بسم الله الرحمان الرحيم
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك، اللهم لك الحمد بالإسلام، و لك الحمد بالإيمان، و لك الحمد بالقرآن، لك الحمد حتى ترضى، و لك الحمد إذا رضيت، و لك الحمد بعد الرضى
وبعد
فهذه مجموعة من الطائف و الفوائد و الفرائد القرآنية و التي تمر على خاطر الإنسان أثناء قراءته لكتاب الله - عز وجل - فتدفعه للتدبر فيها، وقد كنت أرجع إلى كتب المفسرين لبيان معاني هذه النكت، حتى صرت كثيرا ما أردد : ما ترك الأول للآخر شيئا، و لكن كلما تقدمت بالإنسان المعرفة أدرك أن كتاب الله أعظم من تنقضي عجائبه و تفنى درره ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولو الألباب )
و سأكتب بتوفيق الله تعالى كل يوم لطيفتين، و أستهلهما اليوم : يوم الجمعة، و أسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم و ان ينفعنا به و جميع المسلمين ...آمين . و الحمد لله رب العالمين . الللطيفة الأولى : ( ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا و لكن كان حنيفا مسلما و ما كان من المشركين )
و الإشكال : لمَ تقلب الكلام بين النفي ثم الإثبات ثم النفي ؟
و الجواب : أن الله تعالى أخبر في هذه الآية ، عن حقيقة أمر إبراهيم ، فنفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان ، ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية ، وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة ، نفى نفس الملل وقرر الحالة الحسنة ، ثم نفى نفياً بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك ، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالاً بل حفظته ، وما كنت سارقاً ، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ .
تفسير المحرر الوجيز للإمام ابن عطية الأندلسي ج 1 ص438
و قد يضاف أن الله تعالى قدم الأديان السماوية و أخر الإشراك لأنه دين غير سماوي اللطيفة الثانية : ( وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ )
لم عبر في الكفر بصيغة الماضي و في الشكر بضيغة المضارع ؟
و الجواب : في اختيار صيغة المضي في هذا الشق( الكفر ) قيل : إشارة إلى قبح الكفران وأنه لا ينبغي إلا أن يعد في خبر كان ، وقيل : إشارة إلى أنه كثير متحقق بخلاف الشكر وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ : 1] . روح المعاني ج 11 ص 83
و معنى هذا أن الكفر لا يؤتى بصيغة المضارع تأدبا من الله تعالى ذلك أن المضارع دال على التكرر فلا يذكر الكفر بصيغة تدل على تكرره.
وذكرالإمام الفخر الرازي معنى آخر فقال :
المسألة الثانية قال في الشكر ومن يشكر بصيغة المستقبل وفي الكفران ومن كفر فإن الله غني وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد كقول القائل من دخل داري فهو حر ومن يدخل داري فهو حر فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكررالنعمة فمن شكر ينبغي أن يكرر والكفر ينبغي أن ينقطع فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله بل أبداً يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر إدخاله في الوجود كما قال رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ( النمل 19 ) وكما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) فأشار إليه بصيغة المستقبل تنبيهاً على أن الشكر بكماله لم يوجد وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام فقال بصيغة الماضي . مفاتيح الغيب ج 25 ص 28
جزاك الله خيراً أخي الكريم على هذه اللطائف الطيبة وأرجو منك تصحيح الخطأ المطبعي في الآية
وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) لقمان
وحبذا لو نقلت الآيات بخط المصحف تفادياً لأي خطأ غير مقصود
وأرجو أن تتدبر الفرق بين هذه الآية والآية رقم 40 في سورة النمل (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) فقد ورد الفعلان بصيغة الماضي
بارك الله فيك ونفع بك
