العجم عن معنى الخُبز؟ فجاء شخص وأشار له إلى رغيف. فهذا الجواب يقصد به المثال ولا يقصد به الحصر والتعيين، يعني الرغيف كهذا. وهكذا قوله: الصراط الحج.
ولهذا استعير لفظ الصراط ليدل على دين الإسلام. وإلا فإن الصراط هو الطريق، ولكن الطريق لا يُسمى صراطاً إلا إذا جمع بين أربع خصال ما هي؟ الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والسعة، والقرب.
إذاً التعبير عن الإسلام بالصراط له معانٍ، وله دلالات وإشارات.
الصراط في اللغة: الطريق الواسع، والإسلام هو الدين الحق وهو الطريق الحق، ومن صفاته: أنه الطريق الواسع، وسع الخلق ووسع الحق فهو الدين الذي دعا جميع الخلق إلى جميع الحق، وهو الطريق الذي لم يحوج سالكيه إلى غيره، لم يُحوجهم أن يخرجوا منه ويسلكوا طريقاً غيره.
ولهذا نقول: في هذه الآية رد وتكذيب، رد على مَن قال: إن أحداً من الناس يسعه الخروج عن طريق الإسلام. وتكذيب لمن قال: إن دين الإسلام قاصر، أو أنه عاجز في وقت من الأوقات أو في زمن من الأزمان.
ومن فوائد لفظ "الصراط المستقيم": الإخبار بأن دين الإسلام هو أقرب الطرق وهو أقصر وهو أسرع الطرق. فإن لفظ "الصراط" من صفاته القرب، ولفظ "المستقيم" هو أقرب خط وأقرب طريق بين نقطتين.
ومن الفوائد: أن لفظ " المستقيم " يتضمن الإشارة إلى أنه يوجد طرقاً غير مستقيمة، ويوجد مناهج ملتوية، ولعل هذا تبكيت لليهود والنصارى..
ومن الفوائد اللطيفة: إيضاح أن الحق واحد لا يتعدد، فإن لفظ " المستقيم " لفظ يدل على الفرد، وأل فيه للعهد، وأن لفظ المستقيم يدل أيضاً على الانفراد، فالمستقيم كما يُعرفه أهل الهندسة هو: أقرب خط يصل بين نقطتين، وهذا لا يكون إلا واحداً، وهكذا طريق الحق لا يكون إلا واحداً كما أخبر الله سبحانه " فماذا بعد الحق إلا الضلال ".
ومن الفوائد: الإبانة بأن طرق الباطل كثيرة وهذه واحدة، وأن طرق الباطل ملتوية ومُجهدة ومُتعبة لأصحابها وهذه ثانية، وأنها طرق لا توصل إلى المقصود الصحيح وهذه ثالثة.
هذه الفوائد الثلاث تؤخذ من لحن العبارة، تؤخذ من مفهوم المخالفة للفظ "الصراط المستقيم".
من فوائد الآية الكريمة: التنبيه إلى عظم هذا الدعاء، الدعاء بالهداية إلى الدين، وفضل هذا الدعاء. لماذا؟
لأن هذا الدعاء دعاء قرآني، قد تكلم به الله تعالى في مُحكم التنزيل.
وثانياً: هذا الدعاء قد فرضه الله، فرضه سبحانه في كل صلاة فرضه في كل ركعة أن تقوله وأن تدعو به.
وإن قيل: لمَ قال: "اهدنا الصراط المستقيم " أليس المُصلي مهتدِ، أليس المسلم على الصراط المستقيم هل هذا من تحصيل الحاصل؟
أجاب عنه العلماء بأجوبة، كلها أجوبة صحيحة، وأجوبة مُتقاربة.
منهم مَن قال: "اهدنا الصراط المستقيم" أي طريق المُتقدمين الأولين، وهي طريقة عظيمة ومنازل رفيعة، وهذا تدل عليه الآية التي بعدها "صراط الذين أنعمت عليهم".
ومنهم مَن قال: "اهدنا" أي ثبتنا.
ومنهم مَن قال: أي زدنا. فإن الطريق المستقيم هو الطريق الوسط تماماً، وهذه الوسطية الدقيقة غير مُتحققة لكل مُهتدِ. ولهذا جاء وصف الصراط المستقيم في الآخرة أنه صراط دقيق، أحدّ من السيف وأدقّ من الشعرة.
ومنهم مَن قال: المقصود على الحقيقة، أي طلب الهداية لماذا؟ الإنسان محتاج إلى طلب الهداية في كل وقت وفي كل حين. هو محتاج إلى هداية جديدة في كل وقت ؛ لأنه مكلف في كل وقت بعمل جديد، ولهذا من أحسن ما فُسر به "الصراط المستقيم" هو العلم والعمل في كل وقت بما أمر الله.
هذا التوجيه ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، وهذا توجيه جيد، وفيه نكتة ولطيفة. ولكنه لا يُعارض ما قيل من التوجيهات، بل يوافقها تماماً، وهو لا يُعارض التفسير بمعنى: زدنا أو ثبتنا.
قال الله سبحانه: "إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم".
بين الآيتين تناسب وبينهما ترابط وتكامل، بينهما توافق في الغاية. كأن المعنى: نحن نعبدك وحدك ونستعين بك وحدك فاهدنا لأجل ذلك إلى الطريق الحق، فهو قد جعل ذكر العبادة المُتقدمة وسيلة لقبول الدعاء.
وأيضاً المعنى: اهدنا الصراط المستقيم والطريق الحق الذي هو طريق عبادتك وإخلاص الاستعانة بك. فعلى هذا، العبادة تفسير للصراط، ولكن جاء ذكرها مُتقدماً عليها. وفي سورة الأنعام جاء ذكر الصراط أولاً ثم العبادة، كما قال سبحانه: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم، ديناً قيماً". [الأنعام: 161].
وأيضاً المعنى: إياك نعبد ولا نعبد غيرك، فنحن لأجل هذا نطلب الهداية منك لا من غيرك، فالآية الأولى توافق الثانية تمام الموافقة.
المصدر :الإسلام اليوم
الحمد لله الذي نوّر بكتابه القلوب، وأنزله في أحسن لفظ وأعجز أسلوب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، خيرة الله من خلقه وخليله، وعلى صحابته الأبرار وآله الأطهار، والتابعين لهم بإحسان.
أحبتي في الله: إن أولى ما عنيت به القرائح والأفهام هو التدبر في كلام المولى العزيز العلام، والفحص عن حقائق التنزيل وأسرار التأويل.
إن أفضل ما عنيت له، وتعنيت أن تهتم بكتاب مولاك سبحانه، وأن تنظر في خطاباته الموجهة لك، فتقرأها كما تقرأ الرسالة توجَّه لك، فهذا هو منهج السلف مع كتاب الله.
ألا وإن من السعادة –والله- أن تعيش مع كتاب الله الكريم، فتتلوه وترتله، وتفهمه وتتدبره، وتتأمل في بلاغته وفصاحته، وترقب بديع إشاراته وعجيب انتقالاته.
هذا وكم فيه من مزايا *** وفي زواياه من خبايا
وكما أن الله تعالى لا يوصف بحد يُنتهى إليه في الكمال والجلال، فكذا لا نهاية لفهم كلامه سبحانه، يضيق به الوصف والعلم، وإنما يفهم كلٌ بمقدار ما يفتح الله عليه، وكلام الله غير مخلوق، لا تبلغ نهاية فهمه فهومٌ مُحدثةٌ مخلوقة.
أحبتي في الله: سيدور حديثنا حول تدبر كلام الله تعالى، وفهم معانيه، وبالتحديد يتركز الحديث عن دقائق التفسير ولطائف المعاني وحِكم الألفاظ..
يقول الله سبحانه: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" وفي آية أخرى "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا " وقال سبحانه: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر".
كما ذم الله تعالى المعرضين عن تدبره وعقله وفهمه، قال تعالى:"ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل. فأبى أكثر الناس إلا كفورا"، وقال:"وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه..." الحديث.
وقال الحسن البصري –رحمه الله-:"والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيما أُنزلت وما يعني بها ".
وقال الحسن بن علي رضي الله عنه: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدارسونها بالليل وينفذونها بالنهار".
أحبتي في الله: إن فهم كتاب الله وتدبر آياته في المنزلة العالية، ولكن هنالك أقفال تمنع منه، ولهذا قال: "أم على قلوب أقفالها" بعد قوله سبحانه: "أفلا يتدبرون القرآن".
وأعظم هذه الأقفال هو التكذيب بالدين، أي التكذيب بيوم القيامة، وبما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – من عند الله، فهذا القفل يستحيل معه عقل وفهم، كما قال الله سبحانه:"وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً. وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً" فكيف يفقه من أُغلق عليه بالحجاب وبالأكنة وبالوقر؟!
ومن الأقفال:البدعة، وهي تغيير حقيقة الدين، فإنها من أعظم الصوارف عن تدبر القرآن بل من أعظم البواعث لتحريف آياته ومعانيه، ولهذا لا تجد صاحب بدعة في الدين إلا يحرف كتاب الله تعالى ويبدله على حسب معتقده، فهو يمشي على قاعدة ومنهج (اعتقد ثم استدل) أي يجعل الدليل من الكتاب والسنة بحسب الهوى والمذهب.
ومن الأقفال: (الهوى) والولوغ في المعاصي، فهذا ينسلخ من آيات الله، ويحرف معانيه، ويُمنع من الفهم الصحيح والاستقبال الحسن لآيات الله، فإن القرآن كلام الله وهو نور، والمعصية ظلمة، والنور والمعصية لا يجتمعان أبداً.
ومن الأقفال: أن ينكب الشخص على الدنيا، ويجعلها أكبر همه، فهذا يُصرف عن التدبر ولا ريب، قال الإمام سفيان الثوري – رحمه الله -: "لا يجتمع فهم القرآن والاشتغال بالحطام في قلب مؤمن أبداً" انتهى.
والله تعالى من صفاته أنه يغار على دينه، ومن غيرته عل دينه وكتابه أنه لا يعطي مكنون حكمته المعرض عنه وعن كلامه ودينه.
ولهذا نرى أن العالم التقي يفهم ما لا يفهمه غيره، من معاني التنزيل ومن دقائق التفسير، يُفهم ما لا يفهمه الجاهل وما لا يفهمه الفاسق وغير الصالح، قال أهل السنة: إن للتزكية والتقوى أثراً ظاهراً في فهم العلم وفي بركته لاسيما في علم الدين والقرآن.
وهذه البركة في العلم ليست مطلقة يدعيها من شاء ويقول بها ما شاء، بل إن الإنسان كلما كان للشرع أطوع، وللنبي صلى الله عليه وسلم أتبع كان فهمه وعلمه أقرب وأعمق.
