كم من المسلمين في هذا العالم لا يقرأون القرآن ..؟ وكم منهم يقرؤه بدون محاولة لفهمه ..؟ وكم منهم إذا فهم معاني الكلمات يقرأ القرآن ولكن بدون تدبّر حقيقي ولا استيعاب؟ وكم منهم قد يفهم ويعي ما يقرأ ويجتهد في الاستيعاب، ولكنه لا يحرك ساكناً نحو تطبيق القرآن في حياته ..؟ عن هذه المشكلة المعقّدة يتحدث علي عزت بيجوفيتش من واقع خبرته الشخصية وتأمّلاته في القرآن...
كانت مشكلة فهم معاني القرآن ومقاصده حاضرة في عقل العالم الشيخ محمد الغزالي وهو يضع كتاب " نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم " وكتابه " المحاور الخمسة للقرآن الكريم " و كتابه " نظرات في القرآن " كذلك كانت هذه المشكلة حاضرة في ذهن العالم الشيخ يوسف القرضاوي في كثير من كتبه .. ومنها : كتاب " كيف نتعامل مع القرآن العظيم" و كتاب " تفسير سورة الرعد " ، وكتاب " العقل والعلم في القرآن "، وكتاب " المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة: ضوابط ومحاذير في الفهم والتفسير ".
لم يكن أيّ من هذه الكتب موجوداً أمام علي عزت بيجوفيتش عندما شرع يكتب عن هذه المشكلة في مايو سنة 1977 ، ولم تكن قد تم تأليفها ونشرها بعد .. ولكنه أدرك المشكلة وعاناها، وفكر فيها (بالتأكيد قبل هذا التاريخ) .. ولسنا نتوقع أن يأتي بشيء جديد يمكن أن يضاف إلى ما قاله كلّ من الشّيْخين الجليلين .. لكن الجديد فيها (ربما) هو أنه يكتب من واقع تجربته الشخصية .. وتأمّلاته الخاصة في القرآن الكريم .. فهو يعترف بأنه قرأ القرآن مرّات ومرّات .. ولكنه لم يتساءل من قبل: كيف ينبغي عليه أن يقرأ القرآن ..؟ ولا بد أنه أدرك أن هذه ليست مشكلته وحده بل مشكلة الكثيرين من أمثاله ممن يتعاملون مع القرآن .. ومن ثم رأى أن يكتب ليشرك الآخرين فيما توصّل إليه من أفكار وخواطر حول هذا الموضوع .. وفي ذلك كتب مبتدئاً بتوجيه النظر إلى حقيقة محورية هي من أخصّ خصائص القرآن .. قال:
" يجب أن نضع نصب أعيننا ، قبل كل شيء ، أن القرآن الكريم كلًٌّ لا يتجزأ . وكل آية فيه إذا أُخذت منفردة أو مُنتزعة من السياق العام لا تقدّم حقاً كاملاً ، بل تقدم جزءاً من الحق ، فنحن لا يمكن أن نعرف الحق كاملاً إلا إذا أخذنا القرآن كاملاً .. أما سرد بعض الآيات منفردة (وهو أمر لا مفرّ منه في الدرس أو الاستشهاد أو في أي تعامل آخر مع القرآن)، فلا بد أن يُفهم على خلفية فهمنا الكامل لمجمل القرآن ، فالأمر هنا شبيه بلوحة الفسيفساء ، كل قطعة فيها يتوقف معناها وقيمتها الجمالية على ما تعنيه في انسجامها مع بقية قطع اللوحة الكاملة. أما إذا أخذنا كل قطعة بمفردها فإنها لا تقدم إلا جزءاً أو لا تقدم شيئاً حقيقياً من جمال اللوحة الكاملة...".
ومن أجل مزيد من الإيضاح يضرب بيجوفيتش هذه الأمثلة:
آية قرآنية تشرّع للقصاص : {ياَ أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى} (البقرة 178) ، وآية أخرى تدعو إلى العفو والصفح : {وجزاءُ سيئةِ سيئةً مثلها ، فمن عفا وأصلح فأجره علي الله ، إنه لا يحب الظالمين } (الشورى 40 )؛ أو آية تقول :{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } (المائدة 87 ), وآية أخرى تقول :{ ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا ...} (طه 131) ، إلى غير ذلك من الأمثلة .. يقول بيجوفيتش:
"إن من يقرأ القرآن قراءة عابرة قد يخيل إليه وجود تناقض فيه ، بينما الأمر ليس كذلك قطعاً .. فحقيقة الأمر أن المسألة تتعلق بأبدع وأرفع ميزة يمتاز بها القرآن والإسلام بصفة عامة .. وهي التجانس التام بين الأمور التي تبدو متناقضة للناظر إليها لأول وهلة .. إذ يجب أن نلاحظ ونفهم أن القرآن لا يطالبنا هنا بأمر واحد .. بل يطالبنا بأمرين معاً .. فهو لا يريد منا القصاص فقط لأنه يطالبنا أيضا بالعفو.. والعكس بالعكس ؛ كما لا يفرض علينا السعي للآخرة وحدها لأنه يريد منا السعي لهذه الدنيا أيضاً ، أي لا يطالبنا أبداً بالسعي لحياة دون أخرى . لذلك لا يتحقق كمال الإسلام في المسلمين الذين لا يعرفون غير العقاب ( ولو كانوا على الحق ) لأنهم لم يعفوا .. كما لا يتحقق كمال الإيمان في الذين لا يعلمون غير العفو ولا يجازون عن سيئة بسيئة مثلها .. ويمكن أن نستنتج هنا (ببساطة شديدة) أن المسلم الكامل هو الذي يعرف مقداراً معتدلاً للأمرين معاً .. هو الذي يذهب إلى القصاص ويطلبه في موضعه وهو الذي يسمح بالعفو ويمنحه في موضع استحقاقه ... ".
