*لا أستطيع أن أتركه يا أمي*

إنضم
26/07/2013
المشاركات
34
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
العمر
41
الإقامة
محافظة بني سويف -
*لا أستطيع أن أتركه يا أمي*
في مجلس تدبر سورة الإخلاص تكلمت عن محبة الله والغيرة له؛ وقلت حينها: إن المتهم الأول في تفريطنا في دعوة الناس إلى الله؛ إنما هو خفوت نور الغيرة لله في القلوب؛ والذي يجعلنا لا نبالي بمن أغضب الله أو أساء به الظن سبحانه، في الوقت الذي لا نطيق فيه أبدا أن يغضب أو يسيء الظن أحدٌ بواحد من أحبابنا أو ذوينا أو أصفيائنا.
بل ربما كانت الغيرة لأنفسنا أن يتم إغضابها أو إساءة الظن بها أكثر من الغيرة لله.
لكن قلبا كقلب محمد صلى الله عليه وسلم الذي اكتملت فيه أنوار محبة الله والغيرة له كان على النقيض من حالنا تماما؛ تحكي أمنا عائشة حاله فتقول: "وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ فِى شَىْءٍ قَطُّ ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ ، فَيَنْتَقِمَ بِهَا لِلَّهِ" صحيح البخاري (20/ 291)
لطالما تحدثت أن تدبر القرآن يولد دافعية كبيرة للعمل والإصلاح؛ لكنني لم أكن أن أتصور أن يتم الأمر بهذه القوة والسرعة والأريحية.
لم يكد يمر على مجلس تدبر سورة الإخلاص تسع ساعات؛ وجاء الاختبار؛ حيث استقليت مع الوالدة سيارة أجرة لإيصالها حيث تريد؛ صوت الغناء يعكر صفو نسمات رمضان الهادئة؛ لم أتمالك نفسي وبتلقائية قلت للسائق مافحواه: "ماينبغي للفضلاء من أمثالك أن يستمعوا إلى الغناء؛ هلا شنفت من فضلك أسماعنا بخير الكلام" لم يعرني السائق اهتماما، وكانت غاية تفاعله مع كلماتي أن خفض صوت الغناء.
تمنيت لو نزلت من السيارة واستقليت أخرى؛ لكن ظروف الوالدة حالت دون ذلك؛ أنا في شأن لكن كان لقدر الله شأن آخر.
غضضت طرفي عما يفعل؛ وطفقت الوالدة تحدثني، وصوت الغناء يزداد، رأت الوالدة مابي من تململ؛ فناشدتني قائلة: "اتركه يابني؛ عزمت عليك ألا تحادثه بعد نزولي" تقول ذلك خوفا علي من ردة فعل الشاب الذي أبدى معاندة كبيرة؛ لاسيما والبلد تمر بحالة انفلات أمني؛ طمأنت الوالدة؛ لكنني كنت والفتى على موعد مع أمر آخر.
نزلت الوالدة فتقدمت إلى الكرسي المجاور له؛ وفاجأني بتناوله لثمرة فاكهة جهرا في نهار رمضان.
قلبي يمور؛ بالكاد أكتم براكين غضبي؛ تذكرت الغيرة لله فطفقت أحادثه؛ سألته عن اسمه؛ فعرفت أنه مسلم؛ كلمته عن شناعة جرمه؛ وبشاعة مجاهرته بالذنب؛ ولا يزيده كلامي إلا إعراضا ولا ينبس ببنت شفة.
تذكرت طريقة القرآن في دعوة الناس ومعالجة أخطائهم وكيف تركز أولا على استجاشة معاني الإيمان، والحديث عن المصير وصفات الرحمن، ثم تناقش الأخطاء بعد ذلك. وقد كان ذلك باديا أيضا حين تدبرنا سورة الإخلاص وطريقة معالجتها لقضية الجهل بالله.
فحولت الكلام إلى نعم الله عليه، ومصيره وعاقبة ماهو فيه؛ فبدأت الصخرة تتحرك قليلا لكن الباب مافتح بعد؛ باح بداخلة نفسه؛ وحدثني عن سجنه مظلوما لمدة عام وكيف تحولت حياته من مسار مستقيم إلى مسار منحرف؛ أورثه يأسا ولا مبالاة بالحياة أو الموت رغم أنه شاب.
زادني تفاعله الضعيف معي طمعا في المزيد من التفاعل؛ استجمعت نيتي بصورة أفضل؛ ولازالت غيرتي لله تزداد؛ لكنها الآن امتزجت بشفقة عليه مما هو فيه.
صارحته بذلك فبدأ يسألني عن أمور ذات صلة وثيقة بمأساته؛ إنه يسألني عن الحلال والحرام ويداه لازالتا متلطختان بالحرام، أيقنت أن بقلبه لاشك خير.
لازلت أحادثه حتى اكتمل تفاعله معي، لم تسعفني الخمس دقائق التي حادثته فيها؛ تواعدنا على اللقيا بمسجد وصفته له جيدا. أبدا استعدادا كاملا، ودعته بوصية من أعماق قلبي.
كنت في قمة الفرح بفضل الله علي وعليه لا بجهدي؛ مهما تحدثت فلن أصور لكم سعادتي؛ شعرت ببعض إحساس النبي حين خرج من عند الغلام اليهودي مسرورا وقد استجاب لدعوته له للإسلام؛ فقال النبي وهو يغادر منزل الغلام في فرح وحبور «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ»
صحيح البخاري (5/ 278)
وفي رواية صحيحة لأحمد: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِي مِنَ النَّارِ"
وفي رواية أخرى صحيحة لأحمد وأبي داوود: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ"
وتأمل كيف نسب النبي صلى الله عليه وسلم الفضل لربه عزوجل؛ فكان فرحه بفضل الله لا بجهده.
وجدتني في طريقي إلى منزلي أردد ودموعي تنهمر: "عذرا .. لا أستطيع أن أتركه يا أمي .. أقدر حبك لي وخوفك علي .. لكنني أقدر حق ربي علي تقديرا أكبر .. لو أغضبك أو أساء الظن بك أمي ما استطعت تركه .. فكيف أتركه وقد أغضب ربي وأساء الظن به؟"
أسأل الله أن يتقبل، وأن يرزقني وإياكم الصدق والإخلاص؛ فما أردت من كلماتي تزكية نفسي أو مدح شخصي، لكنني رجوت أن تعينكم كلماتي على الإقبال على القرآن تدبرا؛ وتفاعلا، واتباعا؛ وأن تكون قصتي دافعا لكم لاستفراغ الوسع في الدعوة إلى الله برهانا على محبته والغيرة له. وأردت أن تعلموا أن بقلوب العصاة والمفرطين خيرا وأن الأمر مع الصدق والإخلاص والاتباع يسير؛ فلا تبالوا بتعسير الشيطان للأمر.
 
كثيرا ما أعاود قراءة تلك القصة لتزيدني حماسا لتدبر القرآن والتحرك بالمعاني التي يدعو إليها بين الناس. أعانني الله وإياكم على القيام بحقوق كتابه الكريم وجعلني وإياكم من أهله
 
عودة
أعلى