الأخت سمر الأرناؤوط بارك الله فيك على التنبيه أما الآية التي ذكرتها فلعل الله ييسر فهمها فنثبتها قبل انتهائنا من كتابة هذه اللطائف اللطيفة الثالثة : قوله تعالى في سورة الشورى : (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ (48) ) قرن الرحمة بإذا و قرن السيئة بإن فلماذا ؟ و الجواب: أن إذا تفيد التحقيق و إن تفيد الشك فقرن الرحمة بإن للدلالة على تحقق وصولها وقرن إن بالسيئة للتقليل و الشك . فظهر بذلك الفرق بين حال الإنسان في النعم و حاله في المصائب اللطيفة الرابعة: قوله تعالى ( أياما معدودة ) و ( أياما معدودات ) قال الفخر الرازي : المسألة الثالثة ذكر ههنا ( وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة )ً وفي آل عمران إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ولقائلٍ أن يقول لم كانت الأولى معدودة والثانية معدودات والموصوف في المكانين موصوف واحد وهو ( أياماً ) والجواب أن الاسم إن كان مذكراً فالأصل في صفة جمعه التاء يقال كوز وكيزان مكسورة وثياب مقطوعة وإن كان مؤنثاً كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء يقال جرة وجرار مكسورات وخابية وخوابي مكسورات إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكر في بعض الصور نادراً نحو حمام وحمامات وجمل سبطر وسبطرات وعلى هذا ورد قوله تعالى فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ و فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ فالله تعالى تكلم في سورة البقرة بما هو الأصل وهو قوله أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً وفي آل عمران بما هو الفرع. ج3 ص 130
(اقتباس)
يقول الاخ محب تعليقاً على اللطيفة الثانية:
(ومعنى هذا أن الكفر لا يؤتى بصيغة المضارع تأدبا من الله تعالى ذلك أن المضارع دال على التكرر فلا يذكر الكفر بصيغة تدل على تكرره).انتهى كلام الاخ محب
وبعد الرجوع الى المصحف وجدت أن كلمة يكفر بصيغة المضارع ذكرت بما يزيد عن 14 مرة في القرآن الكريم . مما يستدعي إعادة النظر بذلك المعنى وتركه على اطلاقه دون تطويق.
وأسوق اليك أخي بعض الآيات التي ذكرت الكفر بصيغة المضارع:
(وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ )
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)
(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ). وبارك الله تعالى بك على هذه الطائف التي تتحفنا بها . والحمد لله رب العالمين
أخي تيسير الغول بارك اللله فيك على تنبيهك و أتحفك باللطيفة الخامسة
اللطيفة الخامسة :{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) } قال الإمام الطاهر بن عاشور : ذكر الشيخ محمد بن سعيد المجري التونسي في حاشيته على شرح الأشموني للألفية المسماة زواهر الكواكب عن كتاب في إعجاز القرآن هذا الاسم سمي به كتابان أحدهما لكمال الدين محمد المعروف بابن الزملكاني و الثاني لابن أبي الأصبع أنه قال : فإن قيل لم أكد الفعل باللام في الزرع و لم يؤكد في الماء قلت : لأن الزرع و إنباته و جفافه بعد النضارة حتى يعود حطاما مما يحتمل أنه من فعل الزارع أو أنه من سقي الماء وجفافه من عدم السقي فأخبر سبحانه أنه هو الفاعل لذلك على الحقيقة و أنه قادر على جعله حطاما في حال نموه لو شاء و إنزال الماء من السماء مما لا يتوهم أن لأحد قدرة عليه غير الله تعالى إ.ه و قال الألوسي : وقرر( يقصد الزمخشري ) وجها آخر حاصله أن اللام لمجرد التأكيد فتناسب مقام التأكيد فأدخلت في آية المطعوم دون المشروب للدلالة على أن أمره مقدم على أمره ، وأن الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أن المشروب تبع له ألا يرى أن الضيف يسقى بعد أن يطعم ، وقد ذكر الأطباء أن الماء مبذرق ، ويؤيد ذلك تقديمه على المشروب في النظم الجليل ، وللإمام في هذا المقام كلام طويل اعترض به على الزمخشري وبين فيه وجه الذكر أولا والحذف ثانيا ، ولم أره أتى بما يشرح الصدر ، وخير منه عندي قول ابن الأثير في المثل السائر : إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب ، وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق ، وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد ، فلذا قرن باللام لتقرير إيجاده وتحقيق أمره انتهى. اللطيفة السادسة : { نعم العبد إنه أواب }قال الإمام الطاهر بن عاشور : وقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} مثل قوله في سليمان: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [صّ:30]،فكان سليمان أوابا لله من فتنة الغني والنعيم، وأيوب أوابا لله من فتنة الضر والاحتياج،وكان الثناء عليهما متماثلا لاستوائهما في الأوبة وإن اختلفت الدواعي.قال سفيان:"أثنى الله على عبدين ابتليا: أحدهما صابر، والآخر شاكر، ثناء واحدا. فقال لأيوب ولسليمان {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ".