هذا الأسلوب عند بيجوفيتش هو الأسلوب الأمثل في فهم القرآن وتطبيقه .. وهو أفضل وسيلة يمكن أن نرتقي بها إلى مستوى الفهم الكامل لحقيقة الإسلام وجوهر رسالته .. وفي الزمن الذي نحن فيه اليوم هناك أناس بل مؤسسات إعلامية كبرى ومؤسسات دينية دعويّة وسياسية تجعل كل رسالتها و تكرّس كل جهدها للترويج لفكرة السلام والسماحة والتعاون على البر والتقوى مع الآخرين من غير المسلمين دون اعتبار لموقفهم منا .. وهل هو موقف سلام أو موقف حرب وعدوان .. إلى آخر هذه الدعاوى التي تصوّر الإسلام وكأنه الدين الذي يدعو الإنسان إلى أن يدير خده الأيمن لمن ضربه على خده الأيسر .. فإذا لم يشْفِه ذلك استدار ليسلّمه قفاه الذي اعتاد على الصفع واستمرأه .. ثم يدعو لضاربه بالهداية وطول العمر ... !!
وهناك قلّة من الناس لا يرون في الإسلام إلا العنف والسيف في التعامل مع الأعداء والمخالفين في العقيدة على السواء .. ويزعمون أن آية السيف (كما يسمونها) قد نسخت كل الآيات الأخرى التي تأمر بالبر والقسط للذين لم يقاتلوا ولم يعتدوا ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم ... وفي مناخ التشدد والتنطّع من كلا الجانبين تضيع الحقيقة ويلتبس على الناس الأمر فيتساءلون: أين الحقيقة .. ولاشك أن الإسلام يدعو إلى السلام كأساس للتعامل بين البشر .. وهو دين تعاون وسماحة لا ترتقي إليها كل ما في هذا العالم من سماحة مُدّعاة .. هذا كله حق لا لبس فيه ولا جدال .. ولكنه ليس كل الحق ..
لأن الدين الذي يؤكد على هذه القيم الرفيعة يعلم مُوحيه سبحانه وتعالى أن هناك في هذا العالم أشراراً طامعين معتدين ومجرمين عتاة لا يرتدّون عن عدوانهم و لا يرتدعون إلا باستخدام العنف والقوة .. ومن ثمّ شرع القتال للدفاع عن النفس .. وشرع الاستعداد للقتال دائماً حتى يرتدع الطغاة الطامعين فلا يفكرون في العدوان على المسلمين مرة أخرى .. { أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُُلِموا وإِن الله على نصرهم لقدير } (الحج 39 )... والذين يقاومون اليوم العدوان الظالم على أوطانهم في فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان ، وغيرها من بلاد العالم المسلم .. يقفون في قلب الإسلام الصحيح ... أما أعداء المقاومة من أنصار (أُسلو) والذين يستجدون الإسرائيليين لمجرد الجلوس معهم على مائدة مفاوضات [للمنظرة] وأخذ الصور وتبادل القبلات ليقال إن هناك عملية سلام مستمرّة بينما القوات الصهيونية تواصل العدوان على الفلسطينيين واغتيال أرضهم بنشر المستوطنات وتهديد القدس العربية وفرض الحصار والتجويع وتمديد الجدار العازل في قلب فلسطين، فموقعهم في الإسلام مشكوك فيه ، فليبحثوا لأنفسهم عن موقع آخر ...!!