فإن سألت: ما هو أفضل الطرق للكشف عن معاني التنزيل ومعرفة أسرار التأويل والوقوف على حقائق الألفاظ؟
فالجواب: أن أحسن ما يُعرف به كلام الله هو كلام الله، وأقرب ما يُفسر به القرآن هو القرآن، فما أجمله الله في آية أوضحه في أخرى، وقد يكون هذا إيضاحاً متصلاً به وقد يكون منفصلاً عنه.
فمن الأول يقول سبحانه: "ويل للمطففين" ثم قال تفسيرا لها: "الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " وكقوله تعالى: "الله الصمد" قال محمد بن كعب القُرضي: "تفسيره" لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد".
ومن البيان المنفصل أنه قال في سورة الفاتحة:"مالك يوم الدين" وبينه في سورة الانفطار بقوله:"وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذٍ لله".
فإن لم يهتد للتفسير في القرآن، فعليك بكلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – فهو أعرف الناس بكلام الله عز وجل، وهو القائم على بيانه كما قال سبحانه:"وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم" قال الإمام الشافعي – رحمه الله: "كل ما حكم به رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فهو مما فهمه من القرآن.
فإن لم تجد في كلام الله ولا كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – تفسيراً، فنقدم كلام أصحاب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم -، فهم أفقه هذه الأمة وأعلمها، وأولى من جهة التنزيل، ومن جهة اللسان، ومن جهة الخشية والتقوى، ومن جهة السماع، ومن بعد الصحابة التابعون.
فإن سألت: فإن لم يوجد تفسيرٌ بالمأثور، لا من الكتاب والسنة ولا من أقوال الصحابة والتابعين، فهل يجوز أن نذكر قولاً في معنى آية أو بيان حكمه أو استخراج لطيفة أو بيان دقائق ذلك بما لم يكن منقولاً بنصه عن السابقين؟
فالجواب عن ذلك: أن الكلام على معاني الآيات على نوعين:
نوع لا يُستغنى فيه عن النقل مثل: أسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، أو تخصيص عموم آية بآية أخرى أو الجزم بمعنى مُعيّن دون غيره مما يحتمله اللفظ.
وأما النوع الثاني: وهو مما يقبل الاجتهاد الصحيح من غير الأمور المذكورة فلا يُشترط فيه أن يكون منصوصاً عليه في الشرع، فهو باب واسع، ورزق سائغ للمتأهلين من ذوي العلم إلى يوم الدين، قال بعض السلف: " للقرآن نزول وتنزل، فالنزول قد انقضى، وأما التنزل فهو باقٍ إلى يوم القيامة.
وفي الحديث الذي رُوي مرفوعاً وموقوفاً والصحيح وقفه: أنه الذكر الحكيم الذي لا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه.
الحلقة الثانية:
في هذه الحلقة نواصل الحديث عن التدبر لكلام الله تعالى، ونُبيّن أقسام الناس منه، وكيف نتعرف على الأقوال الصحيحة في معاني الآيات وحِكَم التفسير ودقائقه.
قال الله تعالى في سورة الفرقان: "وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً" قال أهل التفسير: "والهجر للقرآن على مراتب أربع: هجر للإيمان به، وهجر للفهم والتدبر، وهجرٌ للقراءة والترتيل، وهجر للعمل انتهى.
والناس على أقسام أربعة من كتاب الله تعالى:
فمن الناس من يتلو كلام الله حق تلاوته ويتدبره ويعمل به، فهؤلاء هم السعداء حقاً - جعلنا الله منهم – وهؤلاء هم المؤمنون حقا، الذين يتلونه حق تلاوته.
ومن الناس من لا يؤمن به أصلا ولا يلتفت إليه، فلم يقرأه وينظر إليه، وإن قرأه وتفهمه فمن غير إيمان وتصديق ولو أُعجب به كما قال المشرك الجاهلي الأول: سجدت لفصاحته، وكما قال أحد أرباب الشعر الحديث: إنما أُؤمن من القرآن ببلاغته وفصاحته.
فهؤلاء قد توعدهم الله بأشد الوعيد، وبشّرهم بالذلة والعذاب يوم الدين، و قبل ذلك بشرهم الله بالخزي والضنك في الدنيا، قال الله سبحانه: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا" أي في الدنيا
"ونحشره يوم القيامة أعمى".
ومن الناس:من يؤمن بالقرآن، ولكنه لا يتلوه ولا يقرأه إلا نذرا يسيرا، وهذا –والله- هجر عظيم للقرآن، وخذلان عظيم.
ومن الناس من يؤمن بالقرآن ويتلوه، ولكن من غير تدبر وفقه في معانيه، ومن غير اعتبار وخشية، ومن كان هذا ديدنه، وهو لم يتلُ كتاب الله حق تلاوته، وفعله أشبه بفعل اليهود، الذين ذمهم الله بقوله: "لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وإن هم إلا يظنون" قال أهل التفسير: "أي يتلونه تلاوة مُجرّدة، عن الفهم والعمل.
أحبتي في الله: لقد تعددت صور تقصيرنا في تلاوة كتاب الله، فمنا مَن يقرأ القرآن وكأنه يقرأ كلام بشرٍ مثله، ومنا من يقرأ وكأن المخاطب أحداً غيره، وبعضنا يقرأ القرآن وهو ساهٍ لاهٍ غافل القلب، وأصبح كثير منا يقرأ القرآن وهمه الوصول إلى آخر السورة أو الجزء.
كان سلفنا – رضوان الله عليهم أجمعين – آية واحدة تُمرضهم، وآية واحدة تقض مضاجعهم، أما نحن فيُقرأ علينا كتاب ربنا من أوله إلى آخره، من فاتحته لخاتمته، فلا يُحرك في القلوب ساكناً.
التفكر في كتاب الله، باب مفتوح بين العبد وبين ربه، ما لم يقفله العبد بفعله، قال الحسن البصري – رحمه الله -: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الزكاة، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم وإلاّ فاعلموا أن الباب مُغلق".
التفكر براءة من النفاق، وفكاك من أسر الهوى، وجسر يصل به العبد مولاه، وما أعده الله من النعيم المقيم.
التفكر لكلام الله أشرف ما يخطر بالبال، وأطهر ما يصل إلى القلب، وأسمى ما يتعلق به العقل الواعي.
يُحيي نفوس الناس ويكشف عنها العناء.
هنالك من الناس من يذكرون الله، ولكنهم لا يفهمون معنى الذِكر، فتصبح قلوبهم بعيدة من استشعار جلال الله، وقدره حق قدره.
فإن سألتْ: كيف نصل إلى فهم بلاغة القرآن، ومعرفة حِكَمه؟ وكيف نصل إلى معرفة الدقائق في التفسير، واللطائف في التأويل؟
فالجواب: قال العلماء: إن مآخذ التفسير خمسة: القرآن ثم السنة ثم أقوال الصحابة والسلف المأخذ الخامس التفسير بالمقتضى من معنى الكلام، والمقتضى من قوة الشرع، أي ما يُفهم من اللغة ومن الشرع بلطيف الدلالة، ودقيق المعنى، وما ينقدح في النفس عند سماع الآية مُستنداً على الدليل.
قالوا: وهذا النوع هو الذي دعا به النبي – صلى الله عليه وآله وسلم –لابن عباس–رضي الله عنه – بقوله: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وهو الذي عناه علي بن أبي طالب –رضي الله عنه– بقوله: (إلا فهما يؤتيه الله تعالى رجلا في كتابه) عندما سُئل: هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – بشيء؟
فإن قلتَ: ما علامة صحة التفسير بالرأي والاجتهاد، وصواب الحِكَم والدقائق واللطائف المُستنبطة من الآيات، وكيف نُميّز ما يصح منها وما لا يصح؟
فالجواب: لابد لهذا من شروط خمسة:
أولها: الموافقة للسان العربي، فإن كان التفسير لم يشهد له اللسان العربي، فهو تفسير باطل؛ لأن القرآن نزل بلسان العرب، وعلى أساليب بلاغتهم ووصفه الله بذلك، في قوله تعالى: "لسانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي، وهذا لسانٌ عربي مُبين".
ومن هنا نعرف بطلان القول: بأنه يوجد في القرآن أسرار لا يعرفها إلا أشخاص بأعيانهم، يُزعم أنهم من الخواص، أو أنهم من الأولياء، يقولون في القرآن بهواهم وأذواقهم.
ويُعرف كذلك بطلان الاعتماد على التفسير المبني على كل ما يُخالف لسان العرب ولم يكن معهودا عندهم، مثل حساب الجُمل، ومثل الرمز الذي لا يرتبط بلغة صحيحة،كقول بعضهم: "المر" معناها: أنا الله الرحمن الرحيم.
الشرط الثاني: أن يكون للتفسير شاهد من الشرع يدل عليه، فإن كان مخالفاً للشرع يُعد مردودا على صاحبه، وإن من قواعد التفسير المعلومة: أن من شرط صحة التفسير بالرأي والاجتهاد، ألا يُخالف التفسير بالمأثور.
فإذا قلنا في الآية: الحكمة كذا وكذا، أو المقصد منها كذا، ولم يشهد لهذا نص أو قاعدة عامة أو خاصة فلا يُقبل هذا القول.
الشرط الثالث: ألا يُخالف التفسير تفسير جمع علماء السلف، ولا يُضاد منهجهم في فهم الذين، فهم أعلم هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن مُلزمون باتباع منهجهم، ونحن نقول في كل صلاة: "اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم" والمنعم عليهم من هذه الأمة هم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – والصحابة بشهادة الله تعالى لهم.
ولو فُسر لفظٌ أو آيةٌ من القرآن بما يُخالف تفسير الصحابة وهديهم، لرددنا هذا التفسير، فلو قال قائل في قوله تعالى: "واذكر اسم ربك" أي قل: الله، الله، الله تعبداً وتقرباً إلى الله، لحكمنا أن هذا التفسير باطل؛ لمخالفته الصريحة لفهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – والصحابة، فلم يؤثر عنهم ذكراً مُفرداً.
الشرط الرابع: إذا كان التفسير لم يُنقل عن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولم تدل عليه اللغة صراحة، فإننا نذكر هذا التفسير غير جازمين بأنه مراد الله، فلا نقول: مراد الله كذا إلا باليقين، لكن نقول: من الفوائد كذا؛ لأن هذا مقتضى التدبر والتفكر والاجتهاد، أما مقام الجزم فهو مقام النقل والنص.
الشرط الخامس: أن يكون المتكلم في معنى الآية عالماً أو ينقل عن العلماء. صحيحٌ أن كل شخص له أن يتدبر ويتفكر في كلام الله، بل هو مأمور بذلك ؛ لأن الله تعالى قد أمر بذلك أمراً عاماً، لم يستثنِ منه أحداً، وهذا بلا شك من خصائص كلام الله المعجز، أن يفهمه كل شخص بقدر ما آتاه الله، فهذا مقام التدبر.
