الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسولنا الأمين محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
أما بعد
هناك تساؤلات لابد من طرحها قبل البدء بالموضوع :
1. هل يمكن أن يغير القرآن حياتنا ؟ هل يمكن أن نحيا حياة جديدة بالقرآن ؟
2. ما درجة تدبر القرآن في تلاوتنا ؟ وما مقدار الاستجابة في واقعنا العملي ؟
3. هل الأهم هو الحفظ أم التدبر ؟
4. هل وجدت في القرآن حلاً للمشكلات الإجتماعية والنفسية والأخلاقية ؟
5. هل جربت العيش بالشخصية القرآنية ؟
ما القصود بالتدبر ؟
التدبر : هو التفكر والتأمل لآيات القرآن من أجل فهمه وإدراك معانيه .
أهمية تدبر القرآن ( ما الذي يدل على تدبر القرآن ) :
¦ حاجة القلب إلى تدبر القرآن :
إن في القلب حاجة لا يسدها إلا ذكر الله والتلذذ بكريم خطابه ، وإن فيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بكتابه ، وإن فيه قلقاً وخوفاً لا يؤمنه إلا السكون إلى ما بشر الله به عباده ، وإن فيه فاقة لا يغنيها إلا التزود من حِكم القرآن وأحكامه ، وإنه لفي حيرة واضطراب لا ينجيه منها إلا الاهتداء بنوره .
قال تعالى { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى وموعظة للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }
يقول ابن القيم – رحمه الله - : فالقلب الطاهر لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث ، لا يشبع من القرآن ولا يتغذى إلا بحقائقه ولا يتداوى إلا بأدويته .
قال ابن تيميه – رحمه الله - : وحاجة الأمة ماسّة إلى فهم القرآن .
فالقلب بحاجة إلى تدبر القرآن وإلا قسى ، فالله عزوجل لما عاتب الصحابة – رضي الله عنهم – في خشوع قلوبهم والتأثر بكلامه ، حذرهم أن مغبة التمادي في ترك التدبر هي قسوة القلب ، فقال سبحانه { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون }
قال ابن القيم – رحمه الله - : فلو علم الناس مافي قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها ، فهو أنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان ، وذوق حلاوة القرآن ، فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب .
¦ الثناء على من تدبر القرآن :
وردت آيات كثيرة في الثناء على من تأثر بكلام الله عزوجل ، منها قوله تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم }
¦ الذم لمن ترك تدبر القرآن :
قال تعالى { وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا }
قال ابن كثير – رحمه الله - : وترك تدبره من هجرانه .
وقال القرطبي – رحمه الله - في تفسير قوله تعالى { أفلا يتدبرون القرآن } : عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه .
وفي قوله تعالى { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا }
قال الطرطوشي : فدخل في عموم هذا من يحفظ القرآن من أهل ملتنا ثم لا يفهمه ولا يعمل به .
وفي وصف الخوارج من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم ) .
قال ابن حجر – رحمه الله - : المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم ، لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم ، لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب .
هل يعذر المسلون بترك تدبر القرآن ؟
قال القرطبي – رحمه الله – في قوله تعالى { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } : حث على تأمل مواعظ القرآن ، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبر ، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة متشققة من خشية الله ، وأنتم لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده .
واستنبط القرطبي من قوله تعالى { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } وجوب معرفة معاني القرآن .
¦ تقديم التدبر على كثرة التلاوة :
ويدل على ذلك قول أبي ذر – رضي الله عنه – صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها وهي قوله تعالى { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } .
قال ابن القيم – رحمه الله - : قراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم .
فتدبر القرآن إن رمت الهدى .....فالعلم تحت تدبر القرآن
قال ابن الجزري – رحمه الله - : والصحيح ما عليه معظم السلف وهو أن لترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من السرعة مع كثرتها .
كيف نتدبر القرآن :
هناك عدة أمور يكون بها تدبر القرآن :
1/ الاستعاذة .. قال تعالى { فإذا قرئ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }
ومعلوم أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان إذا تلا القرآن ، ولهذا أمر الله بالإستعاذة عند القراءة ، فالاستعاذة تمنع الشيطان من أن يفسد مافي القلب من الهدى والنور بتفهم القرآن وتدبره .