(2)
ينتقل علي عزت بيجوفيتش إلى النقطة الثانية في تأمّلاته حول الطريقة المُثلى لقراءة القرآن حيث يوصي بالمداومة على التلاوة، مع فواصل زمنية لازمة للتفكير والتأمل فيما تمت قراءته من قبل .. ويرى أن هذا أضمن طريقة لاكتشاف ما يسميه هو ( بإشعاع النور القرآني) .. إذ يكتشف القارئ المداوم على التلاوة أن هناك شيئاً جديداً في كل قراءة جديدة .. وهنا ينبّهنا بيجوفيتش إلى حقيقة أن القرآن نفسه لم يتغيّر ولكن شيئاً آخر هو الذي تغير على حدّ قوله: " تغيّرنا نحن .. أو تغيرت الظروف المحيطة بنا .. أو تغير العالم الذي نعيش فيه " فهو يرى أن هذه التغيّرات هي التي مكّنتنا من الغوص في أعماق جديدة كنّا قد غفلنا عنها أثناء قراءاتنا السابقة للقرآن الكريم .. ثم نشعر فجأة بأصداء تتردد في قلوبنا لآيات لم نركز على معانيها فيما سبق .. يقول علي عزت بهذا الصدد: " يمكن لكل واحد منا أن يتأكد بنفسه من هذا المعنى بمداومته على تلاوة القرآن" ثم يضرب أمثلة لتأكيد هذه الفكرة من تجربته الشخصية حيث يقول:
"منذ زمن بعيد وأنا ما أزال في مقتبل عمري كنت أتوقف أثناء قراءة القرآن الكريم عند آيات تتحدث عن العمل والجهاد والعدالة. وكنت أسجل هذه الآيات في دفتر صغير ( شاءت إرادة الله له أن ينجو من عبث رجال الأمن) وهم يفتشون في كتبي و دفاتري الأخرى ... أذكر جيدا أن آيات وجوب ردّ العدوان والظلم والاستبداد كانت قد ملكت عليّ عقلي . عندما يتحدث القرآن الكريم عن سِمات شخصية المسلم السوية يذكر (من بينها ) {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} (الشورى 39). وكنت أنتهز كل فرصة للحديث عن هذه الآية . أما اليوم فتستحوذ علي الآيات التي تتحدث عن الله سبحانه وتعالى وعن زينة هذه الدنيا وسرعة زوالها .. أي الآيات التي تحثّ على التأمل وليس على الحركة .. و أذكر جيداً أن الآية التي تدل على زوال كل شيء ما عدا وجه الله عز وجل قد أثّرت في تفكيري تأثيراً بالغاً لأنه وحده سبحانه هو الحقيقة التي لا تنقضي {كلُّ من عليها فانْ، ويبقى وجهُ ربَّك ذو الجلال والإكرامْ} (الرحمن 26, 27 ).. أي أن الله وحده كان قبل النجوم والكون كله وهو باق بعد زوال كل شيء .. فهو الحق وحده والحقيقة الوحيدة الباقية إلى الأبد ... وعندما انتقلت أمي إلى رحمة الله وكان قلبي يعتصر ألماً وحزناً كنت لا أفارق سورة الفجر .. وأقف دائماً عند هذه الآية البديعة { يا أيّتها النفسُ المطمئِنَّة ارْجِعي إلى ربك راضيةً مرضيّة ، فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي} (الفجر 27-30 ) وفي كل مرة كانت عينيّ تذرف دمعاً ولكنني لم أجد من السلوى لنفسي خيراً من هذه الآية الكريمة .. وكنت أتساءل من يمكنه أن يقدّم للإنسان كلمة عزاء أبلغ من هذه الكلمات إذا قُدّر له أن يقبّل وجه ولده المتوفى؟
وهكذا يصل بيجوفيتش في مجال تأمّلاته القرآنية وتأثير آيات القرآن على حياته النفسية والعملية إلى حقيقة أن القرآن الكريم كما هو شريعة وتكبيرة جهاد في ظرف ما ، هو أيضاً وفي ظروف أخرى سلوان لما لا مفر منه من نوائب الدهر .. والأمر يتوقف على حالتنا الشخصية والعقلية ففي موقفٍ معيّن يجذب القرآن انتباهنا إلى شيء ما .. وفي حالة أخرى أو موقف آخر يجذب انتباهنا إلى حقيقة أخرى ...
فإذا تركنا الجانب الفردي الشخصي من ناحية (زاوية الاهتمام) واتّجهنا إلى ما يتعلق بظروف تاريخية معينة على مستوى المجتمع .. حينئذ سوف تتركز أنظارنا على إبراز بعض الآيات القرآنية المتعلقة بهذا الظرف أو ذاك وفقاً للحالة القائمة .. ففي المجتمع الذي تمزقه التفرقة العنصرية تبرز الأولوية للآيات الدالة على مساواة جميع الناس و على النشأة المشتركة للإنسانية كالآية الأولى في سورة النساء : {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيراً ونساءً ...}.
وفي مجتمع تُنتهك فيه الحقوق الدينية .. أو تمزّقه أي نوع من التفرقة لا بد أن تبرز هذه القاعدة الصارمة المكونة من ثلاث كلمات فقط : { لا إكراه في الدين ...} (البقرة 256).. وفي ذلك يقول علي عزت: " لا نفاضل نحن المسلمين بين الآيات القرآنية .. ولكن غير المسلمين يكادون يجمعون على أن هذه الآية القصيرة عن التسامح الديني هي أرفع وأبدع آية قرآنية، وهكذا يمكننا مواصلة التأمل في هذا الاتجاه ..." .
(3)
إذا كنا في معرض الحديث عن كيفية قراءة القرآن الكريم فإنه لا بد لنا أن نشير إلى ما يُعرف بترتيل القرآن أو الاستماع إلى تلاوة القرآن.. إذ يرى بعض الناس أن مثل هذا الترتيل المنُغّم قليل الفائدة أو غير جائز .. بزعم أن أغلبية المسلمين لا يفهمون ما يتلى عليهم ومن ثم فهم يركزون فقط على نغمات الترتيل وجمال الصوت فقط ..