وأما مقام البيان للغير، والتفسير لكلام الله للناس، فهذا لابد فيه من أن يعلمه الشخص علماً صحيحاً ثابتاً باتفاق العلماء.
وقد ذكر العلماء أنه يجب على المتكلم في الآيات، أن يكون عالماً بأسباب النزول، وعارفاً بالناسخ والمنسوخ، وإلا وقع في الغلط. ذكر ابن تيمية – رحمه الله – في المنهاج وغيره: "أن عليًّا –رضي الله عنه– رأى رجلاً يقص في المسجد، وكأنه يتطرق لمعاني القرآن فقال له: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: إذاً أنت أبو اعرفوني، أي تريد الشهرة.
الحلقة الثالثة:
في هذه الحلقة نتناول الحديث عن الاستعاذة، أي الاستعاذة من الشيطان، وهي قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو قولك: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فأنت إذا قلت بأحد القولين فقد أصبت ؛ لصحة وروده في السنة، وإن قلت هذا مرة وهذا مرة، فهذا أحسن ؛ لأن التنويع في صيغ الذكر المشروع من كمال اقتدائك بفعل رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -.
لنسأل: هل الاستعاذة آية أم ليست آية من القرآن؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ليست آية بالاتفاق، لكن الله تعالى أمرنا إذا أردنا أن نقرأ القرآن أن نستعيذ، قال تعالى: "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" أي إذا أردت أن تقرأ القرآن، كما قال تعالى: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" أي: إذا أردتم القيام للصلاة.
وبما أن لفظ الاستعاذة ليست آية، فلا يصح لك أن تقول: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بل تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم تقرأ. أو تقول: قال الله تعالى، وتقرأ الآية مُباشرة، أما إذا قلت: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأنت نسبت إلى الله كلاماً لم يقله.
ومُلحظٌ آخر: إن هذا المعنى لا يصح، أي لا يصح أن تنسب الاستعاذة لله عز وجل، يعني أن الله لا يستعيذ من الشيطان الرجيم، ولا من غيره من المخلوقات، فالله هو ذو القوة المتين، والذي يستعيذ هو العبد الفقير، أما القوي القادر فلا يستعيذ، فلا يصح نسب الاستعاذة إلى الله تعالى بحال.
قال أهل اللغة:عاذ به يعوذ، أي لاذ به ولجأ إليه واعتصم، وعُذتُ بفلان واستعذتُ به أي: لجأت إليه.
وأعوذ بالله: أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو أن يصدني عن فِعل ما أُمرتُ به، ويحضني على ما نُهيت عنه.
والشيطان هو إبليس؛ لأن (أل) هنا للعهد، أي ذلك المعهود لديكم، والشيطان مأخوذ من شَطَن أي بَعُد عن رحمة الله، والرجيم هو المرجوم، وهو المُبعد المهان الذليل، وهذا هو أصدق وصف يستحق أن يوصف به الشيطان، الذي عصى الله تعالى وخالف أمره عناداً واستكباراً.
بعد أن تبيّن لنا معنى الاستعاذة نقف عند بعض المعاني وبعض الحِكم المستنبطة من الاستعاذة، وهذا ليس من باب التفسير، ولكنه من باب الاعتبار ومن باب التدبير ومن باب تلمس الحِكم.
نبدأ بذكر فوائد الاستعاذة وحِكمها.
قال بعض العلماء: الحكمة في مشروعية الاستعاذة، أنك تطهر لسانك قبل تلاوة كلام الله تعالى، فالإنسان قد كُتب حظه من اللغو والباطل، وربما وقع في معصية صريحة كالكذب والغيبة وقول الزور، فإذا أراد أن يتلو كتاب الله بلسانه وقد تنجس بالمعصية فلابد إذاً أن يُطَهره، كيف يُطهره؟ يكون ذلك بذِكر الله تعالى، والاستعاذة من الشيطان الرجيم، فالتعوذ إذاً، يُمكن أن يُسمى تطهيراً للسان كما أن التوضؤ تطهير للبدن قبل الشروع في الصلاة.
قال بعض السلف: الحِكمة في الابتداء بالتعوذ قبل القراءة، أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة والنميمة، فأمر الله العبد بالتعوذ ليصير طاهراً، فيقرأ بلسانٍ طاهر كلاماً أنزله رب طيب. انتهى.
ومن الفوائد: أن في التعوذ قبل التلاوة دلالة على فضيلة الفرآن الكريم، فأنت لا تقرأ هذا القرآن إلا بعد أن تستعد لقراءته، وتتعوذ من الشيطان الرجيم، وهكذا كل عمل عظيم تستعد له.
ومنها أيضاً: الإشارة إلى أن التلاوة لكلام الله عبادة محضة لله، لا يُشرك معه غيره، فلهذا يُطرد الشيطان قبل التلاوة فيكون التالي لكلام الله المتعوذ مخلصاً بلسانه وقلبه، أو هكذا ينبغي أن يكون.
ومن الفوائد: أن الاستعاذة توجب على صاحبها أن يكون حاضر القلب، وأن يكون مُصغياً بسمعه للتلاوة، مُتعبداً عن الاشتغال بغير التلاوة.
لماذا؟
لأنك إذا أردت أن تقرأ قلت بلسانك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأنت إذاً أخبرت عن نفسك، أنك مُقبل على كلام الله تعالى، مُبتعداً عن الشيطان، وعن وسوسته، مُستعيناً بالله على ذلك، فتحقيق القول بلسانك أن يوافق ذلك فعلك وعملك، وإلا كنت غير صادق في استعاذتك.
ومن فوائد الاستعاذة: أنه يعلم العبد حاجته إلى مولاه، وعدم غناه عنه ولو لحظة واحدة، فأنت أيها الإنسان لا يُمكن أن تتغلب على شيطانك لوحدك، ولست بمستطيع أن تنجو منه بقدرتك، فلابد إذاً أن تستعين بقدرةٍ أعظم من قدرتك وأعظم من قدرته.
فمن استعان بنفسه على شيطانه فقد قابل بين قدرة مخلوقٍ ومخلوق، وقد يغلب أحدهما، فإن استعان بالله واستجار بقدرته سبحانه، كانت الكفة لصالحه ؛ لأن قدرة الله ومعونته تصبح مع قدرة العبد، وكانت قدرة الشيطان في جهة، ومن كان الله معه فهو الغالب لا محالة.
ويتفرع من هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي أن المؤمنين لا يتمكنون من النصر على أعدائه من أولياء الشيطان، إلا بعد أن يستعينوا بالله وبدينه وكتابه، فتكون قدرة الله وقوته معهم.
وفي الاستعاذة: درس لأصحاب القلوب الحية، وقاعدة نافعة للمصلحين الذين يُريدون أن يسلكوا طريق الدعوة على بصيرة، وأن يُصلحوا ما أفسده غيرهم.
ففي الاستعاذة قبل القراءة بيان أن الإقدام على الطاعات لا يتوافر إلا بعد الفرار من الشيطان وغوايته، وتصفية القلوب وتهيئتها، وهذا من أنجع الوسائل لنجاح الدعوة وحصول الأثر الطيب في النفس.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا وعلمنا منه ما لم نعلم، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.
الحلقة الخامسة
الحديث في هذه الحلقة عن أول آية من فاتحة الكتاب، فاتحة كتاب الإسلام، يقول الله تعالى: "الحمد لله رب العالمين".
ما هو الحمد؟
"الحمد لله" معناه: الشكر لله خالصاً دون سائر ما يُعبد من دونه، و "الحمد لله" هو الثناء على الله بصفات الكمال له، وعظيم الأفعال الصادرة منه سبحانه، "الحمد لله" هو الثناء على الله بالوصف الجميل على وجه التعظيم والتبجيل. قال الجوهري رحمه الله: الحمد نظير الذم، والحمد أعم من الشكر. وقال غيره: الحمد هو المدح والوصف بالجميل، والحمد والمدح أخوان.
فهذه كلمات ثلاث وهي: المدح والشكر والحمد، والكلمة القرآنية هنا هي الحمد، يعني: الكلمة التي اُختيرت في هذا الموضع هي لفظ الحمد، ولهذا حكمة وسرّ، فقول الله: "الحمد لله" لا يُوازيه أي مقولة أخرى، ولا يُغني عنها ولو في المعنى أن نقول الشكر أو المدح أو غيرها. لماذا؟
قال العلماء: الفرق بين الحمد والمدح من وجوه:
الأول: أن المدح قد يحصل للحي وغير الحي، فأنتَ تقول للبستان الأنيق: مدحته. ولا تقول: حمدته ألبته، والحمد أيضا: يتعلق بالإشارة إلى إحسان المحمود عندك، وهذا ما لا يتضمنه لفظ المدح، وثالثاً: أن المدح قد يكون بحق أو بغير حق ولهذا نهي عن كثير منه، بخلاف الحمد فإنه لم يأتِ في الشرع إلا وله معنى لائق ودلالة صحيحة.
وأما الفرق بين الحمد والشكر، فإن معنى الشكر فيه قصور عن معنى الحمد ؛ لأن الشكر لا يكون إلا لأجل إحسان وصل إليكَ أنتَ بشخصك، بخلاف الحمد فهو شكر عام وصل إليكَ أم وصل إلى غيرك، وهذا هو المنطق.
وأيضاً: لم يقل في الآية الكريمة: أحمد الله. وإنما قال: "الحمد لله". لماذا؟ وما الفرق بينهما؟
قالوا: إن عبارة "الحمد لله" أجود، وتدل على معان أعظم؛ لأن القائل لو قال: أحمد الله. لأخبر بذلك عن نفسه فقط، ولفُهم منه أنه قادر على حمده. وأما لو قال: "الحمد لله" ففي هذه العبارة إيضاح أن الله محمود في الأزل وفي الأبد، حمده الحامدون أو لم يحمدوه. ولفظ "الحمد" يُنبئ عن استحقاق الله له سبحانه أي للحمد، بخلاف لفظ (أحمد) فلا تدل على الملكية والاستحقاق.
ونحن إذا تأملنا قول الله تعالى: "الحمد لله". جزمنا أن لفظ الحمد الذي جاء في القرآن هو أكمل العبارات، وهو أفضل الصيغ التي يُمكن أن تُعبر عن الثناء الجميل للمُنعم سبحانه، كيف يكون هذا؟
لنتأمل ونُركز النظر!!
"الحمدُ" جاءت أولاً مُعرفة بألف ولام، وهذه تُسمى (أل) التي لاستغراق الجنس، وهي تدل على معنى كل، ومعنى جميع، يعني: جميع المحامد، وكل المحامد فالحمد لله توازي قولك كل حمد لله. هذه واحدة.