2/ التغني بالقراءة وتحسينها .. لقوله تعالى { ورتل القرآن ترتيلا }
قال ابن كثير – رحمه الله - : المطلوب شرعاً إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه .
3/ الجهر بالتلاوة .. لتعين القارئ على جمع قلبه على المعاني وتمنع شرود الذهن .
قال النووي – رحمه الله - عن الحكمة من مشروعية الجهر : أنه يتعدى نفعه إلى غيره ويوقظ القلب ، ويجمع همّه إلى الفكر ، ويصرف سمعه إليه .
4/ الإنصات عند سماع القرآن .. لقوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون }
قال الشوكاني – رحمه الله - : أمرهم الله بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم المصالح .
وقال الليث : يقال ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن لقوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } .
5/ صلاة الليل والقراءة فيه .. حيث قال سبحانه { إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا }
قال ابن عباس – رحمه الله - : وقوله " أقوم قيلا " هو أجدر أن يفقه القرآن .
ويقول ابن حجر – رحمه الله - عن مدارسة جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان : المقصود الحضور والفهم ، لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية .
6/ تكرار الآية :
وتكرار الآيات من أهم الأمور التي تساعد على التدبر ، فكررها مراراً حتى تتدبرها ، وتظهر لك معاني جديدة عند كل تكرار .
قال محمد بن كعب : لأن اقرأ " إذا زلزلت " و"القارعة " أرددهما وأتفكر فيهما أحب من أن أبيت أهذ القرآن .
وقال النووي – رحمه الله - : وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم الآية الواحدة ليلة كاملة أو معظمها يتدبرها عند القراءة .
7/ صفاء الذهن :
وأفضل الأوقات لذلك آخر الليل أو بعد صلاة الفجر .
علامات تدبر القرآن :
ü اجتماع القلب والفكر حين الفراءة ، ودليله التوقف تعجباً وتعظيما .
ü البكاء من خشية الله أو التباكي .
ü زيادة الإيمان ودليله التكرار العفوي للآيات .
ü الفرح والاستبشار بذكر الجنة وما أعده الله للمؤمنين بذكر عفوه ورحمته وفضله على عباده وإجابته دعاء الداعين .
ü القشعريرة خوفاً من الله عند ذكر العذاب والوعد والوعيد ثم غلبة الرجاء والسكينة .
ü الخضوع لأوامره واليقين بأخباره .
أمور متوقفة على تدبر القرآن :
? عظم أجر التلاوة :
إن أجر التلاوة يرجى بأداء التلاوة ، ولكن عظم الأجر يرجبى بمزيد التدبر والاعتبار بما يتلوه القارئ .
قال النووي – رحمه الله - : اعلم أن التلاوة أفضل الأذكار والمطلوب القراءة بفهم .
? حصول بركة القرآن :
قال تعالى { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته }
قال شيخ الإسلام – رحمه اله - : ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بعقله ، وتدبره بقلبه ، وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره .
? حصول الصحبة مع القرآن :
يقول ابن القيم – رحمه الله - : صاحب القرآن هو العالم به العامل بما فيه ، وإن لم يحفظه عن ظهر القلب ، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل به فليس من أهله وإن أقام حروفه .
? تدبر القرآن حل لجميع مشكلاتنا النفسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية :
أما آن الأوان لكي نحيا بالقرآن ، نعم القرآن حل لمشاكلنا ، فالنفسية مثلاً الحزن وقد نبذه الله تعالى ورتب الإيمان على عدم الحزن فقال سبحانه { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } فإن كنتم مؤمنين لا تحزنوا ، لأن المؤمن ما خلق ليحزن وإنما خلق ليتفاءل ويعيش حياته سعيداً بطاعة الله ، وقد ذكر الله أن الشيطان هو السبب في حزن المؤمن فقال { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } .
وكذلك مثل من يتطاول عليك بالكلام فتذكر قوله تعالى { والكاظمين الغيظ } ، ومن ظلم وتعرض للمكيدة فليتذكر قصة يوسف عليه السلام .
والاقتصادية بالتصدق وبذل المال .
يقول د. عبدالكريم بكار : صدقة السر واحة أمان ومصدر غنى ، وإني لأعجب لمسلم يعتقد أن الله يضاعف الصدقة أضعافاً مضاعفة ، ثم لا يجعل منها باباً لتفريج كروبه المالية .