يقول علي عزت: " أراني هنا ملزماً بالقول بأنني لا أوافق علي هذا الرأي .. ولا يسعني إلا أن أذكر حادثة لا أظنني سأنساها أبداً : فقد أتيحت لي فرصة المشاركة في مؤتمر دولي قبل عدة سنوات كان يناقش موضوع مشكلات وعوائق النهضة الإسلامية ، وتم عقد هذا المؤتمر في مدينة كبيرة من مدن أوربا ، حيث شارك فيه عدد كبير من العلماء والمفكرين الذين قدّموا بحوثاً وآراء عن تجديد الفكر الديني في العالم الإسلامي .. وكان كل يوم من أعمال المؤتمر يُفتتح ويُختتم بتلاوة من آيات القرآن الكريم .. كان يقوم بها واحد من أشهر قُُرّاء القرآن في العالم ..." .
ويمضى علي عزت في وصف الأجواء التي كانت سائدة في المؤتمر فيقول: " كان الحاضرون يستمعون باهتمام إلى كلمات المحاضرين والعلماء ، ولكننا كنا نشعر بوجود مئات الحاضرين في القاعة من خلال الهمسات والحركات فهذا يهمس إلى جاره وذاك يحرّك كرسيه وآخر يتصفح أوراقه، وهكذا ... ولكن بعد لحظات من شروع القارئ في تلاوة القرآن تتوقف كل الحركات والأصوات فجأة ويسيطر الهدوء الشامل .. حتى أثناء توقف القارئ للتنفس لم يكن يُسمع في القاعة صوت .. بل خُيّل إليّ أن جميع الحاضرين قد توقفوا عن التنفس أيضاً .. إنه الهدوء الذي يستطيع الناس فيه أن يستمعوا إلى خفقان قلوبهم بشكل منتظم .. كانت كلمات القرآن الكريم تنساب من فم هذا القارئ كنهر متدفّق .. يجرى هادئاً مترقرقاً حيناً ثم لا يلبث أن يتحول إلى شلالات هادرة لتأخذك وتحملك بعيداً .. ولكن قمة الحدث الذي لا يمكن وصفه بالكلمات كانت في اليوم الأخير، عندما اعتزم القارئ الشيخ أن يتحفنا بهدية خاصة قبل الفراق، لذلك اختار تلاوة سورة الرحمن .. هذه السورة بديعة رائعة متميّزة بجمال أسلوبها وتناسقها .. أظنني إلى الآن لا زلت عاجزاً عن وصف الحالة التي كنت فيها وأنا أنصت إلى التلاوة .. لم أكن قبل ذلك الوقت أفهم معنى آيات هذه السورة فهماً كاملاً سوى الآية المتكررة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ولكنني بتأثير قوة التعبير الصوتي وجماله شعرت بأني أفهم آياتها تماماً ، أنا وجميع المستمعين ...
بعد الانتهاء من التلاوة في كل يوم من أيام المؤتمر كنت أجد نفسي أقترب شيئاً فشيئاً من الآخرين، وكنت أقرأ هذا الإحساس نفسه في وجوه الحاضرين، كأنهم يريدون أن يقولوا : ألا ترون .. ألسنا جميعاً أخوة في الإسلام ..!؟ " كان علي عزت وهو لا يزال شابّاً في العشرينات من عمره يعترض على الاهتمام المبالغ فيه بتلاوة القرآن بصوت رخيم وبدون فهم لمعانيه .. ويعتبر هذا عائقاً عن الاهتمام الواجب بتطبيق القرآن في حياة الناس ... ولذلك يقول: " بعد هذه الواقعة لن أجرؤ على تقليل أهمية الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم بدون فهم .. لأن قلوب جميع المسلمين تفهم القرآن بشكل أو بآخر من خلال التجويد المنضبط والتلاوة الجميلة المعبّرة عن المعاني .. وسيجد كل إنسان في القرآن من المعاني بقدر ما في عقله وقلبه من رحابة وبقدر إيمانه و قوة تعلّقه بالقرآن العظيم ...".
(4)
ما لم يذكره بيجوفيتش في هذه المقالة فيما يتعلق بسورة الرحمن بالذات أنه كانت له ذكريات معها في طفولته المبكرة .. ففي مذكراته التي نُشرت له قبل وفاته ببضعة أشهر يتحدّث عن حبه لأمه .. ويصفها بأنها رقيقة عطوف .. وعلى جانب عظيم من التّديّن والتُّقى .. فقد كانت حريصة على قيام الليل وقراءة القرآن حتى يحين موعد صلاة الفجر فتوقظه ليذهبا معاً إلى صلاة الجماعة في المسجد القريب من منزلهم .. يقول: " كنت في ذلك الوقت صبيّاً بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمري ولم يكن من السهل عليّ مغادرة فراشي الدافئ في ذلك الوقت المبكر، فكنت أقاوم في بادئ الأمر .. ولكني كنت أشعر بعد العودة من المسجد بانتعاش كبير وسعادة غامرة من هذه الخبرة المثيرة .. خصوصاً في فصل الربيع، حيث تكون الشمس قد أشرقت وغمرت المكان بأشعتها الدافئة ، ولمّا تزلْ آيات القرآن حلوة نديّة تترقرق في مسامعي، فقد اعتاد الإمام الشيخ قراءة سورة الرحمن كاملة في الركعة الثانية بصوته العذب ، وكان هو نفسه شخصية محبوبة من جميع أهل البلدة .. كنت أعود من المسجد دائماً سعيداً منشرح الصدر .. وقد استقر هذا الانطباع في أعماق نفسي قوياً مشرقاً في وسط ضباب كثيف من الخبرات الأليمة التي أحاطت بحياتي عبر السنين ...".بقلم : محمد يوسف عدس
كانت مشكلة فهم معاني القرآن ومقاصده حاضرة في عقل العالم الشيخ محمد الغزالي وهو يضع كتاب " نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم " وكتابه " المحاور الخمسة للقرآن الكريم " و كتابه " نظرات في القرآن " كذلك كانت هذه المشكلة حاضرة في ذهن العالم الشيخ يوسف القرضاوي في كثير من كتبه .. ومنها : كتاب " كيف نتعامل مع القرآن العظيم" و كتاب " تفسير سورة الرعد " ، وكتاب " العقل والعلم في القرآن "، وكتاب " المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة: ضوابط ومحاذير في الفهم والتفسير ".
