كلمة عن الوقف الهبطي للشيخ أ.د. محمد جميل مبارك

إنضم
16/11/2009
المشاركات
1,296
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
العمر
72
الإقامة
تارودانت-المغرب
الوقف الهبطي. أولا: كثير من الناس يعتقدون أن الهبطي هو الذي وضع هذا الوقف وحده. فالهبطي وجد ثروة من أقوال القراء قبله في الوقف. فأعمل فيها نظره واستخلص منها هذا الذي نسميه الوقف الهبطي. مثل القراءات نفسها؛ عندما نقول رواية ورش، اشتهر بها ورش فقط. وليس هو الوحيد الذي يقرأ بهذه الرواية، بل هو الذي اشتهر بها. ورواية قالون لم يقرأ بها وحده، بل المئات الذين قرأوا بها. كل ما في الأمر أنه عُرِفَ بها. كذلك الوقف الهبطي عرف به؛ لأنه خدمه.
ثانيا: كثير من الباحثين يتوهمون أن الهبطي طالب حافظ للقرآن الكريم وضع المصحف أمامه وبدأ يقرر: هنا أقف، وهنا لا أقف. أقول لكم بكل تأكيد: إن الهبطي عالم بالقرآن الكريم ، عالم بمعاني القرآن الكريم، مما فهمه هو ومما أخذه عن القراء قبله. ولذلك وقوفك عند معان دقيقة يقف عندها أو يصلها يدلك على هذا الذي قلت لك.
ثالثا: بعض الوقوف يصح فيها الوقف ويصح فيها الوصل، إما أن يقف وإما أن يصل. إذا وقف الهبطي لا نقل له لماذا وقفت؛ لأنه إما أن يقف وإما أن يصل. ولكن يقول: أنا وقفت. فهل معنى أن الوقف الهبطي يمنع الوصل، لا. فهنا اختلاف تنوع بين القراء؛ الهبطي وقف مع جواز الوصل. والهبطي وصل مع جواز الوقف.
يتبع ...
 
أمثلة تطبيقية:
يقول تعالى: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]. الهبطي يقف عند {لا ريب}، والآخرون عند {لا ريب فيه}. عندما وقفنا عند {لا ريب} ليس معنى ذلك أنه لا يجوز أن تقول: {لا ريب فيه}. إنما هو أَخَذَ معنى من المعاني وركزَ عليه: {لا ريب}. وتقول ما الذي يشهد له؟ يشهد له قول الله عز وجل : {قَالُوا لَا ضَيْرَ}[الشعراء:50]، الخبر محذوف. {لا ريب فيه} صحيح. عند ذلك يأتي السؤال: أيهما أبلغ، الوقف على {لا ريب} أم الوقف على {لا ريب فيه}؟ هذا ما يسمى بمعترك الأقران. إذا أَفَضْتَ في المقارنة بين الوقفين قد تصل إلى أن الوصل أبلغ من الوقف أو العكس.
بعض الوقوف تجدون فيها بعض الغرابة. ولكن تيقنوا أن تلك الغرابة مقصودة عند الهبطي. لماذا؟ لإثارة معنى خفي لا يكاد يُلتفت إليه إذا وُصل.
يتبع ...
 
قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}[الذاريات:17].
الهبطي يقف: {كَانُوا قَلِيلًا}. والمصاحف الأخرى: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}. سياق الآية: كانوا أي المتقون المحسنون، من سمات هؤلاء المتقين المحسنين {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}. {قليلا} نعت لمصدر محذوف. أي كانوا يهجعون من الليل هجعا قليلا. ينامون وقتا قليلا فقط. فمعظم ليلهم قيام. وهذا المعنى واضح وصريح وقوي. وهل هذا المعنى يخفى على أحد؟ فهو واضح. مثله كثير في القرآن الكريم: قليلا ما تذكرون .. قليلا ما تشكرون .. إلخ. لماذا جاء هنا ووقف على قليلا: {كَانُوا قَلِيلًا} {مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}. يقول: أريد أن أعطيك فائدتين هنا، بالإضافة إلى أنني أعرف المعنى إن وصلتَ. فهو لم يقل بأنه يمنع لك أن تَصِل. إن قال ذلك نقول له: لا، لا يحق لك أن تقول هذا. {كَانُوا قَلِيلًا} يقول بإن الذين يتصفون بهذه الصفات هم قليلون. معناه: اللهم اعف عني وعنك، فنحن مفرطون! قم الليل واجتهد لكي تلتحق بهؤلاء القليلين. هم معدن نفيس .. قليل. هذا هو المعنى الذي أشار إليه بهذا الوقف. ودليله هو أن عددا من الآيات القرآنية تشهد للمؤمنين المتقين بالقلة. هم قليلون، فالله هو الذي وصفهم بالقلة. وماذا يقول في: {مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ}. في الوصل {ما} صفة، أي كانوا يهجعون قليلا من الليل. يقول ليس هذا هو المقصود عنده، بل: {مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} على اعتبار أن {ما} نافية. لا ينامون. نقول له: في السنة لا نحيي الليل كله. والإشارة هنا إلى الحديث الوارد في صحيح البخاري في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أقوم وأرقد". يجيب بأن نفي الفعل يصدق على نفيه جملة وعلى نفي أغلبه. فإذا نُفِيَ أغلبُه كأنما نُفِيَ كلُّه. إنه تعمد هذا المعنى لإفادته. لأن الكل يعرف المعنى الأول. ويفيدك بأن المسلم يجوز أن يحيي الليل كله، وليس فيه إشكال. والذي يحيي الليل كله قليل.
يتبع ...
 