موانع تدبر القرآن :
1. أمراض القلوب والإصرار على الذنوب :
وهي من أعظم وأهم الموانع عن تدبر القرآن ،فإن أمراض القلوب وفساد الباطن كالرياء والمبالغة في طلب الدنيا والغل والحسد والكبر تسبب ظلمة تكسو القلب وتمنع من دخول نور القرآن وهدايته .
قال تعالى { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق }
قال ابن قدامة – رحمه الله - : وليتخلّ التالي عن موانع الفهم ، ومن ذلك أن يكون مصراً على ذنب أو متصفاً بكبر أو مبتلى بهوى مطاع ، فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه .
2. انشغال القلب وشرود الذهن :
المانع الأول وهو أمراض القلوب سبب في شرود الذهن وانشغاله .
قال ابن القيم – رحمه الله - : الناس ثلاثة رجل قلبه ميت ، الثاني : رجل له قلب حي لكنه مشغول ليس بحاضر ، فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى ، والثالث : رجل حي القلب مستعد ، تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه ، وألقى السمع ، وأحضر القلب ، ولم يشغله بغير فهم ما يسمع ،فهو شاهد القلب ، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات .
3. قصر الهمة على كثرة القراءة أو تحقيق القراءة وحسن التلاوة :
قال ابن الجوزي – رحمه الله - : قد لبس على قوم بكثرة التلاوة فهم يهذون هذا من غير ترتيل ولا تشبت ، وهذه حالة ليست بمحمودة .
4. قصر معاني الآيات على قوم مضوا :
وأن الواقع لا يدخل تحت ما في القرآن من الهدى ، ولذا كان هذا صارفاً لكثير من الناس عن إمعان النظر في القرآن .
قال الشيخ عبداللطيف آل الشيخ : وربما سمع بعضهم قول من قال من المفسرين هذه نزلت في عبّاد الأصنام ، هذه في النصارى، هذه في الصائبة ، فيظن أن ذلك مختص بهم وأن الحكم لا يتعداهم ، وهذا أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن .
5. الاعتقاد بصعوبة فهمه :
وهذا خطأ فالقرآن يسره الله تعالى للفهم والتدبر ، قال تعالى { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }.قأققق
قال ابن هبيرة- رحمه الله - : ومن مكايد الشيطان تنفيره عباد الله من تدبر القرآن لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر ، فيقول : هذه مخاطرة ، حتى يقول الإنسان أن لا أتكلم في القرآن تورعا .
6. قطيعة الرحم :
وهي من الأسباب الحاجبة عن فهم كتاب الله والانتفاع به ، ويدل على ذلك الربط بين قطيعة الرحم وتدبر القرآن في قوله تعالى { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها }
فالقاطع ما كان ليقطع رحمه لو أنه تدبر كلام ربه .
وجاء في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن الله تعالى قال للرحم : ( ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ، قالت : بلى يارب ، قال : فذاك )
الأعداء والقرآن :
لما عرف الأعداء أهمية القرآن ومدى تأثيره على المسلمين في صلاح المجتمع أخذوا يعدون العدد لصرف المسلمين عن كتاب ربهم
فهذا قلادستون يقول لقومه : مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق ، ولا أن تكون هي نفسها في أمان .
ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على الاستعمار في الجزائر : إننا لن ننتصر على الجزائريين ماداموا يقرءون القرآن ويتكلمون العربية ، فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم ، ونقتلع اللسان العربى من ألسنتهم .
فلنكن متميزين بالقرآن " الشخصية القرآنية " :
نعم فلنتحلى بالشخصية القرآنية ، وهي تحتاج إلى أمور :
1- قلة المخالطة إلا لمصلحة وحاجة ، فإن كثرة مخالطة أهل الباطل تنسي القرآن .
2- القراءة والمدارسة في أكثر من كتاب تفسير كابن كثير والسعدي وأبي بكر الجزائري .
3- سرعة الاستجابة والتنفيذ لما جاء في القرآن قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون }
4- التواجد بين صحبة صالحة تعين على السمو والترقي .