لم يكن أيّ من هذه الكتب موجوداً أمام علي عزت بيجوفيتش عندما شرع يكتب عن هذه المشكلة في مايو سنة 1977 ، ولم تكن قد تم تأليفها ونشرها بعد .. ولكنه أدرك المشكلة وعاناها، وفكر فيها (بالتأكيد قبل هذا التاريخ) .. ولسنا نتوقع أن يأتي بشيء جديد يمكن أن يضاف إلى ما قاله كلّ من الشّيْخين الجليلين .. لكن الجديد فيها (ربما) هو أنه يكتب من واقع تجربته الشخصية .. وتأمّلاته الخاصة في القرآن الكريم .. فهو يعترف بأنه قرأ القرآن مرّات ومرّات .. ولكنه لم يتساءل من قبل: كيف ينبغي عليه أن يقرأ القرآن ..؟ ولا بد أنه أدرك أن هذه ليست مشكلته وحده بل مشكلة الكثيرين من أمثاله ممن يتعاملون مع القرآن .. ومن ثم رأى أن يكتب ليشرك الآخرين فيما توصّل إليه من أفكار وخواطر حول هذا الموضوع .. وفي ذلك كتب مبتدئاً بتوجيه النظر إلى حقيقة محورية هي من أخصّ خصائص القرآن .. قال:
" يجب أن نضع نصب أعيننا ، قبل كل شيء ، أن القرآن الكريم كلًٌّ لا يتجزأ . وكل آية فيه إذا أُخذت منفردة أو مُنتزعة من السياق العام لا تقدّم حقاً كاملاً ، بل تقدم جزءاً من الحق ، فنحن لا يمكن أن نعرف الحق كاملاً إلا إذا أخذنا القرآن كاملاً .. أما سرد بعض الآيات منفردة (وهو أمر لا مفرّ منه في الدرس أو الاستشهاد أو في أي تعامل آخر مع القرآن)، فلا بد أن يُفهم على خلفية فهمنا الكامل لمجمل القرآن ، فالأمر هنا شبيه بلوحة الفسيفساء ، كل قطعة فيها يتوقف معناها وقيمتها الجمالية على ما تعنيه في انسجامها مع بقية قطع اللوحة الكاملة. أما إذا أخذنا كل قطعة بمفردها فإنها لا تقدم إلا جزءاً أو لا تقدم شيئاً حقيقياً من جمال اللوحة الكاملة...".
ومن أجل مزيد من الإيضاح يضرب بيجوفيتش هذه الأمثلة:
آية قرآنية تشرّع للقصاص : {ياَ أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى} (البقرة 178) ، وآية أخرى تدعو إلى العفو والصفح : {وجزاءُ سيئةِ سيئةً مثلها ، فمن عفا وأصلح فأجره علي الله ، إنه لا يحب الظالمين } (الشورى 40 )؛ أو آية تقول :{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } (المائدة 87 ), وآية أخرى تقول :{ ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا ...} (طه 131) ، إلى غير ذلك من الأمثلة .. يقول بيجوفيتش:
"إن من يقرأ القرآن قراءة عابرة قد يخيل إليه وجود تناقض فيه ، بينما الأمر ليس كذلك قطعاً .. فحقيقة الأمر أن المسألة تتعلق بأبدع وأرفع ميزة يمتاز بها القرآن والإسلام بصفة عامة .. وهي التجانس التام بين الأمور التي تبدو متناقضة للناظر إليها لأول وهلة .. إذ يجب أن نلاحظ ونفهم أن القرآن لا يطالبنا هنا بأمر واحد .. بل يطالبنا بأمرين معاً .. فهو لا يريد منا القصاص فقط لأنه يطالبنا أيضا بالعفو.. والعكس بالعكس ؛ كما لا يفرض علينا السعي للآخرة وحدها لأنه يريد منا السعي لهذه الدنيا أيضاً ، أي لا يطالبنا أبداً بالسعي لحياة دون أخرى . لذلك لا يتحقق كمال الإسلام في المسلمين الذين لا يعرفون غير العقاب ( ولو كانوا على الحق ) لأنهم لم يعفوا .. كما لا يتحقق كمال الإيمان في الذين لا يعلمون غير العفو ولا يجازون عن سيئة بسيئة مثلها .. ويمكن أن نستنتج هنا (ببساطة شديدة) أن المسلم الكامل هو الذي يعرف مقداراً معتدلاً للأمرين معاً .. هو الذي يذهب إلى القصاص ويطلبه في موضعه وهو الذي يسمح بالعفو ويمنحه في موضع استحقاقه ... ".