وثانيا: "الحمد لله" جملة اسمية، والجملة الاسمية تدل على الاستمرار والدوام، فلفظ " الحمد " يُنبئ عن استمرار الحمد لله في كل آن وفي كل زمان، وهذا هو عين الصواب وعين الحكمة ؛ فإن مقتضى الحكمة أن يظل الخالق سبحانه محموداً، وأن يظل العبد حامداً شاكراً، قال ابن أبي الصلت:
الحمد لله حمداً لا انقطاع له *** فليس إحسانه عنا بمقطوع
وثالثاً: قال الله سبحانه: "الحمدُ " بالرفع، ولم يقل: الحمدَ بالنصب، وفرق بين الاثنين، قال سيبويه: أن الذي يرفع الحمد؛ يُخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق، وأن الذي ينصب يُخبر أن الحمد منه وحده لله تعالى.
يتلخص أن لفظ "الحمدُ" دلنا على ثلاثة أشياء في الحمد:- الأول: أن كل حمد لله وليس حمداً دون حمد. الثاني:أن هذا الحمد مستمر لا ينقطع ألبته. الثالث: أن هذا الحمد يجب أن يكون من كل مخلوق.
ننتقل إلى لفظ الجلالة "الله":
قال سبحانه:"الحمد لله" ماذا يعني هذا؟
يعني أن جميع المحامد مستحقة لله وحده، فلا يستحق الحمد حقيقة غير الله. كيف عرفنا هذا من اللفظ؟
(أل) في لفظ (الحمد) تدل على استغراق كل حمد –كما مرّ– واللام في لفظ الجلالة (لله) هي للاختصاص، أي: تُفيد حصر الحمد في ذات الله.
فقول (الحمد لله) يستلزم انحصار أفراد الحمد كلها في اسم الله تعالى؛ لأنه إذا اختص الجنس اختصت الأفراد، ولو فرض أن فرداً من أفراد الحمد استحقه غير الله لتحقق الجنس في ضمنه، ولما صح دخول لام الاختصاص عل لفظ الجلالة.
فإن قيلَ: ألا يستحق غير الله الحمد؟
قلنا: لا يستحق حقيقة الحمد إلا الله وحده، ولا يستحق الحمد حقيقة إلا الله سبحانه، يعني: لا يخلص الحمد لغير الله، ولا يكمل إلا لله. وهذا المعنى لا ينفي أن نشكر مَن أسدى إلينا المعروف، وأن نحمد الناس على جميل صفاتهم وحُسن أفعالهم، ولكن ينبغي أن نتيقظ لمسألة مهمة، وهي غاية في الدقة، وهذه المسألة: أن كل مَن استحق الحمد من البشر فإن الحمد له ناقص، وأن الحمد له موصول بحمد الله ؛ لأننا إن حمدناهم على عمل صالح فإن الذي وفقهم هو الله، وإن حمدناهم على إحسان ومعروف فإن الدافع له هو الثواب من الله، فآل الحمد كله لله.
"الحمد لله" كلمتان خفيفتان في اللسان، قليلتان في الحروف والألفاظ، ولكنهما عظيمتان جداً في المعنى والمضمون، وثقيلتان جداً في الميزان عند الله.
"الحمد لله" افتتح الله بها كتابه العزيز – القرآن الكريم – وهذا الافتتاح له دلالات عظيمة، من دلالاته: الإشارة إلى أن القرآن هو أعظم النعم وأجل الهبات الربانية للبشر؛ ولهذا أوجب أن يُستفتح بالمدح والثناء لله والتحميد والتمجيد لمُنزل القرآن صاحب النعمة.
القرآن هو كلام الله وذكره سبحانه، وهو حبل الله الذي يصل العباد بربهم ؛ فيُذكرهم بفضله وآلائه، و" الحمد لله " هو أول شعور يجيش في قلب الإنسان عند ذكر الله وعند تذكر آلائه ونعمه.
"الحمد لله " €€افتتح الله بها كتابه قولا وثناءً منه سبحانه لنفسه، إذ لا يُمكن أن يبلغ حمده حقيقة إلا نفسه. قال الإمام القرطبي رحمه الله: معنى: "الحمد لله رب العالمين" أي: سبق الحمد مني لنفسي قبل أن يحمدني أحد من العالمين. وقيل: لمّا علم سبحانه عجز عباده عن حمده حَمَدَ نفسه بنفسِه، ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: (لا أُحصي ثناءً عليك). وأنشدوا:
إذا نحن أثنينا عليكَ بصالحٍ*** فأنتَ كما نثني وفوق الذي نثني
"الحمد لله" افتتح الله بها كتابه، وهذا تنبيه لنا أن نحمده سبحانه بما حمَدَ به نفسه. قال الإمام الطبري رحمه الله: "الحمد لله" ثناء أثنى الله به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يُثنوا عليه، كأنه قال: قولوا الحمد لله، وههنا لطيفة ينبغي أن تستوقفنا، وينبغي أن نشكر الله تعالى ونحمده عليها. هذه الطيفة: أن الله سبحانه من حكمته ورحمته بنا أن جمع لنا غاية الحمد والثناء عليه في كلمتين اثنتين (الحمد لله) ورضي لنا في هذه العبارة المختصرة أن تقوم مقام الشكر له والثناء عليه
كيف لو أوكل الله لنا الحمد؟
لو وقف الواحد منّا أمام عظيم من عظماء الدنيا، لعجز أن يثني عليه بالحق أو بالباطل، ولتكلف من الكلام الطويل ومن العبارات المُنمقة، وربما نظم القصائد ودبج الخطب. فكيف يبلغ الحمد لله وهو ولي كل نعمة وصاحب كل مزية ؟!
"الحمد لله" تعليم من الله لنا أن نستفتح عملنا بالحمد،كلامنا بالحمد،كتبنا بالحمد، خطبنا بالحمد، وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان في جميع أحواله حامدا لله، وفهم المسلمون ذلك قاطبة، ولهذا كل خطبة لم تبتدئ بحمد الله فهي خطبة جذماء عندهم، وقد لقبوا خطبة زياد بن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بـ (البتراء) ؛ لأنه لم يفتتحها بالحمد.
"الحمد لله" ذكر وفكر، عقيدة وشعور وعمل، هي ليست حروف تُلفظ وأقوال تُردد، وهي ليست عقيدة مُكتنزة لا عمل معها، قال بعض السلف في تفسير "الحمد": هو على ثلاثة أوجه:
أولها: إذا أعطاكَ الله شيئاً، تعرف مَن أعطاك. والثاني: أن ترضى بما أعطاك. والثالث: ما دامت قوته في جسدك، ألا تعصيه. فهذه شرائط الحمد.انتهى.
اللهم لكَ الحمد حتى ترضى، ولكَ الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، اللهم لك الحمد مثل ما نقول، ولك الحمد فوق ما نقول، لا نُحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيت على نفسك.
الحلقة السادسة:
الحمد هو الثناء كله لله تعالى وليس لغيره، وهذا الثناء يكون لله تعالى لجليل صفاته وعظيم أفعاله الدائرة بين العبد والفضل، وقد كان موضوع الحلقة السابقة: الكشف عن دلالات كلمة (الحمد لله)، وما تحويه من إشارات ولطائف ودقائق.
وقد خلصنا إلى أن هذه الكلمة العظيمة والآية الكريمة لا يوازيها كلمة في شكر الله، وأن "الحمد لله" هو أفضل ما ينبغي أن يُحمد به الله، وليس لفظ يوازيه في المعنى أبداً، وقد توصلنا إلى ذلك من خلال الدلالة اللغوية والأسلوب البلاغي العربي، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحمد لله تملأ الميزان" فهذا نص في أن هذه الكلمة قد بلغت الغاية في الأجر والثواب حتى ملأت الميزان، وما كانت تكون كذلك إلا لأنها قد بلغت الغاية في الثناء على الله والشكر له، فهذا من دلالة لحن الحديث وفحواه.
وقد روي عن بعض السلف رحمهم الله أنه قد ضاع له مال أو متاع فأقسم بالله تعالى إن وجد ضيعته تلك، أن يحمده بقولٍ لم يُحمد الله بمثله، ثم وجد ضيعته تلك فما كان منه إلا أن قال: الحمد لله، فقال له أصحابه: إنكَ قد قُلتَ إن رد الله لك ضيعتك لتحمدنه بقول لم يُحمد بمثله، وإنك لم تقل سوى: الحمد لله؟!! فقال هذا الرجل – وقد كان فقيهاً رحمه الله – كلمة فيها بلاغة عظيمة وهي حق محض، ماذا قال؟ قال: وهل مثل الحمد لله حمد. ونحن نقول: نعم ليس مثل الحمد لله حمد.
ننتقل إلى تفسير قوله سبحانه: "رب العالمين".
الرب هو: السيد، والرب هو: المُصلح والمُدبر والجابر، يُقال لمن قام بإصلاح شيء وأقامه: هو ربٌ له، والعالمين: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله عز وجل.
ماذا نستفيد من قوله تعالى: "رب العالمين"؟
من فوائد "رب العالمين": أن نُقر لله بالغنى المطلق، وقد فهمنا هذا من لفظ (رب) ودلالاته على ذلك التزام، يعني: لا يكون رباً حتى يكون غنياً، فإذا أضيفت الربوبية للعالمين كان الغنى في غايته التي لا يصل إليها حد.
ومن فوائدها: أن نعلم فقر العبيد إلى الله، وحاجة المخلوقين إلى الخالق، وأنه لا يوجد أحد ينفد عن تصرف الله، وعن ملكه وربوبيته، أو يكون له شيء من الاستقلالية والغنى عن الله ولو لحظة، فإن المربوب لا قيام له إلا بالرب.
ولفظ (العالم) يدل على كل ما سوى الله تعالى، فلو قال: رب العالم لدل على أن كل موجود تحت ربوبية الله، ولكن لفظ (العالمين) أكد في العموم وأعظم في الدلالة على الربوبية لله والعبودية لغيره، بحيث لا يخرج أحد عن هذه الربوبية، وبحيث لا يبقى مجال لمتأول، فيقول مثلا: العالم قد يُعنى به هذا العالم المشهود فينفي هذا التأويل وغيره لفظ "العالمين".
وهذه الفائدة والتي قبلها تتضمن تأسيس توحيد الربوبية، وإبطال مذهب المشركين بالله تعالى في ربوبيته، وهؤلاء كُثر لا كثرهم الله، ومنهم مَن ينسب الخلق إلى الطبيعة، ومنهم مَن ينسب الرزق إلى الأفلاك والنجوم، ومنهم مَن يحيل التصرف في الكون إلى الجن، ومنهم مَن يزعم أن الذي يدير هذا الكون ويتحكم فيه الأولياء والأقطاب، وهؤلاء كلهم مُفترون على الله، ويُبطل مذهبهم كله قول الحق سبحانه: "رب العالمين"
ومن فوائد "رب العالمين": بيان طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوقين، وأن هذه العلاقة قائمة على الإحسان إلى المخلوقين كما هو مُقتضى الربوبية، فالله هو ربهم وهو مُصرف أمورهم والمُحسن لهم على الدوام، ورعايته لهم أعظم من رعاية أقرب الناس لهم كالوالدين وغيرهم.