اللطيفة السابعة: { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ (73) } لم خص المقوين ؟ قال الإمام ابن القيم – رحمه الله - : ونبه عليه بقوله في نار الدنيا نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين تذكرة تذكر بها الآخرة ومنفعة للنازلين بالقواء وهم المسافرون يقال أقوى الرجل إذا نزل بالقي والقوى وهي الأرض الخالية وخص المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيها لعباده والله أعلم بمراده من كلامه على أنهم كلهم مسافرون وأنهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر. طريق الهجرتين ج 1 ص 232 اللطيفة الثامنة: { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) } لم قالوا امرأة العزيز و لم يصرحوا باسمها ؟ قال الإمام البقاعي – رحمه الله - : فقال تعالى (وقال نسوة ) أي جماعة من النساء لما شاع الحديث ، ولما كانت البلدة كلما عظمت كان أهلها أعقل وأقرب إلى الحكمة ، قال : ( في المدينة ) أي التي فيها امرأة العزيز ساكنة ( امرأت العزيز ) فأضفتها إلى زوجها إرادة الإشاعة للخبر ، لأن النفس إلى سماع أخبار أولي الأخطار أميل . نظم الدرر ج 4 ص 34
اللطيفة التاسعة: لم استعمل في جانب الديانات السابقة لفظ { وصى } و في جانب الدين الإسلامي لفظ { أوحينا } ؟ قال الإمام الطاهر بن عاشور : ذكر في جانب الشرائع الأربع السابقة فعل {وصى} وفي جانب شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فعل الإيحاء لأن الشرائع التي سبقت شريعة الإسلام كانت شرائع مؤقتة مقدرا ورود شريعة بعدها فكان العمل بها كالعمل الذي يقوم به مؤتمن على شيء حتى يأتي صاحبه، وليقع الاتصال بين فعل {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} وبين قوله في صدر السورة {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:3].
تفسير التحرير و التنوير ج 25 ص 121
اللطيفة العاشرة: ما سر ترتيب الأنبياء و شرائعهم على هذا النحو البديع ؟ قال الإمام الطاهر بن عاشور : والاقتصار على ذكر دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن نوحا أول رسول أرسله الله إلى الناس، فدينه هو أساس الديانات، قال تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] ولأن دين إبراهيم هو أصل الحنيفية وانتشر بين العرب بدعوة إسماعيل إليه فهو أشهر الأديان بين العرب، وكانوا على أثارة منه في الحج والختان والقرى والفتوة. ودين موسى هو أوسع الأديان السابقة في تشريع الأحكام، وأما دين عيسى فلأنه الدين الذي سبق دين الإسلام ولم يكن بينهما دين آخر، وليتضمن التهيئة إلى دعوة اليهود والنصارى إلى دين الإسلام. وتعقيب ذكر دين نوح بما أوحي إلى محمد عليهما السلام للإشارة إلى أن دين الإسلام هو الخاتم للأديان، فعطف على أول الأديان جمعا بين طرفي الأديان، ثم ذكر بعدهما الأديان الثلاثة الأخر لأنها متوسطة بين الدينين المذكورين قبلها. وهذا نسج بديع من نظم الكلام، ولولا هذا الاعتبار لكان ذكر الإسلام مبتدأ به كما في قوله {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] وقوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7]
و مع قوله تعالى:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } اللطيفة الثانية عشرة : لم آثر الإيحاء على التوصية ؟ وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآية المذكورة ولما في الإيحاء من التصريح برسالته عليه الصلاة والسلام القامع لإنكار الكفرة ، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بايحائه ، وفي ذلك إشعار بأن شريعته صلّى اللّه عليه وسلّم هي الشريعة المعتنى بها غاية الاعتناء روح المعاني ج 13 ص 22 اللطيفة الثالثة عشرة : لم استعمل ما في الأديان السابقة و الذي في الدين المحمدي ؟ قال الإمام الطاهر بن عاشور : وفي قوله تعالى {مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} وقوله {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ} جيء بالموصول {ما}، وفي قوله {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} جيء بالموصول {الذي} ، وقد يظهر في بادئ الرأي أنه مجرد تفنن بتجنب تكرير الكلمة ثلاث مرات متواليات، وذلك كاف في هذا التخالف. وليس يبعد عندي أن يكون هذا الاختلاف لغرض معنوي، وأنه فرق في استعمال الكلام البليغ وهو أن {الذي} وأخوته هي الأصل في الموصولات فهي موضوعة من أصل الوضع للدلالة على من يعين بحالة معروفة هي مضمون الصلة، ف {الذي} يدل على معروف عند المخاطب بصلته. وأما {ما} الموصولة فأصلها اسم عام نكرة مبهمة محتاجة إلى صفة نحو قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58] عند الزمخشري وجماعة إذ قدروه: نعم شيئا يعظكم به. ف {ما} نكرة تمييز ل"نعم" وجملة {يَعِظُكُمْ بِهِ} صفة لتلك النكرة. وقال سيبويه في قوله تعالى {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [قّ: 23] المراد: هذا شيء لدي عتيد، وأنشدوا: لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن ... لشيء بعيد نفعه الدهر ساعيا أي لشيء نافع، فقد جاءت صفتها اسما مفردا بقرينة مقابلته بقوله: لشيء بعيد نفعه، ثم يعرض ب {ما} التعريف بكثرة استعمالها نكرة موصوفة بجملة فتعرفت بصفتها وأشبهت اسم الموصول في ملازمة الجملة بعدها، ولذلك كثر استعمال {ما} موصولة في غير العقلاء، فيكون إيثار {مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} بحرف {ما} لمناسبة أنها شرائع بعد العهد بها فلم تكن معهودة عند المخاطبين إلا إجمالا فكانت نكرات لا تتميز إلا بصفاتها، وأما إيثار الموحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم باسم {الذي} فلأنه شرع متداول فيهم معروف عندهم. فالتقدير: شرع لكم شيئا وصى به نوحا وشيئا
اللطيفة الرابعة عشرة: { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) } لم قرن الخشية بالرحمة، مثلا لِمَ لَمْ يقل الجبار أو القهار ؟ لماذا خص الرَّحْمَن ؟ قال الإمام الألوسي – رحمه الله - : والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه عز وجل راجون رحمته سبحانه أو بأن علمهم بسعة رحمته تبارك وتعالى لا يصدهم عن خشيته جل شأنه . الألوسي ج 13 ص 340 اللطيفة الخامسة عشرة : الرحمة في سورة مريم
هذه الفائدة استوقفتني أثناء قراءتي لسورة مريم، حيث لاحظت آيات التخويف يأتي فيها ذكر الرحمة نحو { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)} و كذا قوله تعالى{ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } و قوله {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } و قوله { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) } و قوله { أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) } فاستغربت حقيقة لم عدل عن الجبار القهار و نحوها إلى الرحمان طوال السورة حتى مع المشركين و أفعالهم الشنيعة فسألت عنها أحد مشايخنا المهتمين بالتفسير فقال قد هديت لفهمها فسورة مريم بنيت على الرحمة فمناسبة لقوله تعالى { ذكر رحمة ربك } أي اذكر رحمة ربك إلا و كل السورة مبناها على صفة الرحمة كما سبق بيانه من الآيات . و الله أعلم
اللطيفة الخامسة عشرة : قوله تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى } لم عدل عن { النصارى } إلى { الذين قالوا إنا نصارى } ؟
قال الشيخ العلامة الطاهر بن عاشور :وعبر عن النصارى بـ { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} هنا وفي قوله الآتي: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] تسجيلا عليهم بأن اسم دينهم مشير إلى أصل من أصوله، وهو أن يكون أتباعه أنصارا لما يأمر به الله، { كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } [الصف:14] ومن جملة ذلك أن ينصروا القائم بالدين بعد عيسى من أتباعه، مثل بولس وبطرس وغيرهما من دعاة الهدى؛ وأعظم من ذلك كله أن ينصروا النبي المبشر به في التوراة والإنجيل الذي يجيء بعد عيسى قبل منتهى العالم ويخلص الناس من الضلال { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } [آل عمران:81] الآية. فجميع أتباع الرسل قد لزمهم ما التزمه أنبياؤهم وبخاصة النصارى، فهذا اللقب، وهو النصارى، حجة عليهم قائمة بهم متلبسة بجماعتهم كلها. ويفيد لفظ { قَالُوا } بطريق التعريض الكنائي أن هذا القول موفى به وأنه يجب أن يوفى به.