هذا الأسلوب عند بيجوفيتش هو الأسلوب الأمثل في فهم القرآن وتطبيقه .. وهو أفضل وسيلة يمكن أن نرتقي بها إلى مستوى الفهم الكامل لحقيقة الإسلام وجوهر رسالته .. وفي الزمن الذي نحن فيه اليوم هناك أناس بل مؤسسات إعلامية كبرى ومؤسسات دينية دعويّة وسياسية تجعل كل رسالتها و تكرّس كل جهدها للترويج لفكرة السلام والسماحة والتعاون على البر والتقوى مع الآخرين من غير المسلمين دون اعتبار لموقفهم منا .. وهل هو موقف سلام أو موقف حرب وعدوان .. إلى آخر هذه الدعاوى التي تصوّر الإسلام وكأنه الدين الذي يدعو الإنسان إلى أن يدير خده الأيمن لمن ضربه على خده الأيسر .. فإذا لم يشْفِه ذلك استدار ليسلّمه قفاه الذي اعتاد على الصفع واستمرأه .. ثم يدعو لضاربه بالهداية وطول العمر ... !!
وهناك قلّة من الناس لا يرون في الإسلام إلا العنف والسيف في التعامل مع الأعداء والمخالفين في العقيدة على السواء .. ويزعمون أن آية السيف (كما يسمونها) قد نسخت كل الآيات الأخرى التي تأمر بالبر والقسط للذين لم يقاتلوا ولم يعتدوا ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم ... وفي مناخ التشدد والتنطّع من كلا الجانبين تضيع الحقيقة ويلتبس على الناس الأمر فيتساءلون: أين الحقيقة .. ولاشك أن الإسلام يدعو إلى السلام كأساس للتعامل بين البشر .. وهو دين تعاون وسماحة لا ترتقي إليها كل ما في هذا العالم من سماحة مُدّعاة .. هذا كله حق لا لبس فيه ولا جدال .. ولكنه ليس كل الحق ..
لأن الدين الذي يؤكد على هذه القيم الرفيعة يعلم مُوحيه سبحانه وتعالى أن هناك في هذا العالم أشراراً طامعين معتدين ومجرمين عتاة لا يرتدّون عن عدوانهم و لا يرتدعون إلا باستخدام العنف والقوة .. ومن ثمّ شرع القتال للدفاع عن النفس .. وشرع الاستعداد للقتال دائماً حتى يرتدع الطغاة الطامعين فلا يفكرون في العدوان على المسلمين مرة أخرى .. { أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُُلِموا وإِن الله على نصرهم لقدير } (الحج 39 )... والذين يقاومون اليوم العدوان الظالم على أوطانهم في فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان ، وغيرها من بلاد العالم المسلم .. يقفون في قلب الإسلام الصحيح ... أما أعداء المقاومة من أنصار (أُسلو) والذين يستجدون الإسرائيليين لمجرد الجلوس معهم على مائدة مفاوضات [للمنظرة] وأخذ الصور وتبادل القبلات ليقال إن هناك عملية سلام مستمرّة بينما القوات الصهيونية تواصل العدوان على الفلسطينيين واغتيال أرضهم بنشر المستوطنات وتهديد القدس العربية وفرض الحصار والتجويع وتمديد الجدار العازل في قلب فلسطين، فموقعهم في الإسلام مشكوك فيه ، فليبحثوا لأنفسهم عن موقع آخر ...!!