هذا واسأل الله سبحانه التوفيق والسداد وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المراجع : مفاتيح تدبر القرآن والنجاح في الحياة ...د.عبدالكريم اللاحم
تدبر القرآن – سليمان السنيدي
الحياة من جديد – د. أسماء الرويشد
أما بعد
هناك تساؤلات لابد من طرحها قبل البدء بالموضوع :
1. هل يمكن أن يغير القرآن حياتنا ؟ هل يمكن أن نحيا حياة جديدة بالقرآن ؟
2. ما درجة تدبر القرآن في تلاوتنا ؟ وما مقدار الاستجابة في واقعنا العملي ؟
3. هل الأهم هو الحفظ أم التدبر ؟
4. هل وجدت في القرآن حلاً للمشكلات الإجتماعية والنفسية والأخلاقية ؟
5. هل جربت العيش بالشخصية القرآنية ؟
ما القصود بالتدبر ؟
التدبر : هو التفكر والتأمل لآيات القرآن من أجل فهمه وإدراك معانيه .
أهمية تدبر القرآن ( ما الذي يدل على تدبر القرآن ) :
¦ حاجة القلب إلى تدبر القرآن :
إن في القلب حاجة لا يسدها إلا ذكر الله والتلذذ بكريم خطابه ، وإن فيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بكتابه ، وإن فيه قلقاً وخوفاً لا يؤمنه إلا السكون إلى ما بشر الله به عباده ، وإن فيه فاقة لا يغنيها إلا التزود من حِكم القرآن وأحكامه ، وإنه لفي حيرة واضطراب لا ينجيه منها إلا الاهتداء بنوره .
قال تعالى { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى وموعظة للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }
يقول ابن القيم – رحمه الله - : فالقلب الطاهر لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث ، لا يشبع من القرآن ولا يتغذى إلا بحقائقه ولا يتداوى إلا بأدويته .
قال ابن تيميه – رحمه الله - : وحاجة الأمة ماسّة إلى فهم القرآن .
فالقلب بحاجة إلى تدبر القرآن وإلا قسى ، فالله عزوجل لما عاتب الصحابة – رضي الله عنهم – في خشوع قلوبهم والتأثر بكلامه ، حذرهم أن مغبة التمادي في ترك التدبر هي قسوة القلب ، فقال سبحانه { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون }
قال ابن القيم – رحمه الله - : فلو علم الناس مافي قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها ، فهو أنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان ، وذوق حلاوة القرآن ، فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب .
¦ الثناء على من تدبر القرآن :
وردت آيات كثيرة في الثناء على من تأثر بكلام الله عزوجل ، منها قوله تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم }
¦ الذم لمن ترك تدبر القرآن :
قال تعالى { وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا }
قال ابن كثير – رحمه الله - : وترك تدبره من هجرانه .
وقال القرطبي – رحمه الله - في تفسير قوله تعالى { أفلا يتدبرون القرآن } : عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه .
وفي قوله تعالى { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا }
قال الطرطوشي : فدخل في عموم هذا من يحفظ القرآن من أهل ملتنا ثم لا يفهمه ولا يعمل به .
وفي وصف الخوارج من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم ) .
قال ابن حجر – رحمه الله - : المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم ، لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم ، لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب .
هل يعذر المسلون بترك تدبر القرآن ؟
قال القرطبي – رحمه الله – في قوله تعالى { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } : حث على تأمل مواعظ القرآن ، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبر ، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة متشققة من خشية الله ، وأنتم لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده .
واستنبط القرطبي من قوله تعالى { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } وجوب معرفة معاني القرآن .
¦ تقديم التدبر على كثرة التلاوة :
ويدل على ذلك قول أبي ذر – رضي الله عنه – صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها وهي قوله تعالى { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } .
قال ابن القيم – رحمه الله - : قراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم .
فتدبر القرآن إن رمت الهدى .....فالعلم تحت تدبر القرآن
قال ابن الجزري – رحمه الله - : والصحيح ما عليه معظم السلف وهو أن لترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من السرعة مع كثرتها .
كيف نتدبر القرآن :
هناك عدة أمور يكون بها تدبر القرآن :
1/ الاستعاذة .. قال تعالى { فإذا قرئ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }
ومعلوم أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان إذا تلا القرآن ، ولهذا أمر الله بالإستعاذة عند القراءة ، فالاستعاذة تمنع الشيطان من أن يفسد مافي القلب من الهدى والنور بتفهم القرآن وتدبره .
