الرحمن صفة في الأصل بمعنى كثير الرحمة جدا , ثم غلب على البالغ في الرحمة غايتها وهو الله تعالى .
والرحيم ذو الرحمة الكثيرة , فالرحمن أبلغ منه , وأتى به إشارة إلى أن ما دل عليه من دقائق الرحمة وإن ذكر بعدما دل على جلائلها الذي هو المقصود الأعظم مقصود أيضا لئلا يتوهم أنه غير ملتفت إليه .
وإنما قدم الله على الرحمن الرحيم لأنه اسم ذات في الأصل , وهما اسما صفة في الأصل , والذات متقدمة على الصفة . [ ص: 16 ] وإنما قدم الرحمن على الرحيم لأن الرحمن خاص بالله تعالى , فلا يقال لغير الله جل شأنه .
وأما قول بني حنيفة في مسيلمة الكذاب : رحمان اليمامة ,
وقول شاعرهم :
وأنت غيث الورى = لا زلت رحمانا
فقال الزمخشري من تعنتهم في كفرهم , وإلا فهو كالله خاص بالله لغة وشرعا . قال ومن ثم أخر عن الله بخلاف الرحيم فليس خاصا به تعالى بل عام به وبغيره تعالى لمن قام به معناه .
واعترض بما خرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري أنه قال الرحيم لا يستطيع أحد أن ينتحله , وحمله الحافظ السيوطي على المعرف بأل دون المنكر والمضاف , والخاص مقدم على العام , ولأنه أبلغ من الرحيم كما أشرنا لزيادة بنائه على الرحيم وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى غالبا كما في قطع وقطع .
فإن قيل : العادة تقديم غير الأبلغ ليرتقي منه إلى الأبلغ كما في قولهم عالم نحرير وجواد فياض , فالجواب قد قيل إن الرحيم أبلغ , وقيل هما سواء , غير أنه قد خص كل منهما بشيء , فقيل رحمن الدنيا ورحيم الآخرة , وقيل عكسه , وقيل الرحمن أمدح والرحيم ألطف . وقيل إنما خولفت العادة لأنه أريد أن يردف الرحمن الذي تناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون كالتتمة والرديف لتناوله ما دق منها ولطف كما أشرنا إليه .
وقد قال ابن هشام في المغني : الحق قول الأعلم وابن مالك أن الرحمن ليس بصفة بل علم . قال وبهذا لا يتجه السؤال وينبني على علميته أنه في البسملة ونحوها بدل لا نعت , وأن الرحيم بعده نعت له لا نعت لاسم الله , إذ لا يقدم البدل على النعت . قال ومما يوضح أنه غير صفة مجيئه كثيرا غير تابع نحو { الرحمن علم القرآن } { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } انتهى .
واعترض بأن مجيئه كثيرا غير تابع لا يدل على عدم الصفة لأن الموصوف إذا علم جاز حذفه وإبقاء صفته كقوله تعالى { ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك } أي نوع مختلف ألوانه كاختلاف السموات والجبال , وعلى المشهور أنه صفة كالرحيم بحسب الأصل فمشتقان من رحم بجعله [ ص: 17 ] لازما بنقله إلى باب فعل بضم العين أو بتنزيله منزلة اللازم إذ هما صفتان مشبهتان وهي لا تشتق من متعد .
ورحمته تعالى صفة قديمة قائمة بذاته تعالى تقتضي التفضل والإنعام , وأما تفسيرها برقة في القلب تقتضي الإنعام كما في الكشاف وغيره إنما يليق برحمة المخلوق , ونظير ذلك العلم , فإن حقيقته المتصف بها تعالى ليست مثل الحقيقة القائمة بالمخلوق , بل نفس الإرادة التي يردون الرحمة إليها هي في حقه تعالى مخالفة لإرادة المخلوق , إذ هي ميل قلبه إلى الفعل أو الترك , وإرادته تعالى بخلاف ذلك .
وكذا رد الزمخشري لها في حقه تعالى إلى الفعل بمعنى الإنعام مع أن فعل العبد الاختياري إنما يكون لجلب نفع للفاعل أو دفع ضرر عنه , وفعله تعالى بخلاف ذلك , فما فروا إليه فيه من المحذور نظير الذي فروا منه .
وبهذا يظهر أنه لا حاجة إلى دعوى المجاز في رحمته تعالى , إذ هو خلاف الأصل المقتضي لصحة نفيها عنه وضعف المقصود منها فيه كما هو شأن المجاز , إذ يصح أن نقول لمن قال زيد أسد ليس بأسد وليست جراءته كجراءته .
والحاصل أن الصفة تارة تعتبر من حيث هي هي , وتارة من حيث قيامها به تعالى , وتارة من حيث قيامها بغيره تعالى , وليست الاعتبارات الثلاثة متماثلة إذ ليس كمثله تعالى شيء لا في ذاته ولا في شيء من صفاته ولا في شيء من أفعاله . ذكر ذلك الإمام العلامة ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد .
واعلم أن الحديث الذي قدمناه وهو { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر } قد روي بلفظ { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع } رواه عند البغوي { بحمد الله } , والكل بلفظ { أقطع } وفي رواية " أجذم " وفي رواية { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع } أيضا وفي رواية { لا يبدأ فيه بذكر الله } فتكون الروايات ببسم الله الرحمن الرحيم , وبالحمد لله , وبحمد الله , وبذكر الله , وأقطع , وهو أكثر الروايات , وأبتر وأجذم .
ومعنى " ذي بال " أي صاحب حال وشأن يهتم به شرعا , فيخرج المحرم والمكروه , ومعنى " الأبتر , والأقطع , والأجذم ناقص البركة , فإن البتر قطع الذنب , والقطع أعم من ذلك , والجذم قطع الأطراف أو [ ص: 18 ] فسادها ولكن في المعنوي ناقص البركة بجامع أن كلا منهما ناقص .
("غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب" ؛ عند الكلام على البسملة)