(2)
ينتقل علي عزت بيجوفيتش إلى النقطة الثانية في تأمّلاته حول الطريقة المُثلى لقراءة القرآن حيث يوصي بالمداومة على التلاوة، مع فواصل زمنية لازمة للتفكير والتأمل فيما تمت قراءته من قبل .. ويرى أن هذا أضمن طريقة لاكتشاف ما يسميه هو ( بإشعاع النور القرآني) .. إذ يكتشف القارئ المداوم على التلاوة أن هناك شيئاً جديداً في كل قراءة جديدة .. وهنا ينبّهنا بيجوفيتش إلى حقيقة أن القرآن نفسه لم يتغيّر ولكن شيئاً آخر هو الذي تغير على حدّ قوله: " تغيّرنا نحن .. أو تغيرت الظروف المحيطة بنا .. أو تغير العالم الذي نعيش فيه " فهو يرى أن هذه التغيّرات هي التي مكّنتنا من الغوص في أعماق جديدة كنّا قد غفلنا عنها أثناء قراءاتنا السابقة للقرآن الكريم .. ثم نشعر فجأة بأصداء تتردد في قلوبنا لآيات لم نركز على معانيها فيما سبق .. يقول علي عزت بهذا الصدد: " يمكن لكل واحد منا أن يتأكد بنفسه من هذا المعنى بمداومته على تلاوة القرآن" ثم يضرب أمثلة لتأكيد هذه الفكرة من تجربته الشخصية حيث يقول:
"منذ زمن بعيد وأنا ما أزال في مقتبل عمري كنت أتوقف أثناء قراءة القرآن الكريم عند آيات تتحدث عن العمل والجهاد والعدالة. وكنت أسجل هذه الآيات في دفتر صغير ( شاءت إرادة الله له أن ينجو من عبث رجال الأمن) وهم يفتشون في كتبي و دفاتري الأخرى ... أذكر جيدا أن آيات وجوب ردّ العدوان والظلم والاستبداد كانت قد ملكت عليّ عقلي . عندما يتحدث القرآن الكريم عن سِمات شخصية المسلم السوية يذكر (من بينها ) {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} (الشورى 39). وكنت أنتهز كل فرصة للحديث عن هذه الآية . أما اليوم فتستحوذ علي الآيات التي تتحدث عن الله سبحانه وتعالى وعن زينة هذه الدنيا وسرعة زوالها .. أي الآيات التي تحثّ على التأمل وليس على الحركة .. و أذكر جيداً أن الآية التي تدل على زوال كل شيء ما عدا وجه الله عز وجل قد أثّرت في تفكيري تأثيراً بالغاً لأنه وحده سبحانه هو الحقيقة التي لا تنقضي {كلُّ من عليها فانْ، ويبقى وجهُ ربَّك ذو الجلال والإكرامْ} (الرحمن 26, 27 ).. أي أن الله وحده كان قبل النجوم والكون كله وهو باق بعد زوال كل شيء .. فهو الحق وحده والحقيقة الوحيدة الباقية إلى الأبد ... وعندما انتقلت أمي إلى رحمة الله وكان قلبي يعتصر ألماً وحزناً كنت لا أفارق سورة الفجر .. وأقف دائماً عند هذه الآية البديعة { يا أيّتها النفسُ المطمئِنَّة ارْجِعي إلى ربك راضيةً مرضيّة ، فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي} (الفجر 27-30 ) وفي كل مرة كانت عينيّ تذرف دمعاً ولكنني لم أجد من السلوى لنفسي خيراً من هذه الآية الكريمة .. وكنت أتساءل من يمكنه أن يقدّم للإنسان كلمة عزاء أبلغ من هذه الكلمات إذا قُدّر له أن يقبّل وجه ولده المتوفى؟
وهكذا يصل بيجوفيتش في مجال تأمّلاته القرآنية وتأثير آيات القرآن على حياته النفسية والعملية إلى حقيقة أن القرآن الكريم كما هو شريعة وتكبيرة جهاد في ظرف ما ، هو أيضاً وفي ظروف أخرى سلوان لما لا مفر منه من نوائب الدهر .. والأمر يتوقف على حالتنا الشخصية والعقلية ففي موقفٍ معيّن يجذب القرآن انتباهنا إلى شيء ما .. وفي حالة أخرى أو موقف آخر يجذب انتباهنا إلى حقيقة أخرى ...
فإذا تركنا الجانب الفردي الشخصي من ناحية (زاوية الاهتمام) واتّجهنا إلى ما يتعلق بظروف تاريخية معينة على مستوى المجتمع .. حينئذ سوف تتركز أنظارنا على إبراز بعض الآيات القرآنية المتعلقة بهذا الظرف أو ذاك وفقاً للحالة القائمة .. ففي المجتمع الذي تمزقه التفرقة العنصرية تبرز الأولوية للآيات الدالة على مساواة جميع الناس و على النشأة المشتركة للإنسانية كالآية الأولى في سورة النساء : {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيراً ونساءً ...}.
وفي مجتمع تُنتهك فيه الحقوق الدينية .. أو تمزّقه أي نوع من التفرقة لا بد أن تبرز هذه القاعدة الصارمة المكونة من ثلاث كلمات فقط : { لا إكراه في الدين ...} (البقرة 256).. وفي ذلك يقول علي عزت: " لا نفاضل نحن المسلمين بين الآيات القرآنية .. ولكن غير المسلمين يكادون يجمعون على أن هذه الآية القصيرة عن التسامح الديني هي أرفع وأبدع آية قرآنية، وهكذا يمكننا مواصلة التأمل في هذا الاتجاه ..." .
(3)
إذا كنا في معرض الحديث عن كيفية قراءة القرآن الكريم فإنه لا بد لنا أن نشير إلى ما يُعرف بترتيل القرآن أو الاستماع إلى تلاوة القرآن.. إذ يرى بعض الناس أن مثل هذا الترتيل المنُغّم قليل الفائدة أو غير جائز .. بزعم أن أغلبية المسلمين لا يفهمون ما يتلى عليهم ومن ثم فهم يركزون فقط على نغمات الترتيل وجمال الصوت فقط ..
يقول علي عزت: " أراني هنا ملزماً بالقول بأنني لا أوافق علي هذا الرأي .. ولا يسعني إلا أن أذكر حادثة لا أظنني سأنساها أبداً : فقد أتيحت لي فرصة المشاركة في مؤتمر دولي قبل عدة سنوات كان يناقش موضوع مشكلات وعوائق النهضة الإسلامية ، وتم عقد هذا المؤتمر في مدينة كبيرة من مدن أوربا ، حيث شارك فيه عدد كبير من العلماء والمفكرين الذين قدّموا بحوثاً وآراء عن تجديد الفكر الديني في العالم الإسلامي .. وكان كل يوم من أعمال المؤتمر يُفتتح ويُختتم بتلاوة من آيات القرآن الكريم .. كان يقوم بها واحد من أشهر قُُرّاء القرآن في العالم ..." .