2/ التغني بالقراءة وتحسينها .. لقوله تعالى { ورتل القرآن ترتيلا }
قال ابن كثير – رحمه الله - : المطلوب شرعاً إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه .
3/ الجهر بالتلاوة .. لتعين القارئ على جمع قلبه على المعاني وتمنع شرود الذهن .
قال النووي – رحمه الله - عن الحكمة من مشروعية الجهر : أنه يتعدى نفعه إلى غيره ويوقظ القلب ، ويجمع همّه إلى الفكر ، ويصرف سمعه إليه .
4/ الإنصات عند سماع القرآن .. لقوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون }
قال الشوكاني – رحمه الله - : أمرهم الله بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم المصالح .
وقال الليث : يقال ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن لقوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } .
5/ صلاة الليل والقراءة فيه .. حيث قال سبحانه { إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا }
قال ابن عباس – رحمه الله - : وقوله " أقوم قيلا " هو أجدر أن يفقه القرآن .
ويقول ابن حجر – رحمه الله - عن مدارسة جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان : المقصود الحضور والفهم ، لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية .
6/ تكرار الآية :
وتكرار الآيات من أهم الأمور التي تساعد على التدبر ، فكررها مراراً حتى تتدبرها ، وتظهر لك معاني جديدة عند كل تكرار .
قال محمد بن كعب : لأن اقرأ " إذا زلزلت " و"القارعة " أرددهما وأتفكر فيهما أحب من أن أبيت أهذ القرآن .
وقال النووي – رحمه الله - : وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم الآية الواحدة ليلة كاملة أو معظمها يتدبرها عند القراءة .
7/ صفاء الذهن :
وأفضل الأوقات لذلك آخر الليل أو بعد صلاة الفجر .
علامات تدبر القرآن :
ü اجتماع القلب والفكر حين الفراءة ، ودليله التوقف تعجباً وتعظيما .
ü البكاء من خشية الله أو التباكي .
ü زيادة الإيمان ودليله التكرار العفوي للآيات .
ü الفرح والاستبشار بذكر الجنة وما أعده الله للمؤمنين بذكر عفوه ورحمته وفضله على عباده وإجابته دعاء الداعين .
ü القشعريرة خوفاً من الله عند ذكر العذاب والوعد والوعيد ثم غلبة الرجاء والسكينة .
ü الخضوع لأوامره واليقين بأخباره .
أمور متوقفة على تدبر القرآن :
? عظم أجر التلاوة :
إن أجر التلاوة يرجى بأداء التلاوة ، ولكن عظم الأجر يرجبى بمزيد التدبر والاعتبار بما يتلوه القارئ .
قال النووي – رحمه الله - : اعلم أن التلاوة أفضل الأذكار والمطلوب القراءة بفهم .
? حصول بركة القرآن :
قال تعالى { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته }
قال شيخ الإسلام – رحمه اله - : ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بعقله ، وتدبره بقلبه ، وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره .
? حصول الصحبة مع القرآن :
يقول ابن القيم – رحمه الله - : صاحب القرآن هو العالم به العامل بما فيه ، وإن لم يحفظه عن ظهر القلب ، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل به فليس من أهله وإن أقام حروفه .
? تدبر القرآن حل لجميع مشكلاتنا النفسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية :
أما آن الأوان لكي نحيا بالقرآن ، نعم القرآن حل لمشاكلنا ، فالنفسية مثلاً الحزن وقد نبذه الله تعالى ورتب الإيمان على عدم الحزن فقال سبحانه { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } فإن كنتم مؤمنين لا تحزنوا ، لأن المؤمن ما خلق ليحزن وإنما خلق ليتفاءل ويعيش حياته سعيداً بطاعة الله ، وقد ذكر الله أن الشيطان هو السبب في حزن المؤمن فقال { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } .
وكذلك مثل من يتطاول عليك بالكلام فتذكر قوله تعالى { والكاظمين الغيظ } ، ومن ظلم وتعرض للمكيدة فليتذكر قصة يوسف عليه السلام .
والاقتصادية بالتصدق وبذل المال .
يقول د. عبدالكريم بكار : صدقة السر واحة أمان ومصدر غنى ، وإني لأعجب لمسلم يعتقد أن الله يضاعف الصدقة أضعافاً مضاعفة ، ثم لا يجعل منها باباً لتفريج كروبه المالية .