وفي هذا إبطال لمذهب فلاسفة اليونان، وفلاسفة الغرب الذين تخبطوا في إثبات ربوبية الله، فمنهم مَن يُنكر الربوبية بالكلية، وأمثلهم طريقة كأرسطو يزعم أن الله تعالى بعد أن خلق الخلق لم يعد يعتني به، ويُفكر فيه، فهو أعظم من ذلك، فهو عندهم - عياذاً بالله - لا يُفكر إلا في نفسه، وهذا كذب يرده النقل، ويرده الواقع المشاهد المحسوس.
من فوائدها: إبطال أساطير فلاسفة الإغريق الوثنية التي يرونها عن الرب سبحانه، وأنه بزعمهم - تنزه وتعالى عما يقولون - يطارد عباده ويتربص بهم الدوائر ويُدبر لهم المكائد والحيل في قصص غريبة وافتراءات عجيبة منكرة.
فهذا كله مما يعتقده أهل الأوثان القدماء، وقد تلقفه عنهم –للأسف- أهل الكتاب ونقلوه وسطروه في الكتاب المُقدس، وخصوصاً العهد القديم (التوراة) وقد نعى الله عليهم صنيعهم هذا، قال تعالى:"قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" [المائدة: 77].
وبهذا البيان القرآني "رب العالمين" تنتفي أيضاً صفة الصراع بين الخالق والمخلوق، كما يصور ذلك فلاسفة الغرب، ويبنون عليه مناهجهم في التفكير وفي التصور، ويُرى على ذلك أثره في إنتاجهم الأدبي، من شعر وقصص وتمثيل.
وللأسف الشديد قد تلقف كثيراً من هذه التصورات الفاسدة بعض أبناء المسلمين، وانحرفوا بها في تفكيرهم وفي مُعتقدهم، وفي سلوكهم وأخلاقهم، وفي علمهم وأدبهم وفنونهم، وبنوا على ذلك فكرة الصراع في الحياة، فمرة بين الخالق والمخلوق، ومرة بين الدنيا والدين، ومرة بين الحاكم والمحكوم، ومرة بين الرجل والمرأة، وهذه هي نقطة الانطلاق في فكر القوم (دعاة التغريب).
فهذا كله خرافة، يردها دين الإسلام، ويُبطلها قول الحق سبحانه: "رب العالمين"، والعقل والواقع المحسوس دليل صادق على ذلك، وشاهد على أنه سبحانه رب العالم ومُدبرهم ومالكهم وراعيهم، كما يحس بذلك مَن له أدنى شعور من الإنسانية، فضلا عمن يعرف نور الوحي والقرآن، قال بعض العلماء: سمي العالم عالما ؛ لأنه علامة على وجود الخالق سبحانه.
سؤال: ما المُناسبة بين "الحمد" وبين ما بعده "الله" و "رب العالمين"؟
نقول: إن الحمد لله هو الثناء، والثناء على شيء لا يكون إلا لأحد سببين: إما لصفة عظيمة في المحمود تستحق الحمد، وإما لإحسان من ذلك المحمود لغيره يستحق عليه الشكر والثناء، ونحن إذا تأملنا لفظ "الله" و "رب العالمين" وجدنا أنها تشتمل على كلا الأمرين؛ تشتمل على الوصف بالجميل، وعلى الإحسان إلى الغير.
فالله هو: الإله، وهو أكبر أسماء الله وأجمعها، وينبئ هذا الاسم العظيم عن كل صفة كمال وكل صفة جلال وجمال، فبهذا يستحق الحمد من هذا الوجه.
ولفظ "رب العالمين" هو يقتضي الحمد كذلك ؛ لأن الربوبية تشمل على كل إحسان وعلى كل فضل ونعمة وصلت إلى الناس، فكأنه قال: "الحمد لله"؛ لأنه الإله المُتصف بالصفات العظيمة، "والحمد لله"؛ لأنه رب العالمين المُحسن إليهم في كل حين.
وقوله: "الحمد لله رب العالمين" فيه تقرير عقيدة الإسلام.
تضمنت هذه الآية تقرير التوحيد بنوعيه:- الخبري، والعملي. فالتوحيد إما أن يختص بالعمل والعبادة، وهذا يُسمى توحيد الألوهية أو توحيد العبادة، وإما أن يختص بالعلم والاعتقاد، وهذا يتضمن الإيمان بالربوبية وبالأسماء والصفات.
كيف دلت الآية على نوعي التوحيد؟
قوله تعالى: "الحمد لله" هذه دلتنا على توحيد العبادة وتوحيد الألوهية، وهذه الدلالة من وجهين ومن طريقين: الأول: أنها أثبتت صفات الإله لله وحده بقوله تعالى: "لله"، فهذا اللفظ يدل على إثبات الألوهية له سبحانه، وإبطال ألوهية ما سواه، والألوهية تتضمن أول ما تتضمن: استحقاق العبادة له وحده دون سواه.
الطريق الآخر نستفيده من لفظ "الحمد لله"، يعني: أن الحمد الخالص الذي هو عبادة وقُربة، وهو الحمد المطلق، لا يكون إلا لله تعالى، يعني: أن صرف العبادة لا يكون إلا لله، فإن الفرد يدل على الجنس، لأنه إذا كان الحمد لا يكون إلا لله، فكذلك الدعاء والاستغاثة وبقية العبادات.
وأما قوله سبحانه: "رب العالمين"، فهذا فيه إثبات للتوحيد الخبري، المبني على الاعتقاد، وفيه الوصف له سبحانه بالربوبية التي تشمل صفات الخلق والرزق والتدبير وغيرها.
وعند التفصيل نقول: "رب العالمين" دلنا على توحيد الربوبية، ولفظ "الرحمن الرحيم" دلنا على توحيد الأسماء والصفات، "والحمد لله" دلنا على توحيد العبادة كما تقدم، وبهذا يحصل التنبيه على أنواع التوحيد الثلاثة في هذه الآية العظيمة.
ومن الاعتبار بذلك، أن يعي المسلم حقيقة التوحيد، وأن يستشعر أهميته وعظمته، ويُقدمه في جميع أحواله، كما قدمه الله تعالى بالذكر في ابتداء كتابه وبنى عليه دينه.
ويتأكد هذا المعنى بالنسبة إلى الداعية إلى دين الإسلام، فإنه يدعو إلى دين الله تعالى مُقتفياً هدى كتاب الله تعالى، وهاهو كتاب الله قد ابتدأ دعوته للخلق بذكر التوحيد والتنويه بشأنه وتثبيته في القلوب وذلك في أول سوره وأول آياته.
اللهم وفقنا للعمل بكتابك، واقتفاء سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
الحلقة السابعة:
الكلام في هذه الحلقة عن الآية الثانية، قوله سبحانه: "الرحمن الرحيم".
لفظ هذه الآية الكريمة هي جزء من البسملة، وقد سبق الحديث عنها بشيء من التفصيل فلمَ الإعادة؟
هذا وقد جرت عادة المُصنفين وعادة المُفسرين أن يقولوا في مثل هذا المقام: قد سبق تفسير قوله تعالى: "الرحمن الرحيم" عند تفسير البسملة، أو يقولون: قد تقدم الكلام على معاني هذه الآية بما يُغني عن التكرار وعن الإعادة.
ونحن إن أردنا التحقيق وأردنا التدقيق، وإن أردنا كمال النظر قي كلام الله ومقام التدبر، فإننا نجزم أن إعادة الألفاظ - لا سيما في كلام الله - لا يُغني بعضها عن بعض، وليس هو من باب مُجرد التكرار أو لا يحسن أن يُعاد ولا يفيد.
إن الكلمة الواحدة في القرآن تكون في عدة مواضع، ويكون في كل موضع منها دلالات وإشارات ومعاني ليست في غيرها من المواضع، وهذا شيء طبعي وأمر منطقي ! لماذا؟
لأن الكلمة مُجردة لها دلالة، وإن أُضيفت فلها دلالة أُخرى، وإن جاءت في سياقٍ زادت دلالتها ومضمونها بحسب السياق والسباق لها. أيضاً لو نظرنا إلى قائل هذه الكلمة سنفهم دلالةً غير التي نفهمها من كلام غيره والقرآن كلام وهو القائل له سبحانه.
نقرأ قول الله سبحانه: "الرحمن الرحيم".
ِنتدبر الآية الكريمة:
على أي شيء يدل الاسمان الكريمان؟ ما المُناسبة بين هذه الآية والتي قبلها؟
"الرحمن الرحيم" اسمان لله يدلان على صفة الرحمة له تعالى، هذه الصفة لله تعالى صفة عظيمة جداً، ومن عظمها أنها عمت الخلق ووسعت كل شيء، وأنها عمت الدنيا والآخرة، بل إنها غلبت بعض صفات الله الأخرى وسبقتها كما يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ورحمتي سبقت غضبي، وقد قرنها الله بصفة العلم له سبحانه، وهي الصفة التي لا يحدها شيء. قال سبحانه في مُحكم التنزيل: "وسعت كل شيء رحمة وعلماً". [غافر: 7] .
جاء السياق القرآني هنا ليدلنا على عظم هذه الصفة، هذا السياق يُبين شمول هذه الصفة ويُبين قوّتها، وأسبقيتها لغيرها، فقال تعالى: "الرحمن الرحيم". كيف هذا؟
أولاً: أن الله تعالى عندما ذكر قوله: "رب العالمين" عقب عليه بقوله: "الرحمن الرحيم".
قال بعض العلماء: هذا التعقيب فيه تحديد، وفيه لفت للأنظار وفيه ترغيب للقلوب.
فيه بيان أن ربوبية الله للعباد ربوبية رحمة وربوبية عطف وإنعام وربوبية إحسان. فكأنه يقول: أنا ربكم جميعاً، أنا المُتصرف في أحوالكم و تصرفي لكم مبني على الرحمة وعلى الإحسان وعلى العطف.
أيضاً: اللفظ الدال على الربوبية لفظ واحد وصفة واحدة (رب)، ولكن اللفظ الذي يدل على الرحمة لفظان (الرحمن) و (الرحيم)، فهذه الزيادة لا شك تدل على معنى، تدل على الغلبة وعلى السبق، قال بعض المُفسرين: الحكمة من تكرير الرحمة كأنه قيل: اذكر أني إله رب مرة، واذكر أني رحمن رحيم مرتين، ليُعلم أن العناية بالرحمة أكثر من سواها.
