أنس العمايرة
New member
- إنضم
- 24/05/2011
- المشاركات
- 14
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
لا تـرادف فـي الـقـرآن الـكـريـم
بقلم
الأستاذ الدكتور أنس العمايرة
لم تتفق كلمة العلماء على تعريف موحد للترادف(1) ، إلا أن الترادف الذي أرفضه في القرآن هو: (تعدد الألفاظ المفردة الدالة على التطابق التام بين الدلالتين واتحاد المعنى اتحادا كاملا، باعتبار واحد، وبحقيقة واحدة، وببيئة واحدة، وبلا تطور صوتي بينها) .
وبحكم دراساتي القرآنية وتخصصي في المتشابهات أرى أنه لا فائدة من دراسة المتشابه مع اعتقاد وقوع الترادف في كتاب الله جل وعلا ، وعلى من يدرسه أن يعتقد اعتقاداً جازماً أنْ لا ترادف في كلام المولى جل في علاه ؛ إذ إن ذلك دليل على الحشو والزيادة ، وهو صورة من صور النقص والعجز في التعبير ، حيث يضطر الكاتب أو المتحدث أو الخطيب إلى استخدام أكثر من لفظ ليصل القارئَ أو السامعَ إلى المعنى المراد من كلامه ، وكتاب الله أجلُ من ذلك وأكبر ، وحاشا وكلا أن يكون المولى جل شأنه وتعظمت كلماته بحاجة إلى ألفاظ تساعده وتسعفه لتحسين كلامه ؛ سبحانه لا يتصف بالنقص والعجز اللذين هما من صفات البشر ؛ لذا نحن مع من نفى وجود الترادف في كتاب الله وهم كثر(2) ؛ لأن الله دقيق ، واختيار الألفاظ القرآنية بمواضعها ليس عشوائياً ، والتقديم والتأخير في السياق القرآني ليس عبثا ً.
ولعل القائلين بوجود الترادف في القرآن الكريم لا يتتبعون استخدامات المفردة القرآنية ولا يعرفون متى تستعمل وفي أي سياق يكون ذلك الاستعمال ، ولا يلاحظون الفروق الدقيقة بين الكلمات المتقاربة ، ولعلهم يلتفتون إلى القدر المشترك من المعنى العام بين تلك الألفاظ المتقاربة ، ولا يدركون أن كل كلمة منتقاة بدقة متناهية ، وموضوعة في سبك رائع قوي يظهر معه استواء كل كلمة في محلها اللائق بها ، وما فقدناه من عدم إدراك ذلك إنما بسبب التساهل في استعمال الألفاظ حتى أصبحت عند الأكثر ألفاظاً تحمل معنىً واحدا .
وما نفعله عند تفسيرنا للكلمات القرآنية بكلمات أخرى إنما هو من باب التقريب لا التحديد الدقيق لمعنى الكلمة ؛ ليكون في متناول فهم من لم يدرك هذه الفروق الدقيقة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
(وقلّ أن يُعَبَر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه ؛ بل يكون فيه تقريب لمعناه ، وهذا من أسباب إعجاز القرآن)(3).
وتقول الدكتورة عائشة بنت الشاطئ :
( التفسير ليس إلا محاولة للفهم على وجه الشرح والتقريب) (4)
ومصداق ما ذهبتُ إليه في نفي الترادف في الكتاب المحكم هو قول الله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: 1).
ففي قوله : (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) دلالة على عدم الترادف في القرآن ؛ ذلك أن معنى أحكمت آياته : نظمت نظماً متقناً ورصفت رصفاً لا خلل فيه(5).
وفصلت : أي ميز بعضها عن بعض(6) ، وبُينت بياناً في أعلى أنواع البيان(7) ؛ ولذلك فهو في غاية الإحكام وقوة الاتساق(8) . وفي ذلك يقول العلامة السعدي(ت:1376) رحمه الله :
(ووصف آيات القرآن بأنها فصلت يستلزم التفريق بين كل شيء)(9).
قلتُ : والتفريق بين كل شيء يقتضي : التفريق بين الكلمات المتقاربة ، وتحديد المعنى الدقيق لكل كلمة ، وبيان موضعها وتحديده ، واختياره بحكمة بالغة ، وإحكامه في موضعه ، ومنعه من الاختلاط مع غيره . ثم تفصيله وتمييزه من غيره ، وذلك باختيار المكان الأنسب له ، وبذلك تصبح آيات القرآن وكلماته معجزة بيانية خارقة في : تنسيقها ، وترتيبها ، واختيار مواضعها ، وتفصيلها التفصيل المناسب الذي لا هو ضيق ولا هو واسع بل تفصيل لائق مناسب معجز ، حيث لو أردنا أن نستبدل كلمة بغيرها لما وجدنا ما يسد مسدّها من الكلمات العربية - على اتساعها وتنوعها - ، فإما أن يصبح المعنى فضفاضاً وإما ضيقاً . وصدق ابن عطية(ت:546) عندما قال :
(وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يُجد)(10).
وقد أصاب الإمام الخطابي(ت:388) عندما بنى على إبدال كلمة مكان أخرى من كلمات القرآن الكريم نتيجتين خطيرتين :
أولهما : فساد المعنى بالتبديل .
وثانيهما : سقوط البلاغة .