ويمضى علي عزت في وصف الأجواء التي كانت سائدة في المؤتمر فيقول: " كان الحاضرون يستمعون باهتمام إلى كلمات المحاضرين والعلماء ، ولكننا كنا نشعر بوجود مئات الحاضرين في القاعة من خلال الهمسات والحركات فهذا يهمس إلى جاره وذاك يحرّك كرسيه وآخر يتصفح أوراقه، وهكذا ... ولكن بعد لحظات من شروع القارئ في تلاوة القرآن تتوقف كل الحركات والأصوات فجأة ويسيطر الهدوء الشامل .. حتى أثناء توقف القارئ للتنفس لم يكن يُسمع في القاعة صوت .. بل خُيّل إليّ أن جميع الحاضرين قد توقفوا عن التنفس أيضاً .. إنه الهدوء الذي يستطيع الناس فيه أن يستمعوا إلى خفقان قلوبهم بشكل منتظم .. كانت كلمات القرآن الكريم تنساب من فم هذا القارئ كنهر متدفّق .. يجرى هادئاً مترقرقاً حيناً ثم لا يلبث أن يتحول إلى شلالات هادرة لتأخذك وتحملك بعيداً .. ولكن قمة الحدث الذي لا يمكن وصفه بالكلمات كانت في اليوم الأخير، عندما اعتزم القارئ الشيخ أن يتحفنا بهدية خاصة قبل الفراق، لذلك اختار تلاوة سورة الرحمن .. هذه السورة بديعة رائعة متميّزة بجمال أسلوبها وتناسقها .. أظنني إلى الآن لا زلت عاجزاً عن وصف الحالة التي كنت فيها وأنا أنصت إلى التلاوة .. لم أكن قبل ذلك الوقت أفهم معنى آيات هذه السورة فهماً كاملاً سوى الآية المتكررة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ولكنني بتأثير قوة التعبير الصوتي وجماله شعرت بأني أفهم آياتها تماماً ، أنا وجميع المستمعين ...
بعد الانتهاء من التلاوة في كل يوم من أيام المؤتمر كنت أجد نفسي أقترب شيئاً فشيئاً من الآخرين، وكنت أقرأ هذا الإحساس نفسه في وجوه الحاضرين، كأنهم يريدون أن يقولوا : ألا ترون .. ألسنا جميعاً أخوة في الإسلام ..!؟ " كان علي عزت وهو لا يزال شابّاً في العشرينات من عمره يعترض على الاهتمام المبالغ فيه بتلاوة القرآن بصوت رخيم وبدون فهم لمعانيه .. ويعتبر هذا عائقاً عن الاهتمام الواجب بتطبيق القرآن في حياة الناس ... ولذلك يقول: " بعد هذه الواقعة لن أجرؤ على تقليل أهمية الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم بدون فهم .. لأن قلوب جميع المسلمين تفهم القرآن بشكل أو بآخر من خلال التجويد المنضبط والتلاوة الجميلة المعبّرة عن المعاني .. وسيجد كل إنسان في القرآن من المعاني بقدر ما في عقله وقلبه من رحابة وبقدر إيمانه و قوة تعلّقه بالقرآن العظيم ...".
(4)
ما لم يذكره بيجوفيتش في هذه المقالة فيما يتعلق بسورة الرحمن بالذات أنه كانت له ذكريات معها في طفولته المبكرة .. ففي مذكراته التي نُشرت له قبل وفاته ببضعة أشهر يتحدّث عن حبه لأمه .. ويصفها بأنها رقيقة عطوف .. وعلى جانب عظيم من التّديّن والتُّقى .. فقد كانت حريصة على قيام الليل وقراءة القرآن حتى يحين موعد صلاة الفجر فتوقظه ليذهبا معاً إلى صلاة الجماعة في المسجد القريب من منزلهم .. يقول: " كنت في ذلك الوقت صبيّاً بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمري ولم يكن من السهل عليّ مغادرة فراشي الدافئ في ذلك الوقت المبكر، فكنت أقاوم في بادئ الأمر .. ولكني كنت أشعر بعد العودة من المسجد بانتعاش كبير وسعادة غامرة من هذه الخبرة المثيرة .. خصوصاً في فصل الربيع، حيث تكون الشمس قد أشرقت وغمرت المكان بأشعتها الدافئة ، ولمّا تزلْ آيات القرآن حلوة نديّة تترقرق في مسامعي، فقد اعتاد الإمام الشيخ قراءة سورة الرحمن كاملة في الركعة الثانية بصوته العذب ، وكان هو نفسه شخصية محبوبة من جميع أهل البلدة .. كنت أعود من المسجد دائماً سعيداً منشرح الصدر .. وقد استقر هذا الانطباع في أعماق نفسي قوياً مشرقاً في وسط ضباب كثيف من الخبرات الأليمة التي أحاطت بحياتي عبر السنين ...".بقلم : محمد يوسف عدس