وأمر ثالث: قرن الله بين اسم الرحمن واسم الرحيم لِيكتمل معنى الرحمة في حقه سبحانه، ولِيدل كل من اللفظين على ما لا يدل عليه الآخر، ليدلان على عموم الرحمة وشمولها وعلى قوتها وأسبقيتها.
أن لفظ (الرحمن) كلفظ شبعان في الوزن، وما كان كذلك فهو يدل على الامتلاء في الصفة، وعلى السعة والزيادة.
ولفظ (الرحيم) أخص في المعنى على الرحمة، لكنه يدل على الفعل وعلى إيصال الرحمة للخلق.
إذاً فبهذا اللفظ وبذاك يكتمل المعنى العظيم من الرحمة، ويدل على كمال الرحمة في ذات الله تعالى، ويدل على كمال الرحمة في فعله وإيصالها للمخلوقين.
وهاهنا لطيفة. لماذا قدم لفظ (الرحمن) على لفظ (الرحيم)؟
قالوا: لأن لفظ (الرحمن) في الدلالة على ذات الله تعالى، فالرحمن لا يُسمى به غير الله بحال من الأحوال، والرحيم قد يُسمى به الله ويُسمى به غيره، ومن قواعد اللغة: أن ما دل على الاتصاف الذاتي فهو أولى بالتقديم.
ننتقل إلى ذكر المُناسبة:
ما المُناسبة بين (الحمد) وبين (الرحمن الرحيم)؟
الحمد هو الثناء بالقول الجميل، وهذا الثناء له سببان: أما الاتصاف بعظيم الصفات، وأما الإحسان إلى الغير، ودل على المعنى الأول لفظ الجلالة (الله)، ودل على المعنى الثاني لفظ (رب العالمين) ولفظ (الرحمن الرحيم)، ولهذا جاء سياق الآيات مُتسقاً ورُبط الحمد بهذه المعاني.
قال سبحانه: "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم" يعني: الحمد لمن كانت هذه صفاته ولمن كانت هذه أفعاله، فالكلام في قوة: الحمد لله ؛ لأنه الإله. والحمد لله؛ لأنه رب العالمين. والحمد لله ؛ لأنه الرحمن. والحمد لله؛ لأنه الرحيم.
ومن المقرر بلا جدال أن الله موصوف بالحمد على جميع أفعاله وجميع صفاته، وهو الذي لا يُحمد على مكروه سواه، وإن كان شيئاً من الصفات يستوجب الحمد فإن الرحمة من أعظم ما يستوجب الشكر والثناء، لماذا؟
لأن الحمد سببه الرئيس هو الإحسان، والإحسان سببه الرئيس هو الرحمة، ولهذا جاء في الحديث (أن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تُصيبه). أي من الرحمة.
وفي الحديث الآخر: أن امرأة وجدت صبياً في السبي، فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها. وفي السياق أيضاً قوله تعالى: "رب العالمين، الرحمن الرحيم" فما المُناسبة بينهما؟ وما الفوائد المُترتبة على ذكر (الرحمن الرحيم) بعد (رب العالمين)؟
قال الإمام القرطبي – رحمه الله -: وصف نفسه تعالى بعد (رب العالمين) بأنه (الرحمن الرحيم)؛ لأنه لما كان في اتصافه بـ (رب العالمين) ترهيب، قرنه بـ (الرحمن الرحيم) لما تضمنه من الترغيب، لِيجمع في صفاته بين الرهبة منه والترغيب إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع، كما قال تعالى: "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم" وقال: "غافرِ الذنب وقابلِ التوب شديدِ العقاب ذي الطول".
نختم الحديث عن "الرحمن الرحيم" بالتنبيه على أعظم ما دلت عليه وبيان المقصد الأول لها على أي شيء؟ دلت على إثبات صفة الرحمة لله تعالى، هذه الصفة العظيمة يجب أن نؤمن بها على الحقيقة ومن غير تشبيه لها بصفات المخلوقين، ومن غير تحريف أو تعطيل عن معناها الحقيقي، وهذه قاعدة جليلة تجري على جميع آيات الصفات.
من الخطأ الكبير أن نُنكر هذه الصفة أو نفهمها كما نفهم الصفات التي يتصف بها المخلوقون، فبذلك نحدث بالتشبيه بين الخالق والمخلوق، هذا التشبيه لا يُقره عقل ولا دين.
ولهذا التشبيه تجد بعض الناس يعترض على أقدار الله، ويستنكر بعض أفعاله سبحانه، ويظن أنها خالية من الرحمة.
بعض الناس إن قُلتَ له: إن فلاناً قدر الله له بكذا من مرض أو حادث، تجده يبادرك بالكلام: فلان والله مسكين، فلان والله ما يستاهل ما أصابه.
وبعض الناس يتساءل مُنكراً على الله تعالى – عياذاً بالله – لماذا لم يحصل كذا وكذا؟ لماذا لا يُعطي الله المسلمين كما يعطي الكافرين؟
وهذا كله والله من الشيطان، وكله من الجهل، وأساسه تشبيه صفة الخالق بالمخلوق، ورحمة الله برحمة البشر، وسببه عدم التسليم له سبحانه.
اللهم ارحمنا برحمتك، وجنبنا الزلل وألهمنا الرشد ووفقنا إلى كل خير.
الحلقة الثامنة:
حديثنا في هذه الحلقة عن قول الحق سبحانه وتعالى: "مالك يوم الدين".
هذه الآية الكريمة تتكون من ثلاث كلمات: "مالكْ" و "يومْ" و "الدينْ". والتفسير لألفاظ القرآن والكشف عن معانيها، لابد فيه من النظر إلى ثلاثة أمور: إلى اللفظ بمفرده، وإلى اللفظ مُركباً مع غيره، وإلى الجملة كاملة، والأمر الثالث: أن ننظر إلى ارتباط الآية أو الجملة بما قبلها و بما بعدها، وأن نتأمل في الدلالات المحيطة باللّفظ، والإشارات التي تُفهم من السياق.
ولنبدأ بذكر معاني الآية كلمة كلمة:
"مالك" فيها قراءتان سبعيتان، قراءة عاصم والكسائي "مالك" بالألف، اسم فاعل من المِلك، كقوله سبحانه: "مالِك المُلك" [آل عمران:26]. وقرأ الباقون السبعة "مَلِكْ "، كقوله سبحانه: "المَلِكُ القدوسُ" [الحشر:23]. و "مالك" مأخوذة من المِلْك، ومَلِك مأخوذة من المُلك، والمالك هو المتصرف بالأعيان المملوكة كيف شاء وبما شاء، والمَلِك هو الذي يأمر وينهى فيُطاع.
وقد طوّل أهل التفسير الكلام على ترجيح أحد القراءتين، وأشهر ما قيل:
إن المَلِك أبلغ في الدلالة على الملكية ؛ لأن أمره نافذ على المالك في ملكه.
وقيل: لفظ (المالك)أبلغ ؛ لأنه يكون مالكٌ للناس وغيرهم، والمَلِك لا يكون إلا على الناس، فلا يُقال: ملكٌ على البهائم وعلى الحجارة!
ومن أوجه الترجيح اللطيفة أن (مالك) أكثر حروفاً من (مَلِك) والزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، وأيضاً قيل: أنها تدل على الزيادة في الأجر فإن لقارئ:(مالك) عشر حسنات زيادة على مَن قرأ (ملك).
فإن قيل: هل يصح الترجيح بين القراءات، وكلها كلام الله؟
فالجواب: أن الترجيح إن كان على وجه التنقيص من القراءة الأخرى، فهذا لاشك حرام، ولا يستحله مسلم عالم ذاكر لما يقول.
وأما إن قُصد المُقارنة بين لفظ (مالك) و (ملك)، وأن نُبيّن ما يتضمنه كل منهما من مزية، فهذا لا بأس به.
فإن قيل: ما الفائدة من وجود القراءتين، من جهة اللفظ والبلاغة؟
فالجواب: إن القراءتين للكلمة القرآنية بمثابة الآيتين، وهذه قاعدة ولعله من كمال بلاغة القرآن أن يجيء في الموضع الواحد بالكلمتين، فتُقرأ هذه مرة وهذه مرة، وبذلك تكتمل الدلالة على ملكية الله تعالى لذلك اليوم العظيم. قال الإمام القرطبي – رحمه الله –: إن وُصِفَ الله سبحانه بأنه (مَلِك) كان ذلك من صفات ذاته، وإن وُصِفَ بأنه (مالك) كان ذلك من صفات فعله.
ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جامع الترمذي أنه يقرأ بـ (ملك) ويقرأ بـ (مالك)، قال العلماء: ومن كمال الاقتداء به صلى الله عليه وسلم أن نفعل ذلك فنقرأ بهذه تارة وبتلك تارة ؛ لكن بشرط أن لا يحصل به التشويش على العامة والتشكيك لهم في كلام الله تعالى.
جاء بعد لفظ (مالك) لفظ (يوم). فما هو اليوم؟
اليوم يُطلق في لغة العرب على الجزء من الزمن. واليوم في الشرع: هو ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والأيام عند الله يقدرها بما شاء سبحانه، فيوم عند ربك بألف سنة، ويوم بخمسين ألف سنة وهكذا.. لكن ما هو اليوم الحقيقي؟ إن اليوم الحقيقي، وإن اليوم الحق هو يوم القيامة، كما قال سبحانه:"ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا" وقال: "اليوم تُجزى كل نفس ما كسبت".
وأما لفظ (الدين) فهو يدل على الجزاء ؛ لأن الله تعالى يدين الناس على أعمالهم،، ويوم الدين هو يوم القيامة ومبدأ الآخرة.
وقوله تعالى: "مالك يوم الدين" فيها فوائد جمة، فمن فوائدها: إثبات القدرة العظيمة لله عز وجل، وأنه يُعيد الخلق كما بدأه.
ومن فوائدها: تخويف الناس من يوم القيامة.
ومن فوائدها: إثبات العدل لله سبحانه، فإنه قال: "يوم الدين". ولم يقل: يوم الحساب ؛ لأن لفظ الدين أدل على إثبات المُجازاة بالعدل.
ومن فوائدها: إظهار العجز التام للناس، وإثبات العبودية المحضة لجميع الخلق، ففي يوم الدين لا حرية لأحد، ولا إرادة لأحد، ولا ملك لأحد، ولا تصرف لأحد، إلا لله الواحد الأحد.
وإن قيل: لما قال سبحانه: "مالك يوم الدين" وهو سبحانه مالك لجميع الأيام؟
فهذا له أجوبة:
من أجوبته: أن التخصيص لا يعني الحصر، يعني تخصيصنا لشيء بالذكر لا ينفي غيره، فلو قلنا: فلان يملك كذا من الإبل، فهذا لا يعني أنه لا يملك غيرها.