حيث يقول : (ثم اعلم أن عمود هذه البلاغة – يعني بلاغة القرآن- التي تجتمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضع الأخص الأشكل به ، الذي إذا أبدل مكان غيره جاء منه: إما تبديل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام ، إما ذهاب الرونق الذي يكون منه سقوط البلاغة)(11).
ومن أجود ما قاله المعاصرون - بعد دراسة مستفيضة وجدِّية- ما قرأته لأستاذة التفسير والدراسات العليا الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) رحمها الله حيث تقول في المؤتمر الأول للإعجاز القرآني المنعقد في بغداد عام (1410هـ -1990م) :
(..... فكان قصارى ما اطمأننتُ إليه في هذه المحاولة لفهم إعجازه البيان [لعلها: البياني] القرآني هو: أنه ما من لفظ أو حرف منه يمكن أن يقوم مقامه غيره ، بل ما من حركة أو نبرة لا تأخذ مكانها في ذلك البيان المعجز).
ومن الجدير بالذكر أن القرآن دعا إلى الفروق اللغوية ورفض الترادف ، من ذلك قوله تعالى : (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات:14).
وقولـه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:104).
وكذا تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين ألفاظ يُظن أنها مترادفة ، ومن ذلك :
ما خرجه الإمام مسلم في صحيحه ( برقم:2710 ) بألفاظ متقاربة من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل : اللهم أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت ، وبنبيك الذي أرسلت .
فإنك إن مِتَّ مِتَّ ليلتك فأنت على الفطرة . [وإن أصبحت أصبحت آجرا] ، واجعلهن آخر ما تتكلم به .
قال : فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت (اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت: "ورسولك"، قال: "لا وبنبيك الذي أرسلت").
في ذلك أمر واضح أنه ثمة فرق بين لفظتي الرسول والنبي ، وإلا لما أوقفه وأمره باستبدال لفظة النبي بالرسول .
وكذا تفريقه صلوات الله وسلامه عليه بين فك الرقبة وعتق النسمة.
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : ((جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، علمني عملاً يدخلني الجنة.
فقال صلى الله عليه وسلم : (لأن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة ، أعتق النسمة وفك الرقبة) .
فقال : يا رسول الله أوليستا بواحدة ؟ .
قال صلى الله عليه وسلم : (لا ، إن عتق النسمة أن تفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في عتقها ، والمنحة الوكوف(12) ، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير))(13) .
وقد نهانا صلى الله عليه وسلم عن استخدام بعض الكلمات ، وأرشدنا إلى استخدام كلمات غيرها ؛ لِما بينها من الفروق .
من ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه – فيما خرجه الشيخان – أن رسول صلى الله عليه وسلم قال :
(لا يقل أحدكم : أطعم ربك ، وضئ ربك ، اسق ربك ، وليقل : سيدي ، مولاي . ولا يقل أحدكم : عبدي ، أمتي . وليقل : فتاي ، وفتاتي ، وغلامي).
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
(لا يسب أحدكم الدهر ؛ فإن الله هو الدهر ، ولا يقولن أحدكم للعنب الكَرْم ؛ فإن الكرم الرجل المسلم) وفي رواية (لا تقولوا للعنب الكَرْم) رواه مسلم.
وللوقوف على أدلة نفي الترادف من الكتاب والسنة ينظر كتابي : " الترادف في القرآن الكريم بين المثبتين والنافين": 71 وما بعده .
وعليه فإنني أومن بأن هناك ألفاظاً متقاربةً في القرآن الكريم وألفاظاً متشابهةً ولكن لا يوجد ألفاظٌ مترادفةٌ تحمل نفس المعنى ؛ إذ إن ذلك حشو وزيادة وكلام الله بعيد كل البعد عن ذلك.
وبناء على ما تقدم يلزمنا أن ننظر في كتاب العربية الأول ونحن موقنون أن لا ترادف بين كلماته ؛ فنحاول جاهدين استخراج الفروق الدقيقة بين الكلمات المتشابه تشابها لفظيا.
هذا والله تعالى أعلم
الأستاذ الدكتور أنس العمايرة
الــــــــــهــــــــوامـــــــش
(2)انظر هذه المسألة ورأي الفريقين بالتفصيل في كتابي : (الترادف في القرآن الكريم بين المثبتين والنافين) .
(3)"مقدمة في أصول التفسير" لابن تيمية :22.
(4)التفسير البياني للقرآن الكريم: 2/9 . وانظر الكلام المنسوب لابن عباس رضي الله عنه في بحوث المؤتمر الأول للإعجاز القرآني المعقود في بغداد: 215.
(5)انظر: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير وبهامشه نهر الخير على أيسر التفاسير، أبو بكر جابر الجزائري:2/519.
(6) يراجع تفسير الطبري في الآية.
(7) تفسير السعدي : 332.
(8)القواعد الحسان لتفسير القرآن للعلامة السعدي: 49.
(9)تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:690 بتصرف.
(10)انظر: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الغرناطي:1/101.
(11)انظر: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي والجرجاني:290.
(12)المنحة الوكوف: هي التي لا ينقطع لبنها طول العام؛ لغزارته، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 5/220 .
(13)أخرجه أحمد في مسنده : (1/299) ، ابن حبان في صحيحه في كتاب العتق ، والطيالسي في مسنده: (3/100) . والحاكم في مستدركه ( 2/217) وقال : "هذا حديث صحيح ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي في التلخيص ( 2/217) وهو كما قالا.