تيسير الغول
New member
كيف نوفق بين القول أن الزكاة فرضت في المدينة وبين ورود ذكرها في السور المكية؟
تمهيد
الصدقة قبل الإسلام
كان خُلُق الصدقة متفشياً في قريش قبل الإسلام حيث أن الصدقة والكرم والجود كان يتميز بها العرب قبل الإسلام . ولقد كانت الشجاعة والكرم من أبرز صفات المجتمع العربي الجاهلي وقد ظهر في كل العصور العربية أعلام اشتهرت بالكرم وروى عنهم مواقف عظيمة في الجود والسخاء. وكان من أبرزهم وأشهرهم حاتم الطائي الذيكان مضرب المثل فيهم بالكرم ومما يؤثر عنه في ذلك إن رجلاً سأل حاتماً الطائي فقال: يا حاتم هل غلبك أحد في الكرم ؟ قال: نعم غلام يتيم وذلك أنى نزلت بفنائه وكان له عشرة رؤوس من الغنم فعمد إلى رأس فذبحه وأصلح لحمه وقدمه إلىّ. وكان فيما قدم الدماغ فقلت طيب والله.فخرج من بين يدي وجعل يذبح رأساً بعد رأس ويقدم الدماغ وأنا لا أعلم فلما رجعت لأرحل رأيت حول بيته دماً عظيماً فإذا هو قد ذبح الغنم بأسرها فقلت لهلم فعلت ذلك ؟ قال يا سبحان الله تستطيب شيئاً أملكه وأبخل عليك به إن ذلكلسبه على العرب قبيحة. فقيل يا حاتم فبماذا عوضته ؟ قال: بثلثمائة ناقة حمراء وبخمسمائة رأس من الغنم فقيل أنت أكرم منه قال هيهات بل هو والله أكرم لأنه جاد بكل ما ملك وأنا جُدت بقليل من كثير([1]) . ومن الأجواد المشاهير في الجاهلية أيضاً عبد الله بن جدعان وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره . وذكر ابن قتيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [ لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمَىِّ ] أي وقت الظهيــرة وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقى اللبن. وعن أبي سفيان عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت قلت * يا رسول الله ان عبد الله بن جدعان كان في الجاهلية يقري الضيف ويفك العاني ويصل الرحم ويحسن الجوار فهل ينفعه ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا انه لم يقل يوما قط اللهم اغفر لي يوم الدين([2])
ولا غرابة إذاً بأن يأتي القرآن الكريم على ذكر الصدقة والإنفاق وذم المال وذم جمعه والبخل في بذله منذ بدايات النزول .لأن صفة البذل والجود والكرم كانت مشرئبة في نفوس العرب فيكون القرآن قد عمل على استمالة تلك الأخلاق والسمو بمن يتصف بها للدخول في دين الله تعالى.
ومما يدلنا على أن العرب كانت تتصدق قبل الإسلام وكان خلق الصدقة ماشياً فيهم .حديث حكيم بن حزام. فعنه رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر؟ فقال النبي أسلمت على ما سلف من خير.([3])
الزكاة في السور المكية والمدنية:
تكررت كلمة الزكاة المعرّفة بأل الدالة على فريضة الزكاة في القرآن الكريم ثلاثين مرة، والمتتبع للمواضع الثلاثين التي ذكرت فيها الزكاة يجد أن ثمانية منها ذكرت في السور المكية وسائرها في السورالمدنية([4])
الجدير بالذكر أن لفظ الزكاة في معناها المعروف استخدم منذ أوائل العهد المكي، كما نرى ذلك في سورة الأعراف (آية 156)، وسورة مريم (آية 31، 55)، وسورةالأنبياء (آية 72)، وسورة المؤمنون (آية 4)، وسورة النمل (آية 3)، وسورة الروم (آية 39)، وسورة لقمان (آية 3).