وقد تقرر أن الله تعالى مالكٌ لجميع الأيام، ومالكٌ لجميع الأوقات، مالك للدنيا والآخرة، وفي سياق الآيات إثبات الملكية التامة لله، وهذا حاصل بقوله تعالى: "رب العالمين"، فالعالمين كل ما سوى الله تعالى، وهو عام في الدنيا والآخرة.
ومن الأجوبة البديعة: أن يوم الدين يوم لا يُنازع الله في ملكيته أحد، في الدنيا كانوا يُنازعونه في الملك ولو بالكذب، أما في الآخرة وفي يوم القيامة فلا يجرأ أحد أن يُنازع الله في شيء ولو بالكذب، لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار. لمَن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار.
في الدنيا هنالك ملك مجازي، وهنالك حرية وتصرف من المخلوقين، وهنالك أسباب ومُسببات، أما يوم القيامة، فإن الله تعالى يتصرف لوحده لا أحد يتصرف غيره، والله يملك لوحده لا أحد يملك غيره، والله يُجازي لوحده لا يُنازعه أحد، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا حقيقة ولا مجازاً.
قوله: "يوم الدين" إثبات لهول يوم الدين وتعظيم ليوم القيامة، فإن الله مالكٌ ليوم الدين ولغيره ولكن خصه بالذكر لتعظيمه ولعظمته، ميّزه لهوله وميّزه لجلالته وأهميته.
وهذا التميُّز فيه إظهار عظمة الخالق ، أيضاً فيه إظهار عظيم الملك لله. فنحن مثلاً إن أردنا فإننا ننسب الملك إلى شخص فننسب إليه أعظم الأشياء وأفضلها. لو أننا نعلم شخصاً من الناس يملك الذهب العظيم الخالص، ويملك بإزائه شيئاً حقيراً كخزف أو قش، فنحن نقول: فلان مالك الذهب. ولا نقول: مالك الخزف. فإن الخزف أمام الذهب لا شيء، والدنيا أمام الآخرة لا شيء، ولهذا قال: "مالك يوم الدين".
بقي الحديث عن المُناسبة بين الآيات:
لننظر في ارتباط الآية بما قبلها، ارتباط "مالك يوم الدين" بـ "الحمد لله".
بينهما تناسب، لو تأملنا لوجدنا أن الكلام في قوة: الحمد لله لأنه مالك يوم الدين. لماذا؟
يوم الدين يُقيم الله تعالى فيه العدل، يوم الدين يقتص فيه المظلوم من الظالم حتى الشاة العجماء، العدل والإنصاف لا يكون إلا في يوم الدين، لا يكون في الدنيا عدل تام حتى لو نُفذ الشرع، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنني أقضي بما أسمع).
أيضاً يوم الدين هو الذي يصلح أهل الدنيا، كيف هذا؟
لولا يوم الدين لرأينا غير الذي نراه، يوم الدين يجعلنا نستقيم فلا ننحرف، يجعلنا لا نظلم، لا نسرق، لا نغتاب، لا نقتل.
وهاهنا لطيفة دقيقة: أن الله ذكر في أول السورة خمسة أسماء له: الله، الرب، الرحمن، الرحيم، الملك أو المالك. لماذا؟ أو ما الفائدة؟
قال في التفسير الكبير: السبب فيه كأنه يقول: خلقتك أولاً، فأنا إله. ثم ربيتك بوجوه النعم، فأنا رب. ثم عصيتَ فسترتُ عليكَ، فأنا رحمن. ثم تُبتَ فغفرت لك، فأنا رحيم. ثم لابد من إيصال الجزاء إليكَ، فأنا مالك يوم الدين.
وقال تعالى: "الرحمن الرحيم" ثم قال: "مالك يوم الدين". فما فائدة التعقيب هنا؟
قال العلماء: لمّا بيّن الرحمة المُضاعفة، فكأنه قال: لا تغتروا بذلك، فإني مالك يوم الدين، فهذا جمع بين الترغيب والترهيب، وقدم (الرحمن) على (مالك) ؛ لأن الرحمة سبقت في علم الله غضبه وعقوبته.
الحلقة التاسعة:
يقول المولى سبحانه وتعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين".
هذه الآية هي الآية الرابعة من سورة الفاتحة سبقتها ثلاث آيات، وستتلوها ثلاث آيات أو اثنتان، وقد جعل الله تعالى الفاتحة نصفين، وجعل هذه الآية نصفين. فالآيات الثلاث الأول كلها ثناء على المولى سبحانه وتمجيد، والآيات الثلاث الأخيرة كلها دعاء من العبد إلى ربه ومولاه.
وأما هذه الآية فهي نصفان نصفها للرب، ونصفها للعبد، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين. قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
"إياك نعبد" أي لك يا ربنا نُصلي ونسجد ونحفد ولا نعبد سواك ولا نتوجه إلى غيرك. معناها: نُخلص العبادة لك ونُخلص التوحيد لك، ولا نُشرك معك غيرك، معناها: أنت المُستحق للعبادة وحدك.
و " إياك نستعين " أي نستمد العون منك في جميع الأمور ولا نستعين بأحد سواك، ولا نطلب العون إلا منك. معناها: نُعلن لك عجزنا وضعفنا، ونُعلن براءتنا من كل حول ومن كل قوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذه الآية دلتنا على أساس ديننا، دلتنا على لب شريعتنا، ودلتنا على سر وجودنا.
هذه الآية بمثابة قولنا: لا إله إلا الله، هي توازي كلمة التوحيد في المعنى، تتضمن إثبات العبادة لله وحده، وتتضمن نفي العبادة عما سواه سبحانه، وهذا المعنى هو أساس الدين وسر الوجود، وهذا المعنى هو الغاية التي أُنزل القرآن لأجلها.
ولهذا جاء عن بعض السلف تعظيم هذه الآية، روي عن بعضهم: أن معاني القرآن الكريم تعود إلى هذه الآية. وقال بعضهم: "إياك نعبد وإياك نستعين" سر القرآن.
هذه الآية الكريمة مع قصر ألفاظها قد حوت المعاني العظيمة، وقد حوت البلاغة العجيبة، عجائب هذه الآية لا تقضى.
نذكر منها ما يتسع له المقام:
هذه الآية جاءت بصيغة موجزة، ولكن بأسلوب بليغ جداً، ومن بلاغتها أنها تدل على حصر العبادة في عبادة الله، وعلى اختصاص التوحيد به سبحانه ونفي الشريك عنه.
قال تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين" تقديم "إياك" هنا يفيد الحصر، ويفيد الاختصاص، قالوا: لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، و"إياك" هنا مفعول به وحقه التأخير، وعامله "نعب " و "نستعين". قال ابن القيم – رحمه الله -: فهو في قوة: لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك.
من فوائد تقديم "إياك" كذلك: العناية والاهتمام، فإن شأن العرب أن تقدم الأهم، قالوا: ولئلا يتقدم ذكر العبد على ذكر الرب سبحانه.
وقال سبحنه: "إياك نعبد وإياك نستعين" ولم يقل: أعبد وأستعين، لماذا؟ يعني ما الفائدة من نون الجمع هنا؟
هذا التعبير القرآني فيه فوائد، وفيه دلالات عظيمة، وفيه إشارات لطيفة.
فيه تنبيه العابد على صلاة الجماعة فيقال له: احضر إلى بيت الله وصلي مع المسلمين. كيف؟ لأنه يقول: نعبد ويقول نستعين. في صلاته، وهذا اللفظ يدل على الجماعة، فلزم منه أن يكون المُصلي في الجماعة، ليكون أصدق وأدق في التعبير.
من فوائد (نون الجمع) تعلم العبد حُسن السؤال من الله، وتعليمه أدب الخطاب بين يدي مولاه، قال بعض المفسرين: كأن العبد يقول: إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث تُستحق أن أذكرها وحدها ؛ لأنها ممزوجة بالذنوب والتقصير، ولكن أخلطها بعبادات جميع العابدين، وأذكر الكل بعبارة واحدة، وأقول: "إياك نعبد" قالوا: وهذا أدعى للقبول.
وقد فرع الفقهاء مسألة: وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة عبيد فإن المُشتري إما أن يقبل الكل أو لا يقبل واحداً منها، وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة بتلك الصفة. بل جاء في الحديث: هم القوم لا يشقى جليسهم.
ومن الفوائد: أن لفظ نعبد بالجمع يدلنا على إثبات علم الغيب لله. لماذا؟ لأن الفاتحة قد فرض الله قراءتها في صلاة الجماعة في الجهر وفي السر، وقد نزلها قبل فرض صلاة الجماعة بهذه الصفة. والصياغة "نعبد" و "نستعين".
ومن الفوائد: أن لفظ "نعبد" بالجمع يدلنا على الاجتماع يدلنا على إيجاب التعاون بين المؤمنين. كيف؟
من وجوه، منها: أن المؤمنين الذين يجتمعون على عبادة الله وهي أعلى المطالب، يجب أن يجتمعوا على غيرها. ومنها: أن المؤمنين الذين يعبدون إلهاً واحداً ويستعينون به حري أن تكون كلمتهم واحدة، وأن يكون رأيهم ووجهتهم واحدة. ومنها: أن العبادة لفظ جامع لكل عمل يُحبه الله ويرضاه، وقد جاء هنا بلفظ الجمع، فدل على التعاون في كل عمل يُحبه الله.
قال تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين" ولم يقل: إياك نستعين وإياك نعبد.
قال العلماء: تقديم العبادة هنا على الاستعانة من باب تقديم الغايات على الوسائل، فالعبادة غاية والاستعانة وسيلة لها، والغاية أحق وأولى بالتقديم.
وقيل: إن العبادة حق لله، والاستعانة حق للعبد، وما كان حق لله فهو أولى بالتقديم.
فإن قيل: لمَ كرر الضمير "إياك" مرتين؟ أي ما فائدة تكرار الضمير؟
قيل جواباً: إن التكرار هنا له فوائد:
من فوائده: العناية بالمعبود وتعظيمه وتقديمه.
ومن فوائده: تأكيد الاختصاص والحصر، ليتأكد أن العبادة والاستعانة لا تكون إلا لمن دل عليه ضمير إياك وهو الله سبحانه وتعالى.
ومن فوائده: ليحصل شيء من التفريق بين العبادة والاستعانة، فالعبادة لا تكون إلا لله، والاستعانة قد تكون بالمخلوق فيما يقدر عليه، وقد قال الله سبحانه: "وتعاونوا على البر والتقو ".
هذه الآية وردت بأسلوب الحاضر، والآيات التي قبلها كلها بأسلوب الغائب "الحمد لله" غيب" رب العالمين "غيب" الرحمن الرجيم "غيب" مالك يوم الدين "غيب" إياك نعبد وإياك نستعين " حاضر. انتقل الخطاب من الغيب إلى الحضور. ومن الغياب إلى الشهود. لماذا؟
أولاً: التنقل في أسلوب الخطاب له فائدة عامة، وهذه الفائدة: هي لفت الأنظار وتنبيه السامع وحضه على مزيد التركيز والعناية، يعني أن هذه الجملة وهذا المعنى عظيم فتنبه عنه وأصغ له سمعك.