مثال آخر، قوله تعالى: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:92].
{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}{يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. المعنى واضح. اليوم جئتم فيه تائبين لله عز وجل واعترفتم بذنبكم لا تثريب عليكم. ومن بعد يغفر الله لكم. الهبطي يقول، أنا أختار وجها آخر، وهو: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}{الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} أي عفى الله عما سلف. {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي اليوم عندما جئتم يغفر الله لكم. هناك من يتوهم أن هذا فيه تألٍّ على الله. {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} أي اللهم اغفر لهم. هو دعاء في جميع الأحوال. فهو دعاء على الوجه الأول ودعاء على الوجه الثاني. ولذلك بعض الفضلاء انتقدوا الهبطي، وهنا لا وجه للانتقاد.
يتبع ...
 
قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}[النبإ:1-2].
إذا وصلنا: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} صحيح. (عَمَّ) بأي شيء تعلق؟ تعلق ب(يَتَسَاءَلُونَ). يعني قُدم المتعلق على فعله. هذا التقديم واجب أم جائز؟ هو واجب للاستفهام. والاستفهام له الصدارة. {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}. {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} متعلق بماذا؟ متعلق بفعل محذوف تقديره: (يتساءلون): عم يتساءلون؟ يتساءلون عن النبإ العظيم. إذن فعلى هذا الوجه حذف الفعل في الأواخر. وعلى وقف الهبطي: {عم}. بما تعلق؟ بفعل (يتساءلون) المحذوف. وبعد ذلك {يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}. (عن النبإ العظيم) متعلق ب(يتساءلون). الحذف في الأوائل. إذن أين هو الاعتراض؟ أنت حذفت في الأواخر وأنا حذفت في الأوائل. فأين هو الإشكال؟ تقول لي الأرجح، نحن لا نتكلم عن الأرجح. فهناك من يهاجم هذا الوقف. والصواب أنه من أراد أن ينتقد أن يكون انتقاده على علم. فنحن لا نتكلم عن أيهما أولى، فهذا كلام آخر. ولكن أن تُلغي ما هو جائز، فراجع ما عندك.
يتبع ...
 
هناك بعض الوقوف التي جاء بها كنوع من الامتحان، كأنه يقول: لماذا وقفت هنا؟ فكر فيها لعلك تصل إلى سري! ولكن معظم وقوفه تشير إلى معنى من المعاني الدقيقة.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ...}[يوسف:24]. في جل المصاحف لا تجد الوقف إلا في آخر الجملة. ولكن الهبطي يقف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}{وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ}. وهذا يشير إلى معنى في غاية العمق وفي غاية الدقة؛ لأنها هي همت به تحقيقا، وهو هم بها لولا أن رأى برهان ربه. إذن لم يهمَّ بها. فإذا وصلتَ فقد جعلتهما في الهم سواء؛ هي همت وهو هم. وفي الوقف الهبطي: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}، صحيح همت به؛ راودته وفعلت وفعلت هيت لك، وكل ذلك وقع. إذن همت به. أما هو: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ}. إذن رأى برهان ربه فلم يهُمَّ بها.
مثال آخر، قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ...}[الأنبياء:72]. الهبطي لا يصل؛ {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ}{وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}. لأن {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} يعقوب ليس ولده المباشر؛ فالنافلة هو يعقوب، وليس الاثنان. وهكذا عندما تتتبع هذه الوقوف.
مثال آخر، قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ...}[البقرة:17]. الهبطي يقف: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ}{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ...}. كم من معترض على هذا الوقف، يقولون لا نقف لنعطي جواب (لما). وهل (ذهب الله بنورهم) يمكن أن يكون جوابا؟ الهبطي يقول: لا. (فلما أضاءت ما حوله)، أين هو الجواب؟ ابحث عنه؛ لأن في القرآن الكريم كثيرا ما تذكر (لما) بلا جواب. لماذا؟ لأن السياق يدل على الجواب. (فلما أضاءت ما حوله) الجواب: انطفأت، كما قدره الزمخشري تقريبا. والزمخشري دعم هذا المعنى- والزمخشري قبل الهبطي- فالوقف هنا أبلغ. وهكذا عندما تتتبع وقوف الهبطي تجدها تشير إلى معان دقيقة.
انتهى.
 
عودة
أعلى