التحرير و التنوير ج 5 ص 64
اللطيفة السادسة عشرة : قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) } لم قال { كن فيكون }{ و لم يقل { كن فكان } ؟
قال الإمام الطاهر بن عاشور : وإنما قال: { فيكون } ولم يقل فكان لاستحضاره صورة تكونه، ولا يحمل المضارع في مثل هذا إلا على هذا المعنى، مثل قوله: { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } [فاطر: 9] وحمله على غير هذا هنا لا وجه له.
اللطيفة السابعة عشرة: قوله تعالى { و إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } لم عبر في الهدى ب على و في الضلال ب في ؟ قال الإمام السيوطي في الإتقان : فاستعملت على في جانب الحق و في في جانب الضلال لأن صاحب الحق مستعل يصرف نظره كيف شاء و صاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض لا يدري أين يتوجه . الإتقان ج 1 ص 145 اللطيفة الثامنة عشرة: قوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل } لم عدل عن اللام إلى في ؟ قال في الإتقان : عدل عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة إيذانا إلى أنهم أكثر استحقاقا للمتصدق عليهم بمن سبق ذكره باللام لأن في للوعاء فنبه باستعمالها على أنهم أحقاء بأن يجعلوا مظنة لوضع الصدقات فيهم كما يوضع الشيء في وعاء مستقرا فيه . وقال الفارسي : وقال وفي الرقاب و لم يقل وللرقاب ليدل على أن العبد لا يملك . الإتقان ج 1 ص 145 اللطيفة التاسعة عشرة : قوله تعالى { فظلت أعناقهم لها خاضعين } جاء في الجلالين : لما وصفت الأعناق بالسجود الذي هو لأربابها جمعت الصفة منه جمع العقلاء .
الجلالين : سورة الشعراء 4
اللطيفة العشرون : المناسبة بين أول سورة الممتحنة و نهايتها ؟ ابتدأت السورة بقول الحق- جل و على - { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء } و ختمت بقوله - عز و جل – { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم } و المناسبة واضحة و القصد منها تنفير المسلمين من هذا العمل . ذكر هذا في حاشية الجمل عند تفسير سورة الممتحنة بقيت اللطيفة الحادية عشرة و التي نسيت إدراجها فلعلي أدرجها غدا بإذن الله و بها تتم هذه اللطائف و الحمد لله رب العالمين .
هذا آخر العهد بهذا الجزء من اللطائف و لعله إن يسر الله سيكون لنا لقاء آخر عبر " لطائف قرآنية ..الجزء الثاني " و نختم هذا الجزء بفائدة قيمة عدلت عن ذكرها في موضعها حتى يكون ختامها مسك وهي متعلقة ب " أيام معدودة " و" أيام معدودات " و هذه الفائدة استفدتها من شيخنا في النحو أثناء شرح متن ألفية بن مالك عند قوله " و الله يقضي بهبات وافرة "
قال - حفظه الله - و ها هنا قاعدة فتنبه : الجمع المؤنث السالم يدل على القلة فإذا أردت تكثيره فات بصفته مفردة لا مجموعة و مثاله :
لو صح ما ينقل عن كعب الأحبار من أن اليهود يعذبون في نار جهنم أربعين يوما و النصارى سبعة أيام فإنه يتبين ما يلي :
اليهود قالوا " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة "
و النصارى قالوا " لن تمسنا النار إلا أياما معدودات "
فلما كانت الأيام كثيرة لدى اليهود جعلوا صفة جمع المؤنث السالم مفردة " أياما معدودة " و النصارى لما كانت أيامهم قليلة لم يحتاجوا لهذا ، فلذا وصفوا بالجمع فتنبه ملاحظات
1- سقط عنوان " الفائدة الحادية عشرة " من اللطائف و تكرر عنوان " الفائدة الخامسة عشر "
2- جمعت في المرفقات كل اللطائف ونسقتها و رتبتها .
و ختاما أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم و أرجو من كل من انتفع به أن يدعوَ لجدي بالشفاء و لجدتي بالرحمة .
و الحمد لله رب العالمين
محب البشير