وهذا لا يعني أنها لم تذكر إلا في تلك المواضع فقط . بل إنها ذكرت بألفاظ ودلالات كثيرة تشير الى معنى الزكاة كلفظ صدقة أو إطعام أو بالإشارة الى منعها وعدم أعطائها حقها بكلمات دلالية زاجرة . وقد كثر ذلك في قصار السور المكية وأسوق اليكم بعض ما فيها من بيان:
قوله تعالى: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
/ سورة الحاقة
قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)/البلد
وقوله تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)/الليل
وقوله سبحانه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)/الضحى
بل إن المتأمل في سورة الماعون سيلاحظ أنها تكاد تتمحور على موضوع واحد وهو موضوع الصدقة فقد قال غير واحد من المفسرين أن الماعون هو زكاة الأموال. وقد اختار ذلك القرطبي في أول اختياراته لمعنى ماعون فقال: أنه زكاة أموالهم. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وروى عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، وقاله مالك. والمراد به المنافق يمنعها. وقد روى أبو بكر بن عبد العزيز عن مالك قال: بلغني أن قوله الله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ: الزكاة التي فرض الله عليهم. قال زيد بن أسلم: لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا([5]).
اقرأ معي أخي الحبيب سورة الماعون وتأمل أخي في الله المحور الرئيسي الذي تنظمه وتحاكيه السورة :
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
والمتأمل أيضاً في سورة الهمزة يرى ما يراه في سورة الماعون فكأنها نزلت لتثبيت خلق الإنفاق وذم جامع المال والوعيد والتهديد لمن جمعه ولم يعط حقه ناراً خالداً تالداً فيها أبدا . أنظر وتأمل معي:
وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)
هل يوجد فرق في المعنى بين الزكاة والصدقة:
لا فرق في المعنى بين كلمة صدقة وكلمة زكاة. فالزكاة كمصطلح شرعي تسمى في لغة القرآن والسنة " صدقة "،
قال الماوردي في الأحكام السلطانية:الصدقة زكاة والزكاة صدقة، يفترق الاسم ويتفق المسمى قال تعالى: (خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103).
والسؤال الذي يسأل نفسه الآن: كيف نوفق بين القول بأن الزكاة فرضت في المدينة على اختلاف في وقتها وبين ورود لفظ الزكاة في السور والآيات المكية؟.
اختلف أهل العلم اختلافاً بيناً في أول وقت فرض الزكاة فذهب البعض إلى أنه وقع بعد الهجرة فقيل كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان .
قال الحافظ ابن حجر وقد أشار النووي في باب السير من الروضة وأورد ابن الأثير في التاريخ بأنها فرضت في السنة التاسعة إلا أنه ورد أيضاً فيحديث مخاطبة أبي سفيان مع هرقل وكانت في أول السنة السابعة وقال فيها: يأمرنا بالزكاة.([6]) .لكن يمكن تأويل كل ذلك كما سيأتي في آخر الكلام .وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها لما أنزلت آية الصدقة بعث النبي صلى الله عليه و سلم عاملا فقال ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية والجزية إنما وجبت في التاسعة فتكون الزكاة في التاسعة لكنه حديث ضعيف لايحتج به بل هو موضوع وقد قرأت كتاباً حول هذا الحديث يدحض صحته لأنه مخالف لصريح القرآن والسنة من أن الزكاة حق لله تعالى ولا يجوز لأي كان أن يمتنع عن إدائها.وأذكر أن اسم الكتاب هو: القول الثاقب في الذّب عن الصحابي ثعلبة بن حاطب . ولا اذكر مؤلفه.
وقال ابن خزيمة في صحيحه: فرض الزكاة كان قبل الهجرة. واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة وفيها أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن النبي صلى الله عليه و سلم ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قال العلماء : ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام رمضان ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول.فقد صح أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصومون عاشوراء قبل فرضية الصيام وكانوا أيضاً يصلون ويتصدقون بما جادت به أنفسهم لإخوانهم الفقراء في مكة .
ويقول ابن حجر في الفتح أيضاً: ومما يدل على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة وقوله أنشدك الله. آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟وكان قدوم ضمام سنة خمس. ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاق العلماء على أن صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف وثبت عند أحمد وابن خزيمة أيضا والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ثم نزلت فريضة الزكاة فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله. إسناده صحيح رجاله رجال .
وقال القاري: المعتمد أن الزكاة فرضت بمكة إجمالاً، وبينت بالمدينة تفصيلاً، جمعا بين الآيات التي تدل على فرضيتها بمكة وغيرها من الآيات والأدلة.