موانع تدبر القرآن :
1. أمراض القلوب والإصرار على الذنوب :
وهي من أعظم وأهم الموانع عن تدبر القرآن ،فإن أمراض القلوب وفساد الباطن كالرياء والمبالغة في طلب الدنيا والغل والحسد والكبر تسبب ظلمة تكسو القلب وتمنع من دخول نور القرآن وهدايته .
قال تعالى { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق }
قال ابن قدامة – رحمه الله - : وليتخلّ التالي عن موانع الفهم ، ومن ذلك أن يكون مصراً على ذنب أو متصفاً بكبر أو مبتلى بهوى مطاع ، فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه .
2. انشغال القلب وشرود الذهن :
المانع الأول وهو أمراض القلوب سبب في شرود الذهن وانشغاله .
قال ابن القيم – رحمه الله - : الناس ثلاثة رجل قلبه ميت ، الثاني : رجل له قلب حي لكنه مشغول ليس بحاضر ، فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى ، والثالث : رجل حي القلب مستعد ، تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه ، وألقى السمع ، وأحضر القلب ، ولم يشغله بغير فهم ما يسمع ،فهو شاهد القلب ، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات .
3. قصر الهمة على كثرة القراءة أو تحقيق القراءة وحسن التلاوة :
قال ابن الجوزي – رحمه الله - : قد لبس على قوم بكثرة التلاوة فهم يهذون هذا من غير ترتيل ولا تشبت ، وهذه حالة ليست بمحمودة .
4. قصر معاني الآيات على قوم مضوا :
وأن الواقع لا يدخل تحت ما في القرآن من الهدى ، ولذا كان هذا صارفاً لكثير من الناس عن إمعان النظر في القرآن .
قال الشيخ عبداللطيف آل الشيخ : وربما سمع بعضهم قول من قال من المفسرين هذه نزلت في عبّاد الأصنام ، هذه في النصارى، هذه في الصائبة ، فيظن أن ذلك مختص بهم وأن الحكم لا يتعداهم ، وهذا أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن .
5. الاعتقاد بصعوبة فهمه :
وهذا خطأ فالقرآن يسره الله تعالى للفهم والتدبر ، قال تعالى { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }.قأققق
قال ابن هبيرة- رحمه الله - : ومن مكايد الشيطان تنفيره عباد الله من تدبر القرآن لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر ، فيقول : هذه مخاطرة ، حتى يقول الإنسان أن لا أتكلم في القرآن تورعا .
6. قطيعة الرحم :
وهي من الأسباب الحاجبة عن فهم كتاب الله والانتفاع به ، ويدل على ذلك الربط بين قطيعة الرحم وتدبر القرآن في قوله تعالى { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها }
فالقاطع ما كان ليقطع رحمه لو أنه تدبر كلام ربه .
وجاء في الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن الله تعالى قال للرحم : ( ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ، قالت : بلى يارب ، قال : فذاك )
الأعداء والقرآن :
لما عرف الأعداء أهمية القرآن ومدى تأثيره على المسلمين في صلاح المجتمع أخذوا يعدون العدد لصرف المسلمين عن كتاب ربهم
فهذا قلادستون يقول لقومه : مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق ، ولا أن تكون هي نفسها في أمان .
ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على الاستعمار في الجزائر : إننا لن ننتصر على الجزائريين ماداموا يقرءون القرآن ويتكلمون العربية ، فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم ، ونقتلع اللسان العربى من ألسنتهم .
فلنكن متميزين بالقرآن " الشخصية القرآنية " :
نعم فلنتحلى بالشخصية القرآنية ، وهي تحتاج إلى أمور :
1- قلة المخالطة إلا لمصلحة وحاجة ، فإن كثرة مخالطة أهل الباطل تنسي القرآن .
2- القراءة والمدارسة في أكثر من كتاب تفسير كابن كثير والسعدي وأبي بكر الجزائري .
3- سرعة الاستجابة والتنفيذ لما جاء في القرآن قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون }
4- التواجد بين صحبة صالحة تعين على السمو والترقي .
هذا واسأل الله سبحانه التوفيق والسداد وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المراجع : مفاتيح تدبر القرآن والنجاح في الحياة ...د.عبدالكريم اللاحم
تدبر القرآن – سليمان السنيدي
الحياة من جديد – د. أسماء الرويشد