لماذا قال: "إياك نعبد" بأسلوب الحاضر؟
"إياك نعبد وإياك نستعين" سؤال ودعاء والتجاء إلى الله، وما كان كذلك فالأليق فيه المُشافهة والمُخاطبة المُباشرة، والآيات قبلها هي ثناء ومدح وتمجيد، والأليق في شأن الثناء هو خطاب الغيبة لا الحضور.
ومن اللطائف: أن يقال: مقام العبادة هو مقام الحضور بين يدي المولى، وهو ميدان المُراقبة لله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". فناسب لأجل هذا أن يأتي بأسلوب الحضور والشهود.
الحلقة العاشرة:
الحديث في هذه الحلقة عن قول الحق سبحانه وتعالى: "اهدنا الصراط المُستقيم".
لنتدبر الآية ونقف عند ألفاظ الآية كلمة كلمة. اهدنا. الصراط. المُستقيم. ونعرض القول في معانيها ودلالاتها الإجمالية، ونقف على الفوائد منها.
"اهدنا" فعل أمر بمعنى دلنا، والأمر هنا بمعنى الدعاء. لماذا؟ لأن الأمر إن جاء من الأدنى إلى الأعلى، ومن الأقل إلى الأعظم فهو يدل على الدعاء وعلى الترجي.
الفاعل هنا ضمير مستتر تقديره (أنت) أي يا ربنا اهدنا. و (نا) في "اهدنا" ضمير متصل في محل نصب مفعول أول، والصراط مفعول ثانِ.
قال العلماء: الهداية في اللغة: هي الدلالة إلى الخير، والهداية في الشرع قسمان: هداية بيان وإرشاد وتوضيح، وهداية توفيق وإلهام وقبول. هداية البيان هي التعريف بالحق وهذه الهداية مُثبتة للخالق ومُثبتة للمخلوق، وهداية الإلهام والتوفيق وهذه لا تكون إلا للخالق سبحانه، ولا يقدر عليها إلا الله سبحانه، حتى نبيه صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليها "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء".
الهداية في هذه الآية بمعنى: ألهمنا دينك الحق، ووفقنا للعمل به، ودلنا دلالة التوفيق ودلالة العمل والإلهام. لماذا؟
قال بعض العلماء: لأن الهداية إذا كانت مُتعدية بإلى فهي للدلالة وللبيان وللإرشاد فقط كما قال الله:" وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم". وإن كانت مُتعدية بنفسها فهذه تكون الإلهام والتوفيق والعمل. والهداية هنا مُتعدية بنفسها.
الهداية هي الدلالة بلطف، وهي الدلالة إلى الخير، والتخصيص هنا فيه نكتة. والنكتة هي: اختصاص الدلالة بالدلالة إلى الخير ؛ لأن التلطف يُناسب مَن أُريد به الخير.
وقال سبحانه: " اهدنا " بصيغة الجمع. لماذا؟ لأن الذي يدعو به يدعو به في الصلاة، وقد تكون الصلاة جهرية، واللائق بالإمام أن يدعو له ولغيره، وهذا فيه إثبات علمه سبحانه بالغيب، وإثبات رحمته بالخلق.
وقيل: إن الدعاء للمؤمنين حسن في كل حال، ولكن هذا من حقوق الأخوة الإيمانية، وجاءت بلفظ الآية.
وقيل: إن الدعاء بصفة الجمع؛ لأنه هو أقرب إلى القبول. والكل جائز والكل معنى صحيح.
قال سبحانه: " اهدنا الصراط " فما هو الصراط؟
الصراط هو الطريق الذي لا اعوجاج فيه، قال الإمام الطبري – رحمه الله -: وهذا المعنى مُتفق عليه.
والصراط هنا هو دين الإسلام، فإن الله يقول: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم. ديناً قيماً" [الأنعام: 161]، فقوله: "ديناً قيماً" تفسير لقوله: "صراط مستقيم" وهكذا هنا، والقرآن يُفسر بعضه بعضاً.
وقد اتفقت كلمة العلماء على تفسير الصراط بهذا المعنى، ولكن اختلفت تعبيراتهم، قال بعضهم: الصراط هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: هو القرآن. وقال بعضهم: هو طريق العبودية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ما معناه: هذا الاختلاف تنوع في العبارة، واختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وإلا فإن المعنى والمُسمى واحد.
وروي عن بعض السلف أنه قال: الصراط هو الحج. وهذا التفسير لا يُقصد به التعيين ولكن يُقصد به التمثيل. فمثاله: لو سأل رجل من العجم عن معنى الخُبز؟ فجاء شخص وأشار له إلى رغيف. فهذا الجواب يقصد به المثال ولا يقصد به الحصر والتعيين، يعني الرغيف كهذا. وهكذا قوله: الصراط الحج.
ولهذا استعير لفظ الصراط ليدل على دين الإسلام. وإلا فإن الصراط هو الطريق، ولكن الطريق لا يُسمى صراطاً إلا إذا جمع بين أربع خصال ما هي؟ الاستقامة، والإيصال إلى المقصود، والسعة، والقرب.
إذاً التعبير عن الإسلام بالصراط له معانٍ، وله دلالات وإشارات.
الصراط في اللغة: الطريق الواسع، والإسلام هو الدين الحق وهو الطريق الحق، ومن صفاته: أنه الطريق الواسع، وسع الخلق ووسع الحق فهو الدين الذي دعا جميع الخلق إلى جميع الحق، وهو الطريق الذي لم يحوج سالكيه إلى غيره، لم يُحوجهم أن يخرجوا منه ويسلكوا طريقاً غيره.
ولهذا نقول: في هذه الآية رد وتكذيب، رد على مَن قال: إن أحداً من الناس يسعه الخروج عن طريق الإسلام. وتكذيب لمن قال: إن دين الإسلام قاصر، أو أنه عاجز في وقت من الأوقات أو في زمن من الأزمان.
ومن فوائد لفظ "الصراط المستقيم": الإخبار بأن دين الإسلام هو أقرب الطرق وهو أقصر وهو أسرع الطرق. فإن لفظ "الصراط" من صفاته القرب، ولفظ "المستقيم" هو أقرب خط وأقرب طريق بين نقطتين.
ومن الفوائد: أن لفظ " المستقيم " يتضمن الإشارة إلى أنه يوجد طرقاً غير مستقيمة، ويوجد مناهج ملتوية، ولعل هذا تبكيت لليهود والنصارى..
ومن الفوائد اللطيفة: إيضاح أن الحق واحد لا يتعدد، فإن لفظ " المستقيم " لفظ يدل على الفرد، وأل فيه للعهد، وأن لفظ المستقيم يدل أيضاً على الانفراد، فالمستقيم كما يُعرفه أهل الهندسة هو: أقرب خط يصل بين نقطتين، وهذا لا يكون إلا واحداً، وهكذا طريق الحق لا يكون إلا واحداً كما أخبر الله سبحانه " فماذا بعد الحق إلا الضلال ".
ومن الفوائد: الإبانة بأن طرق الباطل كثيرة وهذه واحدة، وأن طرق الباطل ملتوية ومُجهدة ومُتعبة لأصحابها وهذه ثانية، وأنها طرق لا توصل إلى المقصود الصحيح وهذه ثالثة.
هذه الفوائد الثلاث تؤخذ من لحن العبارة، تؤخذ من مفهوم المخالفة للفظ "الصراط المستقيم".
من فوائد الآية الكريمة: التنبيه إلى عظم هذا الدعاء، الدعاء بالهداية إلى الدين، وفضل هذا الدعاء. لماذا؟
لأن هذا الدعاء دعاء قرآني، قد تكلم به الله تعالى في مُحكم التنزيل.
وثانياً: هذا الدعاء قد فرضه الله، فرضه سبحانه في كل صلاة فرضه في كل ركعة أن تقوله وأن تدعو به.
وإن قيل: لمَ قال: "اهدنا الصراط المستقيم " أليس المُصلي مهتدِ، أليس المسلم على الصراط المستقيم هل هذا من تحصيل الحاصل؟
أجاب عنه العلماء بأجوبة، كلها أجوبة صحيحة، وأجوبة مُتقاربة.
منهم مَن قال: "اهدنا الصراط المستقيم" أي طريق المُتقدمين الأولين، وهي طريقة عظيمة ومنازل رفيعة، وهذا تدل عليه الآية التي بعدها "صراط الذين أنعمت عليهم".
ومنهم مَن قال: "اهدنا" أي ثبتنا.
ومنهم مَن قال: أي زدنا. فإن الطريق المستقيم هو الطريق الوسط تماماً، وهذه الوسطية الدقيقة غير مُتحققة لكل مُهتدِ. ولهذا جاء وصف الصراط المستقيم في الآخرة أنه صراط دقيق، أحدّ من السيف وأدقّ من الشعرة.
ومنهم مَن قال: المقصود على الحقيقة، أي طلب الهداية لماذا؟ الإنسان محتاج إلى طلب الهداية في كل وقت وفي كل حين. هو محتاج إلى هداية جديدة في كل وقت ؛ لأنه مكلف في كل وقت بعمل جديد، ولهذا من أحسن ما فُسر به "الصراط المستقيم" هو العلم والعمل في كل وقت بما أمر الله.
هذا التوجيه ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، وهذا توجيه جيد، وفيه نكتة ولطيفة. ولكنه لا يُعارض ما قيل من التوجيهات، بل يوافقها تماماً، وهو لا يُعارض التفسير بمعنى: زدنا أو ثبتنا.
قال الله سبحانه: "إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم".
بين الآيتين تناسب وبينهما ترابط وتكامل، بينهما توافق في الغاية. كأن المعنى: نحن نعبدك وحدك ونستعين بك وحدك فاهدنا لأجل ذلك إلى الطريق الحق، فهو قد جعل ذكر العبادة المُتقدمة وسيلة لقبول الدعاء.
وأيضاً المعنى: اهدنا الصراط المستقيم والطريق الحق الذي هو طريق عبادتك وإخلاص الاستعانة بك. فعلى هذا، العبادة تفسير للصراط، ولكن جاء ذكرها مُتقدماً عليها. وفي سورة الأنعام جاء ذكر الصراط أولاً ثم العبادة، كما قال سبحانه: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم، ديناً قيماً". [الأنعام: 161].
وأيضاً المعنى: إياك نعبد ولا نعبد غيرك، فنحن لأجل هذا نطلب الهداية منك لا من غيرك، فالآية الأولى توافق الثانية تمام الموافقة.
المصدر :الإسلام اليوم