قال الشيخ محمد الخضري في تاريخ الأمم الإسلامية: إن مما فرض بمكة فريضة الزكاة، فإنّا قلما نجد من الأوامر المكية ذكر الصلاة إلا وبجانبه إيتاء الزكاة وطلبت زكاة ما يخرج من الأرض في سورة الأنعام {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141] إلا أن هذه الحقوق الواجبة لم تفصل بمكة، فقد كان ذلك موكولا لما في النفوس من الجود الذي هو من عادة وأخلاق العرب وبحسب حاجة الناس.([7])
وقال محمد رشيد رضا: فرضت الزكاة المطلقة بمكة في أول الإسلام، وترك أمر مقدارها ودفعها إلى شعور المؤمنين وأريحتهم. ثم فرض مقدارها من كل أنواع الأموال في السنة الثانية من الهجرة على المشهور.
نستخلص مما سبق أن الزكاة فرضت في أصح أقوال أهل العلم بمكة، ولكن تقدير الأنصبة والأموال الزكوية وأهل الزكاة كان بالمدينة. وعلى ذلك تتضح المسألة ونوفق بين آيات الزكاة التي ذكرت في العهد المكي والآيات التي ذكرت في العهد المدني .
قال الذهبي في تاريخ الإسلام: وكانت تصرف للفقراء، كما قال تعالى في سورة البقرة {إن تبدواالصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}: [271] وقد نزلت في السنة الثانية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم، ثم نزلت هذه المصارف السبع أو الثمان في سنةتسع، فتوهم بعض العلماء أن فرض الزكاة كانت في هذه السنة([8]).
والحمد لله ر ب العالمين .
[FONT="][1][/FONT]مختصر تاريخ دمشق ج2 ص310 / ابن منظور الأفريقي المصري
[FONT="][2][/FONT] رواة أحمد بن حنبل في مسنده ج 6/ ص 120 حديث رقم: 24936
[FONT="][3][/FONT] [FONT="]البخاري في صحيحه ج 2/ ص 521 حديث رقم: 1369[/FONT]
[FONT="][4][/FONT] (المعجم المفهرس لألفاظالقرآن الكريم/ محمد فؤاد عبد الباقي.
[FONT="][5][/FONT] تفسير القرطبي الجزء الأخير تفسير سورة الماعون
-5فتح الباري/[FONT="][6][/FONT]ابن حجر في الفتح (3/)266
[FONT="][7][/FONT] تاريخ الأمم الإسلامية/ محمد الخضري
[FONT="][8][/FONT]تاريخالإسلام / الذهبي
تمهيد
الصدقة قبل الإسلام
كان خُلُق الصدقة متفشياً في قريش قبل الإسلام حيث أن الصدقة والكرم والجود كان يتميز بها العرب قبل الإسلام . ولقد كانت الشجاعة والكرم من أبرز صفات المجتمع العربي الجاهلي وقد ظهر في كل العصور العربية أعلام اشتهرت بالكرم وروى عنهم مواقف عظيمة في الجود والسخاء. وكان من أبرزهم وأشهرهم حاتم الطائي الذيكان مضرب المثل فيهم بالكرم ومما يؤثر عنه في ذلك إن رجلاً سأل حاتماً الطائي فقال: يا حاتم هل غلبك أحد في الكرم ؟ قال: نعم غلام يتيم وذلك أنى نزلت بفنائه وكان له عشرة رؤوس من الغنم فعمد إلى رأس فذبحه وأصلح لحمه وقدمه إلىّ. وكان فيما قدم الدماغ فقلت طيب والله.فخرج من بين يدي وجعل يذبح رأساً بعد رأس ويقدم الدماغ وأنا لا أعلم فلما رجعت لأرحل رأيت حول بيته دماً عظيماً فإذا هو قد ذبح الغنم بأسرها فقلت لهلم فعلت ذلك ؟ قال يا سبحان الله تستطيب شيئاً أملكه وأبخل عليك به إن ذلكلسبه على العرب قبيحة. فقيل يا حاتم فبماذا عوضته ؟ قال: بثلثمائة ناقة حمراء وبخمسمائة رأس من الغنم فقيل أنت أكرم منه قال هيهات بل هو والله أكرم لأنه جاد بكل ما ملك وأنا جُدت بقليل من كثير([1]) . ومن الأجواد المشاهير في الجاهلية أيضاً عبد الله بن جدعان وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره . وذكر ابن قتيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [ لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمَىِّ ] أي وقت الظهيــرة وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقى اللبن. وعن أبي سفيان عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت قلت * يا رسول الله ان عبد الله بن جدعان كان في الجاهلية يقري الضيف ويفك العاني ويصل الرحم ويحسن الجوار فهل ينفعه ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا انه لم يقل يوما قط اللهم اغفر لي يوم الدين([2])
ولا غرابة إذاً بأن يأتي القرآن الكريم على ذكر الصدقة والإنفاق وذم المال وذم جمعه والبخل في بذله منذ بدايات النزول .لأن صفة البذل والجود والكرم كانت مشرئبة في نفوس العرب فيكون القرآن قد عمل على استمالة تلك الأخلاق والسمو بمن يتصف بها للدخول في دين الله تعالى.
