وفيك بارك الله يا دكتور/ عبد الرحمن.
أما الكلام الذي أردت نقله فقد تأخرت عن إضافته بسبب عدم توفرالكتاب حيث بحثت عنه في عدة مكتبات في الرياض ولم أجده , وأنا مررت بهذا الكلام في مكتبة الحرم النبوي منذ زمن, ثم تيسر لي الحصول عليه وسأنقل ما يخص مسألتنا بنصه والله المعين.
قال الإمام ابن حزم رحمنا الله تعالى وإياه في كتابه (الفصل في الملل والنحل)في باب سماه (الكلام في هل شاء الله عز وجل كون الكفر والفسق , وأراده من الكافر والفاسق أم لم يشأه ذلك ولا أراد كونه)
{قال أبو محمد:تباً لمن عارض أمر ربه تعالى واحتج عليه بل لله الحجة البالغة ولوشاء لأطعم من ألزمَنَا إطعامه , ولو شاء لهدى الكافرين فآمنوا ولكنه تعالى لم يرد ذلك , بل أراد أن يعذب من لا يطعم المسكين ومن أضله من الكافرين , لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون وحسبنا الله ونعم الوكيل , وقالت المعتزلة: معنى قوله تعالى {ولوشاء الله لجمعهم على الهدى }و {لآمن من في الأرض} وسائر الآيات التي تلوتهم : إنما لو شاء الله لاضطرهم إلى الإيمان فآمنوا مضطرين فكانوا لا يستحقون الجزاء بالجنة.
قال أبو محمد: وهذا تأويل جمعوا فيه بلايا جمة, أولها:أنه قول بلا برهان ودعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو ساقط , ويقال لهم : ما صفة الإيمان الضروري الذي لا يُستَحق عليه الثواب عندكم ؟ وما صفة الإيمان غير الضروري الذي الذي يُستَحق به الثواب عندكم ؟
فإنهم لا يقدرون على فرق أصلاً , إلا أن يقولوا هو مثل ما قال الله عزوجل إذ يقول تعالى{يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها.....} ومثل قوله {قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم يُنظَرون} ومثل حالة المحتضر عند المعاينة التي لا يقبل فيها إيمانه وكما قيل لفرعون{آلآن وقد عصيت قبلُ}.
قال أبو محمد: فيقال لهم: كل هذه الآيات حق , وقد شاهدت الملائكة الآيات وتلك الأحوال ولم يبطل بذلك قبول إيمانهم .
فهلاَّ على أصولكم صار إيمانهم إيمان اضطرار لا يستحقون عليه جزاءاً في الجنة ؟
أم صار جزاؤهم عليه أفضل من جزاء كل مؤمن دونهم؟ وهذا لا مخلص لهم منه أصلاً.
ثم نقول لهم: أخبرونا عن إيمان المؤمنين إذا صح عندهم صدق النبي بمشاهدة المعجزات من شق القمر وإطعام النفر الكثير من الطعام اليسير ونبعان الماء الغزير من بين الأصابع وشق البحر وإحياء الموتى , وأوضح كل ذلك بنقل التواترالذي به صح ما كان قبلنا من الوقائع والملوك وغير ذلك مما يصير فيه من بلغه كمن شاهده ولافرق في صحة اليقين لكونه هل إيمانهم إلا إيمان يقين قد صح عندهم وأنه حق لم يتخالجهم فيه شك فإن علمهم به كعلمهم أن ثلاثة أكثر من اثنين, وكعلمهم ما شاهدوه بحوسهم في أنه كله حق وعلموه ضرورة أم إيمانهم ذلك ليس يقينا مقطوعا بصحة ما آمنوا به عنده كقطعهم على صحة ما علموه بحواسهم؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث .
فإن قالوا: بل هو الآن يقين قد صح علمهم بأنه حق لامدخل للشك فيه عندهم كتيقنهم صحة ما علموه بمشاهدة حواسهم , قلنا لهم: نعم هذا هو الإيمان الاضطراري بعينه , وإلا ففرقوا هذا الذي موهتم بأنه لا يُستَحق عليه من الجزاء كالذي يستحق على غيره , وبكل تمويهكم بحمد الله تعالى إذ قلتم إن معنى قوله تعالى{لجمهم على الهدى}و{لآمن من في الأرض} انه كان يضطرهم إلى الإيمان فإن قالوا: بل ليس إيمان المؤمنين هكذا ولا علمهم بصحة التوحيد والنبوة على يقين وضرورة . قيل لهم: قد أوجبتم أن المؤمنين على شك في إيمانهم وعلى عدم يقين في اعتقادهم ,وليس هذا إيمانا بل كفر مجرد ممن كان دينه هكذا ,فإن كان هذا صفة إيمان المعتزلة فهم أعلم بأنفسهم , وأما نحن فإيماننا ولله الحمد إيمان ضروري لا مدخل للشك فيه كعلمن أن ثلاثة أكثر من اثنين ,وإن كان بناءاً فمبني , وكل من أتى بمعجزة فمُحِقٌّ في نبوته ولا نبالي إن كان ابتداء علمنا استدلالاً أم مدركا بالحواس إذا كانت نتيجة كل ذلك سواء في صحة الشيء المعتقد وبالله تعالى التوفيق.
ثم نسألهم عن الذين يرون بعض آيات ربنا يوم لا ينفع نفسا إيمانها , أكان الله تعالى قادراً على أن ينفعهم بذلك الإيمان ويجزيهم عليه جزائه لسائر المؤمنين أم هو تعاى غير قادرٍ على ذلك؟؟
فإن قالوا:بل هو قادرٌ على ذلك رجعوا إلى الحق والتسليم لله عز وجل ,وأنه تعالى منع من شاء وأعطى من شاء , وأنه تعالى أبطل إيمان من آمن به عند رؤية بعض آياته , ولم يبطل إيمان من آمن به عند رؤية آية أخرى ,وكلها سواءٌ في باب الإعجاز.
وهذا هو المحاباة المحضة والجور البين عند المعتزلة , فإن عجزوا ربهم تعالى عن ذلك أحالوا وكفروا وجعلوه تعالى مضطراً مطبوعاً محكوماً عليه تعالى الله عن ذلك.
قال أبو محمد: وقد قال عز وجل{إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} فهؤلاء قوم يونس لما رأوا العذاب آمنوا فقبل الله عز وجل إيمانهم , وآمن فرعون وسائر الأمم المعذبة لما رأوا العذاب فلم يقبل الله عز وجل منهم , ففعلَ اللهُ تعالى ما شاء لا معقب لحكمه, فظهر فساد قولهم في أن الإيمان الاضطراري لا يستَحَق عليه جزاءٌ جملةً , وصحَّ أن الله تعالى يقبل إيمان من شاء ولا يقبل إيمان من شاء ,ولا مزيد.. }3/88-89