ومما يدلنا على أن العرب كانت تتصدق قبل الإسلام وكان خلق الصدقة ماشياً فيهم .حديث حكيم بن حزام. فعنه رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر؟ فقال النبي أسلمت على ما سلف من خير.([3])
الزكاة في السور المكية والمدنية:
تكررت كلمة الزكاة المعرّفة بأل الدالة على فريضة الزكاة في القرآن الكريم ثلاثين مرة، والمتتبع للمواضع الثلاثين التي ذكرت فيها الزكاة يجد أن ثمانية منها ذكرت في السور المكية وسائرها في السورالمدنية([4])
الجدير بالذكر أن لفظ الزكاة في معناها المعروف استخدم منذ أوائل العهد المكي، كما نرى ذلك في سورة الأعراف (آية 156)، وسورة مريم (آية 31، 55)، وسورةالأنبياء (آية 72)، وسورة المؤمنون (آية 4)، وسورة النمل (آية 3)، وسورة الروم (آية 39)، وسورة لقمان (آية 3).
وهذا لا يعني أنها لم تذكر إلا في تلك المواضع فقط . بل إنها ذكرت بألفاظ ودلالات كثيرة تشير الى معنى الزكاة كلفظ صدقة أو إطعام أو بالإشارة الى منعها وعدم أعطائها حقها بكلمات دلالية زاجرة . وقد كثر ذلك في قصار السور المكية وأسوق اليكم بعض ما فيها من بيان:
قوله تعالى: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
/ سورة الحاقة
قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)/البلد
وقوله تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)/الليل
وقوله سبحانه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10)/الضحى
بل إن المتأمل في سورة الماعون سيلاحظ أنها تكاد تتمحور على موضوع واحد وهو موضوع الصدقة فقد قال غير واحد من المفسرين أن الماعون هو زكاة الأموال. وقد اختار ذلك القرطبي في أول اختياراته لمعنى ماعون فقال: أنه زكاة أموالهم. كذا روى الضحاك عن ابن عباس. وروى عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، وقاله مالك. والمراد به المنافق يمنعها. وقد روى أبو بكر بن عبد العزيز عن مالك قال: بلغني أن قوله الله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ: الزكاة التي فرض الله عليهم. قال زيد بن أسلم: لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا([5]).
اقرأ معي أخي الحبيب سورة الماعون وتأمل أخي في الله المحور الرئيسي الذي تنظمه وتحاكيه السورة :
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
والمتأمل أيضاً في سورة الهمزة يرى ما يراه في سورة الماعون فكأنها نزلت لتثبيت خلق الإنفاق وذم جامع المال والوعيد والتهديد لمن جمعه ولم يعط حقه ناراً خالداً تالداً فيها أبدا . أنظر وتأمل معي:
وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)
هل يوجد فرق في المعنى بين الزكاة والصدقة:
لا فرق في المعنى بين كلمة صدقة وكلمة زكاة. فالزكاة كمصطلح شرعي تسمى في لغة القرآن والسنة " صدقة "،
قال الماوردي في الأحكام السلطانية:الصدقة زكاة والزكاة صدقة، يفترق الاسم ويتفق المسمى قال تعالى: (خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103).
والسؤال الذي يسأل نفسه الآن: كيف نوفق بين القول بأن الزكاة فرضت في المدينة على اختلاف في وقتها وبين ورود لفظ الزكاة في السور والآيات المكية؟.
اختلف أهل العلم اختلافاً بيناً في أول وقت فرض الزكاة فذهب البعض إلى أنه وقع بعد الهجرة فقيل كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان .
قال الحافظ ابن حجر وقد أشار النووي في باب السير من الروضة وأورد ابن الأثير في التاريخ بأنها فرضت في السنة التاسعة إلا أنه ورد أيضاً فيحديث مخاطبة أبي سفيان مع هرقل وكانت في أول السنة السابعة وقال فيها: يأمرنا بالزكاة.([6]) .لكن يمكن تأويل كل ذلك كما سيأتي في آخر الكلام .وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها لما أنزلت آية الصدقة بعث النبي صلى الله عليه و سلم عاملا فقال ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية والجزية إنما وجبت في التاسعة فتكون الزكاة في التاسعة لكنه حديث ضعيف لايحتج به بل هو موضوع وقد قرأت كتاباً حول هذا الحديث يدحض صحته لأنه مخالف لصريح القرآن والسنة من أن الزكاة حق لله تعالى ولا يجوز لأي كان أن يمتنع عن إدائها.وأذكر أن اسم الكتاب هو: القول الثاقب في الذّب عن الصحابي ثعلبة بن حاطب . ولا اذكر مؤلفه.
وقال ابن خزيمة في صحيحه: فرض الزكاة كان قبل الهجرة. واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة وفيها أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن النبي صلى الله عليه و سلم ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قال العلماء : ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام رمضان ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول.فقد صح أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصومون عاشوراء قبل فرضية الصيام وكانوا أيضاً يصلون ويتصدقون بما جادت به أنفسهم لإخوانهم الفقراء في مكة .
ويقول ابن حجر في الفتح أيضاً: ومما يدل على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة وقوله أنشدك الله. آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟وكان قدوم ضمام سنة خمس. ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاق العلماء على أن صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف وثبت عند أحمد وابن خزيمة أيضا والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ثم نزلت فريضة الزكاة فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله. إسناده صحيح رجاله رجال .
وقال القاري: المعتمد أن الزكاة فرضت بمكة إجمالاً، وبينت بالمدينة تفصيلاً، جمعا بين الآيات التي تدل على فرضيتها بمكة وغيرها من الآيات والأدلة.
قال الشيخ محمد الخضري في تاريخ الأمم الإسلامية: إن مما فرض بمكة فريضة الزكاة، فإنّا قلما نجد من الأوامر المكية ذكر الصلاة إلا وبجانبه إيتاء الزكاة وطلبت زكاة ما يخرج من الأرض في سورة الأنعام {وآتوا حقه يوم حصاده} [الأنعام:141] إلا أن هذه الحقوق الواجبة لم تفصل بمكة، فقد كان ذلك موكولا لما في النفوس من الجود الذي هو من عادة وأخلاق العرب وبحسب حاجة الناس.([7])
وقال محمد رشيد رضا: فرضت الزكاة المطلقة بمكة في أول الإسلام، وترك أمر مقدارها ودفعها إلى شعور المؤمنين وأريحتهم. ثم فرض مقدارها من كل أنواع الأموال في السنة الثانية من الهجرة على المشهور.
نستخلص مما سبق أن الزكاة فرضت في أصح أقوال أهل العلم بمكة، ولكن تقدير الأنصبة والأموال الزكوية وأهل الزكاة كان بالمدينة. وعلى ذلك تتضح المسألة ونوفق بين آيات الزكاة التي ذكرت في العهد المكي والآيات التي ذكرت في العهد المدني .
قال الذهبي في تاريخ الإسلام: وكانت تصرف للفقراء، كما قال تعالى في سورة البقرة {إن تبدواالصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}: [271] وقد نزلت في السنة الثانية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم، ثم نزلت هذه المصارف السبع أو الثمان في سنةتسع، فتوهم بعض العلماء أن فرض الزكاة كانت في هذه السنة([8]).
والحمد لله ر ب العالمين .
[FONT="][1][/FONT]مختصر تاريخ دمشق ج2 ص310 / ابن منظور الأفريقي المصري
[FONT="][2][/FONT] رواة أحمد بن حنبل في مسنده ج 6/ ص 120 حديث رقم: 24936
[FONT="][3][/FONT] [FONT="]البخاري في صحيحه ج 2/ ص 521 حديث رقم: 1369[/FONT]
[FONT="][4][/FONT] (المعجم المفهرس لألفاظالقرآن الكريم/ محمد فؤاد عبد الباقي.
[FONT="][5][/FONT] تفسير القرطبي الجزء الأخير تفسير سورة الماعون
-5فتح الباري/[FONT="][6][/FONT]ابن حجر في الفتح (3/)266
[FONT="][7][/FONT] تاريخ الأمم الإسلامية/ محمد الخضري
[FONT="][8][/FONT]تاريخالإسلام / الذهبي